﴿۞ لَّا خَیۡرَ فِی كَثِیرࣲ مِّن نَّجۡوَىٰهُمۡ إِلَّا مَنۡ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوۡ مَعۡرُوفٍ أَوۡ إِصۡلَـٰحِۭ بَیۡنَ ٱلنَّاسِۚ وَمَن یَفۡعَلۡ ذَ ٰلِكَ ٱبۡتِغَاۤءَ مَرۡضَاتِ ٱللَّهِ فَسَوۡفَ نُؤۡتِیهِ أَجۡرًا عَظِیمࣰا﴾ [النساء ١١٤]
ثم قال الله تعالى:
﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ﴾.
قوله:
﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ﴾. كلمة (نجوى)، أولًا: الإعراب
﴿لَا خَيْرَ﴾ هذه نافية للجنس، واسمها
﴿خَيْرَ﴾، وإعرابه؟
* طالب: اسم نافية للجنس.
* الشيخ: كمّل.
* الطالب: (...) مبني.
* الشيخ: كمّل.
* الطالب: (لا) نافية للجنس، وخير اسم لا مبنى على..
* الشيخ: اسم (لا) مبني على الفتح في محل نصب؟
* الطالب: في محل نصب..
* الشيخ: في محل نصب، مبني على الفتح في محل نصب. و
﴿فِي كَثِيرٍ﴾ هو خبرها.
* طالب: (...).
* الشيخ: نعم، لا خير في كثير من كذا.وقوله:
﴿مَن﴾ ﴿إِلَّا مَنْ﴾ هذه بدل. قوله:
﴿مِنْ نَجْوَاهُمْ﴾ يحتمل أن تكون جمعًا كقوله تعالى:
﴿مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ﴾ [المجادلة ٧]، فـ(نجوى) هنا بمعنى متناجين.
﴿مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ﴾ أي: ما يكون من متناجِين ثلاثة إلا هو رابعهم، ويحتمل أن تكون مصدرًا، وعلى هذا فيكون المعنى: لا خير في كثير من مناجاة من تناجوا، هذا من حيث الإعراب، أما من حيث المعنى فهو واحد، لا يختلف، والمعنى أن كثيرًا مما يتناجى به هؤلاء لا خير فيه، والقليل فيه الخير.
وقوله:
﴿إِلَّا مَنْ أَمَرَ﴾ (مَن) هل تحتاج إلى تقدير المضاف، فنقول: التقدير: إلا نجوى مَن، أو لا تحتاج؟ نقول: هذا مبنيّ على كلمة (نجواهم)، إن قلنا: إنها مصدر احتاجت إلى التقدير، يعني: إلا نجوى مَن، وإن قلنا: (نجوى) بمعنى متناجين، فـ(مَن) هنا لا تحتاج إلى التقدير؛ لأن المعنى: لا خير في كثير من المتناجين إلا من أمر ففيهم الخير.
ما هي النجوى؟ سواء قلنا: إنها بمعنى متناجين أو إنها مصدر؛ فالنجوى هي الكلام الذي يُسِرّه الإنسان إلى جليسه، هذه النجوى، وسيأتي -إن شاء الله- بيان حكمها.
﴿إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ﴾ يعني: إلا نجوى من أمر، هذا إن قلنا: (النَّجْوَى) الأولى مصدر، وإن قلنا: إنها مصدر بمعنى الجمع، فإننا لا نحتاج إلى تقدير؛ يعني: إلا الذي أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس، ثلاثة أشياء.
﴿مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ﴾ أي: قال لغيره: تصدّق، وهذه الكلمة (تصدق) إن وقعت من أعلى فهي أمر، أو من مساوٍ فهي التماس ومشورة، وهو شامل لهذا وهذا، أي: سواء كان الآمِر له الإمرة على مَن وَجَّه إليه الخطاب، أو كان الآمِر ليس له إمرة، لكنه قاله على سبيل أيش؟ النصيحة والإشارة.
وقوله:
﴿بِصَدَقَةٍ﴾ مُنَكَّر، والتنكير يدل على الإطلاق فيشمل القليلة والكثيرة.
﴿أَوْ مَعْرُوفٍ﴾ المعروف ما ليس بمنكر، وهو أعم من الصدقة؛ لأن الصدقة إحسان، والمعروف ما يتعارفه الناس، وإن لم يكن صدقة، مثل الأمر بالمعروف أن يأمر بالتسامح، يأمر بالتواصل، يأمر بالإحسان، إذا لم يكن داخل في الصدقة وخصّصنا الصدقة بأنها صدقة المال.
﴿أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾ الإصلاح هو إزالة الفساد بين الناس، مثل أن يكون بين اثنين عداوة فيسعى شخص إلى إزالة هذه العداوة، فهذا هو الإصلاح، وهو من أفضل الأعمال المقرِّبة إلى الله.
وقوله:
﴿بَيْنَ النَّاسِ﴾ يشمل المسلمين وغير المسلمين، فالإصلاح بين الناس خير سواء أصلحتَ بين مسلمين أو بين كفار، أو بين مسلمين وكفار، من أين أخذ العموم؟ من قوله:
﴿النَّاسِ﴾.
ثم قال:
﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ﴾ المشار إليه ما سبق من الأمر بالصدقة والمعروف والإصلاح.
﴿ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ﴾،
﴿ابْتِغَاءَ﴾ بمعنى طلب.
﴿مَرْضَاةِ اللَّهِ﴾ أي: طلب أن يرضى الله عنه.
﴿فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾، الفاء هنا رابطة للجواب، جواب (مَن) في قوله تعالى:
﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ﴾، فلماذا اقترن الجواب بالفاء؟
* طالب: لأنها اقترنت بفعل الشرط.
* الشيخ: لأنه اقترن الجواب بـ(سوف)، هل لك أن تعطينا بيتًا يتضمن ذلك، أي ما يجب ربطه بالفاء؟
* طالب:
اسْمِيَّــــــــــــــــــــةٌطَلَبِيَّـــــــــــــــــةٌ وَبِجَامِـــــــــــــــــــدٍ ∗∗∗ وَبِمَا وَقَـــــــدْ وَبِلَـــــــنْوَبِالتَّنْفِيــــــــــــــسِ
* الشيخ: أحسنت، هذه سبعة أشياء، أما ابن مالك فقد جعل لها ضابطًا، ما هو؟
* طالب:
وَاقْرُنْ بِـ(فَا) حَتْمًا جَوَابًا لَوْ جُعِلْ ∗∗∗ شَرْطًا لِـ(إِنْ) أَوْ غَيْرِهَا لَمْيَنْجَعِلْ
* الشيخ: أحسنت.
وَاقْرُنْ بِـ(فَا) حَتْمًا جَوَابًا لَوْ جُعِلْ ∗∗∗ شَرْطًا لِـ(إِنْ) أَوْ غَيْرِهَا لَمْيَنْجَعِلْ
يعني: ما لا يصح أن يلي (إنْ) وجب أن يُقرن بالفاء، وهذا ضابط، وما أشار إليه أخونا في البيت فهو تفصيل، لكن ما ذكره ابن مالك فيه فائدة وهي الإشارة إلى وجوب اقترانه بالفاء، فما هو السبب؟
السبب لأنه لا يصح أن يكون فعلًا للشرط، فإذا لم يصح أن يكون فعلًا للشرط لم يصح أن يكون جوابًا، ولذلك وجب اقترانه بالفاء، واضح يا جماعة؟ البيت:
وَاقْرُنْ بِـ(فَا) حَتْمًا جَوَابًا لَوْ جُعِلْ ∗∗∗ شَرْطًا لِـ(إِنْ) أَوْ غَيْرِهَا لَمْيَنْجَعِلْ
ما معناه إجمالًا؟ معناه أنه إذا لم يصحّ أن يكون الجواب فعلًا للشرط أيش؟ وجب اقترانه بالفاء، هذا الحكم، لماذا؟ لأن ما لا يصح أن يكون شرطًا لا يصح أن يكون جوابًا، فلهذا وجب أن يقترن بالفاء.
﴿فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾. في قوله:
﴿نُؤْتِيهِ﴾ قراءتان سبعيّتان:
﴿نُؤْتِيهِ﴾ و
﴿يُؤْتِيهِ﴾ ، أما على قراءة:
﴿يُؤْتِيهِ﴾ فهي جارية على نسق الكلام؛ لأن قوله:
﴿ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ يُؤْتِيهِ﴾ ، أي: الله.
﴿أَجْرًا عَظِيمًا﴾.
إذا كانت
﴿يُؤْتِيهِ﴾ فهي على نسق الكلام؛ لأن الكلام كله في الغيبة، وإذا قال:
﴿فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ﴾ فقد خرج عن نسق الكلام، ويسمى هذا التفاتًا، وكل التفات فلا بد له من فائدة على حسب السياق.
* في هذه الآية الكريمة فوائد كثيرة؛ أولًا: أن كثيرًا من كلام الناس ليس فيه الخير، فما هو الميزان لما فيه الخير وما لا؟ الميزان ذَكَره النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في قوله: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ»(١)، هذا واحد، وفي قوله ﷺ: «مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ»(٢)، «وفي نهيه ﷺ عَنْ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ»(٣)، فهذه ثلاثة أحاديث كلها تبيّن ما هو الخير في الكلام، الأول؟
* طالب: قول الرسول ﷺ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ».
* الشيخ: والثاني؟
* طالب: «مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ».
* الشيخ: الثاني.
* الطالب: قول النبي ﷺ: «مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ».
* الشيخ: هذا اللي قلناه الثاني يا إخوان، هذا الثاني؟
* طلبة: نعم.
* الشيخ: الثالث؟
* طالب: «نهى عن القيل والقال».
* الشيخ:« نعم، نهى عن القيل والقال، وكثرة السؤال».
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: فضيلة الصدقة، وجه ذلك أنه إذا كان الآمر بالصدقة في أمره خير ففاعل الصدقة من باب أولى لا شك.
* ومن فوائد الآية الكريمة: حثّ الإنسان على الأمر بالخير والإحسان؛ لقوله: ﴿إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾.
* ومن فوائد الآية الكريمة: فضيلة الأمر بالإصلاح بين الناس.
* * *
* طالب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (١١٤) وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ [النساء ١١٤، ١١٥].
* الشيخ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قوله تعالى: ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ﴾ إلى آخره، ما المراد بالنجوى في قوله: ﴿مِنْ نَجْوَاهُمْ﴾؟
* طالب: النجوى تحتمل أحد احتمالين؛ إما أن تكون جمعًا كقوله تعالى: ﴿مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ﴾، أو تكون مصدرًا، أي: لا خير في كثير من مناجاتهم.
* الشيخ: من مناجاتهم، تمام، وبناءً على هذا تكون ﴿إِلَّا مَنْ أَمَرَ﴾ استثناء؟
* طالب: ﴿إِلَّا مَنْ أَمَرَ﴾ إذا قلنا: إن ﴿نَجْوَى﴾ مصدر فيكون المقدّر مضافًا.
* الشيخ: التقدير؟
* الطالب: التقدير: إلا مناجاة مَن أمر، وإذا قلنا: إنها جمع، فلا يحتاج إلى تقدير.
* الشيخ: أحسنت، قوله: ﴿إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾، هذه الأشياء الثلاثة ما الفرق بينها؟
* طالب: المعروف أعم، يشمل الصدقة والإصلاح، والصدقة هنا يتعلق بالبدن، والإصلاح يتعلّق بالمال والإصلاح يتعلق بـ..
* الشيخ: ما الذي يتعلق بالمال؟
* الطالب: الصدقة.
* الشيخ: الصدقة، طيب، المعروف أعم من كونه بالمال أو بالعمل، ﴿أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾؟
* طالب: بين طائفتين، كقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا﴾ [الحجرات ٩].
* الشيخ: إذن الإصلاح بين الناس هذا لشيء متعدي النفع، كل هذه الأشياء الثلاثة متعدي النفع، الصدقة والمعروف، والثالث: الإصلاح بين الناس. ما الذي يؤخذ من قوله: ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ﴾؟
* طالب: أن العبادة لا بد فيها من شرطين: الإخلاص لله، والمتابعة.
* الشيخ: وجوب العناية بالإخلاص، وأنها بدون إخلاص لا خير فيها، وأنها بغير إخلاص لا يترتّب عليها أجر كثير وإن كان فيها خير؛ لأنها متعدية، لكنه لا يحصل فيها الأجر العظيم.أخذنا أربع فوائد أظن كما قلتم أنا نسيت، ما هي؟
* طالب: الأولى: أن كثيرًا من كلام الناس ليس فيه خير. الثانية: فضيلة الصدقة.
والثالثة: حث الناس على الأمر بالصدقة.
والرابعة: قضية الأمر بالإصلاح بين الناس.
* الشيخ: نعم، بسم الله الرحمن الرحيم.
* من فوائد هذه الآية الكريمة أيضًا: فضيلة الأمر بالمعروف؛ حيث قرنه الله تعالى بالأمر بالصدقة؛ لقوله: ﴿إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ﴾، فما هو المعروف؟ المعروف كل ما عرفه الشرع وأقرّه فهو معروف، وكل ما أنكره ونهى عنه فهو منكر.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: بيان أن هذه الأمور الثلاثة فيها خير وإن فعلها الإنسان بغير قصد ابتغاء وجه الله، وجهه أن الله تعالى لما نفى الخير في كثير من النجوى استثنى هذه الثلاثة، ثم قال: ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أنه يصح إطلاق الفعل على القول، من أين يؤخذ؟ من قوله: ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ﴾ مع أن الذي حصل أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح، وهذه إذا قلنا: إنها عائدة على الأمر المفهوم من (أمر)، أما إذا قلنا: إنها عائدة على الصدقة والمعروف والإصلاح فإن هذا فعل، ولا إشكال فيه؛ لأن المشار إليه في ذلك مختلَف فيه كما ذكرناه سابقًا.
* ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات الرضا لله عز وجل؛ لقوله: ﴿ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ﴾، وهل الرضا صفة فعلية أو صفة ذاتية؟ يقال: إنها فعلية؛ لأن كل صفة تتعلق بمشيئة الله إن شاء فعلها وإن شاء لم يفعلها فهي صفة فعلية، هذا الضابط، والرضا متعلق بالمشيئة؛ لأن سببه الفعل الذي يرضى به الله، والفعل الذي يرضى به الله تابع لأيش؟ لمشيئة الله؛ لأنه من فعل العبد، وفعل العبد كائن بمشيئة الله، إذن فالرضا من الصفات الفعلية، وليُعلم أن الصفات الفعليّة كلها باعتبار الجنس صفات ذاتية، لكن أنواعها وأفرادها هي التي تحدُث، أما أصلها وهو الفعل فهو صفة أيش؟ ذاتية. الدليل: أن الله تعالى لم يَزَل، ولا يزال فعَّالًا، لكن المتجدّد هو أنواع الفعل أو آحاد الفعل؛ فمثلًا الاستواء على العرش مما حدث نوعه أو لا؟ مما حدث نوعه؛ لأننا لا نعلم فعلًا هو الاستواء إلا ما كان خاصًّا بالعرش، وما كان خاصًّا بالعرش فإنه قطعًا حصل بعد خلق أيش؟ بعد خلق العرش.
النزول إلى السماء الدنيا هو أيضًا حادث النوع، وحادث الآحاد أيضًا؛ لأن الله ينزل كل ليلة، الاستواء على العرش مطلق عام؛ يعني ما يُحَدّ بليلة، ولا بيوم، ولا بأسبوع، ولا بشهر، لكن النزول ينزل كل ليلة، فتبيّن الآن أن صفات الأفعال أصلها أيش؟ ذاتيّ، لماذا؟ لأن الله لم يَزَل ولا يزال فعَّالًا، وإذا قلت: ما الدليل على هذا؟ نقول: لأن الفعل كمال، ولو قلنا: إنه يأتي أو يمر عليه زمن لم يكن فاعلًا لكان هذا نقصًا في الله عز وجل؛ لأننا إذا قلنا لمن أتى عليه زمن: لم يكن فاعلًا، فلماذا؟ لأنه غير قادر؟!
فإن قلت: غير قادر، فهذا مشكل، وإن قلت: قادر، قلنا: هات الدليل على التحديد؛ لأن تحديد ما لم يقم عليه دليل يعتبر تحكمًا، فمن أيّ وقت صار الفعل ممكنًا في حقه؟ فلذلك نقول: إن صفات الأفعال أصلها أيش؟ ذاتي؛ لأن الله لم يَزَل ولا يزال فعَّالًا، وأما أنواعها وآحادها فهي فعليّة؛ لأنها تتعلق بمشيئته تبارك وتعالى.
عند أهل التعطيل كالأشاعرة والمعتزلة والجهمية ومن ضاهاهم يقولون: إن الله ليس له رضا، لكنهم لا ينكرونه إنكار جحود، بل إنكار تأويل، فمثلًا إذا قالوا: ليس له رضا.
نقول: إن نفيتم الرضا نفي إنكار فهذا تكذيب للقرآن، ومكذِّب القرآن كافر، أما إذا قالوا: نعم، لله رضا، لكن المراد بالرضا كذا، فهذا يسمى (إنكار تأويل)، ولا يكفرون بذلك إلا إذا كانت البدعة كبيرة تكفِّر، فهذا شيء آخر.
بماذا يفسّرون الرضا؟ يقولون: الرضا هو الإثابة. فيقال: إن الإثابة ليست هي الرضا؛ لأن الإثابة فعل منفصل بائن عن الله عز وجل، فيثب هؤلاء الذين رضي الله عنهم، يثيبهم بشيء منفصل بائن عن الله؛ بالجنة ونعيمها، بالحياة الطيبة في الدنيا، وما أشبه هذا، إذن تفسيره بالإثابة غلط، ونقول: إذا فسرتموه بالإثابة لزم من ذلك ثبوت الرضا؛ إذ لا يمكن أن يُثيب إلا من رضي عنه، لا يثيب من غضب عليه أبدًا، بل يثيب من رضي عنه، ولهذا مهما فروا من إنكار الرضا فإنه سوف يكون لازمًا له، مع المعاناة والتحريف لا يمكن أن ينفلتوا منه إطلاقًا.
ولهذا نجد أن أريح المذاهب وأسهل المذاهب هو مذهب أهل السنة والجماعة؛ مذهب السلف الذين يقولون: ما أثبته الله لنفسه أثبتناه، وما نفاه عن نفسه نفيناه، فيقولون مثلًا: نحن نثبت الرضا لله عز وجل كما أثبته لنفسه، وننفي عنه المثل كما نفاه عن نفسه، فقال:
﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى ١١]، وما الذي يضرنا؟ وننفي التكييف أيضًا؛ لأنه لا علم لنا به، وقد قال الله تعالى:
﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ [الإسراء ٣٦]، فتجد مذهب السلف سهلًا ليس فيه قلق، وليس فيه تناقض، وإنما التناقض عند أهل التحريف من المعتزلة وغيرهم.
* ومن فوائد الآية الكريمة أيضًا: إثبات صفات الفعل في قوله: ﴿فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أنه لا ينبغي للإنسان أن يستعجل الثواب؛ إذ قد يؤخّر الله الثواب لحكمة، من أين تؤخذ؟ من (سوف) الدالة على التسويف، هي تدل على التحقيق، لكن تدل على أن الشيء ليس منتظَرًا قريبًا، بل ولو على المدى البعيد، ولهذا لا تستعجل ثواب الله، بل ولا تستعجل إجابة الله للدعاء، كما جاء في الحديث: «يُسْتَجَابُ لِأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ فَيَقُولُ: دَعَوْتُ، ثُمَّ دَعَوْتُ، ثُمَّ دَعَوْتُ، وَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي»(٤). كذلك انتظار الثواب لا تستعجله، ثم إنه ينبغي للإنسان أيضًا -ونسأل الله أن يعيننا وإياكم على ذلك- ينبغي للإنسان إذا عمل العمل الصالح أن لا يستعجل ثواب الدنيا فيكون مريدًا للدنيا؛ يعني مثلًا من آمن وعمل صالحًا فقد قال الله تعالى:
﴿فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ [النحل ٩٧].
لو عملت لأجل أن يحييك الله حياة طيبة فهذا لا شك أنه خير، لكن خير من ذلك أن تنوي ثواب الآخرة، ويأتيك ثواب الدنيا، فإن أردت ثواب الدنيا والآخرة فلا بأس؛ لأن الله لم يذكر لنا ثواب الدنيا عبثًا، ولكن لينشّط الهمم ويبعث النفوس، وإلا لكان كل ثواب ذكره الله في الدنيا يعتبر أيش؟ عبثًا ولغوًا، فلا حرج على الإنسان أن ينوي ثواب الدنيا والآخرة، لكن أن ينوي ثواب الدنيا فقط فهذا لا شك أنه ناقص الإخلاص.
* ومن فوائد الآية الكريمة: عِظم من فعل ذلك ابتغاء وجه الله؛ عظم ثوابه؛ لقوله: ﴿فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾؛ لأن تعظيم الشيء من العظيم عظيم يدل على عظمته.
* ومن فوائد الآية الكريمة: بيان فضل الله عز وجل على عباده، حيث سمّى ثوابهم على العمل أجرًا بمنزلة أُجرة الأجير التي لا بد أن يُعطاها وهو مُستحقّ لها، وهذا من نعمة الله؛ أن يسمي الثواب الذي جعله على العمل، يسميه أيش؟ أجرًا بمنزلة أيش؟ أجرة الأجير اللازمة، مع أن الله هو الذي مَنّ بالعمل، وهو الذي مَنّ بالثواب، وبهذا يزول الإشكال في مثل قوله تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ﴾ [البقرة ٢٤٥]، هذه الآية من المتشابه، اتبعها مَن؟ اتبعها اليهود، وقالوا: إن الله فقير، والدليل على أنه فقير أنه طلب القرض، فقال: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾، فيقال: تَبًّا لكم، إن الله غني عنّا، عن العباد قبل أن يخلقهم وبعد أن يخلقهم، لكنه شبّه العمل بالقرض من باب الإحسان، وبيان أنه -عز وجل- ملتزم على أن يُثيب المطيع.فإن قال قائل: تقريرك هذا يقتضي أن يكون الله قد وجب عليه شيء، والله تعالى لا يجب عليه شيء؟
فالجواب: نعم، لا يجب عليه شيء من قِبل الناس، الناس لا يُوجِبون على الله شيئًا، لكن هو أوجب على نفسه، وإذا أوجب على نفسه فهو من كماله، قال الله تعالى:
﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الأنعام ٥٤]، فهو الذي كتب على نفسه أن يُثيب المطيع، وأن من عمل سوءًا بجهالة، ثم تاب تاب الله عليه، ولهذا لما قال القائل:
مَا لِلْعِبَــــــادِ عَلَيْــــــهِ حَــــــــقٌّوَاجِــــــــــــــــــبٌ ∗∗∗ كَلَّا وَلَا عَمَــــلٌ لَدَيْهِضَائِــــــــــــــــــــعُ؎إِنْ عُـــــذِّبُوا فَبِعَدْلِـــــــــــهِ أَوْنُعِّمُــــــــــــــــــــــــــوا ∗∗∗ فَبِفَضْلِهِ وَهُوَ الْكَرِيمُالْوَاسِـــــــــــــــــــعُ
لما قال هذا القائل قال ابن القيم مثل هذا القول إلا أنه قيّده ووضّحه، فقال:
مَا لِلْعِبَــــــادِ عَلَيْـــــــــهِ حَـــــــــقٌّوَاجِــــــــــــــبٌ ∗∗∗ هُوَ أَوْجَبَ الْأَجْرَ الْعَظِيمَ الشَّانِ؎إِنْ عُذِّبُوا فَبِعَدْلِهِ أَوْنُعِّمُــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــوا ∗∗∗ فَبِفَضْلِهِ وَالْفَضْــــــــلُلِلْمَنَّــــــــــــــــــــــــــانِ
فبيّن -رحمه الله- أنه لا واجب على الله للعباد إلا ما أوجبه أيش؟ على نفسه، وإذا أوجب الله على نفسه شيئًا فهو من فضله عز وجل.
(١) متفق عليه؛ البخاري (٦٠١٨)، (٤٧ / ٧٥) من حديث أبي هريرة.
(٢) أخرجه الترمذي (٢٣١٧)، وابن ماجه (٣٩٧٦) من حديث أبي هريرة.
(٣) متفق عليه؛ البخاري (٦٤٧٣)، ومسلم (٥٩٣ / ١٢) من حديث المغيرة بن شعبة.
(٤) متفق عليه؛ البخاري (٦٣٤٠)، ومسلم (٢٧٣٥ / ٩٠) من حديث أبي هريرة.