الباحث القرآني

ثم قال: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ﴾. ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا﴾ من النفاق، أي: رجعوا من النفاق إلى خالص الإيمان وصريح الإيمان، ﴿وَأَصْلَحُوا﴾ أي أعمالهم أصلحوها، بدل ما كانوا مفسدين كانوا مصلِحين؛ لأنه سبق في سورة البقرة قول الله تعالى: ﴿أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ﴾ [البقرة ١٢]، فإذا أصلحوا بدل أن كانوا مفسدين فهذا الشرط الثاني. ﴿وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ﴾ اعتصموا به أي: توكلوا عليه، ولم يلجؤوا إلى غيره؛ لأن المنافقين من ديدنهم الرجوع إلى الكفار، وتعظيم الكفار والاعتصام بهم، فهنا يعتصمون بالله بدلًا عن اعتصامهم بالكافرين. ﴿وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ﴾، ﴿دِينَهُمْ﴾ أي: عبادتهم لله عز وجل، فلم يجعلوا مع الله شريكًا فيها، وقد سبق أن من صفات المنافقين أنهم كانوا ﴿يُرَاءُونَ النَّاسَ﴾، فإذا أزالوا هذه الخصلة وأخلصوا دينهم لله قال: ﴿فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ﴾، فلن يصلوا إلى درجة المؤمنين ومنزلة المؤمنين إلا بهذه الأوصاف الأربعة؛ الوصف الأول: التوبة من النفاق، والثانية: الإصلاح، والثالثة: الاعتصام بالله، والرابعة: إخلاص الدين لله، ﴿أَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ﴾، قال: ﴿فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ﴾. ثم قال: ﴿وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾، لم يقل: وسوف يؤتيهم، بل قال: ﴿سَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ﴾؛ ليشملهم وغيرهم، وليكونوا هم ضمن المؤمنين، ولن يستحقوا هذا الوعد على انفرادهم، بل قال: ﴿سَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾. * في هذه الآية: أن المنافق تُقبل توبته، لكن لن يكون مع المؤمنين حتى يتَّصف بالصفات الأربع. وهذه المسألة اختلف فيها العلماء رحمهم الله؛ فقال بعض العلماء: لن تُقبل توبة المنافق؛ لأنه لم يبدُ منه إلا الإسلام، أصلًا هو ﴿إِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا﴾ [البقرة ١٤]، فإذا قالوا إنهم آمنوا وتركوا النفاق، فهذا هو ما كانوا يقولونه بالأول وينكرون النفاق، وعلى هذا فلا تُقبل توبتهم، بل يُقتلون، وأمرهم إلى الله؛ إذا كانوا صادقين فالله عز وجل يوم القيامة يجزيهم بصدقهم، وأما إذا كانوا كاذبين فلهم النار، لكننا نحن في الدنيا لا نقبل توبتهم. ولكن الصحيح أن توبتهم مقبولة، إلا أنه يُتَحَرَّى فيها ما لا يُتَحَرَّى فيمن كفره صريح؛ لأن مَن كفره صريح يصرح؛ إما كافر، وإما مؤمن، ولا يُظْهِر أنه مؤمن وهو كافر، لكن البلاء هو المنافق، ولهذا لا بد أن نتحرى، ونسبره ذاهبًا وراجعًا. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أنه لا بد لمن أفسد أن يصلح مقابل إفساده، ولا تكفي التوبة المجردة، لا بد من إصلاح ما أفسد. وبناء على ذلك قال بعض العلماء: إن المبتدع لا توبة له، لماذا؟ لأنه أفسد أُمَمًا تبعوه على بدعته، فمن يُصلِح هذه الأمم؟ وعلى هذا فلا توبة له، ولكن الصحيح أن له توبة، وأن إصلاحه ما أفسد أن يعلن الرجوع عما كان عليه من الفساد، وأن يدعوَ إلى الإصلاح. ولهذا يقال: إن أبا الحسن الأشعري رحمه الله لما تاب من الاعتزال قام يوم الجمعة على الكرسي، ووضع عمامته وقال: أما بعد، فمن عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا فلان. ثم صرح برجوعه عن الاعتزال، وصار يرد على المعتزلة، فمثل هذا الرجل الذي كان مبتدعًا معتزليًّا توبته مقبولة، لماذا؟ لأنه أصلح ما أفسد، ولهذا كان خطر البدعة عظيمًا لما يحصل فيه من الفساد. * ومن فوائد الآية الكريمة: أن من كان معتصمًا بغير الله فإن من تحقيق توبته أن يعدل عن الاعتصام بغير الله إلى الاعتصام بالله؛ لأن الداء يداوَى بالدواء المقابل، فالاعتصام بغير الله شرك يداوَى بماذا؟ بالاعتصام بالله عز وجل، لكل داء دواء يناسبه. * ومنها أيضًا، من فوائد الآية: أن من تمام التوبة إخلاص المشرِك؛ لقوله: ﴿وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ﴾، والمنافقون عندهم إشراك؛ لأنهم يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلًا. * ومن فوائد الآية الكريمة: أن من اتصف بهذه الصفات فإنه يكون مع المؤمنين ولو كان قبل ذلك منافقًا؛ لأن هذه الصفات تنتشله من النفاق إلى الإيمان، فهذه -معيَّة المؤمنين- لا شك أنها منزلة عالية، كما قال تعالى: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ﴾ [النساء ٦٩]. * ومن فوائد الآية الكريمة: وعد المؤمنين بما هو أصدق الوعود، وهو قوله: ﴿وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾، أجرًا أي: ثوابًا، وسمَّى الله الثواب أجرًا تفضُّلًا منه، كأنه بمنزلة أجرة الأجير التي لا بد أن أيش؟ أن يُعطَى إياها، وهذا التزام من الله سبحانه وتعالى التزم به على نفسه؛ أن يثيب المؤمنين بالأجر العظيم، وهذا الأجر العظيم يكون في الدنيا، ويكون في الآخرة، قال تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النحل ٩٧].
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب