الباحث القرآني

ثم قال تعالى: ﴿وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا﴾ [النساء ١٠٧]، قوله: ﴿لَا تُجَادِلْ﴾ (لا) ناهية، والمجادلة هي مماراة الخصم من أجل الظهور عليه، سميت بذلك إما من الجدل وهو فتل الحبل وإحكامه؛ لأن المجادِل يُحكم حجته، وإما من الْجَدالة وهي الأرض، وكأن المجادل يطرح خصمه على الأرض حتى لا يكون به الحراك، وعلى كل حال فهي المماراة والمدافعة من أجل الظهور، ﴿وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ﴾. والنهي عن المجادلة هل يستلزم وقوعها؟ الجواب: لا، قد يُنهى الإنسان عن الشيء وإن لم يقع لكنه قد يقع، يُنهى عن شيء متوقع غير واقع، فلا يلزم من قوله تعالى: ﴿وَلَا تُجَادِلْ﴾ أن يكون النبي ﷺ جادل عنهم، ﴿وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ﴾، أي: يطلبون لها الخيانة فيوقعونها فيها، وهم هؤلاء الذين قالوا: إن صاحبنا لم يسرق، وإن السارق هو اليهودي. ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا﴾، وإذا كان الله تعالى لا يحب مَن كان خوّانًا أثيمًا فإنه لا يجوز الجدال عنه، أي: عن هذا الخوَّان الأثيم؛ لأن المجادلة عنه مضادة لله عز وجل؛ لأنها تأييد له، مع أن الله لا يحبه. وقوله: ﴿خَوَّانًا﴾ هذه صيغة مبالغة، فيحتمل أن تكون على بابها، وأن الله لا يحب كثير الخيانة، ويحتمل أن تكون للنسبة، فلا يلزم منها الكثرة، ويكون المعنى: إن الله لا يحب من كان ذا خيانة، و(فَعَّال) تأتي للنسبة، كقوله تعالى: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ [فصلت ٤٦]، أي: لذي ظلم، وليس المعنى بكثير الظلم؛ لأن الظلم منتفٍ عن الله تعالى؛ قليله وكثيره، إذن أيهما أرجح؟ أنها للنسبة، أي: لا يحب من كان ذا خيانة. ﴿أَثِيمًا﴾ أي: مكتسبًا للإثم، والخيانة والإثم تنطبق تمامًا على هؤلاء الذين خانوا هذا اليهودي وأثموا بالسرقة، فهم جمعوا بين أمرين: بين الإثم بالسرقة، وبين الخيانة بإلصاق هذا العمل في غيره. * يستفاد من هذه الآية الكريمة فوائد: أولًا: النهي عن معاونة الآثم، وهذا مطابق لقول الله تعالى: ﴿وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ [المائدة ٢]، من أين يؤخذ؟ من قوله: ﴿وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ﴾. ومن فوائدها: أن اهتداء النبي صلوات الله وسلامه عليه بتوجيه الله تعالى وإرشاده؛ لقوله: ﴿وَلَا تُجَادِلْ﴾، فإن هذا توجيه من الله عز وجل لنبيه محمد عليه الصلاة والسلام ألا يجادل عن هؤلاء. * ومن فوائد الآية الكريمة: أن الخائن لغيره خائن في الحقيقة لنفسه؛ حيث أوقعها في المآثم والخيانة، فلا يظن الخائن الذي يكتسب بخيانته ما يكتسب لا يظن أنه رابح، بل هو خائنٌ من؟ خائن نفسَه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنَّا»[[أخرجه مسلم (١٠٢)، والترمذي (١٣١٥) ، واللفظ له من حديث أبي هريرة. ]]. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: إثبات محبة الله، من أين تؤخذ؟ * طالب: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا﴾. * الشيخ: هذا نفي للمحبة، كيف يكون دليلًا على إثباتها؟ لأنه لما نفاها عن الخونة دلّ على ثبوتها للأمناء، وهذا كاستدلال الشافعي رحمه الله بقوله تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ﴾ [المطففين ١٥] على ثبوت رؤية الله تعالى من المؤمنين، قال: لما حجب هؤلاء في حال الغضب ثبتت الرؤية للآخرين في حال الرضا. والمحبة عند أهل السنة والجماعة والسلف الصالح وأئمة الهدى هي ما نعرفه من أنفسنا، ولكن محبة الله ليست كمحبتنا نحن، بل هي محبة كسائر صفاته، الله أعلم بكيفيتها، لكن نعلم نحن معنى المحبة، وإذا كانت المحابُّ بيننا تختلف باعتبار إضافتها وباعتبار قوتها وضعفها، فالاختلاف بين المخلوقات، يكون الخلاف بين المخلوق والخالق من باب أولى. ولهذا محبتنا للأشياء الآن تختلف بحسب متعلق المحبة، أنت تحب العسل لأيش؟ لحلاوته، وتحب صديقك؛ لقربه منك وصداقته، تحب زوجتك لشيء آخر، وهلم جرَّا، تختلف المحبة بالخلق بحسب متعلقاته، تحب ولدك محبة أخرى من جنس آخر، تحب ولدك الصغير ما دام صغيرًا يمشي وحلِيو، لكن إذا كبر تضعف المحبة الأولى وتنتقل إلى محبة ثانية من نوع آخر، فالمحابُّ تختلف باختلاف متعلَّقها، طيب إذا كان الله تعالى يحب محبة حقيقية فما هي المحبة؟ المحبة هي المحبة، ولهذا قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه روضة المحبين، قال: لا يمكن أن تُحَدَّ المحبة بمعنى أظهر من المحبة من لفظها؛ لأنك مهما قلت: هي ميل الإنسان مثلًا إلى ما يلائمه، نقول: ميل الإنسان إلى ما يلائمه هذا ليست محبة، هذا أثرها ولازمها، ولذلك لا يمكن، المعاني النفسية لا يمكن إطلاقًا أن تُعَرَّف بغير لفظها. إذن محبة الله عز وجل ثابتة حقيقة، ولكنها لا تُكَيَّف ولا تُمَثَّل؛ لا تُكَيَّف؛ لقوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ [الإسراء ٣٦]، ولا تُمَثَّل؛ لقوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى ١١]، طيب، مَن فَسَّر المحبة بالثواب؟ فهذا مُحَرِّف؛ لأنه فسّرها باللازم، فهو محرِّف؛ لأن الإثابة فرع عن المحبة، فالصواب أنها محبة حقيقية، لكنها تستلزم الثواب والرضا وما أشبه ذلك. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن الخيانة من كبائر الذنوب، من أين تؤخذ؟ من قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا﴾؛ لأنه إذا رُتِّبَ على العمل عقوبة خاصة فهو من الكبائر، هذا أحسن ما قيل في حد الكبيرة، وذكره شيخ الإسلام رحمه الله، كل شيء يُرَتَّب عليه عقوبة خاصة فهو من الكبائر، سواء كانت العقوبة لعنة، أو غضبًا، أو نفي إيمان، أو تبرؤًا منه، أو غير ذلك. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: التحذيرُ من الخيانة؛ لكون الله تعالى نفى محبته للخائن الأثيم، والترغيبُ في أداء الأمانة؛ لأنه إذا وقع الذم على وصف لزم أن يكون المدح في ضده.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب