الباحث القرآني
طالب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا ﴾ [النساء ١٠١].
* الشيخ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾، الخطاب في قوله: ﴿إِذَا ضَرَبْتُمْ﴾ للناس جميعًا، ويدخل فيه بالأولى المؤمنون؛ لأنهم هم الذين يخاطَبون بالتكاليف الشرعية، وقوله: ﴿إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ الضرب في الأرض هو السفر فيها، وسُمِّي ضربًا؛ لأن الإنسان لا يخلو من أن يكون معه راحلة تحتاج إلى الضرب، ولهذا قال النبي ﷺ: «أمَّا أَبُو جَهْمٍ فَلَا يَضَعُ الْعَصَا عَنْ عَاتِقِهِ»[[أخرجه مسلم (١٤٨٠ / ٣٦)، من حديث فاطمة بنت قيس.]]، وحمله بعض العلماء على أنه كثير الأسفار.
وقوله: ﴿إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ لم يقيده الله عز وجل؛ لكون هذا الضرب مشروعًا أو مباحًا أو مكروهًا أو محرمًا، وقوله: ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ﴾، الجناح يعني الإثم، وقوله: ﴿أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ﴾ زعم بعضهم أن (من) هنا زائدة، وأن المعنى: أن تقصروا الصلاة، وعلَّل هذا القول بأن صلاة السفر فُرِضَت ركعتين، فلا يصح أن يقال: إنه قُصِر منها، بل يقال: إنها قُصِرَت، ولكن هذا القول ضعيف كما سنبين إن شاء الله ذلك في الفوائد.
وقوله: ﴿إِنْ خِفْتُمْ أنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ هذا شرط للحكم الثابت بقوله: ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ﴾، فالجملة إذن شرطية، وجواب الشرط الصحيح أنه لا حاجة إليه؛ لأنه معلوم من السياق، وقال بعضهم: إنه محذوف دل عليه ما سبق.
وقوله: ﴿أنْ يَفْتِنَكُمُ﴾ أي: أن يصدكم عن دينكم، وذلك بقتالهم إياكم أو بأسباب أخرى يصدونكم بها عن الدين، ثم علَّل ذلك بقوله: ﴿إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا﴾، الجملة هنا موقعها مما قبلها أنها تعليل للحكم وهو قصر الصلاة، قلنا: إن الضرب في الأرض هو السفر فيها، ووجه تسمية السفر ضربًا أن المسافر يحمل العصا معه ليضرب راحلته، وقد جاءت الآية الكريمة، أعني الضرب في الأرض، في عدة آيات، منها قوله تعالى: ﴿لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ﴾ [البقرة ٢٧٣]، ومنها قوله تعالى: ﴿وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ﴾ [المزمل ٢٠]، ففي هذه الآية يبين الله سبحانه وتعالى انتفاء الجناح عن قصر الصلاة إذا كان الإنسان ضاربًا في الأرض خائفًا أن يفتنه الكفار، ويبين عز وجل ﴿إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا﴾، وقد سبق لنا الكلام على مثل هذا التعبير في ﴿كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا﴾، وأن (كان) هنا يراد بها أيش؟ إثبات الحكم لا حدوث الحكم؛ لأنه لو أريد بها الحدوث لكان هذا يقتضي أن عداوتهم كانت سابقة، وليس الأمر هكذا.
* في هذه الآية من الفوائد، أولًا: بيان تيسير الله عز وجل على العباد حين يوجد السبب الذي يقتضي ذلك، وذلك بقصر الصلاة في السفر، فإن هذا لا شك تيسير على العباد، وسُهِّلت الصلاة في السفر من وجه آخر، وهو جواز الجمع بين الصلاتين المجموعتين، وسُهِّلت من وجه ثالث، وهو جواز التيمم إذا لم يجد الماء، فإن قال قائل: هذا حتى في الحضر؟ قلنا: لكنه في السفر أيسر منه في الحضر؛ لأن الحضر يجب على الإنسان أن يبحث بحثًا دقيقًا، أما في السفر فلا يلزمه أن يحمل الماء معه إلا إذا كان ذلك يسيرًا جدًّا، أما أن يتكلفه بنوع من الكلفة فلا (...).
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن القصر ليس بواجب؛ لقوله: ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ﴾، هكذا استدل جمهور العلماء بهذه الآية على أن القصر ليس بواجب؛ لأن الله نفى الجناح عن القصر أو في القصر، فدل ذلك على أنه ليس بواجب، لكن هذا الاستدلال فيه نظر، وجه النظر أنه قد يُنْفَى الجناح أو الحرج خوفًا من توهمه، كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾ [البقرة ١٥٨]، فهنا نفى الجناح دفعًا لتوهم بعض الصحابة أن الطواف بهما محرم؛ لأنه كان فيهما صنمان، وقال بعض أهل العلم وهم الأكثر: إن القصر ليس بواجب، ولكلٍّ دليله فلنتعرض لشيء قليل من المناقشة في هذا الباب.
استدل القائلون بأن القصر واجب بحديث عائشة رضي الله عنها: «أن الصلاة أول ما فُرِضت كانت ركعتين، فلما هاجر النبي ﷺ زِيد في صلاة الحضر وبقيت صلاة السفر على الفريضة الأولى»[[متفق عليه؛ أخرجه البخاري (٣٩٣٥)، ومسلم (٦٨٥ / ٢)، من حديث عائشة.]]، فقالوا: إن قولها: «أول ما فرضت ركعتين»، مع قولها: «على الفريضة الأولى»، يدل على أنه لا تجوز الزيادة على الركعتين في السفر، كما أنه لا تجوز الزيادة على الأربع في الحضر، واستدلوا لذلك أيضًا بحديث عمر: «صلاة السفر ركعتان»[[أخرجه النسائي (١٤٢٠)، وابن ماجه (١٠٦٣)، من حديث عمر بن الخطاب.]]، فجزم بأن صلاة السفر ركعتان، وكذلك روي عن ابن عباس أنه قال: «صلاة السفر ركعتان، وصلاة الحضر أربع، وصلاة الخوف ركعة»[[أخرجه مسلم (٦٨٧ / ٥)، من حديث ابن عباس.]].
وأما الجمهور فأجابوا عن ذلك بأن معنى قول عائشة: «أُقِرَّت على الفريضة الأولى»، أنها لم تُزَد، فالمراد به نفي الزيادة لا تحريم الزيادة، ويدل لهذا أن الصحابة رضي الله عنهم لما كان عثمان يُتِمّ في منى أنكروا عليه ولكنهم تابعوه[[أخرجه البخاري (١٠٨٤)، من حديث ابن مسعود.]]، ومتابعتهم إياه يدل على أن القصر ليس بواجب؛ إذ إنه لو كان واجبًا ما صح أن يتابعوه، كما أن الإمام لو صلى خمسًا فإنه لا يتابَع ولو كان ساهيًا، فكذلك إذا صلى المسافر أربعًا فإننا نقول: لو كان الواجب هو الركعتان ما تابعوه على ذلك، وهذا دليل واضح جدًّا على أن القصر ليس بواجب، وهو الأقرب عندي بعد أن كنت أرجّح أن القصر واجب، لكن بعد التأمل رأيت أن قول الجمهور أقرب للصواب، والله أعلم.
* من فوائد هذه الآية الكريمة: أن قصر الصلاة ثابت في كل ما يسمى ضربًا في الأرض؛ لقوله: ﴿إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ﴾، وهذا مطلق، لم يقيَّد بيومين أو ثلاثة أو أربعة أو عشرة، فدل ذلك على أن كل ما يسمى ضربًا في الأرض فإنه تُقْصر فيه الصلاة، وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وقال: كل ما يسميه الناس سفرًا وضربًا في الأرض فإنه سفر يثبت له أحكام السفر، ودليله؟ دليله الإطلاق، ودليل آخر أنه ثبت في صحيح مسلم[[(٦٩١ / ١٢). ]] أن أنس بن مالك قال: «كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا خرج ثلاثة أميال أو فراسخ صلى ركعتين».
وقال الجمهور: بل السفر هنا مطلق لكنه مقيَّد، قيّدته السنة، وهو يومان قاصدان، وتقريبه بالفراسخ ستة عشر فرسخًا، يعني أربعة بُرُد، والبُرُد جمع بريد، وسميت بذلك لأنها مسافات كانوا يقطعونها رسل البريد، قد كانوا فيما سبق يجعلون المراحل للبُرُد كل أربعة فراسخ بريد، والفرسخ ثلاثة أميال، يعني كل اثني عشر ميلًا يكون بريدا، كيف ذلك؟ يذهب الفارس من هذا المكان إلى المكان الآخر، وإذا فارس ينتظره فيسلمه ما معه من الرسائل إلى مثله، وإذا الفارس الثالث ينتظره، وهلم جرًّا حتى يصلوا إلى آخر المرحلة، فيكون لا بد من أن تكون لهذه المسافة، وما دونها وإن سمي سفرًا وإن حُمِل له المتاع وإن شُدَّت له الرواحل فإنه لا يحصل فيه القصر، فيقال: أين الدليل على هذا؟ لم يَرِد عن النبي ﷺ أنه حدد هذا، بل حديث أنس الذي ذكرناه آنفًا يدل على أنه يقصر في ثلاثة أميال أو فراسخ، إذا قلنا: الأعلى ما هو، الفراسخ ولّا الأميال؟ الفراسخ، والفراسخ ثلاثة أميال، أين هي من ستة عشر فرسخًا؟ فإذن يُرجع في ذلك إلى العرف، لكن إذا اختلف العرف فحينئذ يمكن أن نلجأ للضرورة إلى التحديد، ونقول بأنه يحدَّد بالفراسخ، نقول ذلك عند الضرورة، أما إذا أمكن ضبط العرف فلا نعدل عنه، وقد قال شيخ الإسلام رحمه الله: إن هذا التحديد بالفراسخ غير صحيح، بحسب الواقع؛ لأنه في عهد الرسول ﷺ ليس هناك أناس مسّاحون يقيسون الأرض حتى بالذراع، بل حتى بالشبر، بل حتى بالأصبع، بل حتى بحبة الشعير، بل حتى بشعرة البرذون؛ لأن الفقهاء الذين حددوا هذا حددوه إلى هذا الحد، قالوا: ستة عشر فرسخًا هي كذا وكذا، وهذا كذا وكذا، إلى أن وصلوا إلى شعرة البرذون، وبناء على ذلك لو كان هنا أناس نازلون وبينهم وبين الآخرين شعرة برذون، ولكن الأولون أقرب إلى البلد صار الأولون أيش؟ غير مسافرين، والذين بينهم وبينهم شعرة مسافرون، وهذا صعب أن يحقق الإنسان هذا ويجعله حدًّا للناس، فعلى كل حال الذي نرى أن المرجع في هذا إلى العرف، وأن نطلق ما أطلقه الله، ومن المعلوم أن العرف يختلف، لو أن قومًا خرجوا في رحلة، تَغَدّوا في البر ثم رجعوا، فإن هذا لا يسمى سفرًا ولا ضربًا في الأرض، ولو خرجوا في هذه المسافة في رحلة لكنهم أقاموا يومين أو ثلاثة لَعُدّ ذلك سفرًا؛ لأن الناس يتأهبون له، وإن كان في العرف الآن لا يعدون النزهة سفرًا حتى لو بعدت وحتى لو بقيت أيامًا، لكن هذا لا عبرة له، السفر كل ما يُحمل له المزاد ويستعد له فإنه سفر.
فإن قال قائل: الآن فيه فنادق وفيه سيارات وطيارات ولا يحتاج الإنسان إلى أن يحمل متاعًا؟ قلنا: هذا لا عبرة به، العبرة بنفس المسافة والطريق الذي إذا أراده الإنسان استعد له، أما كون المتاع والزاد تسهل في الأماكن فهذا لا يمنع أن يكون سفرًا.
* من فوائد الآية الكريمة: أن الإنسان إذا أقام في سفره في مكان فإنه لا يلزمه الإتمام، بل يبقى قاصرًا؛ لأن الله أطلق ﴿إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ﴾، ولم يقل: ما لم تمكثوا أربعة أيام أو عشرة أيام أو ما أشبه ذلك، وبناء على هذا لو أن الإنسان سافر إلى بلد غير بلده وأقام فيها شهرًا فهو مسافر، وذلك لأن النصوص جاءت مطلقة غير مقيدة، وجاءت نصوص أخرى إيجابية تدل على عدم التقييد، وذلك فيما يأتي:
أولًا: أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أقام عام الفتح في مكة تسعة عشر يومًا يقصر الصلاة[[أخرجه البخاري (٤٢٩٨)، من حديث عبد الله بن عباس.]]، ولم يقل للناس: أتموا، وأقام في تبوك عشرين يومًا يقصر الصلاة[[أخرجه أبو داود (١٢٣٥)، من حديث جابر بن عبد الله.]] ولم يقل للناس: أتموا.
ثانيًا: أن الرسول ﷺ قدم مكة في حجة الوداع وهي آخر سفرة سافرها في اليوم الرابع من ذي الحجة[[أخرجه البخاري (١٠٨٥)، من حديث عبد الله بن عباس.]]، ومكث فيها وهو يقصر الصلاة[[أخرجه مسلم (٦٩٣ / ١٥)، من حديث أنس بن مالك ]]، ولم يقل للناس: من قدم قبل اليوم الرابع فليتم، أو من قدم قبل عشرة أيام فليتم، أو ما أشبه ذلك، فعُلِمَ من هذا أنه لا حد للإقامة التي تمنع أو التي تقطع حكم السفر، وهذا القول هو الذي اختاره شيخ الإسلام رحمه الله ونصره بأدلة قوية ظاهرة، ذكر ذلك في أول باب صلاة الجمعة في الفتاوى وفي المواضع كثيرة من كلامه، ونصره نصرًا عزيزًا، وهو جدير بالنصر؛ لأن أي إنسان يقيد بأربعة أيام أو بخمسة أو بأكثر أو أقل يقال له: أين الدليل؟ لو كان هذا القيد لازمًا لبَيَّنَه الله تعالى في القرآن أو جاءت به السنة بيانًا واضحًا؛ لأن هذا مما تتوافر الدواعي على نقله، ومما يحتاج الناس إليه، فكيف يُترك هملًا بلا بيان، ولهذا اختلف العلماء في هذه المسألة على نحو عشرين قولًا أو أكثر ذكرها النووي رحمه الله في شرح المهذب: فمنهم من قال: أربعة أيام صافية. يعني: يُحْذَف منها يوم الدخول ويوم الخروج، وهذا مذهب الشافعي، ومنهم من قال: أربعة أيام بيوم الدخول والخروج، وهذا مذهب الحنابلة، ومنهم من قال: خمسة عشر يومًا، وهذا مذهب أبي حنيفة، ومنهم من قال: تسعة عشر يومًا، وهذا مذهب ابن عباس، ومنه أيضًا آراء أخرى لا تحضرني الآن، لكن من أراد أن يطلع عليها فليرجع إلى شرح المهذب فإنه قد بينها.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أنه لا يجوز قصر الصلاة إلا عند الخوف؛ لقوله: ﴿إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾، وهذا ظاهر الآية، لكن جاءت السنة تبين أن هذا ليس بشرط، يعني أنه لا يُشترط لجواز القصر الخوف، وذلك فيما ثبت في صحيح مسلم[[(٦٨٦ / ٤).]] «أن رجلًا قال لعمر: إن الله يقول:» ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾، «ونحن الآن آمنون. فقال عمر: لقد عجبتُ مما عجبتَ منه، فسألت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن ذلك فقال: «هَذِهِ صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ»، وهذه سُنَّة قولية تدل على أن الخوف ليس بشرط، هناك سنة فعلية تدل على أن الخوف ليس بشرط، وهو «أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قصر في حجة الوداع وهو آمَنُ ما يكون»[[متفق عليه؛ البخاري (١٠٨٣)، ومسلم (٦٩٦ / ٢٠)، من حديث حارثة بن وهب.]]، ما فيه خوف إطلاقًا، وقال بعض العلماء: إن الآية لا تدل على أن هذا القيد شرط، لماذا؟ قالوا: لأن هذا القيد جاء على الغالب، وأن الناس حين نزول الآية أسفارهم مَخُوفة، وما جاء بناء على الغالب فإنه لا يكون قيدًا، وهذا معروف في أصول الفقه، أن القيد إذا كان بناء على الغالب فإنه لا مفهوم له، واستدلوا بقوله تعالى: ﴿وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ﴾ [النساء ٢٣] فإن الربيبة لا يشترط لتحريمها على زوج أمها أن تكون في حَجْره، لكن هذا بناء على الغالب، وبقوله تعالى: ﴿وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا﴾ [النور ٣٣] ؛ لأن هذا هو الغالب، فقالوا: إن الآية خرجت مخرج الغالب فلا مفهوم لقيدها، شوف سبحان الله، هؤلاء عكس الذين يقولون: إنه يشترط أيش؟ الخوف، وقال بعض العلماء: إن هذا القيد قيد للقصر من صلاة السفر، والقصر من صلاة السفر أن يجعلها واحدة، وعلى هذا فيكون المراد بقصر الخوف أن تُجعل الثنائية واحدة، واستدلوا لذلك بأنه جاء عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في صلاة الخوف أنه صلى بأصحابه ركعتين، كل طائفة صلت ركعة واحدة فقط وانصرفوا[[متفق عليه؛ البخاري (٩٤٢)، ومسلم (٨٣٩ / ٣٠٥)، من حديث عبد الله بن عمر.]]، وهذا أيضًا قول في هذه الآية، فيكون المراد بقصر الصلاة هنا أيش؟ قصر صلاة الخوف إلى ركعة لا إلى ركعتين، وقال بعض أهل العلم وهو القول الرابع: إن القصر قصران: قصر عدد، وقصر صفة، فقصر العدد لا يشترط فيه الخوف، وقصر الصفة يشترط فيه الخوف؛ قصر الصفة في صلاة الخوف مرّ علينا قريبًا أنه يُفعل فيها أشياء لو فُعِلت في حال الأمن لأبطلت الصلاة، فخُفِّفَ في هيئتها وكيفيتها، وهذا نوع من القصر، فهو قصر كيفية وليس قصر كمية، فهذه أقوال الناس التي تحضرني في هذه الآية، ولكن نقول:
؎إِذَا قَالَـــــــــــتْ حَـــــــــــذَامِفَصَدِّقُوهَـــــــــــــــــا ∗∗∗ فَإِنَّ الْقَــــــــــــوْلَ مَـــــا قَالَـــــــتْحَــــــــذَامِ
وإذا كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «إِنَّهَا صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ»[[أخرجه مسلم (٦٨٦ / ٤)، من حديث عمر بن الخطاب.]]، ما بقي لأحد كلام، فنقول: إن الله تعالى شرط ذلك في أول الأمر، ثم سهّل على عباده وتصدق عليهم ورفع هذا الشرط ﴿إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن الخوف له أثر في تغيير الأحكام؛ لقوله: ﴿إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾، وهذا أمر معلوم، حتى إن الله قال: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (٢٣٨) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا﴾ [البقرة ٢٣٨، ٢٣٩] ، حتى وأنت راجل تمشي أو راكب لك أن تصلي، حتى وأنت تمشي وأنت راكب ما دام الخوف محققًا، ثم إن الوضوء أو الغسل من الجنابة إذا خاف الإنسان على نفسه يتيمم، فالخوف له تأثير في تغيير الأحكام الشرعية، حتى إن العلماء قالوا: لو صلى خلف جدار وعدُوّه يطلبه فإن قام رآه العدو وإن صلى قاعدًا لم يَرَه فإنه يصلي قاعدًا.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: حرص الكفار على فتْن المؤمنين حتى في العبادات؛ لقوله: ﴿إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن جميع الكفار أعداء لنا؛ لقوله: ﴿إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا﴾.
* ومن فوائدها: أن عداوة الكفار لنا بيّنة ظاهرة؛ لأن الْمُبِين هنا بمعنى بيّن واضح، فإن قال قائل: كيف كانت بيّنة وقد اغترّ بهم بعض الناس وظنوا أنهم أولياء وليسوا بأعداء؟ قلنا: إن الأعشى يعميه ضوء النهار، أليس كذلك؟ والأعمى لا يرى الشمس، فهؤلاء الذين يظنون أن الكفار ليسوا بأعداء لنا لا شك أنهم قد أعماهم الله عز وجل إما لمصالح دنيوية أو لغير ذلك، وإلا فمن تأمل أحوال الكفار وجد أنهم أعداء لنا، وأنهم يغزوننا بالسلاح ويغزوننا بالسلم، يغزوننا بالحرب وبالسلم، يعني لا تظنوا أن غزو الكفار لنا بالحرب، لا، بل بالحرب وبالسلم، فإنهم إذا سالمونا أوفدوا علينا من أخلاقهم السافلة وعقائدهم المنحرفة ما يفسد المسلمين، ثم إنهم إذا سالمونا فإن منتوجاتهم وصنائعهم تستهلك عندنا، ويتوفر لهم اقتصادنا، فهم يسلبوننا أموالنا ويسلبوننا أخلاقنا، وربما يسلبونا عقائدنا، ويهدون إلينا أيش؟ أخلاقهم وأفكارهم، وبهذا نعرف أن الكافر عدو في الحرب وفي السلم؛ لأن الله تعالى لم يقيد ذلك في حال الحرب، ﴿إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا﴾.
* ومن فوائد الآية: التحذير من الاغترار بما يبديه الكافر من الموالاة، وجهه؟ أن العالم بما في الصدور والعالم بكل حال أخبرنا بأنهم -أي الكافرين- كانوا لنا عدوًّا مبينًا، ولا أحد أعلم من الله بعباد الله.
* طالب: بارك الله فيكم، قال الله تعالى في سورة البقرة: ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾، مفهوم الآية أن بعض أهل الكتاب لا يود ذلك ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا﴾ [البقرة ١٠٩]، فمفهوم الآية أن بعضهم لا يود ذلك، هل هذا متعارض مع ظاهر..
* الشيخ: لا ما يتعارض؛ لأن التخصيص جاء في كل النصوص، فبعض أهل الكتاب آمنوا بالرسول عليه الصلاة والسلام.
* طالب: لو قال قائل نسالم أعداء الله، يكذبون بآيات واضحة في كتاب الله سبحانه وتعالى، على أساس أن الله يقول: ﴿إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا﴾، وهذا ينطبق عليهم حكم معين فهل القول هنا فيه شيء من الصحة؟
* الشيخ: لا؛ لأن مسالمة الكفار عند الحاجة بشرط الحذر لا بأس به، فقد سالم النبي ﷺ قريشًا وصالح اليهود أيضًا أول ما قدم المدينة.
* طالب: شيخ، فرقوا مثلًا بين الضارب في الأرض والمسافر..
* الشيخ: أبدًا.
* الطالب: من حيث اللغة فغيروا الأحكام؟
* الشيخ: ما هو صحيح هذا، هذه دعوى غير صحيحة، كل المفسرين ﴿إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ﴾ [آل عمران ١٥٦] قالوا: إذا سافروا.
* طالب: أورد بعض العلماء قول شيخ الإسلام في السفر أنه قال: إن بعض العلماء والأئمة الكبار كان يخرج في طلب الحديث، ثم يستقر به المقام في بلد ويعرف أنه سيجلس مثلًا سنة أو سنتين، فهل يجلس ويصبح إمامًا لهم ويصلي بهم الجمع والجماعات، ثم ينتقل إلى بلد أخرى أيضًا ويصبح حاله كذلك حتى يرجع إلى بلده، فيقولون في هذه الحالة استقر به المقام، فجلس وهو يعلم أنه سيرتحل وأتى لغرض معين ثم يسافر وهو يصلي بهم الجمع والجماعات، فما..
* الشيخ: نحن لا ننكر أن المسألة خلافية.
* الطالب: هنا فعل هؤلاء الأعلام.
* الشيخ: هذه قضايا أعيان، ما ندري، لعله حين قدم البلد أراد أن يقيم إقامة مطلقة غير مقيدة بزمن ولا بعمل، والإقامة المطلقة ترفع أحكام السفر، ولهذا نقول: السفراء الآن اللي في البلد يعتبرون مقيمين إقامة مطلقة؛ لأن الأصل أنه باق في مكانه.
* الطالب: حتى لو علم أنه سيُغَيَّر بعد خمس سنوات.
* الشيخ: إذا علم فحينئذ يكون حكمه حكم المسافر، لكن إذا لم يعلم، وأن الأصل بقاؤه وعدم تغييره فيكون مقيما إقامة مطلقة.
قول شيخ الإسلام في السفر أنه قال: إن بعض العلماء والأئمة الكبار كان يخرج في طلب الحديث، ثم يستقر به المقام في بلد، ويعرف أنه سيجلس مثلًا سنة أو سنتين، فهل يجلس ويصبح إمامًا لهم ويصلّي بهم الجُمع والجماعات، ثم ينتقل إلى بلد أخرى أيضًا ويصبح حاله كذلك حتى يرجع إلى بلده، فيكون في هذه الحال استقر به المقام، فجلس وهو يعلم أنه سيرتحل وأتى لغرض معين، ثم يسافر، وهو يصلي بهم الجمع والجماعات؟ فما الحكم؟
* الشيخ: نحن لا ننكر أن المسألة خلافية.
* الطالب: هنا، فعل هؤلاء الأعلام؟
* الشيخ: هذه قضايا أعلام، ما ندري، لعله حين قدم البلد أراد أن يقيم إقامة مطلقة غير مقيدة بزمن ولا بعمل، والإقامة المطلقة ترفع أحكام السفر، ولهذا نقول: السفراء الآن اللي في البلد يعتبرون مقيمين إقامة مطلقة؛ لأن الأصل أنه باقٍ في المكان.
* الطالب: حتى لو علم أنه سيغيّر بعد خمس سنوات؟
* الشيخ: إذا علم فهذا يكون حكمه حكم المسافر، لكن إذا لم يعلم، وأن الأصل بقاؤه وعدم تغييره، فهو يكون مقيمًا إقامة مطلقة.
{"ayah":"وَإِذَا ضَرَبۡتُمۡ فِی ٱلۡأَرۡضِ فَلَیۡسَ عَلَیۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَقۡصُرُوا۟ مِنَ ٱلصَّلَوٰةِ إِنۡ خِفۡتُمۡ أَن یَفۡتِنَكُمُ ٱلَّذِینَ كَفَرُوۤا۟ۚ إِنَّ ٱلۡكَـٰفِرِینَ كَانُوا۟ لَكُمۡ عَدُوࣰّا مُّبِینࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق