الباحث القرآني
ثم قال الله تعالى: ﴿وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ﴾ [الزمر ٧٥].
﴿تَرَى الْمَلَائِكَةَ﴾ ﴿تَرَى﴾ أيها المخاطب، ويحتمل أن المراد به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن القول الأول أولى؛ لأن القول الأول يشمل القول الثاني ولا عكس، فإنك إذا قلت: وترى يا محمد؛ حجبت هذا الخطاب عن بقية الأمة، وإذا قلت: وترى أيها المخاطَب؛ صار عامًّا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ولغيره من الأمة، والقاعدة أنه إذا دار اللفظ بين معنى عام ومعنى خاص، فإنه يحمل على المعنى العام؛ لأنك إذا حملته على المعنى العام دخل فيه الخاص ولا عكس.
وقوله: ﴿الْمَلَائِكَةَ﴾ جمع (مَلَك)، والملَك في الأصل هو الرسول، والملائكة جعلهم الله تعالى رسلًا وهم عالم غيبي قائمون بأمر الله عز وجل، مخلوقون من نور؛ ولهذا ليس فيهم معصية؛ لأنهم خُلِقوا من النور، والجن خُلِقُوا من النار؛ ولهذا كان الأصل أنه ليس فيهم طاعة، فإن أباهم أو زعيمهم استكبر عن أمر الله الذي خاطبَه به مشافهة.
﴿الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ﴾ يقول المؤلف: (حال)، وإنما جعلها حالًا؛ لأن الرؤية هنا بصرية، والرؤية البصرية لا تنصب إلا مفعولًا واحدًا، فما يأتي بعده منصوبًا يكون منصوبًا على الحال، بخلاف الرؤية العلمية فإنها تنصب كم؟ تنصب مفعولين. إذن الرؤية هنا بصرية؛ ولهذا أعرب المؤلف قوله: ﴿حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ﴾ أعربها حالًا.
وقوله: ﴿حَافِّينَ مِنْ﴾ أي محيطين به. و﴿الْعَرْشِ﴾ هو عرش الله عز وجل الذي استوى عليه، وهو أعظم المخلوقات وأعلاها وأوسعها، فإن الكرسي وسع السماوات والأرض؛ يعني أحاط بها وشملها، والعرش أعظم من الكرسي، وقد جاء في الحديث: «أَنَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ وَالْأَرَضِينَ السَّبْعَ فِي الْكُرْسِيِّ كَحَلْقَةٍ أُلْقِيَتْ فِي فَلَاةٍ مِنَ الْأَرْضِ»[[أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات (٨٦١) من حديث أبي ذر.]]. حلقة كحلقة المغفر وهي حلقة ضيفة أُلْقِيت في فلاة من الأرض. «وَإِنَّ فَضْلَ الْعَرْشِ عَلَى الْكُرْسِيِّ كَفَضْلِ الْفَلَاةِ عَلَى هَذِهِ الْحَلْقَةِ». إذن فيكون هذا العرش عظيمًا لا يقدر قدره إلا الله عز وجل.
(﴿حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ﴾ [الزمر ٧٥] من كل جانب). ووجه هذا التفسير أنه من كل جانب؛ لأنه أطلق قوله: ﴿حَوْلِ الْعَرْشِ﴾ وحينئذٍ لا بد أن يكون هذا الحول من كل جانب؛ لأنهم لو أحاطوا من جانب واحد لم يكونوا حول العرش من الجانب الخالي، فإذا كانوا حافين من حوله فلا بد أن يحيطوا بجميع جوانبه؛ ولهذا قال: (من كل جانب).
﴿يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾ [الزمر ٧٥] قال: (﴿يُسَبِّحُونَ﴾ حال) يعني الجملة هذه حالية من ضمير ﴿حَافِّينَ﴾، يعني حافين اسم فاعل، واسم الفاعل يتحمل الضمير كما يتحمله الفعل.
(﴿حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ﴾ حال من ضمير ﴿حَافِّينَ﴾، ﴿يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾ ملابسين للحمد) يعني جعل الباء في قوله: ﴿بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾ للملابسة، وإن شئت فقل: للمصاحبة؛ أي يسبحون تسبيحًا مصحوبًا بالحمد. (أي يقولون: سبحان الله وبحمده) والجمع بين التسبيح والحمد هو كمال المسبَّح والمحمود؛ لأن بالتسبيح زوال النقائص والعيوب، وبالحمد إثبات الكمال، فيكون الجمع بين التسبيح والحمد مفيدًا لمعنى أكثر مما لو انفرد التسبيح، أو انفرد الحمد.
(﴿يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ﴾ بين جميع الخلائق ﴿بِالْحَقِّ﴾ أي العدل) ﴿قُضِيَ﴾ ﴾ أي: حُكِم؛ يعني القضاء معناه الحكم.
وقوله: (﴿بَيْنَهُمْ﴾ أي بين جميع الخلق ﴿بِالْحَقِّ﴾ أي: بالعدل، فيدخل المؤمنون الجنة والكافرون النار).
﴿وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الزمر ٧٥] قيل: أبهم الفاعل ليكون أعم؛ يعني أن الله تعالى في تلك الحال يُحمَد من كل أحد، ومن كل جانب، ومن كل جهة، والحمد هنا مقرون بـ(أل) المفيدة للاستغراق، واللام في قوله: ﴿لِلَّهِ﴾ للاختصاص والاستحقاق، إذا جعلنا الحمد للاستغراق شملت كل أنواع الحمد، سواء كان على كمال الصفات أو على الإفضال والإحسان والإنعام، وإذا قلنا: اللام ﴿لِلَّهِ﴾ أنها للاستحقاق والاختصاص تَبين أن الحمد المطلق لا يستحقه إلا الله، ولا يكون إلا لله، لا يكون إلا لله اختصاصًا، ولا يحمد به إلا الله استحقاقًا.
والفرق بين الحمد والمدح مع تساويهما في الحروف؛ أن المدح وصف بالكمال لكن لا يستلزم المحبة، فالله تعالى يُحمد ويُمدح، لكن الحمد أخص من المدح؛ لأن المدح هو مطلق الثناء، وأما الحمد فهو ثناء مقرون بمحبة وتعظيم.
وقوله: ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ أي: خالق العالمين، ومالكهم، ومدبرهم، والْعَالَمُ كل من سوى الله.
(ختم استقرار الفريقين بالحمد من الملائكة) وهذا فيه نظر، وليس من الملائكة، بل من الملائكة وغيرهم؛ ولهذا أبهم الفاعل قال: ﴿وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾.
* في هذه الآية الكريمة عدة فوائد:
* أولًا: إثبات الملائكة؛ لقوله: ﴿وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ﴾ [الزمر ٧٥].
* ومن فوائدها: إظهار عظمة الله في ذلك اليوم، حيث تحف جنوده بعرشه، وهذا من مظاهر العظمة وكمال السلطان أن يُرَى الجنود حافِّين بمالكهم وخالقهم وسيدهم سبحانه وتعالى.
* ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات العرش؛ لقوله: ﴿مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ﴾.
* ومن فوائد الآية الكريمة: الثناء على الملائكة؛ وذلك بحُسن انتظامهم بحفهم من حول العرش، وهذا حُسْن فِعْلي، وبكونهم يُسبِّحون الله بحمده، وهذا حُسْن قولي، فيجمعون بين تعظيم الله تعالى بالفعل وتعظيمه بالقول.
* ومن فوائد الآية الكريمة: اختيار الجمع بين التسبيح والحمد؛ لقوله: ﴿يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾؛ وذلك لأن بالتسبيح زوال النقص والعيب، وبالحمد إثبات الكمال.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن الله سبحانه وتعالى رب لهؤلاء الملائكة مع عظمهم؛ لقوله: ﴿يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾ وأن ربوبيته للملائكة ربوبية خاصة بدليل الإضافة.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن الله تعالى يقضي بعد هذا كله بين الخلق بالعدل؛ لقوله تعالى: ﴿وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ﴾ أي: حُكِم بينهم.
والقضاء؛ قضاء الله تعالى نوعان: كوني وشرعي؛ فالشرعي مثل قوله تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ﴾ [الإسراء ٢٣] يعني: وَصَّى ألا نعبد إلا الله، وقضاء كوني مثل قوله تعالى: ﴿وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ﴾ [الإسراء ٤]، فإن هذا لا يمكن أن يكون قضاء شرعيًّا؛ لأن الله لا يقضي بالفساد، ولكنه قضاء كوني.
وبهذا نعرف الفرق بين القضاء الكوني والشرعي؛ فالكوني فيما يحب وما لا يحب، والشرعي فيما يحب، والفرق الثاني أن الكوني لا بد من وقوع المقْضِيِّ، والشرعي لا يلزم منه وقوع المقضي؛ إذ قد يقع وقد لا يقع.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن القضاء في ذلك اليوم قضاء بالعدل ليس فيه جور بوجه من الوجوه؛ لقوله: ﴿بِالْحَقِّ﴾.
* ومن فوائدها: حَمْد الله سبحانه وتعالى في ذلك اليوم الذي يتم فيه الأمر ﴿وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾. وإذا قارنت بين هذا وبين قوله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ [الأنعام ١] تبيَّن لك أن الله تعالى محمود في أول الأمر وآخره، في أول الأمر في قوله: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾، وفي آخره بعد أن قُضِيَ بين الخلائق بالحق قيل: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾.
* ومن فوائد الآية الكريمة: بيان استحقاق الله تعالى للحمد كله؛ لقوله: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾. و(أل) ذكرنا أنها للاستغراق، واللام للاختصاص والاستحقاق.
* ومن فوائدها: إثبات عموم الربوبية؛ لقوله: ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾. والعالَمون كل من سِوَى الله، قال بعض العلماء: إنما سموا بهذا؛ لأنهم عَلَم على خالقهم.
؎فَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ ∗∗∗ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِــــــدُ
* الطالب: أحسن الله إليك، قال: (...) قوله تعالى: ﴿يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾ إن التسبيح هنا للتلذذ لا للتعبد؛ لأن لا تكليف في ذلك اليوم، ما رأيكم؟
* الشيخ: رأينا أن هذا قول باطل، بل وللتعبد، ولكنهم يتلذذون بالعبادة؛ يعني يشعرون بأنهم خاضعون لله متذللون له، وأما قوله: (لا تكليف في ذلك اليوم)، فهو أيضًا باطل؛ ففي ذلك اليوم تكليف، أليس الله يقول: ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ﴾ [القلم ٤٢]؟ ففيه تكليف، ومن نفى التكليف في ذلك اليوم فقد أخطأ، وغفل عن النصوص الدالة على أن فيه تكليفًا.
* طالب: ورد عن بعض السلف أن الكرسي موضع قدم الله عز وجل كالإمام أحمد وغيره؟
* الشيخ: نعم، وعن ابن عباس أيضًا ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الكرسي موضع القدمين، وقال بعض العلماء: إنه بالنسبة للعرش كالدرجة.
* طالب: شيخ -بارك الله فيكم- يرد معنا كثيرًا القَدَر الكوني، والحكم الكوني والشرعي هنا كثيرًا، والفروق بينهم ليست فروقًا؟
* الشيخ: نعم، صحيح.
* الطالب: فما هذا؟
* الشيخ: هو هذا، نعم هو هذا، القضاء والحكم والإرادة.
* الطالب: كلها واحدة؟
* الشيخ: لا، معنى الإرادة غير الْحُكم، الحكم قد يكون بمعنى القضاء، لكن الإرادة غيره، إنما هي تنقسم هذا التقسيم كما هو واضح، ما فيه إشكال.
* الطالب: (...).
* الشيخ: كل (...) جسم، نقول: صدق، كيف الدليل؟
ما هو عرضها السماوات والأرض؟ والله يضع رجله على النار حتى ينزوي بعضها إلى بعض؟
أليس الإنسان ينظر إلى ملكه في الجنة مسيرة ألفي عام ينظر أقصاه كما ينظر أدناه؟
إذا لم يجعلها جسمًا، ماذا نكون؟ بالهواء؟
* الطالب: تكون جسمًا.
* الشيخ: ما أدري والله، أنا ما سمعتها إلا منك الآن.
* الطالب: هل الملائكة يقال لهم: إنهم مكلفون؟
* الشيخ: نعم؛ لأنهم يستجيبون لله عز وجل: ﴿لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ [التحريم ٦]، فنفي العصيان عنهم يدل على أنهم يُكلَّفون بالشيء، وعلى أن العصيان منهم ممكن عقلًا، لكنهم لا يعصون الله ما أمرهم.
* طالب: ذكرتم -عفا الله عنكم- أن أهل الجنة في الجنة في نعيم تام، فهم راضون بمكانهم في الجنة، فما توجيهكم لقول ابن القيم بأن ذكر الله أمان من الحسرة يوم القيامة، واستدل بحديث: «أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَا يَتَحَسَّرُونَ إِلَّا عَلَى سَاعَةٍ مَرَّتْ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ فِيهَا»[[رواه الطبراني في المعجم الكبير (١٨٢) والبيهقي في الشعب (٥٠٩)، (٥١٠) من حديث معاذ بن جبل.]]. فهل هذه الحسرة تتوجه مع قولنا: إنهم في النعيم؟
* الشيخ: لا.
* الطالب: ذكروا هذه الحسرة؛ لأنهم ينظرون فيما سبقهم ومن هو أعلى منهم؟
* الشيخ: لا، هذا ليس حسرة، هذا تمنٍّ، يعني يتمنون أنهم فعلوا ذلك، وتمني الشيء لا يدل على الحسرة، ولا يمكن أن يكون في الجنة حسرة بمعنى الندم والانقباض مثلًا؛ لأن هذا يُنافي كمال النعيم.
* طالب: قال تعالى: ﴿وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ﴾ ألا يدل هذا على أن للعرش جوانب وأركانًا؟
* الشيخ: بلى، وهو كذلك، والحديث الثابت في الصحيحين[[متفق عليه؛ البخاري (٢٤١٢)، ومسلم (٢٣٧٤/١٦٢) من حديث أبي سعيد الخدري.]] أيضًا «أن مُوسى يَكُونُ آخِذًا بقوائم العَرْش».
* * *
* الطالب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: ﴿حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٢) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣) مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ﴾ [غافر ١ - ٤].
* الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
قال الله تبارك وتعالى: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ البسملة آية من كتاب الله عز وجل مستقلة، ليست من السورة التي قبلها، ولا من السورة التي بعدها، ولكن يُؤتَى بها في ابتداء السور، إلا سورة واحدة وهي سورة براءة، فإنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه جعل فيها بسملة؛ ولهذا تركها الصحابة رضي الله عنهم بدون بسملة لعدم ثبوت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وأما ما قيل: إنها تُرِكت بلا بسملة؛ لأنها نزلت بالسيف فإنه قول باطل، ليس هذا هو السبب، والسيف إذا كان رحمةً فإنه غنيمة، ومعلوم أن السيف على الكفار رحمة يُقصد به إعلاء كلمة الله عز وجل.
ثم البسملة -كما تشاهدون- جملة ليس فيها فِعْل ولا اسم فاعل، لكنها جار ومجرور، ومضاف ومضاف إليه، وصفة وموصوف، الجار هو الباء، والمجرور اسم، والمضاف اسم، والمضاف إليه لفظ الجلالة، وموصوف وهو الله، وصفة وهو الرحمن الرحيم، فأين المتعلَّق؟ لأنه لا بد لكل جار ومجرور أو ظرف لا بد له من متعلق، كما قال الناظم ناظم الجمل أنشدنا:
* الطالب:
؎لَا بُدَّ لِلْجَـــــارِ مِــــــنَالتَّــــعَــلُّقِ ∗∗∗ بِفِعْــــــــلٍ اوْ مَعْـــــــــــنَاهُنَحْـــــــــــــوُ مُـــــــــرْتَقِي؎وَاسْـــتَثْنِ كُــلَّ زَائِــــدٍ لَهُ عَـــمَلْ ∗∗∗ كَـ(الْبَا وَمِنْ وَالْكَافِ) أَيْضًاوَ(لَعَلْ)
* الشيخ:
؎لَا بُدَّ لِلْجَــــــارِ مِــــنَ التَّـــعَــلُّق ∗∗∗ بِفِعْــــــــــلٍ اوْ مَعْـــــــــنَاهُنَحْــــــــــــوُ مُــــــــــرْتَقِي؎وَاسْــــتَثْنِ كُـلَّ زَائِدٍ لَهُ عَـــمَل ∗∗∗ كَـ(الْبَا وَمِنْ وَالْكَافِ) أَيْضًاوَ(لَعَلْ)
فأين متعلقها؟ أين متعلق البسملة ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾؟ أحسن ما يقال: إن متعلَّقها فعل متأخر مناسب لما ابتدئ بالبسملة من أجله، فنحن الآن نريد أن نقرأ نقول: المتعلَّق تقديره باسم الله أقرأ، نريد أن نتوضأ نقول: التقدير باسم الله أتوضأ، نريد أن نذبح، نقول: التقدير: باسم الله أذبح، وإنما قدَّرناه فعلًا لا اسم فاعل؛ لأن الأصل في العمل هو الفعل، وإنما قدَّرناه متأخرًا لوجهين:
الوجه الأول: التيمن بالبداءة باسم الله.
والثاني: إفادة الحصر؛ لأنك إذا أخَّرت العامل وقدَّمت المعمول كان ذلك دليلًا على الحصر؛ إذ إن القاعدة المعروفة في البلاغة هي أن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر، وإنما قدرناه مناسبًا لما ابتدئ به؛ لأنه أدل على المقصود، فمثلًا لو قلت: إن التقدير باسم الله ابتدئ؛ صح، لكن ابتدئ بأي شيء؟ فإذا قلنا: نُقدِّره فعلًا خاصًّا مناسبًا لما ابتُدئ به؛ صار ذلك أدل على المقصود، ومعلوم أن ما كان أدل على المقصود كان أبين في المراد، هذا هو إعراب هذه البسملة.
أما معناها، فإن (اسم) مفرد مضاف، وكل مفرد مضاف فإنه للعموم، أرأيتم قول الله تعالى: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾ [النحل ١٨] فإن ﴿نِعْمَةَ﴾ مفرد مضاف، لكن ليست نعمة واحدة؛ لأن النعمة الواحدة تُحصى، لكنها نِعَمٌ كثيرة، فتشمل كل ما أنعم الله به على العبد، إذا كان المفرد المضاف يُفيد العموم، فما معنى قولنا: بسم الله الرحمن الرحيم؟ معناها بكل اسم من أسماء الله أفعل كذا وكذا، بكل اسم، فتكون أنت الآن مستعينًا بكل اسم من أسماء الله على هذا الفعل الذي بسملت من أجله.
وأما (اسم) فقيل: إنه مشتق من السموِّ وهو الارتفاع؛ وذلك لأن الاسم يرفع المسمى ويبينه، وقيل: إنه مشتق من السِّمة؛ وهي العلامة، قال الله تعالى: ﴿سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ﴾ [الفتح ٢٩] أي: علامتهم في وجوههم، وأيًّا كان فالاسم يُعيِّن مُسمَّاه ويميزه من غيره.
وأسماء الله سبحانه وتعالى -كما مر علينا في التوحيد- غير محصورة بعدد، كما جاء في الحديث الصحيح: «أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ، سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ»[[أخرجه أحمد (٣٧١٢)، وابن حبان (٩٧٢)، والحاكم (١٨٩٨) من حديث ابن مسعود.]].
وأما ﴿اللَّه﴾ فهو عَلَم على الذات المقدَّسة العلية، وهو الله سبحانه وتعالى، قال النحويون: وهو أعرف المعارف، أعرف المعارف هذا العَلَم، وقد رتبوا المعارف -كما تعرفون- بأن أعرفها الضمير، ثم الأعلام، لكن هذا العَلَم هو أعرفها؛ إذ لا تحتمل المشاركة فيه، وغيره من المعارف يمكن المشاركة فيه.
وأما قوله: ﴿الرَّحْمَنِ﴾ فهو اسم من أسماء الله دال على الرحمة الواسعة، و﴿الرَّحِيمِ﴾ اسم من أسماء الله دال على الرحمة التي تقع بالفعل، فـ﴿الرَّحْمَنِ﴾ للوصف، و﴿الرَّحِيمِ﴾ للفعل؛ يعني أنه رحمن يرحم، وبذلك تبين فائدة الجمع بينهما، فإن فائدة الجمع بينهما هو الدلالة على أن رحمة الله واسعة، وذلك في قوله: ﴿الرَّحْمَنِ﴾؛ لأن (فَعْلان) يدل على الامتلاء والسعة، كما تقول: (شبعان وريَّان) وما أشبهها. وأما ﴿الرَّحِيمِ﴾ فهو باعتبار الفعل، أي إيصال الرحمة إلى من قدر الله أن يرحمه.
والبسملة لها أحكام منها: أنها تكون أحيانًا شرطًا في الحِلِّ كالتسمية على الذبيحة؛ فإن التسمية على الذبيحة شرط لِحِلِّها، حتى إنه لو ترك التسمية ولو نسيانًا لم تحل الذبيحة، وقد تكون واجبة لا شرطًا، كما في الوضوء عند بعض العلماء، فإن التسمية في الوضوء واجبة ولكنها ليست شرطًا للصحة، إذ لو تركها نسيانًا صح وضوؤه، وقد تكون مستحبة في كل أمر ذي شأن، كما جاء في الحديث: «كُلُّ أَمْرٍ ذِي شَأْنٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِبِاسْمِ اللَّهِ فَهُوَ أَبْتَرُ». أو: «كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ»[[أخرجه أحمد (٨٧١٢)، وابن ماجه (١٨٩٤) من حديث أبي هريرة.]]. يعني ذي شأن مهم لا يبدأ فيه بباسم الله «فَهُوَ أَبْتَرُ» أي: منزوع البركة؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يبتدئ بها في المكاتبات إلى الملوك وغيرهم، وكذلك الأنبياء من قبله كما جاء في القرآن الكريم: ﴿إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (٣٠) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾ [النمل ٣٠، ٣١].
ثم قال الله تبارك وتعالى: ﴿حم﴾ [غافر ١] هذه كلمة مُكوَّنة من حرفين مهملين هجائيين (الحاء والميم)؛ ولهذا ننطق بها باسمهما لا بلفظهما، فلا نقول: حم، بل نقول: (حاء ميم) باسمهما، فهما إذن حرفان مهملان هجائيان، يتركب منهما كلام الناس.
فهل لهذين الحرفين معنى؟ يقول المؤلف: (الله أعلم بمراده به) يعني ما ندري ماذا أراد؟
هل أراد إثبات معنى، أو لم يُرد إثبات معنى؟ وهل أراد معنًى معينًا أم ماذا؟ المهم أننا نُفوِّض، فموقفنا من هذا التفويض كغيره من الحروف الهجائية التي ابتُدئت بها بعض السور.
ولكن مقتضى كون القرآن باللسان العربي أن نقول: إنهما حرفانِ هجائيانِ مهملانِ، ليس لهما معنى؛ يعني نجزم بأنه لا معنى لهما؛ لأن القرآن نزل باللغة العربية، واللغة العربية لا تجعل للحروف الهجائية معنى، وهذا مروي عن مجاهد إمام المفسرين في زمن التابعين، وهو الحق؛ لأن الله تعالى قال: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾ [الشعراء ١٩٣ - ١٩٥].
فإن قال قائل: يرد على هذا القول أن في القرآن ما ليس له معنى وليس له فائدة، وإنما هي حروف مقطعة ليس لها فائدة؟
قلنا: الجواب عن هذا الإيراد أن الله سبحانه وتعالى تكلم بذلك لمغزى لا لمعنى؛ أي: لحكمة بالغة، وهي أن هذا القرآن الذي أعجزكم أيها البلغاء من العرب لم يكن أتى بشيء جديد من الحروف، بل أتى بالحروف التي تُركِّبون منها كلامكم، ومع ذلك أعجزكم، عجزتم عن صف الحروف حتى تكون مثل القرآن، فإذا كنتم عجزتم عن ذلك، فعجزكم عن معنى هذه الكلمات من باب أوْلى، وهذا الذي ذكره الزمخشري في تفسيره، وارتضاه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وذكره أيضًا إما ابتداءً أو تقليدًا، المهم أن هذا هو الصواب عند المحققين، وهو أن الله تعالى أنزلها لتمام..
{"ayah":"وَتَرَى ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةَ حَاۤفِّینَ مِنۡ حَوۡلِ ٱلۡعَرۡشِ یُسَبِّحُونَ بِحَمۡدِ رَبِّهِمۡۚ وَقُضِیَ بَیۡنَهُم بِٱلۡحَقِّۚ وَقِیلَ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











