الباحث القرآني

ثم قال الله تعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ هذا موقع الاستفهام والتفخيم. ﴿يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ﴾ ﴿يَوْمَئِذٍ﴾ يعني يوم إذ نأتي من كل أمة بشهيد وبك شهيدًا على هؤلاء. ﴿يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ المودة هي التمني وأعلى المحبة، يعني يحبون محبة هي أعلى المحبة. ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ أي: جحدوا ما يجب الإيمان به والإقرار به. ﴿وَعَصَوُا الرَّسُولَ﴾ أي: خالفوا أمره فلم يمتثلوا الأمر، ولم يجتنبوا النهي؛ لأن المعصية هنا تشمل التفريط في الأوامر وكذلك فعل النواهي. وقوله: ﴿وَعَصَوُا الرَّسُولَ﴾ ﴿الرَّسُولَ﴾ هنا المراد به الجنس، وليس المراد به العهد؛ لأنه يشمل كل رسول. ﴿لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ﴾ ﴿تُسَوَّى﴾ فيها قراءتان: ﴿تَسَوَّى﴾ و﴿تُسَوَّى﴾ فعلى قراءة الضم ﴿تُسَوَّى﴾ تكون ﴿الْأَرْضُ﴾ نائب فاعل، وعلى قراءة الفتح تكون الأرض فاعلًا، ومعنى ﴿تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ﴾ أي: يُدفنون فيها، ولا يظهرون فيها؛ يكونون كأنهم جزء من الأرض ولا يُحاسبون. وقوله: ﴿وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا﴾ الواو حرف عطف، وجملة ﴿لَا يَكْتُمُونَ﴾ معطوفة على قوله: ﴿يَوَدُّ﴾ وليست على قوله: ﴿تُسَوَّى﴾. وذلك لأنها لو كانت عطفًا على ﴿تُسَوَّى﴾ لفسد المعنى؛ إذ يكون المعنى: يودون لو تسوى بهم الأرض، ولو لا يكتمون الله حديثًا، فيكون على هذا التقدير يكونون قد أقرّوا بما هم عليه، والحال أنهم لم يقرّوا، بالعكس ﴿يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا﴾ يدل على أنهم كتموا الحديث لو جعلناها معطوفة على ﴿تُسَوَّى﴾ والواقع أنهم لم يكتموا الله شيئًا، ولهذا يودون لو تسوّى بهم الأرض، والحال أنهم لا يكتمون الله حديثًا أي: يُقرّون بالكفر والشرك. وقوله: ﴿وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا﴾ أي: ما يحدّثون به عن أنفسهم، بل يقرّون إقرارًا كاملًا بأنهم كفروا وعصوا الرسول. * فمن فوائد هذه الآية الكريمة: بيان ما تؤول إليه حال الكفرة العاصين للرسول يتمنون أنهم لم يخلقوا، وأن الأرض سُويّت بهم. * ومن فوائدها: الحذر من معصية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم؛ لقوله: ﴿وَعَصَوُا الرَّسُولَ﴾. * ومن فوائدها: وجوب العمل بما في السنة وإن لم يكن في القرآن، من أين تؤخذ؟ ﴿وَعَصَوُا الرَّسُولَ﴾؛ لأن هناك أوامر صدرت من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ولم تكن في القرآن فيجب العمل بها. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: شدة حسرة أولئك الكفار يوم القيامة، أنهم يتمنون أنهم لم يخلقوا، وأن تسوّى بهم الأرض ويدفنون فيها، ولكن هذا لا ينفعهم. * ومن فوائد الآية الكريمة: أن هؤلاء الكافرين العاصين يقرّون بما هم عليه فلا يكتمون الله حديثًا. * ومن فوائد الآية الكريمة: أنهم لا يكتمون أيّ حديث كان؛ لأن ﴿حَدِيثًا﴾ نكرة في سياق النفي فتعم كل شيء، فهم يقرّون بكل ما عملوا، ولهذا كلما ألقي في النار فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير؟ فيقولون: ﴿بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (٩) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ [الملك ٩، ١٠]. فإن قال قائل: كيف تجمعون بين هذه الآية وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام ٢٣] فإن هذا صريح في أنهم ينفون أن يكونوا مشركين، وهذه الآية صريحة في أنهم لا يكتمون؟ فالجواب: أن القيامة ليست ساعة أو ساعتين حتى تتصادم الأحوال فيها، القيامة يوم مقداره خمسون ألف سنة، فالأحوال تتغير وتتبدّل، فهم أحيانًا يقولون: كذا، وأحيانًا يقولون: كذا؛ لأنهم يريدون الخلاص، فكل وسيلة يظنونها سببًا للخلاص يسلكونها حتى وإن تناقضوا، فهم لا يكتمون الله حديثًا، ولكن إذا رأوا نجاة أهل التوحيد قالوا: ﴿وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام ٢٣] من أجل أن تحصل لهم النجاة، ولكنها لا تحصل. إذا قالوا: ﴿وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ من الذي يفضحهم؟ ﴿تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النور ٢٤] وكذلك الجلود حتى إنهم يوبخون جلودهم ﴿لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [فصلت ٢١]. إذن نقول: الجمع بينهما أيه؟ أن أحوال القيامة تتغير، وهكذا يأتيكم أشياء تظنون فيها التعارض مثل قوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾ [آل عمران ١٠٦] ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ﴾ [الزمر ٦٠]، وفي آية أخرى: ﴿وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا﴾ [طه ١٠٢] فيأتي إنسان ويقول: كيف هذا؟ نقول: يوم القيامة أحواله تتغير، تسود الوجوه، ويحشرون زرقًا وتتغير؛ لأن المدة خمسون ألف سنة، كم بيننا وبين الرسول؟ ألفان؟ أقل، ألف وأربع مئة، هذا خمسون ألف سنة، أعاننا الله وإياكم على أهواله، المسألة ما هي هينة، فتختلف الأحوال وتتغيّر. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن هؤلاء المجرمين الكافرين العاصين يُسألون عن ذنوبهم، لكن سؤال توبيخ، بدليل قوله: ﴿وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا﴾ فهل هم محاسبون كحساب المؤمن؟ وهل تُوزن أعمالهم؟ الجواب: لا، لا يحاسبون كما يحاسب المؤمن، المؤمن تُعرض عليه أعماله، فإذا أقرّ بها قال الله عز وجل: «سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ»[[متفق عليه؛ البخاري (٢٤٤١)، ومسلم (٢٧٦٨ / ٥٢) من حديث ابن عمر.]]. ولا يناقش؛ لأنه لو نوقش لهلك، أما هؤلاء فإنهم ينادى على رؤوس الأشهاد يوم القيامة ﴿هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ [هود ١٨]. ولهذا قال شيخ الإسلام رحمه الله في العقيدة الواسطية: إنهم لا يحاسبون حساب من توزن أعماله وسيئاته؛ لأنه لا حسنات لهم، فلا توزن لهم أعمال؛ لقوله تعالى: ﴿فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا﴾ [الكهف ١٠٥].
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب