الباحث القرآني

الشيخ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تبارك وتعالى: ﴿إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا﴾، قوله تعالى: ﴿إِنْ تُبْدُوا﴾ هذه هي الجملة الشرطية، وجواب الشرط قيل: إنه محذوف، وقيل إنه قوله: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا﴾، وإن هذه الجملة وإن كان ظاهر الحال أنها لا رابطة بينها وبين الشرط لكنها تدل عليه، وسنتكلم إن شاء الله على هذا. قال: ﴿إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ﴾، ﴿تُبْدُوا﴾ أي: تظهروا، ومن أين عرفنا أن الإبداء بمعنى الإظهار؟ من ذكر مقابله، وهو قوله: ﴿أَوْ تُخْفُوهُ﴾. وهذه قاعدة مفيدة في التفسير، أنه ربما يخفى عليك معنى بعض الكلمات فانظر إلى ما يقابلها، فقوله تعالى: ﴿فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا﴾ [النساء ٧١] لو أن أحدًا سألك: ما معنى (ثبات)؟ لعرفت معناها من ذكر معادلها؛ وهو قوله: ﴿أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا﴾، فيكون معنى (ثبات) أي: فرادى. إذن تظهروا خيرًا أو تخفوه فلم تعدموا أجره، فسوف تؤجَرون عليه؛ لأن الخير مطلوب ونافع، سواء كان مُبْدًى أو مُخْفى، في مقابل ذلك ﴿أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ﴾، ﴿تَعْفُوا﴾ العفو هو الإبراء من التبعة، فالمعنى: ﴿تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ﴾ أي: تبرئوا من أساء إليكم من تبعة سوئه. وقوله: ﴿عَنْ سُوءٍ﴾ أي: عما يسوء من قول أو فعل، ﴿فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا﴾ أي أنه ذو عفو مع القدرة على الانتقام ممن أساء، فإذا كان الله تعالى عافيًا عمن أساء مع القدرة فأنتم ممن باب أولى أن تعفوا؛ لأنكم ليس لديكم من القدرة على الانتصار للنفس والانتقام من المجرم كالذي عند الله عز وجل. يقول تعالى: ﴿إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ﴾. * نستفيد من هذا فوائد: * أولًا من الفوائد: أن الخير خير، سواء أُبدي أو أُخفي، فإن قيل: أيما أفضل: الإبداء أو الإخفاء؟ فقد يقول قائل: الإخفاء أفضل، وقد يعارَض قولُه بكون الله تعالى بدأ بالإظهار؛ قال: ﴿إِنْ تُبْدُوا﴾، وإنما يُبدأ بالأهم فالأهم. ولكن الذي يظهر أن ذلك راجع إلى المصلحة، فإن كانت المصلحة في الإظهار أظهر، مثل أن يكون رجلًا ذا أسوة إذا أظهر ما عنده من الخير تأسى به الناس وفعلوا فعله، فهذا طيب، سواء كان ذلك على سبيل العموم، أو على سبيل الخصوص، بأن يتصدق على شخص معين حتى يراه الناس أنه يتصدق عليه فيقتدوا به؛ لأن كثيرًا من الناس الآن لا يتصدق على أحد إلا إذا علم أن الجهة الفلانية تصدقت عليه؛ كجمعية البر الخيرية مثلًا. إذن نقول: الإبداء والإخفاء يرجع إلى المصلحة، فإن لم تظهر المصلحة الراجحة في الإبداء فالإخفاء أفضل؛ لقول النبي ﷺ فيمن يظلهم الله في ظله: «رَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ»[[متفق عليه؛ البخاري (١٤٢٣)، ومسلم (١٠٣١ / ٩١) من حديث أبي هريرة.]]. * من فوائد هذه الآية الكريمة: أن الإحسان إلى الغير إما بإعطاء الخير ظاهرًا أو خفيًّا، وإما بدفع السوء، وذلك بالعفو عنه؛ لقوله: ﴿أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ﴾، فالعفو عن السوء خير، ﴿فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا﴾، فيستفاد من ذلك فضيلة العفو عن السوء، ولكن هل نقول: إن العفو أفضل مطلقًا، أو تبع المصلحة؟ الثاني، تبع المصلحة. ولهذا قيّد الله العفو في مكان آخر بقوله: ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾ [الشورى ٤٠]، فإذا كان في العفو إصلاح فهو أفضل، وإن كان في العفو إفساد فالانتصار أفضل، فمثلًا لو كان هذا الرجل شريرًا لو عفونا عنه لازداد في شره واعتدائه على الناس، فهنا الانتصار أفضل؛ أولًا: لإعطاء النفس حظها؛ لأن النفس تحب أن تنتصر لا شك، وثانيًا: لكف شره عن الناس، فيكون هنا الانتصار أفضل، وأما إذا تساوى الأمران فلا شك أن العفو أفضل؛ أولًا: لما فيه من الإحسان إلى المسيء، وثانيًا: لأن الله تعالى يحب العافين عن الناس. * ومن فوائد الآية الكريمة: الإشارة إلى أنك إن عفوت عن الخلق عفوًا في محله فأبشر بعفو الله؛ لقوله: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا﴾ يعني فمتى عفوتم عفا الله عنكم، وهذا له شواهد كثيرة في الشريعة؛ منها قول الرسول عليه الصلاة والسلام: «وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ»[[أخرجه مسلم (٢٦٩٩ / ٣٨) من حديث أبي هريرة.]]، ومنها: «مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللهُ فِي حَاجَتِهِ»[[متفق عليه؛ البخاري (٢٤٤٢)، ومسلم (٢٥٨٠ / ٥٨) من حديث ابن عمر.]] ومنها: الجزاء من جنس العمل، والشواهد لهذا كثيرة. * ومن فوائد الآية الكريمة: فضل الله سبحانه وتعالى بالعفو عن حقه، حتى إنه جل وعلا يغفر لمن لا يشرك به شيئًا مجانًا؛ لأن الله قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء ٤٨]، حتى وإن عظمت الذنوب فإن الله تعالى يغفرها إن شاء فضلًا منه. * ومنها: أن عفو الله تعالى أكمل أنواع العفو؛ لأنه عفو مع القدرة؛ لقوله: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا﴾، ويتولد من الجمع بين العفو والقدرة يتولد أيضًا صفة كمال، وهو أن الله سبحانه وتعالى عافٍ مع القدرة على الانتقام، وهذا هو العفو الحقيقي، أما العفو مع العجز عن الانتقام فليس بعفو، لو أن أحدًا اعتدى عليك وهو أقوى منك بدنًا وأضخم منك جسمًا، فكّرت قلت: إن أخذت بحقي فأخشى أن يزيد بالضرب والعدوان، لكن يا فلان الله يسامحك، أيش هذا العفو؟ عفو مع العجز، عفو مع العجز، فإن كان فيه احتمال أن يأخذ بحقه فله أجر بقدر هذا الاحتمال، وإن لم يكن فيه احتمال فليس له أجر، اللهم إلا أن يكون بإدخال السرور على المعتدي فيما لو ارتدع عن العدوان وفكّر فإذا هو يشعر بأن المعتدى عليه كان قد سامحه فيطمئن قلبه، فهنا قد يؤجر. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: إثبات هذين الاسمين من أسماء الله، وهما: العفو -بتشديد الواو- والقدير، فيدلان على إثبات صفة العفو والقدرة؛ لأن القاعدة في باب الأسماء والصفات أن كل اسم متضمن لصفة ولا عكس.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب