الباحث القرآني

قال الله تعالى: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ﴾ [الزمر ٣٢] (مَنْ) هذه استفهامية، وقوله: (﴿إِذْ جَاءَهُ﴾ ﴿إِذْ﴾ ظرف بمعنى حين، والاستفهام في قوله: ﴿أَلَيْسَ﴾ للتقرير). يقول الله تعالى: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ﴾، هذا الاستفهام هنا بمعنى النفي؛ أي: لا أحد أظلم ممن كذب على الله، وقوله: ﴿كَذَبَ عَلَى اللَّهِ﴾ أي: افترى عليه الكذب؛ إما بنسبة الشريك إليه، أو بأنه حرم شيئًا ولم يحرمه، أو أحلَّ شيئًا ولم يحله، أو أوجب شيئًا ولم يوجبه، أو عطل صفة من صفاته، أو أثبت له ما لم يصف به نفسه أو غير ذلك مما يكون فيه الكذب على الله، فلا أحد أظلم ممن كذب على الله، والكذب على الله ليس كالكذب على البشر، والكذب على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ليس كالكذب على غيره من البشر، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ، مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»[[متفق عليه؛ البخاري (١٢٩١)، ومسلم (٤ / ٤) من حديث المغيرة بن شعبة.]]. وقوله: ﴿وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ﴾ [الزمر ٣٢]، فجَمَعَ بين الأمرين ﴿وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ﴾ أي نسب الصدق إلى الكذب وقال: هذا كذب، ومن ذلك تكذيب قريش للرسول صلى الله عليه وآله وسلم حيث قالوا: إنه ساحر كذاب. قال الله تعالى: ﴿أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ﴾، هذا الاستفهام للتقرير، والغالب أن همزة الاستفهام إذا دخلت على ما يفيد النفي الغالب أن تكون للتقرير، وجوابها يكون (بلى)، جوابها بالإثبات يكون (بلى)، مثل: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾ [الشرح ١] الاستفهام هنا للتقرير، ومعناه قد شرحنا لك صدرك. ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ﴾ [التغابن ٥]، المعنى (قد أتاكم)، وأمثلة هذا في القرآن كثير. وقوله: ﴿أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ﴾ [الزمر ٣٢] أظهر في مقام الإضمار، وكان مقتضى السياق أن يقول: أليس في جهنم مثوى له، والإظهار في مقام الإضمار له فوائد ذكرناها لكم سابقًا، فمن يستحضرها؟ الإظهار في مقام الإضمار؟ * طالب: تفيد في العموم. * الشيخ: هذه واحدة، فائدة العموم؛ يعني مثوى له ولغيره من الكافرين. * طالب: التوبيخ. * الشيخ: لا؛ لأنه قد لا يكون المسألة فيها توبيخ. * طالب: شد الانتباه. * الشيخ: لا، هذا في الالتفات، وربما يكون هذا أيضًا يزيد في الانتباه. * طالب: تسجيل الوصف على هؤلاء الكافرين. * الشيخ: نعم، تسجيل الوصف على هؤلاء بأنهم كفار؛ يعني إثبات أن هؤلاء كفار، الثالث؟ * طالب: التوكيد. * الشيخ: لا، الثالث التعليل، أفادت التعليل، لو قال: ليس في جهنم مثوى له لم نستفد ما هي العلة في أن مثواه جهنم، لكن إذا قال: ﴿أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ﴾ [الزمر ٣٢] عرفنا أن العلة كفرهم، ففيه بيان العلة، فصار الإظهار في موضع الإضمار له ثلاث فوائد، الفائدة الأولى ما هي؟ سبحان الله العظيم، نوم اليقظان عجيب!! * طالب: التعليل يا شيخ. * الشيخ: النيل يجري ولو كنت هاهنا. * الطالب: التعليل. * طالب آخر: ذكرنا أنه يفيد العموم، إفادة العموم. * الشيخ: نعم، هذه واحدة، الثاني؟ * الطالب: الثاني: ثبوت الوصف على هؤلاء الموصوفين، وإفادة التعليل. * الشيخ: الثالث: إفادة التعليل هذا من فوائد الإظهار في موضع الإضمار. ﴿أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ﴾ [الزمر ٣٢] إذن هؤلاء الكفار الذين كذبوا على الله، وكذبوا بالصدق هم كفار ومثواهم جهنم والعياذ بالله، و(جهنم) قيل: إنها من الأسماء المعربة، وأصلها في اللغة الفارسية (جهنَّام)، وقيل: إنها اسم عربي، وأنها مأخوذة من (الْجُهْمَة) يعني الظلمة. والنار لبُعْد قعرها أعاذني الله وإياكم منها سودة مظلمة، فالله أعلم، سواء هذا أو هذا، المهم أنها تُستعمل في لغة العرب للنار العظيمة المسودة. يقول المؤلف رحمه الله: (﴿فَمَنْ أَظْلَمُ﴾ ﴿فَمَنْ﴾ أي لا أحد) وتحويل المؤلف الاستفهام إلى النفي يفيد أن معنى الاستفهام أيش يا جماعة؟ * طلبة: التقرير. * الشيخ: لا، النفي، لا أحد أظلم ممن كذب على الله؛ أي: قال عليه الكذب، قال المؤلف: (بنسبة الشريك والولد إليه، وهذا على سبيل التمثيل لا الحصر)، فمن قال: إن لله ولدًا فقد كذب على الله، إن لله شريكًا؛ فقد كذب على الله، إن الله لا يُوصف بهذه الصفات التي وصف بها نفسه؛ فقد كذب على الله، إن الله مماثِل لخلقه؛ فقد كذب على الله، إن الله حرم السائبة والوصيلة والحامية؛ فقد كذب على الله. المهم أن ذكر المؤلف رحمه الله لهذين الأمرين فقط المراد به التمثيل لا الحصر، الكذب على الله كثير، وبعضها أشد من بعض. قال: (﴿وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ﴾ [الزمر ٣٢] بالقرآن إذ جاءه) لا شك أن القرآن صِدْق، بل إنه صدق وعدل، كما قال تعالى: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا﴾ [الأنعام ١١٥] فهو باعتبار الأخبار صدق، وباعتبار الأحكام عدل لكن المسألة أعم مما قال المؤلف ﴿بِالصِّدْقِ﴾ أي بما كان صادقًا سواء في القرآن أو في السنة فإنه داخل في قوله: ﴿وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ﴾. وقوله: ﴿إِذْ جَاءَهُ﴾ يعني إذ أتاه، وليس شيئًا منقولًا له بل هو قد أتاه مباشرة، وأُخْبِر به على لسان الصادق فيُكَذِّب به، لو أن أحدًا حدثنا عن شيخه، وشيخه عن شيخه، وشيخه عن شيخه حتى وصل إلى الرسول ﷺ، فهل يمكن أن نُكذِّب هذا إذا كان في أحد الرواة من هو متهم بالكذب؟ * طلبة: نعم. * الشيخ: نعم، يمكن، لكن إذا كان جاءنا الخبر من الرسول مباشرةً فإن تكذيبه كُفْر؛ ولهذا لو أن أحدًا من الناس كذَّب حديثًا في أحد كتب الحديث، كذَّب به، فقلنا له: لِمَ كذَّبت؟ هل عندك شك في أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قاله؟ قال: لا شك عندي أنه قاله، لكنه كذب. ماذا نقول له؟ نقول: هذا كافر؛ لأن الصِّدْق جاءه بإقراره على نفسه، أما لو قال: هذا كذب؛ لأن أحد الرواة كاذب أو كذَّاب فأنا أنكره لهذا، فماذا نقول؟ يكفر أو لا يكفر؟ لا يكفر بل قد يكون هذا هو الواجب عليه إذا كان هذا مؤدى اجتهاده. ففائدة قوله: ﴿إِذْ جَاءَهُ﴾ [الزمر ٣٢] أنه لا واسطة بينه وبين من جاء بالصدق حتى يقال: (لَعَلَّ لَهَا عُذْرًا وَأَنْتَ تَلُومُ)، ليس هناك واسطة. قال: (﴿أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى﴾ مَأْوًى ﴿لِلْكَافِرِينَ﴾ [الزمر ٣٢]) قال: بلى، وهذا هو جواب أليس وأشباهها، إذا دخلت همزة الاستفهام على ما يفيد النفي فجواب التقرير فيها (بلى)، ولو قلت: (نعم) لكان نفيًا، فإذا قلت: ألم يقم زيد؟ فقال المخاطب: نعم، يعني لم يقم، وإذا قلت: ألم يقم زيد؟ فقال المخاطب: بلى، أي قد قام؛ ولهذا يُروى عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى﴾ [الأعراف ١٧٢] قال: لو قالوا: نعم لكفروا؛ يعني هم إذا قالوا: نعم يعني لست ربنا، هذا هو المشهور في اللغة العربية، لكن ربما يأتي الجواب بـ(نعم) مرادًا به الإثبات، ومنه قول الشاعر: ؎أَلَيْسَ اللَّيْلُ يَجْمَعُ أُمَّ عَمْـرٍو ∗∗∗ وَإِيَّانَا فَـذَاكَ لَنــــــَاتَـــــــــــــــدَانِي؎نَعَمْ وَتَرَى الْهِلَالَ كَمَا أَرَاهُ ∗∗∗ وَيَعْلُوهَا النَّهَارُ كَمَا عَلَانِي أنتم معنا؟ من ينشدني البيت؟ ما حفظته من قبل؟ * طالب: (...). * الشيخ: أعيده مرة ثانية وثالثة: ؎أَلَيْسَ اللَّيْلُ يَجْمَعُ أُمَّ عَمْـرٍو ∗∗∗ وَإِيَّانَا فَـذَاكَ لَنــــــَاتَـــــــــــــــدَانِي؎نَعَمْ وَتَرَى الْهِلَالَ كَمَا أَرَاهُ ∗∗∗ وَيَعْلُوهَا النَّهَارُ كَمَا عَلَانِي ثالثة: ؎أَلَيْسَ اللَّيْلُ يَجْمَعُ أُمَّ عَمْـرٍو ∗∗∗ وَإِيَّانَا فَـذَاكَ لَنــــــَاتَـــــــــــــــدَانِي؎نَعَمْ وَتَرَى الْهِلَالَ كَمَا أَرَاهُ ∗∗∗ وَيَعْلُوهَا النَّهَارُ كَمَا عَلَانِي الواحد من العرب بيُلقي قصيدة خمسين ستين بيتًا مرة الواحد وينصرف وقد حفظها الناس. * طالب: ؎أَلَيْسَ اللَّيْلُ يَجْمَعُ أُمَّ عَمْـرٍو ∗∗∗ وَإِيَّانَا فَـذَاكَ لَنــــــَاتَـــــــــــــــدَانِي؎نَعَمْ وَتَرَى الْهِلَالَ كَمَا أَرَاهُ ∗∗∗ وَيَعْلُوهَا النَّهَارُ كَمَا عَلَانِي ؎نَعَمْ وَتَرَى الْهِلَالَ كَمَا أَرَاهُ ∗∗∗ وَيَعْلُوهَا النَّهَارُ كَمَا عَلَانِي الواحد من العرب بيلقي القصيدة خمسين ستين بيتًا مرّة واحدة وينصرف وقد حفظها الناس. * طالب: ؎أَلَيْسَ اللَّيْلُ يَجْمَعُ أُمَّ عَمْرٍو ∗∗∗ وَإِيَّانَا فَذَاكَ لَنَا تَدَانِي * الشيخ: نعم. * الطالب: ؎نَعَمْ وَتَرَى الْهِلَالَ ..... ∗∗∗ .................................. * الشيخ: كَمَا أَرَاهُ. * الطالب: كَمَا أَرَاهُ. * الشيخ: ؎................................... ∗∗∗ وَيَعْلُوهَا النَّهَارُ كَمَا عَلَانِي مسكين هذا، يكفيه مع أم عمرو أن الليل يجمعهم، وأنها ترى الهلال كما يراه، ويعلوها النهار كما علاه. * طالب: (...). * الشيخ: لو قال قائل: لعل هذه ضرورة، قلنا: لا؛ لأنه لو أتى بـ(بلى) بدل (نعم) استقام البيت، لو قال: ؎بَلَى وَتَرَى الْهِلَالَ كَمَا أَرَاهُ ∗∗∗ .................................. استقام البيت. على كل حال المؤلف أجاب: (بلى) أي: لإثبات ما ذكر أن ﴿فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ﴾ [الزمر ٣٢]. * من فوائد هذه الآية الكريمة: أنه لا أحد أظلم ﴿مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ﴾ لجمعه بين سيئتين؛ السيئة الأولى: الكذب على الغير، والسيئة الثانية: تكذيب الغير الصادق، فإن انفرد أحدهما فهل يستحق هذا الوصف أن يكون أظلم الناس؟ لو كذب على الله وصدّق بالصدق هل يستحق هذا الوصف؟ لا؛ لأن الوصف أو الحكم المرتَّب على مجموع صفات لا يثبت إلا بثبوتها، ولكن مع ذلك إذا تفرقت الأوصاف فله نصيب من هذا الوصف، فقوله تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (٤) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (٥) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (٦) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ﴾ [الماعون ٤ - ٧] أحد هذه الأوصاف له نصيب من الويل، لكن الويل كله لا يكون إلا باجتماع الأوصاف: ﴿مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (٤٢) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (٤٣) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (٤٤) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (٤٥) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ﴾ [المدثر ٤٢ - ٤٦] أربعة أوصاف هي سبب دخولهم النار، إذا انفرد واحد منها لم يكن دخولهم النار مستحقًّا لكن له نصيب من هذا الوعيد. هنا: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ﴾ [الزمر ٣٢] كم الأوصاف؟ * طالب: وصفان. * الشيخ: هما؟ * طالب: افترى على الله وكَذَّب بالصِّدق. * الشيخ: وكَذَّب بالصِّدق، لو افترى بدون أن يكذب بالصدق؟ * طالب: لا ينطبق عليه. * الشيخ: لم ينطبق عليه الوصف؛ الأظلمية، لكنه ظالم، ولو كذَّب بالصدق ولم يكذب على الله كذلك. فإن قال قائل: هذه الآية تدل على أن من اتصف بهذين الوصفين هو أظلم الناس، فكيف نجمع بينها وبين نصوص أخرى تدل على مثل هذه الدلالة؟ مثل: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا﴾ [البقرة ١١٤]، وفي الحديث: «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِي»[[متفق عليه؛ البخاري (٥٩٥٣)، ومسلم (٢١١١ / ١٠١) من حديث أبي هريرة.]]، ونصوص متعددة. فالجواب أن نقول: إن هذه كلها تشترك في الأظلمية، نقول هذه الأمور اشتركت في وصف الأظلمية، ولا مانع في أن تشترك، فتقول مثلًا: فلان أصدق الناس، والثاني أيضًا: فلان أصدق الناس، والثالث: فلان أصدق الناس، يعني اشتركوا في هذه المرتبة العالية التي أعلى شيء؛ لأن اسم التفضيل يدل على الكمال في هذه الصفة. أو نقول: إن الأظلمية باعتبار جنس هذا الذنب، فمثلًا: مَن أشد الناس ظلمًا في الكذب على الغير؟ من كذب على الله، من أشد الناس ظلمًا في تكذيب الغير؟ من كَذَّب بالصدق، وهذا الوجه أقرب؛ وذلك لأن الاشتراك في الأظلمية قد يمنع اسم التفضيل في الجنس الآخر؛ يعني أنه ليس الإنسان يتصور تصورًا تامًّا بأن اشتراك هذه الأعمال في الأظلمية يقتضي أن لا يكون بعضها أظلم من بعض، فإذا قلنا: إن الأظلمية هنا باعتبار جنس المفضل عليه؛ يعني: فمن أظلم ممن كذب على الله في الكاذبين على الغير، فالكاذب على الله أشد ظلمًا من الكاذب على زيد وعمرو، أليس كذلك؟ والمكذب بما يحتمل الصدق والكذب ليس كالمكذب بما يعلم أنه الصدق ﴿كَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ﴾ [الزمر ٣٢]. ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ﴾ [البقرة ١١٤]، من منع مساجد الله فهو أظلم ممن منع الغير حقه، لو منعت رجلًا أن يدخل بيته لكان منعي لهذا الرجل أن يدخل مساجد الله ويذكر فيها اسمه أعظم، «مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِي» »[[متفق عليه؛ البخاري (٥٩٥٣)، ومسلم (٢١١١ / ١٠١) من حديث أبي هريرة.]] لو أن أحدًا ذهب يخلق كخلق فلان أو فلان ممن يحرم عليه مزاحمته في صنعته لكان الذي ذهب يخلق كخلق الله أظلم، وهلمّ جرًّا، وهذا الجواب جواب -كما ترون- سديد، ولا يرد عليه إشكال. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن الكذب على الله أظلم أنواع الكذب؛ لقوله: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ﴾، وإذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «إِنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدِكُمْ»[[متفق عليه؛ البخاري (١٢٩١)، ومسلم (٤/ ٤) من حديث المغيرة بن شعبة.]]، فما بالكم بالكذب على الله الذي أرسله، إذا كان هذا الكذب على الرسول بهذه المثابة فما بالك بمن كذب على الله؟! * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: وجوب التحرّي في تفسير القرآن؛ لأن المفسّر للقرآن شاهد على الله بأنه أراد كذا وكذا، وقد يكون الأمر على خلاف ذلك فيكون كاذبًا على الله، ولهذا كان الصحابة الأجلاء يتحرزون من تفسير القرآن، وهو نزل بلغتهم وفي عصرهم ومشاهدتهم ومع ذلك يتحرزون، سُئل أبو بكر عن قوله تعالى: ﴿وَفَاكِهَةً وَأَبًّا﴾ [عبس ٣١] «ما الأبُّ؟ قال: أي أرض تُقلّني، وأي سماء تُظلني إن قلت في كلام الله ما لا أعلم»[[أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (٣٠٦٠٩).]]. يعني أنه لا يعلم، ويقول: «أي أرض تُقلُّني، وأي سماء تُظلني». وما شاء الله عندنا الآن أناس يُفسر الآية وكأنه ابن عباس، وهو من أجهل عباد الله، ولا يبالي أن يفسر، هو لو فسر كلام زيد وعمرو ما همنا به، وأي شيء يهمنا؟! لكن إذا فسر كلام الله هو شهد على الله أنه أراد كذا وكذا، ولذلك نجد أن من أخطر ما يكون أن يؤوَّل كلام الله عن ظاهره إلى معنى يخالف الظاهر بلا دليل بيّن، وبه نعرف ضلال أهل التعطيل الذين قالوا: استوى على العرش؛ يعني: استولى عليه، تشهد على الله أنه أراد هذا؟ ﴿لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ [ص ٧٥]: بقوتي أو بنعمتي أو ما أشبه ذلك، هذا كذب على الله؛ لأن الله خاطبنا في القرآن باللسان العربي فيجب أن نحمل هذا القرآن على اللسان العربي بدون أن نحرف. * طالب: أحيانًا يا شيخ تمر آية ويُسأل عنها الإنسان، ويكون معناها واضح جدًا؛ يعني واضحة له، مع العلم أنه لم يسبق أن قرأ تفسيرًا فيها، هل له أن يقول معناها الظاهر هكذا؟ أو يقول: والله أنا لا أدري؛ لأني ما قرأت تفسيرا عن هذه الآية؟ * الشيخ: لو الشيء الواضح تفسيره مقتضى اللغة لا بأس به، لو قال قائل: ما معنى قوله تعالى: ﴿أَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ [البقرة ٤٣]، لو جاء عامّي قال: أقم الصلاة؛ يعني: قل: الله أكبر الله أكبر قد قامت الصلاة إلى آخره، هذا حرام، لكن: ﴿أَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ سُئل عنها طالب علم يعرف معنى الإقامة، إقامة الشيء؛ يعني فعله على وجه مستقيم، فقال: معنى ﴿أَقِيمُوا﴾ ائتوا بها كاملة، ما فيه مانع هذا. * طالب: شيخ، عفا الله عنك، النبي ﷺ قال: «أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأُمُورِ دُنْيَاكُمْ»[[أخرجه مسلم (٢٣٦٣ / ١٤١) من حديث عائشة وأنس بن مالك.]] في مسألة تأبير النخل، فلو قال قائل: إن مسألة النبي ﷺ إذا تكلم في أمور الدنيا كالطب وغيره، لنا أن نأخذ بذلك أو نرده على حسب ما يوافق التجربة، فهل هذا يكون من رد حكم النبي ﷺ أو لا؟ * الشيخ: إذا قال النبي ﷺ قولًا ولم يثبت في حياته أنه رجع عنه فقوله باقٍ ولا يجوز أن نخالفه، ولو كان في مسائل الطب، ولهذا لما قال: «إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي شَرَابِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْمِسْهُ ثُمَّ لْيَنْزِعْهُ فَإِنَّ فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ دَاءً وَفِي الْآخَرِ دَوَاءً» » أو قال:« «شِفَاءً»[[أخرجه البخاري (٣٣٢٠) من حديث أبي هريرة.]]، لا يجوز أن نقول: والله هذا يخالف الطب، بل يجب علينا أن نقول: هذا حق، ثم نعلم أن الطب لم يصل إلى هذا العلم، أما إذا كان في حياته ثم هو نفسه تراجع عنه فهذا لا بأس. يعني الآن -مثلًا- النجارون أعلم منّا بالنجارة، أليس كذلك؟ أعلم منا بالنجارة، يعرف كيف ينجر نحن ما نعرف، المهندسون الذين يصنعون السيارات، والذين يصنعون (...)، والذين يصنعون الساعات أعلم منا بها، فقوله: «أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأُمُورِ دُنْيَاكُمْ»[[أخرجه مسلم (٢٣٦٣ / ١٤١) من حديث عائشة وأنس بن مالك.]]؛ يعني ما تصنعونه وتباشرونه على وجه محسوس فأنتم أعلم به، أما أحكام دنيانا فهي إلى الله ورسوله، هما أعلم بذلك. * طالب: يا شيخ خبر أبو بكر: «أي سماء تظلني»، هل هذا صحيح؟ * الشيخ: هذا مشهور عند المفسرين وعند غيرهم، حتى شيخ الإسلام نقله في المقدمة. * طالب: قول المؤلف: (﴿غَيْرَ ذِي عِوَجٍ﴾ [الزمر ٢٨] أي: لبس واختلاف) (...)؟ * الشيخ: هذا في درس أمس. * طالب: إي نعم، ما ذكرناها. * الشيخ: لا، ذكرناه، فسرناه. * طالب: (...). * الشيخ: لا، فسرناه، ما فسرناه أمس؟ وقلنا إنه يهدي للتي هي أقوم * طالب: لا كلام المؤلف أقصد (...). * الشيخ: لا، هو ﴿غَيْرَ ذِي عِوَجٍ﴾ مو بس لبس واختلاق ﴿غَيْرَ ذِي عِوَجٍ﴾ في أحكامه وأخباره (...). * * * * طالب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (٣٣) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (٣٤) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (٣٥) أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (٣٦) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ﴾ [الزمر ٣٣ - ٣٧]. * الشيخ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تبارك وتعالى: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ﴾ الاستفهام هنا ما معناه؟ * طالب: النفي. * الشيخ: معناه النفي. * طالب: (...). * الشيخ: نعم، وما الفائدة من إتيان النفي بصيغة الاستفهام؟ * طالب: التوكيد (...). * طالب آخر: التقريب. * الشيخ: التقريب؟ كون النفي يأتي بصيغة الاستفهام معناه التقريب؟ * طالب: التقرير. * الشيخ: أو التقرير. * طالب: (...). * الشيخ: إي نعم، فائدته أنه متضمن للتحدي؛ لأن قول: لا أحد أظلم دون قوله: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ﴾ لأن هذا يكون مشربًا معنى التحدي فيكون نفيًا وزيادة. ما معنى قوله: ﴿كَذَبَ عَلَى اللَّهِ﴾؟ * طالب: ﴿كَذَبَ عَلَى اللَّهِ﴾ أي: افترى على الله. * الشيخ: افترى على الله في أي شيء؟ * طالب: بنسبة شريك (...). * الشيخ: وغير؟ * طالب: وغير ذلك. * الشيخ: غير مثل؟ * طالب: نسبة الكذب إلى كلامه (...). * الشيخ: وغير؟ * طالب: وتكذيب رسوله. * الشيخ: لا، ما هو التكذيب؟ التكذيب غير الكذب. * طالب: نفي الأسماء والصفات لله سبحانه وتعالى، تعطيلها. * الشيخ: كالتعطيل، تعطيل أسمائه وصفاته. * طالب: ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ [البقرة ٧٩]. * الشيخ: إي نعم، الكذب على الشرع أن نقول هذا حلال وهذا حرام. وقوله: ﴿كَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ﴾، ما الفائدة من قوله: ﴿إِذْ جَاءَهُ﴾؟ * طالب: أنه لم يسمع فقط، بل تأكد منه. * الشيخ: يعني جاءه مباشرة بدون واسطة، أحسنت. قوله: ﴿أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ﴾ هذه الجملة فيها نكتة بلاغية؟ * طالب: الإظهار في موضع الإضمار. * الشيخ: الإظهار في موضع الإضمار، ما الفائدة من الإظهار في موضع الإضمار؟ * طالب: (...). * الشيخ: (...) ما سمعنا إلا اثنين. * طالب: إفادته العموم. * الشيخ: إي نعم، إفادة العموم. * طالب: إفادة التعليل. * الشيخ: التعليل. * طالب: إفادة (...) الوصف على ما وصف (...). * الشيخ: الاستفهام في قوله: ﴿أَلَيْسَ﴾ ما المراد به؟ * طالب: ﴿أَلَيْسَ﴾ للاستفهام. * الشيخ: إي نعم، ما المراد به؟ * الطالب: المراد (...). * الشيخ: ﴿أَلَيْسَ﴾؟ * طالب: (...). * الشيخ: المراد به هنا التقرير، لماذا؟ * طالب: لأن (...). * الشيخ: لأن الاستفهام إذا دخل على ما يفيد النفي صار للتقرير. ما الجمع بين هذه الآية وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ﴾ [البقرة ١١٤]؟ * طالب: (...) أظلم شيء (...)، فإنه أظلم شيء أن يكذب على الله، ويكذب بالصدق إذ جاءه. * الشيخ: يعني أن أفعل التفضيل بالنسبة لهذا النوع من؟ * طالب: الظلم. * الشيخ: فالكذب على الناس ليس كالكذب على الله ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ﴾ [البقرة ١١٤]. * طالب: ﴿أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ﴾ في منع الناس من حقوقهم. * الشيخ: أن أظلم ما مُنع من الحقوق أن يمنع مساجد الله أن يُذْكَر فيها اسمه، هذا وجه، الوجه الثاني؟ * طالب: (...). * الشيخ: نعم، أن تكون كل هذه الأحكام الأظلمية يشترك فيها كل ما ذُكر أيهما أرجح؟ * طالب: الأول هو الأرجح. * الشيخ: الأول هو الأرجح؛ لأنه أقل تكلفًا وأبعد عن الإشكال. ثم قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ﴾ [الزمر ٣٣].. * طالب: ما كملنا الفوائد. * الشيخ: ما كملناها؟ * من الفوائد: أن الكذب على الله أعظم أنواع الكذب. * ومن فوائد الآية الكريمة: وجوب التحري في تفسير القرآن؛ لأن تفسير القرآن ترجمة لما قال الله عز وجل، فإذا فسره بغير مراد الله صار كاذبًا على الله. * ومن فوائد هذه الآية: اختلاف مراتب الذنوب، أن الذنوب مراتب تتفاضل، كما أن الحسنات مراتب تتفاضل. * ومن فوائدها: أنه ينبني على هذه الفائدة زيادة الإيمان ونقصه؛ لأنه كلما كان الذنب أعظم كان نقص الإيمان به أكبر. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: وجوب تصديق من قامت البينة على صدقه لقوله: ﴿وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ﴾ فدل هذا على أن من كذب بالصدق فهو داخل في هذا الوصف؛ الذي هو أظلم من قام بهذا العمل. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: الثناء على الصادقين، وجه ذلك أن من كذبهم فهو داخل في هذا الجرم الذي هو أظلم ما يكون. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن من كذب بالشيء المباشر له فهو أعظم ممن كذب بما سمع؛ لأن الواسطة بينه وبين الواقع قد تُضعف مقام الصدق عنده لقوله: ﴿إِذْ جَاءَهُ﴾. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: تقرير كون النار مثوى للكافرين. * ومن فوائدها: بيان أن ما يطلقه كثير من الناس اليوم إذا مات الإنسان قالوا: ذهب؟ * طلبة: إلى مثواه الأخير. * الشيخ: إلى مثواه الأخير، فإن هذه الكلمة لو أخذناها بظاهرها لكانت تتضمن إنكار البعث إذا جُعل القبر هو المثوى الأخير، فلا بعث، والمثوى الأخير إما الجنة وإما النار، وعلى هذا فيجب التنبه والتنبيه لهذه العبارة، وأن يقال إن هذه عبارة متلقاة ممن ينكرون البعث، ولكن كثيرًا من العامة عامة يأخذون الكلمات لا يفكرون في معناها. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أنه لا يُخلّد المؤمن في النار لقوله: ﴿مَثْوًى﴾ لمن؟ ﴿لِلْكَافِرِينَ﴾ والمؤمن ليست النار مثوى له، بل إن عُذِّب في النار على قدر ذنبه فمآله إلى الجنة.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب