الباحث القرآني

ثم قال عز وجل: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا﴾ هذه الآية كالآية الأولى، فيها التوكيد بهذا الحكم، لكن فيها التصريح بالظلم، فبأي شيء ظلموا؟ ظلموا بالاستمرار على الكفر؛ لأن الإنسان إذا استمر على الكفر فقد ظلم نفسه؛ كما قال الله تعالى: ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ [هود ١٠١]، والظلم في الأصل بمعنى النقص؛ لقوله تعالى: ﴿كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا﴾ [الكهف ٣٣] واستقام على سبيل الله، ودعا الناس إليها، فهو على الهدى، نعرف ذلك من أي شيء؟ * طالب: من المقابل. * الشيخ: من المقابل والضد؛ فإنه إذا ثبت الحكم لشيء ثبت نقيضه لضده. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن الضلال ينقسم إلى: ضلال قريب، وضلال بعيد، وهكذا أيضًا المعاصي تنقسم إلى: كبائر، وصغائر، كما هو معروف. * * * ثم قال عز وجل: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا﴾ [النساء ١٦٨] هذه الآية كالآية الأولى؛ فيها التوكيد لهذا الحكم، لكن فيها التصريح بالظلم، فبأي شيء ظلموا؟ ظلموا بالاستمرار على الكفر؛ لأن الإنسان إذا استمر على الكفر فقد ظلم نفسه، كما قال الله تعالى: ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ [هود ١٠١]، والظلم في الأصل بمعنى النقص؛ لقوله تعالى: ﴿كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا﴾ [الكهف ٣٣] أي: لم تنقص. وسُمِّيَ المعتدي ظالمًا؛ لأنه نقص من حق المعتدَى عليه فاعتدى عليه، وهنا ظلموا من؟ هل ظلموا غيرهم ولَّا ظلموا أنفسهم؟ * الطلبة: كلاهما. * الشيخ: كلاهما، يعني حصل منهم الظلم لأنفسهم ولغيرهم؛ حيث دلوا غيرهم على طرق الكفر. ﴿لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ﴾، اللام في قوله: ﴿لِيَغْفِرَ﴾ تسمى عند علماء النحو لام الجحود، أو لام النفي، وعلامتها أن تقع بعد (ما كان)، أو (لم يكن)، فكلما وُجدت اللام بعد (لم يكن)، أو بعد (ما كان) فهي لام الجحود، أو لام النفي، فقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ﴾ [الأنفال ٣٣] اللام؟ * طلبة: لام الجحود. * الشيخ: لام الجحود؛ لأنها وقعت بعد (ما كان)، ﴿لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ﴾ أيضًا تسمى لام الجحود؛ لأنها وقعت بعد ﴿لَمْ يَكُنِ﴾. ﴿لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ﴾، والمعنى أنه لا يوفِّقهم للتوبة حتى يغفر لهم، وليس المعنى: لم يكن الله ليغفر لهم إذا تابوا؛ فإن الله سبحانه وتعالى يتوب على من تاب مهما كان عمله، لكن المراد أنه لا يوفِّقهم للتوبة حتى يغفر لهم، والمغفرة ستر الذنب مع التجاوز عنه، فسَّرناها بهذين المعنيين؛ لأنها مأخوذة من المغفر، وهو الذي يوضع على الرأس عند القتال وقاية للرأس من السهام، وفيه المعنيان جميعًا، وهما: الستر، والوقاية، ويؤيد هذا ما ثبت في الحديث الصحيح: «أَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَخْلُو يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِعَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ، وَيُقَرِّرُهُ بِذُنُوبِهِ، فَيَقُولُ: «قَدْ سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ»[[متفق عليه؛ البخاري (٢٤٤١)، ومسلم (٢٧٦٨ / ٥٢) من حديث ابن عمر.]]. ﴿وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا﴾، يعني: لا يوفِّقهم، الهداية هنا هداية التوفيق، ﴿طَرِيقًا﴾ أي: مسلكًا يسيرون عليه، إلا طريقًا واحدًا وهو طريق جهنم، ﴿إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ﴾ [النساء ١٦٩]، وهو من أسماء النار. ﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾، ﴿خَالِدِينَ﴾ أي: ماكثين فيها، ﴿أَبَدًا﴾ أي: باستمرار، والأبد هو الاستمرار في المستقبل، والأمد هو الاستمرار إلى حد معين غير مؤبَّد. ﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا﴾ أي: كان خلودهم في النار على وجه الأبد يسيرًا على الله عز وجل، مع أنه يستلزم أن تبقى النار بما فيها من السعير والعذاب وأنواع العقوبات، ومع هذا فهي يسيرة على الله عز وجل، الإنسان لو أراد أن يوقد تنورًا يحتاج إلى عمل، أليس كذلك؟ يحتاج إلى عمل ووقود، وتعب وملاحاة، لكن النار وهي أعظم شيء في الحرارة إذا بقيت على وجه الأبد فإن هذا أمر يسير على الله عز وجل وليس بصعب عليه. * فيستفاد من هذه الآية الكريمة، بل من الآيتين: أن من اتصف بهذين الوصفين: الكفر، والظلم، فإنه مسدود عنه باب التوفيق؛ لقوله: ﴿لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ﴾. * ويستفاد منها: إثبات الأفعال الاختيارية لله عز وجل، يعني أنه يفعل ما يشاء بإرادته متى شاء؛ لقوله: ﴿لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ﴾، والمغفرة فعل اختياري، وهذا الذي عليه السلف الصالح وأهل السنة؛ إثبات الأفعال الاختيارية لله عز وجل. وأنكر ذلك أهل التعطيل؛ كالأشاعرة والمعتزلة، وقالوا: لا يمكن أن يقوم بالله تعالى فعل اختياري يتجدد ويحدث، وعلَّلوا ذلك بعلل واهية، قالوا: إن الحادث لا يقوم إلا بحادث، ولو أننا أثبتنا لله تعالى أفعالًا يُحْدِثها متى شاء لزم من ذلك أن يكون الله حادثًا. ولا شك أن هذا قياس باطل؛ لأنه مصادِم للنصّ، فالآيات الكثيرة التي لا تُحْصَر كلها تدل على أن الله يفعل ما يشاء متى شاء، ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ﴾ [القصص ٦٨]، ﴿إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ﴾ [هود ١٠٧]، ﴿وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ﴾ [إبراهيم ٢٧]، ﴿إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ﴾ [المائدة ١]، وغير ذلك من الآيات الكثيرة التي لا تكاد تُحْصَر، الدالة على أن الله تعالى يفعل ما يشاء متى شاء. فهذا القياس باطل؛ لمصادمته النص، وأيضًا هو خطأ، وذلك أننا نحن ونحن محدَثون تقوم بنا أفعال متجددة ليست بلازمة لنا منذ خُلِقْنا، أليس كذلك؟ ولا يلزم من حدوث هذه الأفعال أن نكون لم نَحدُث إلا عند حدوثها، بل حدوثنا سابق عليها، كذلك الرب عز وجل وجوده أزلي أبدي، ولا يمنع من ذلك أن يكون يُحْدِث ما شاء من أفعاله وأحكامه وأقواله. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن الكافر لا يوفَّق للهدى؛ لقوله: ﴿وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا﴾. فإن قال قائل: أليس يوجد أناس من الكفرة الماردين المارقين المضادين للدعوة الإلهية من هداهم الله؟ فالجواب: بلى، ولكن لا مانع من أن نخصِّص العام، فيكون هذا العموم مخصوصًا بمن أراد الله تعالى هدايته، فمن أراد الله هدايته فإنه قد يُهْدَى ولو كان قد كفر وظلم؛ إذ من المعلوم أن من الصحابة رضي الله عنهم من كان كافرًا ظالمًا، ومع ذلك أسلموا وكانوا رؤساء في الإسلام ولهم مقام صدق. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن للنار طريقًا، وللجنة طريقًا، فما هو طريق النار؟ طريق النار يتلخص في مخالفة أمر الله ورسوله؛ تركًا للمأمور وفعلًا للمحظور، هذا الطريق، المخالَفة لأمر الله ورسوله هو طريق جهنم، وموافقة أمر الله ورسوله هو طريق الجنة. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: إثبات الخلود الأبدي؛ لقوله: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾، والخلود الأبدي يتضمن أبدية المكان الذي يكون فيه الخلود، وعلى هذا فيكون في الآية دليل واضح على أبدية النار، وقد جاء ذكر الأبدية في هذه الآية، وفي آية أخرى في سورة أيش؟ الأحزاب، وفي آية ثالثة في سورة الجن، وهي معلومة. وبناء على ذلك لا قول لأحد بعد قول الله ورسوله مهما كان من العلم، ما دام هناك آيات صريحة فإننا لا نركن إلى قول أحد كائنًا من كان؛ لأن خبر الله صدق صادر عن أيش؟ عن علم مراد به البيان التام، فلا يمكن أبدًا أن يتخلف مدلوله، حتى لو قيل: إن فلانًا يقول بكذا، وفلانًا يقول بكذا، نقول: لا قول لأحد بعد قول الله ورسوله. * ومن فوائد الآية الكريمة: أن كل شيء وإن صعب فهو يسير على الله عز وجل؛ لكمال قوته وقدرته وسلطانه، ﴿وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا﴾.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب