الباحث القرآني

المتقي للعذاب يحاول النجاة منه لكن الملاقي للشيء قد يلاقيه ببشرى وفرح وسرور، فتفسير ﴿يَتَّقِي﴾ [الزمر ٢٤] بـ(يلقى) لا شك أنه قاصر، ولكنه بعض الأحيان يُفسِّر المؤلف القرآن بما يقاربه. قال: (يلقى ﴿بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ [الزمر ٢٤] أي أَشُدَّه) ففسر (سوء) بـ(أسوأ)، و(أسوأ) لا شك أنه اسم تفضيل، و(سوء) ليس اسم تفضيل، وعلى هذا فيكون المؤلف فسر الكتاب بما هو أعلى منه، والواجب أن يكون المفسِّر مطابقًا للمُفَسَّر، ولو قال المؤلف رحمه الله: العذاب السيئ لكان أبلغ مطابقة للقرآن. يقول: (بأن يُلقى في النار مغلولة يده إلى عنقه)، وكأنه أخذه من كونه يتقي العذاب بوجهه؛ لأنه لو كانت يده مطلقة لاتقى العذاب بيده، ولكني أقول: لا يلزم من اتقاء العذاب بوجهه أن تُغلَّ يده؛ لأن يده قد تكون مرسلة غير مقيده ولكن لا يستطيع، أو يظن أن مدافعته بوجهه أشد، فيدافع بوجهه. قال المؤلف في ذكر المعادل: (كمن أمِنَ منه بدخول الجنة). والجواب: لا، وحينئذٍ يكون الاستفهام للنفي؛ يعني لا يستوي من يتقي بوجهه سوء العذاب مع من أَمِن من العذاب ولم يتقه. (﴿وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ﴾ [الزمر ٢٤] أي كفار مكة ﴿ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ﴾ أي جزاءه). قوله: (﴿لِلظَّالِمِينَ﴾ أي كفار مكة)كأنه أخذه من قوله: ﴿كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ [الزمر ٢٥] وإلا فإن (الظالمين) هنا عام، لفظ عام يشمل كفار مكة وغيرهم، وهذا هو الأولى. فإن قيل: ﴿كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ يدل على أن هذا في المتأخرين. قلنا: نعم، هو يدل على أنه في المتأخرين، لكن كل رسول فقد سبقه رسول. فـ(عاد)، نقول: كذبت قبلهم قوم نوح، وثمود كذبت قبلهم قوم عاد، وهلمَّ جرًّا، فيكون (الظالمون) عامًّا لكفار مكة ولغيرهم، لكن أول من يدخل فيهم -بلا شك- كفار مكة؛ لأن القرآن نزل توبيخًا لهم وإنكارًا ودعوة. قال المؤلف: (﴿فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ﴾ [الزمر ٢٥] من جهة لا تخطر ببالهم) وهذا كما قلنا تفسير أشد وأبلغ من أن يأتيهم العذاب وهم على أهبة الاستعداد له. قال الله تعالى: (﴿فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ﴾ [الزمر ٢٦] الذل والهوان من المسْخ والقَتْل وغيره ﴿فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ ). ﴿أَذَاقَهُمُ اللَّهُ﴾ أي مسهم به حتى كأنهم طعموه وذاقوه بمذاقاتهم. وقول المؤلف رحمه الله: (من المسْخ والقتل وغيره) المسْخ مثل اليهود الذين قال الله لهم: ﴿كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾ [البقرة ٦٥] والقتل، قتال بني إسرائيل مع مَنْ؟ * طالب: مع أنفسهم. * الشيخ: هم قتلوا أنفسهم حينما أُمِرُوا بالتوبة، وقيل لهم: إن كنتم صادقين في التوبة فاقتلوا أنفسكم، ولكن ذكر الله سبحانه وتعالى في سورة البقرة جالوت وطالوت وفيه قتال. وكذلك أيضًا يقول المؤلف: (وغيره) كالإهلاك بالصاعقة والرجفة وما أشبهه، فالمهم أن المكذبين للرسل كلهم أهلكهم الله عز وجل. فإن قال قائل: أليس من الرسل مَنْ قُتِل؟ الجواب: بلى، ولكن هؤلاء الذين قُتلوا إما أن يكونوا لم يُؤمَروا بالقتال فاعتدى عليهم من اعتدى بدون قتال، وإما أنهم أُوتوا على غِرَّة دون أن يجاهروا بالقتل، ثم إذا قُتِلوا هل معنى ذلك أن ما دعوا إليه يموت بموتهم؟ قد يبقى، فيكون هذا نصرًا لهم ولو بعد وفاتهم. (﴿فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ﴾ الذل والهوان من المسْخ والقتل وغيره في الحياة الدنيا ﴿وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ ﴿لَوْ كَانُوا﴾ أي: المكذبون يعلمون عذابها ما كذبوا) قوله: (ما كذبوا) هذه جواب (لو) محذوفًا. ثم قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ [الزمر ٢٧]. ﴿ضَرَبْنَا﴾ يقول المؤلف: (جعلنا) ولعل الضرب أخص من الجعل؛ أي: بيَّنَّا للناس في هذا القرآن من كل مثل، والجملة هنا مؤكدة بمؤكدات ثلاثة، وهي: اللام، و(قد)، والقسم المقدَّر؛ لأن تقدير الكلام في مثل هذا التركيب: والله لقد، فيكون مؤكدًا بمؤكدات ثلاثة. وقوله: ﴿وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ﴾، إذا قال قائل: كيف يؤكد هذا وهو أمر معلوم، والغالب أن التأكيد إنما يُصار إليه للحاجة إليه؟ فالجواب: أن التأكيد قد يكون للحاجة إليه عندما يكون المخاطب شاكًّا أو مُنكِرًا، وقد يكون التأكيد لأهمية المؤكَّد وإن لم يكن ثَمَّ إنكار أو تردد، ومنه هذه الآية، فإن ضَرْب الله الأمثال للناس في القرآن أمر محسوس مُدرَك، ولكن لأهميته أكَّدَه الله عز وجل. ﴿لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ﴾ [الزمر ٢٧] أي: من كل شَبَهٍ، فيضرب الله تعالى الأشباه والنظائر ليحذر من كان على مثل هذا النظير وهذا الشبيه حتى لا يقوم بمثل ما فَعَلَ. ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ أي: يتعظون، و(لَعَلَّ) هنا للتعليل، وهو أحد معانيها، ومن معانيها الترجي، مثل: لعلَّ الحبيبَ قادمٌ، ومن معانيها الإشفاق، مثل: لعلَّ الحبيبَ هالكٌ؛ ففي الأول: (لعلَّ الحبيبَ قادمٌ) رجاء، وفي الثاني إشفاق، يعني أخشى أن يكون هالكًا، وتأتي للتعليل كما في هذه الآية، وكما في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة ١٨٣] وهل من مثال ثالث؟ * طالب: (...). * الشيخ: لا. * الطالب: ﴿لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا﴾. * الشيخ: ﴿لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا﴾ [الطلاق ١] قد يكون هذا للتوقع. * الطالب: ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ﴾. * الشيخ: ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ﴾ [الشعراء ٣] للتوقع أيضًا، هي في القرآن كثير. * طالب: ﴿لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ﴾. * الشيخ: ﴿لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ﴾ [غافر ٣٦] للترجي، ويحتمل أن تكون للتعليل، إنما هو كثير في القرآن (لعلَّ)، فيظن بعض الناس أنها للترجي في كل مكان، فيقول: كيف يترجى الله عز وجل الشيء وهو قادر على كل شيء؟ نقول: (لَعَلَّ) إذا جاءت في كلام الله فهي للتعليل. وقوله: (﴿يَتَذَكَّرُونَ﴾ [الزمر ٢٧] يعني يتعظون)؛ لأن هذا هو الغرض من ضرب الأمثال. ﴿قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ [الزمر ٢٨] ﴿قُرْآنًا﴾ هذه حال، و﴿عَرَبِيًّا﴾ حال أخرى؛ يعني هذا القرآن الذي فيه من كل مَثَل هو قرآن، والقرآن تأتي بمعنى المصدر، وتأتي بمعنى اسم الفاعل أو المفعول، فمن إتيانها مصدرًا (الغُفْران والشُّكْران)، وأنا أقصد بهذا وزن (فُعْلَان) تأتي مصدرًا مثل: (الغُفْران، والشُّكْران، والقُرآن)، وهذا المصدر في لفظ القرآن يحتمل أنه بمعنى اسم المفعول، فقرآن بمعنى (مَقْرُوء)، وعلى هذا فيكون بمعنى (مَتْلوٍّ)، ويحتمل أن يكون اسم فاعل بمعنى (قارِئ)، وهو من قَرَأَ الماء إذا جَمَعَهُ في الحوْض، والقرآن إذا تأملتَ وجدت أن الوصفين ينطبقان عليه فهو متلوٌّ وجامِع؛ ولهذا قال العلماء في أصول التفسير: إنه يصح أن يكون بمعنى اسم الفاعل، ويصح أن يكون بمعنى اسم المفعول. وقوله: ﴿عَرَبِيًّا﴾ أي: باللغة العربية التي هي لسان محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولسان القوم الذين بُعِثَ فيهم. والعربية هي أفضل الألسُن وأعربها وأفصحها وأبينُها؛ ولهذا اختارها الله عز وجل لرسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فإن قيل: أليس في القرآن من الكلمات ما أصله أعجمي في القرآن؟ بلى، فيه، ولكن هذه الألفاظ التي أصلها غير عربي لما نطق بها العرب عَرَّبوها وصارت عربية؛ ولهذا لا تخلو هذه الكلمات المعرَّبة من تغيير بعض الشيء، لا بد أن يكون فيها شيء من التغيير في الغالب، فإذا نَطَقَ بها العرب واستخدموها، وسادت في ألسنتهم صارت عربية، عارِبَة ولا مُستعرِبة؟ * طالب: مُسْتَعْرِبة. * الشيخ: مُسْتعرِبَة، إذن فهي كلمات مستعرِبة من قوم مستعرِبين أيضًا؛ يعني أصل العرب مستعربين؛ لأنهم ليسوا عربًا في الأصل، فإسماعيل هو ابن إبراهيم، وليست لغته عربية، لكن لما جاء العرب جُرهم إلى أم إسماعيل، ونزلوا عندها صار عربيًّا، واستمرت العروبة إلى يومنا هذا. يقول: ﴿قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ﴾ [الزمر ٢٨]، هذا الوصف سلبي وليس ثبوتيًّا ﴿غَيْرَ ذِي عِوَجٍ﴾، واعلم أنه لا يوجد في أوصاف القرآن ما هو سلبي محض؛ لأن السلبي المحض ليس فيه مدح بل كل شيء وُصِف به القرآن على وجه النفي فإن ذلك لكمال ضده، فإذا قال: ﴿غَيْرَ ذِي عِوَجٍ﴾ أي لكمال استقامته، بل قال الله تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ [الإسراء ٩]، فالقرآن الكريم يهدي للتي هي أقوم في أمور الدين وفي أمور الدنيا على وجهٍ ليس فيه اعوجاج بوجهٍ من الوجوه؛ ولهذا قال: ﴿غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ أي: لأجل أن يتقوا، فبيَّن الله لنا في هذا القرآن وجعله غير ذي عوج من أجل تقواه عز وجل. يقول الشارح رحمه الله: (﴿وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ﴾ [الزمر ٢٧] أي جعلنا)، وهذا التفسير تفسيرٌ بما هو أعم؛ لأن ضرب المثل ليس مجرد جَعْل له بل ضرب المثل للاعتبار به، فضربته مثلًا؛ أي جعلته شبهًا حتى يُعتبر به. وقوله: ﴿لِلنَّاسِ﴾، ﴿مِنْ كُلِّ مَثَلٍ﴾ يشمل كل الناس؛ المؤمن والكافر؛ لأجل أن يتذكر هؤلاء وهؤلاء. * طالب: (...). * الشيخ: لا، الذل، والهوان، والعار، والفضيحة، كلها. * الطالب: (...). * الشيخ: أي: لا تذلنا ولا تفضحنا. * طالب: (...) اللغة العربية هي أفضل اللغات (...)؟ * الشيخ: لا، أيهما أفضل رسالة محمد عليه الصلاة والسلام وأمته أو الرسالات الأخرى وأمهاتهم؟ * الطالب: رسالة النبي ﷺ. * الشيخ: إذن أفضل ما فيه شك؛ ولهذا ورد أحاديث لكنها فيها نظر أن اللغة العربية لغة أهل الجنة. * الطالب: (...). * الشيخ: إي نعم، كون الله اختار هذه الرسالة العظيمة في اللغة العربية يكفي؛ لقوله تعالى: ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ [الأنعام ١٢٤] فصار هذا المكان صالحًا لهذه الرسالة العظيمة؛ لأنه عظيم. * طالب: (...). * الشيخ: معلوم البيان، لو جاء بغير باللغة العربية ما بان، لكن كونه اختار أن يكون في هؤلاء العرب وبِلُغتهم هذا دليل على فضله. * طالب: (...) قال قائل: يعني الرسول ﷺ خاص بالعرب؛ لأن القرآن عربي، نرد بنفس الجواب هذا؟ * الشيخ: لا، إذا قال: إنه هو خاص بالعرب، قلنا: نعم، هو بعث في الأُمِّيين لكن لجميع الناس، كما لو أن أحدًا صار في الشرق أو في الغرب وهو أمير على جميع القارة التي هو فيها، فهذا محمد عليه الصلاة والسلام بُعِثَ في هؤلاء القوم لكن إلى جميع الناس، ومعلوم أنه لا بد أن يُبعث في قومه، افرض أنه بُعِث في العجم وهو رسول إلى الناس، نفس الشيء. * طالب: هل العذاب له لون وطعم؟ * الشيخ: إي نعم، الشيء الذي يُصيب الإنسان إصابة مباشرة يقال: ذَاقَهُ، لكن ليس باللسان، إنما لما أنه أصابه مباشرة صار كالمطعوم الذي يُدخله الإنسان في جوفه. * طالب: قلنا: إن الوصف بالسلب يعني ليس دليلًا في المدح كقول الله تبارك وتعالى (...). * الشيخ: نعم، إن قلنا: لا بد أن يتضمن الكمال، لم يلد ولم يولد لكمال وحدانيته. * طالب: (...) سوء العذاب يوم القيامة (...)، فهل يدل على الوجه؟ يأتيه العذاب الأشد من بقية البدن؟ * الشيخ: هو على كل حال إحساس الوجه بالعذاب أشد من إحساس بقية الجسم. * الطالب: (...). * الشيخ: هو إذا كان أسوأ العذاب، ويكون في الوجه صار أشد على الإنسان مما لو كان في طرف آخر، لكن اللي يظهر لنا ما قلنا: إن سوء العذاب ليس على اسم تفضيل، ولكنه من باب إضافة الصفة إلى موصوفها؛ يعني العذاب السيئ. * طالب: (...) خير وشر، أليست من باب خير وشر؟ * الشيخ: خير وشر أيضًا تُطلق على اسم التفضيل، إذا قلت: هذا خير من هذا، وهذا شر من هذا، وقد تطلق ويراد بها الوصف في الشر فقط، كما تقول: هذا شر، هذا خير. * * * * الطالب: بسم الله الرحمن الرحيم ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٢٩) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (٣٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ﴾ [الزمر ٢٩ - ٣١]. * الشيخ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تبارك وتعالى: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ﴾ [الزمر ٢٩]، لما قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ﴾ [الزمر ٢٧] ذكر هذا المثل، ضرب مثلًا. بَيَّن الله عز وجل هذا المثل العظيم فقال: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ﴾ ﴿رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ﴾، ﴿فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ﴾ أي متنازعون مختلفون، كل واحد منهم يقول: أنا صاحبه، أنا الذي أريد أن أستخدمه وما أشبه ذلك، فهم دائمًا في نزاع وفي خصومة؛ لأن كل واحد منهم يريد أن ينفرد به عن الآخر، والرجل الثاني ﴿رَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ﴾ سَلَمًا أي سالِمًا لهذا الرجل، لا يشركه فيه أحد. فإن قال قائل: بما عرفتم أن ﴿سَلَمًا﴾ بمعنى (سالِمًا) من الشركاء؟ قلنا: عرفنا ذلك بذكر المقابل، وهو قوله: ﴿فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ﴾؛ لأن الكلمة تُعرف بالسياق، وبذكر المقابل، ومن أبرز مثال على ذلك قوله تبارك وتعالى: ﴿فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا﴾ [النساء ٧١]. لو قال لك قائل: ما معنى ثُبَاتٍ؟ لفهمت معناها مما بعدها ﴿أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا﴾، فيكون الثُّبات ضد المجتمعين؛ أي: فُرادى، انفروا فُرادى، أو انفروا جميعًا، وهذه من قواعد التفسير أن يُعرف تفسير الكلمة بذكر ما يقابلها، فهنا نقول: رجلًا سَلَم ﴿سَلَمًا﴾ أي: خالصًا لمالكه لا يُشاركه فيه أحد، فإن قال قائل: بمَ عرفتم ذلك؟ قلنا: بما ذكرنا من القاعدة أن المقابل للشيء؛ أي الذي جُعل مُعادلًا له يكون مقابلًا له في المعنى، هذا الرجل الذي كان سَلَمًا لرجل، هل أحد يشاركه في ملكه له؟ لا، هل أحد يُنازعه؟ لا. إذن يجب أن نعرف الفَرْق بين المملوك الذي فيه الشركاء المتشاكسون والمملوك الذي ليس فيه شركاء، ثم نقيس عليه المخلص لله الذي يعبد الله وحده والذي يعبد مع الله غيره؛ ولهذا قال: ﴿هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا﴾ [الزمر ٢٩] أي: هل يستوي الرجلان أحدهما فيه شركاء متشاكسون والآخر سَلَمٌ لرجل؟ هل يستوي هذان؟ الجواب: لا، فالاستفهام حينئذٍ بمعنى النفي؛ يعني لا يستويان. والاستفهام يأتي لمعانٍ كثيرة كما هو معروف في علم البلاغة، ولكنه إذا أتى في موضع النفي فإنه يكون مُشْربًا معنى التحدي؛ لأنه لو قيل: لا يستويان؛ لفهمنا انتفاء استوائهما، لكن إذا قيل: هل يستويان؟ فهما أمران: الأمر الأول: انتفاء الاستواء. والأمر الثاني: التحدي. نقول: هل عندك شيء تثبت أنهما يستويان فيكون تحويل النفي إلى استفهام أبلغ في النفي وأَبْيَن؟ ﴿هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا﴾ الجواب: لا. قال الله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ [الزمر ٢٩] حمد نفسه عز وجل؛ لكمال صفاته، وكمال إنعامه، ومن إنعامه أنه يضرب الأمثال للناس في القرآن لعلهم يتذكرون مع أنه عز وجل غني عنهم، ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران ٩٧]، كلهم لكن رحمته تأبى إلا أن يُبيِّن لعباده ما يحتاجون إليه في أمور دينهم ودنياهم؛ ولهذا قال بعد هذا البيان التام في المثل: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾. ثم قال: ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الزمر ٢٩] ﴿بَلْ﴾ هنا للإضراب، والإضراب له معنيان: المعنى الأول: إضراب انتقال ينتقل من شيء إلى آخر. والمعنى الثاني: إضراب إبطال، يُبطل الأول، ويثبت الثاني، فإذا قلت: ما قام زيد بل عمروٌ، فهذا إضْراب إبطال، أبطلت الأول وأثبت الثاني. وفي قوله تعالى: ﴿بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ﴾ [النمل ٦٦] هذا انتقال من معنى إلى معنى أشد منه. في هذه الآية: ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾، هل هي إضراب إبطال أم هي إضراب انتقال؟ إضراب انتقال؛ لأنه لم يسبق شيء أبطلته، وقوله: ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ المراد بـ﴿أَكْثَرُهُمْ﴾ هنا أكثر الناس كما جاء ذلك في آيات أخرى: ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف ١٨٧]. وانتفاء العلم هنا لانتفاء لازمه وهو العمل والامتثال، فأكثر الناس في جهل، وأكثر الناس في غي، في جهل لا يعرفون الحق، وفي غي لا يقبلون الحق ولا يعملون به، وكلهم يصح أن ننفي عنه العِلْم، أما من كان في جهل فنفي العلم عنه واضح، وأما من كان في غي مع العلم فنفي العلم عنه؛ لأنه لم ينتفع به ولم يعمل به. ثم قال الله تعالى: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (٣٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ﴾ [الزمر ٣٠، ٣١] ﴿إِنَّكَ﴾ الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ﴿مَيِّتٌ﴾ وَصْف له في المستقبل. ﴿وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾ كذلك، وأكد الموت مع العلم به يَقينًا من أجل أن عمل هؤلاء الذين كذَّبوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم عمل من لم يُوقِن بالموت؛ لأن من أيقن بالموت حقيقة فلا بد أن يعمل له لكنهم هم لا يعملون له فكان عدم عَمَلِهم له كالمنكر، أو بمنزلة المنكر؛ فلهذا أُكِّد. وقوله: ﴿مَيِّتٌ﴾ بتشديد الياء، يُقال لمن سيموت وهو حي، وأما (مَيْت) فيقال لمن وقع به الموت؛ أي بعد فراق حياته يقال: (مَيْت)، وربما يقال: (مَيِّت)، لكن الأكثر (مَيْت)، فعلى هذا يُفَرَّق بين أن يُوصَف الحي بالموت، ويقال فيه: (مَيِّت)، وبين أن يوصف الميِّت بالموت فيقال: (مَيْت). ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (٣٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ﴾ [الزمر ٣٠، ٣١]. ﴿إِنَّكُمْ﴾ الخطاب للنبي عليه الصلاة والسلام ومن عانَدَهُ وكَفَرَ به. ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ سبق تفسيره. ﴿عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ﴾ عند ربكم الذي خلقكم أول مرة، وأعادكم ثاني مرة، تختصمون عنده أيكم على الحق، ونحن نعلم الآن نتيجة هذه الخصومة من سيغلب؟ * طلبة: المؤمنون. * الشيخ: المؤمنون لا شك، قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾ [النساء ١٤١]، فالكافر لا سبيل له على المؤمن، فالنتيجة -والحمد لله- معلومة أن المؤمنين هم الغالبون يوم القيامة، وهم الخاصمون لأعدائهم. نرجع الآن إلى كلام المؤلف، ثم نأخذ الفوائد جميعًا إن شاء الله. يقول المؤلف رحمه الله عز وجل: (ضرب الله للمشرك والموحِّد مثلًا)، وتقييده المؤلف بالمشرك والموحِّد واضح؛ لأن المثل المضروب وهو العبد المملوك بين شركاء والعبد الخالص ينطبق تمامًا على المشرك والموحِّد. يقول: (ضرب الله للمشرك والموحِّد مثلًا ﴿رَجُلًا﴾ [الزمر ٢٩]) بدل من ﴿مَثَلًا﴾، والبدل يقول الإمام ابن مالك رحمه الله فيه: ؎التَّابِعُ الْمَقْصُودُ بِالْحُكْمِ بِلَا ∗∗∗ وَاسِطَةٍ............ هذا البدل. فقوله: (هو التابع المقصود بالحكم)، خرج به من بقية التوابع. وقوله: (بِلا واسطة)، خرج به المعطوف بـ(بل)، فإن المعطوف بـ(بل) يكون إذا كان للإضراب الإبطالي يكون هو المقصود بالحكم، لكنه بواسِطة فلا يُسمَّى بدلًا. فهنا قال: ﴿مَثَلًا رَجُلًا﴾ لو حُذِفت ﴿مَثَلًا﴾، وقال: ضرب الله رجلًا، أيصح الكلام أو لا؟ يصح؛ لأن المقصود هو كلمة رجل، وأنت لو قلت: رأيت محمدًا عليًّا، عليًّا بدل؛ لأن المقصود هو عليٌّ، إذا خطب مخاطب وقال: رأيت عليًّا محمدًا؟ عرفت أنه أراد محمدًا ولم يرد عليًّا؛ لأن محمدًا بدل من عليٍّ، والبدل هو المقصود بالحكم لكن قد يكون سببه الغلط، وقد يكون سببه النسيان أو غير ذلك من الأسباب، المهم أن البدل هو ما حده ابن مالك بقوله: ؎التَّابِعُ الْمَقْصُودُ بِالْحُكْمِ بِلَا ∗∗∗ وَاسِطَةٍ هُوَ الْمُسَمَّى بَدَلَا يقول: (﴿فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ﴾ متنازعون، سيئة أخلاقهم) من أين أخذ سوء الخلق؟ من قوله: ﴿مُتَشَاكِسُونَ﴾؛ لأن المشاكسة تُنبِئ عن سوء الخلق؛ إذ إن حَسَن الخلق يتنازل عن حقه ولو كان في ذلك أذية له أو ضرر عليه؛ لأن حُسْن أخلاقه يتغلب على أخذه بحقه، وهكذا ينبغي للإنسان أن يكون حَسَن الأخلاق، وأن يتغاضى عن بعض حقه ولو كان في ذلك أذية لنفسه، وليعلم أنه وإن قالت له نفسُه: إن تواضعك وعفوك عن حقك ذُلٌّ لك ليعلم أن هذا من وساوس الشيطان؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزَّةً، وَمَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ رَفَعَهُ اللَّهُ»[[أخرجه مسلم (٢٥٨٨ / ٦٩) من حديث أبي هريرة.]]. فلا تغلبك نفسك وتأخذك العزة بالإثم فتقول: لا يمكن أسكت عن هذا الرجل، أنا من أنا حتى يعتدي عليَّ، أنا فلان بن فلان! فإن هذا من الشيطان ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾ [الشورى ٤٠]، ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ [فصلت ٣٤]، ﴿وَمَا يُلَقَّاهَا﴾ [فصلت ٣٥] أي: ما يُوفَّق لها ﴿إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾. يقول: (متنازعون سيئة أخلاقهم ﴿وَرَجُلًا سَالِمًا﴾ ) عندي ﴿سَالِمًا﴾ ، وهي قراءة والمفسِّر فسَّر عليها. والسالم يعني الخالص كما فسرها (خالصًا ﴿لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا﴾ ) يقول: (﴿مَثَلًا﴾ تمييز) ما هو التمييز؟ التمييز: مِنْ مَيَّزَ إذا بَيَّنَ، وقد حدَّهُ ابن مالك بالألفية فقال: ؎اسْمٌ بِمَعْنَى (مِنْ) مُبِينٌ نَكِرَهْ ∗∗∗ يُنْصَبُ تَمْيِيزًا بِمَا قَدْ فَسَّرَهْ هذا التمييز، اسم نكرة، يُبيِّن المبهم الذي فسَّره، وهو بمعنى (مِنْ)، ومثاله: قولهم: تصبب زيدٌ عَرَقًا، عرقًا هذه تمييز، طبِّقْها على التعريف نجد أنها اسم بمعنى (مِن)؛ لأنك تقول: تصبَّب من العرق، مُبِين: أي مُفَسِّر لكلمة تَصَبَّب؛ لأن تصبب بمعنى تصبب دمًا، تصبب ماءً، تصبب عرقًا، فبينت المتصبِّب، نكرة أو معرفة؟ نكرة، هذا هو التمييز: ؎اسْمٌ بِمَعْنَى (مِنْ) مُبِينٌ نَكِرَهْ ∗∗∗ يُنْصَبُ تَمْيِيزًا بِمَا قَدْ فَسَّرَهْ الآن أمليت عليكم بيتين من ألفية ابن مالك، فاللي يحفظهم الآن يسقط عنه من حفظها بيتان البيت الأول؟ * طالب: ؎التَّابِعُ الْمَقْصُودُ بِالْحُكْمِ بِلَا ∗∗∗ وَاسِطَةٍ هُوَ الْمُسَمَّى بَدَلَا * الشيخ: نعم، البدل: ؎التَّابِعُ الْمَقْصُودُ بِالْحُكْمِ بِلَا ∗∗∗ وَاسِطَةٍ هُوَ الْمُسَمَّى بَدَلَا وهذا الثاني، التمييز؟ * طالب: ؎اسْمٌ بِمَعْنَى (مِنْ) مُبِينٌ نَكِرَهْ ∗∗∗ يُنْصَبُ تَمْيِيزًا بِمَا قَدْ فَسَّرَهْ * الشيخ: يقول: (﴿مَثَلًا﴾ تمييز، أي لا يستوي العبد لجماعة والعبد لواحد، فإن الأول إذا طلب منه كل من مالكيه خدمته في وقت واحد تحيَّر في من يخدمه منهم). يقول: (لا يستوي) فبيَّن رحمه الله أن الاستفهام في قوله: ﴿هَلْ يَسْتَوِيَانِ﴾ للنفي حيث فسره بنفي. وقوله: (لا يستوي العبد لجماعة والعبد لواحد)، صحيح لا يستويان، العبد لواحد يتصرف فيه متى شاء، متى شاء قال: اخدمني، ومتى شاء قال: استرح، متى شاء باعه، متى شاء أجَّره، لكن العبد لجماعه وجماعة متشاكسون، أخلاق سيئة، تنازع دائم، هل يستويان؟ أبدًا، لو قال أحدهم: تعالَ اخدمني، وقال الثاني: اخدمني أنا، وقال الثالث: اخدمني أنا، وقال الرابع: اخدمني أنا، صار أحدهم أخذ باليد اليمنى، والثاني باليد اليسرى، والثالث بالرجل اليمنى، والرابع بالرجل اليسرى، ثم مزَّعوا العبد؛ لأن كل واحد يريد أن يكون عنده، هو الذي يخدمه، كذلك أيضًا في البيع لو أراد أحدهم، قال: أنا أريد بيعه، وقال الثاني: لا أريد، والثالث قال: أريد تأجيره، والرابع قال: أريد إعارته، كيف يكون هذا؟ دائمًا في نزاع وشقاق، فالعبد نفسه في قلق، وفي حيرة، وفي بلاء، والشركاء أيضًا كذلك متشاكسون دائمًا، لا يمكن أن يستوي هذا مع رجل، وهذا لا شك أنه مثل تقريبي، وإلا فالفرق عظيم بين عبادة الله عز وجل وعبادة غيره معه؛ يعني أنه أعظم، ولكن الله تعالى يُقرِّب هذا للعباد، كما قرَّب المعاد بالماء ينزل من السماء، ثم تُنبت به الأرض كم يبقى؟ نبات الأرض بعد نزول المطر؟ يبقى مدة على حسب طيب الأرض، وحسب كثرة المطر، وحسب الجو المناسب، وحسب الفصل لكن يبقى. البعث ﴿فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (١٣) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ﴾ [النازعات ١٣، ١٤] ﴿زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (١٣) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ﴾ فالأمثال قد لا تكون مطابقة تمامًا، قد يكون مورد المثل قد يكون أسرع من المثل، لكن يُذْكر على سبيل التقريب، ولا شك أن عبادة الله عز وجل وحده، وعبادة غيره معه لا شك أن بينهما فرقًا أعظم من الفرق بين الرجل السالِم لرجل والرجل المشترَك بين شركاء متشاكسين. يقول المؤلف رحمه الله: (هذا مَثَلٌ لِلْمُشرك، والثاني مَثَلٌ للموحِّد) ما هو الثاني؟ رجل سالِمًا لرجل هذا للموحِّد، والأول للمشرك، وما هو المقصود من ضرب هذا المثل؟ المقصود التحذير من الشِّرْك بالله عز وجل. ثم اعلم أن الشركاء في العبد متشاكسون لكن مع الله عز وجل يقول الله تعالى في الحديث القدسي: «أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ»[[أخرجه مسلم (٢٩٨٥ / ٤٦) من حديث أبي هريرة.]]. الشركاء المتشاكسون لا يمكن أن يتنازل أحدهم عن نصيبه، لكن الشرك بالله يدع الله المشرك وشركه. «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ». ولهذا قال: (﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ [الزمر ٢٩] وحده، وإذا كان الحمد له وحده وجب أن تكون العبادة له وحده؛ لأنه أهل الحمد وأهل العبادة سبحانه وتعالى فهو وحده المستحق لأن يُعبد). (﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ﴾ أي أهل مكة ﴿لَا يَعْلَمُونَ﴾ ما يصيرون إليه من العذاب فيُشركون). قوله: (﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ﴾ أي أهل مكة)، المؤلف رحمه الله دائمًا ولا سيما في الآيات والسور المكية يجعل مثل هذا الخطاب مُنصَبًّا على أهل مكة، ولكن الذي ينبغي أن نجعل دلالة القرآن عامة دائمًا إلا عند الضرورة؛ لأن القرآن نزل لجميع الخلق إلى يوم القيامة، فتخصيصه بأهل مكة يعني أنه لا يتناول غيرهم إلا بالقياس، لكن إذا أخذنا بلفظه العام شمل أهل مكة وغيرهم بالنص. وهناك فرْق بين شمول الحكم بالنص وشموله بالقياس، فالصحيح أن الضمير في ﴿أَكْثَرُهُمْ﴾ يعود على جميع الخلق، أكثر الخلق لا يعلمون؛ ولهذا ثبت في الحديث الصحيح أن الله يقول: «يَا آدَمُ، فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ. فَيَقُولُ: أَخْرِجْ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ بَعْثًا إِلَى النَّارِ أَوْ: بَعْثَ النَّارِ. فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟ قَالَ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعُ مِئَةٍ وَتِسْعةٌ وَتِسْعُونَ»[[متفق عليه؛ البخاري (٣٣٤٨)، ومسلم (٢٢٢ / ٣٧٩) من حديث أبي سعيد الخدري.]]. وهؤلاء هم الأكثر أو الأقل؟ الأكثر، فأكثر الخلق لا يعلمون إما لجهلهم أو لِغيِّهم، إن كانوا لجهلهم -فكما قلت لكم من قَبْل- فهم قد انتفى عنهم العِلْم، وإن كان لغيهم فإن العِلم انتفى عنهم لانتفاء فائدته، حيث لم يسترشدوا به. قال: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾. (﴿إِنَّكَ﴾ خطاب للنبي ﷺ ﴿مَيِّتٌ﴾ [الزمر ٣٠] أي ستموت). قال: (﴿وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾ ) قال: (فستموت ويموتون)، وكما يقول العامة عندنا: الوعد قُدَّام، (قُدَّام) يعني يوم القيامة؛ لأن الله يوم القيامة يفصل بين العباد، سوف يتنازع الناس في أعمالهم ودياناتهم، ويتنازعون في حقوقهم الخاصة، فيفصل الله بينهم يوم القيامة. يقول: (فلا شماتة بالموت) يعني أنك إذا مت فلا شماتة عليك؛ لأنهم سيموتون مثلك. (نزلت لما استبطؤوا موته ﷺ) هكذا قال المؤلف: إن سبب نزولها أن قريشًا استبطؤوا موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فنزلت هذه الآية تخبره أنه سيموت، وإذا مات فهم أيضًا سيموتون ويختصمون يوم القيامة، ولكن هذه الدعوة تحتاج إلى دليل، لننظر في سبب النزول لا نجد هذا، فإذا كان كذلك فلا ينبغي أن نتخيل سببًا للنزول في معنى آية من كتاب الله؛ لأن سبب النزول خبر محض، والخبر المحض لا مدخل للعقل فيه، ولكننا نقول: ذكر الله هذه الجملة إشارة إلى أنه لن يضيع عملك ولا عملهم، لن يُضيع عملك بدعوتك إلى التوحيد، ولن يضيع عملهم بالإشراك، فإن لكم موعدًا ستجتمعون فيه، وتختصمون فيه عند الله عز وجل، فيكون في هذا تسلية للرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وفيه تحذير للمشركين، فهو من وَجْه تسلية وتطمين للرسول عليه الصلاة والسلام، وهو من وجه آخر تحذير للمشركين بأنهم سيموتون، وسيكون أيضًا موتهم عن قُرْب، وسيكون مؤكدًا لا إشكال فيه. (﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ [الزمر ٣١] ثم إنكم أيها الناس فيما بينكم من المظالم) هذا عجب من المؤلف رحمه الله الخطاب ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (٣٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ﴾ [الزمر ٣٠، ٣١] صرفه المؤلف إلى عموم الناس فقال: (أيها الناس). ﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ﴾ يقول: (أيها الناس فيما بينكم من المظالم)، والسياق يأبى هذا التفسير بل الخطاب للنبي ﷺ، ومن كفر به، هذا هو المتعين، وتختصمون في المظالم التي بينكم أو فيما بينكم من الحق والباطل؟ الثاني، من الحق والباطل، أنت تدعو إلى التوحيد وهم ينكرون ذلك، ولكم موعد تختصمون فيه ﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ﴾ أي الرسول عليه الصلاة والسلام ومن كذَّبه يوم القيامة عند ربكم تختصمون. وفي قوله: ﴿عِنْدَ رَبِّكُمْ﴾ [الزمر ٣١] إشارة إلى أن هذا الاختصام من مقتضى ربوبيته عز وجل؛ لأنه حَكَمٌ عدْل، ومن عدْله أنه يفصل بين المتنازِعِين فيه يوم القيامة كما يفصل بين المتنازِعِين في الحقوق الخاصة. * طالب: (...) على إثبات القياس بالآية. * الشيخ: هو -بارك الله فيك- كل مَثَل في القرآن فإن فيه دليلًا على إثبات القياس. * طالب: الإنسان اللي يأخذ حقه (...). * الشيخ: لا، إن كان تركه للاختصام عند الله فهذا لم يتركه، لكن إن تركه للثواب عند الله فقد تركه. * الطالب: (...) ثقة بالله.. * الشيخ: إي، لكن ثقة بأنه سيختصم مع خصمه؟ أسألك؟ * الطالب: (...). * الشيخ: هل عفا عنه في هذه الحال؟ * الطالب: (...) الربوبية. * الشيخ: لا، أنا أسألك الآن، هل تركه للاختصام عند الله يوم القيامة أو لا؟ هل عفا عنه في هذه الحال؟ * الطالب: (...). * الشيخ: لا بأس، أنا أرى في هذه الحال أن يُطالِب بحقه في الدنيا، أو يتركه لله؛ لأنه إذا طالَب به في الدنيا وأُخِذ حقُّه سلمت حسنات هذا الذي ظلمه يوم القيامة، فكان عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، ويكون بذلك مُحسِنًا إليه، أو يترك للأحسن وهو العفو وانتظار الأجر من الله عز وجل ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾ [الشورى ٤٠] عرفت الآن؟ فالأحوال ثلاث؛ إما أن يأخذ بحقه في الدنيا، أو يُؤجِّل حقه للآخرة، أو يعفو. والمراتب من الأشد إلى الأخف نقول: أشدها أن يؤخر ذلك للآخرة، ثم أن يأخذ به في الدنيا، ثم أن يعفو، مع أن العفو لا بد فيه من قيد؛ أن يكون في العفو إصلاح، فإن كان في العفو إفساد؛ بحيث إذا عفونا عن هذا الرجل زاد في شره وطغيانه، فهنا الأخْذ بالحق أولى من العفو، أما إذا علمنا أن هذا الرجل سينظر إلى العفو نظرةَ إكْبار ويحسن خلقه بعد ذلك؛ فلا شك أن العفو أفضل. * طالب: لو أن ظالِمًا قويًّا ولا أحد يستطيع أن يأخذ حقه منه، هل نقول اعفُ عنه، أو نقول: أجِّلْ أمرك إلى الآخرة؟ * الشيخ: لا، معنى ذلك أن هذا الرجل لو عفونا عنه لن يصلح، فأجِّل حقه في الآخرة؛ لأن الله قَيَّد ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ﴾ [الشورى ٤٠] لكن أخْبِرْه قل له: أنت الآن ظلمتني في كذا وكذا وكذا، وأنا سأُؤَجل أخذي ليوم القيامة، لا يظن إنك عفوت. * طالب: العفو يكون مع القدرة. * الشيخ: إي نعم، لا، ومع عدم القدرة، لكن العفو المحمود هو العفو مع القدرة. * طالب: (...) لا أعفو عن الرجل حتى آخذ من حسناته يوم القيامة. * الشيخ: نعم، نقول: هذا لك الحق. * الطالب: أيهما الأفضل يا شيخ ألا يعفو عنه؟ * الشيخ: لا، الأفضل أن يعفو عنه، لكن كما قال الله عز وجل: ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ﴾ [الشورى ٤٠] إذا كان في العفو إصلاح، أما إذا كان هذا الرجل إذا عفوت عنه، عن قتل ابنه مثلًا ذهب غدًا ليقتل ابن الآخرين. * * * * الطالب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (٣٢) وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (٣٣) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (٣٤) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الزمر ٣٢ - ٣٥]. * الشيخ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ﴾ [الزمر ٢٧]. * من فوائد الآية الكريمة: أن الله سبحانه وتعالى أنزل هذا القرآن تبيانًا لكل شيء، ومنه -أي من التبيان- ضرْب الأمثال؛ لأنها تُقرِّب المعنى، وتضع المعقول في صورة المحسوس، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ [العنكبوت ٤١]. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: رحمة الله سبحانه وتعالى بالعباد حيث بَيَّن لهم هذا البيان التام. * ومن فوائدها: أنه ينبغي للمُعَلِّم غَيْرَهُ أن يُكْثِرَ له من ضرْب الأمثال التي تُعينُه على فهم المعنى؛ لأن هذا هو أسلوب القرآن. * ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات العِلَل والحِكَم في أفعال الله وشَرْعه؛ لقوله: ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ [الزمر ٢٧]. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: الرد على الجهمية وأشباههم ممن أنكروا حكمة الله وقالوا: إن الله سبحانه وتعالى يفعل الشيء لا لِعِلَّة وحكمة ولكن لمجرد المشيئة، وجه ذلك أن (لَعَلَّ) هنا للتعليل، والتعليل يعني إثبات الحكمة. ثم قال الله عز وجل: ﴿قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ [الزمر ٢٨]. * يُستفاد من هذه الآية الكريمة: أن القرآن عربيٌّ؛ أي نازل بلغة العرب. * ومن فوائدها: أنه لا يوجد في القرآن لفظ أعجمي؛ لأن الله وصف القرآن كله بأنه عربي، وهذا يقتضي أن ليس فيه شيء من لغة العجم، ولا شك أن هذا هو الواقع، فليس في القرآن لفظ عجمي، لكن اختلف العلماء المفسرون وغيرهم هل في القرآن كلمة أصلها أعجمي، ثم عُرِّبت فمنهم من يقول: نعم، ومنهم من يقول: لا، فالذين قالوا: نعم، قالوا: هناك كلمات في القرآن الكريم لا تنطبق عليها قواعد اللغة العربية، ويعني هذا أنها أعجمية، وهذا لا ينافي أن يكون القرآن عربيًّا؛ لأن العرب لما عرَّبتها صارت عربية بالاستعراب، كما أن العرب أصلهم مستعربون وإلا فلغة أبيهم إسماعيل ليست عربية. ومنهم من قال: هذه الكلمات التي هي كلمات أعجمية إنما جاءت بلسان العرب من باب توارد اللغتين، ولا مانع من أن تتوارد اللغتان على كلمة واحدة، والخلاف في هذا قريب من اللفظي، وذلك لأنهم متفقون على أنه لا يوجد في القرآن لفظ أعجمي هو أعجمي حتى نزول القرآن أبدًا. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: بيان حِكمة الله عز وجل في إنزاله القرآن باللسان العربي؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بُعِث في قوم عرب، فكانت الحكمة أن يكون لسانه عربيًّا كما هو الشأن في جميع الرسل، قال الله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾ [إبراهيم ٤]. * ومن فوائد الآية الكريمة: أن فهم المعنى مُعِين على التقوى؛ لقوله: ﴿قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾ [الزمر ٢٨] ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾، وهذا أمر واضح أن فهم المعنى من أسباب التقوى؛ لأنك لو تكلم لك إنسان بما لا تفهم معناه لم يؤثر فيك شيء، إنما يؤثر فيك ما تفهم معناه، ولهذا قال: ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾. * ونستفيد من هذه الجملة: ما استفدنا من الجملة السابقة وهي قوله: ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ [الزمر ٢٧]. ثم قال الله تعالى: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ﴾ إلى آخره [الزمر: ٢٩]. * من فوائد هذه الآية الكريمة: أن هذه الآية تطبيق لقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ﴾ [الزمر ٢٧] فإن هذا مثل. * ومن فوائدها: أن مثل من يعبد مع الله غيره كمثل عبدٍ فيه شركاء متشاكسون متنازعون متخاصمون، وجه ذلك أن هذا العابد مع الله غيره لم يكن قلبه خالصًا لله تتنازعه الشركاء من يمين وشمال حتى ضاع بينهم. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن الله تعالى يأتي بالخبر أو غيره، ثم يُقرِّر ذلك للمخاطَب بأحسن وجه؛ وذلك في قوله: ﴿هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا﴾ [الزمر ٢٩] فإن هذا الاستفهام الذي يُراد به النفي الغرض منه تقرير ما ذُكِر وإلزام المخاطَب به. * ومن فوائد الآية الكريمة: أن الله تعالى مُستحِق للحمد لكمال توحيده؛ لقوله: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾. * ومن فوائدها: أن الحمد المطلق إنما يكون لله عز وجل، أما غيره فهو إن حُمِدَ فليس حمده على الإطلاق بل يُحْمَد على شيء معين وجزء معين مما يُحمد عليه، أما الحمد على الإطلاق فهو لله رب العالمين عز وجل؛ لأنه هو المحمود على كل حال، وكان النبي عليه الصلاة والسلام إذا أتاه ما يُسَرُّ به قال: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي بِنِعْمَتِهِ تَتِمُّ الصَّالِحَاتُ». » وإذا أتاه ما يسوءه قال: «الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ»[[أخرجه ابن ماجه (٣٨٠٣) من حديث عائشة.]]. * ومن فوائد الآية الكريمة: أن أكثر بني آدم لا يعلمون الحقائق على ما هي عليه، وإن علموها لم ينتفعوا بها؛ لقوله: ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الزمر ٢٩]. ثم قال تعالى: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (٣٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ﴾ [الزمر ٣٠، ٣١]. * من فوائدها: أن نبينا صلى الله عليه وآله وسلم لن يُخلَّد أبد الآبدين بل هو ميت كما أن خصومه أموات، وهذا كقوله: ﴿وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ﴾ [الأنبياء ٣٤]. * ومن فوائدها: تسلية النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ لقوله: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (٣٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ﴾ [الزمر ٣٠، ٣١]. * ومن فوائدها: إنذار هؤلاء المكذبين بأن لهم موعدًا مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وهو الاختصام يوم القيامة. * ومن فوائدها: أن أهل الشِّرْك والكفر خُصوم لأهل التوحيد والإيمان في الآخرة كما أنهم خصوم في الدنيا، ففي الدنيا لا شك في خصومتهم وعداوة بعضهم لبعض، وفي الآخرة أشد وأعظم. * ومن فوائدها: أن الخلق يختصمون عند الله يوم القيامة، ومن المعلوم أن الخاصِم إذا كانت الخصومة بين المؤمن والكافر هو المؤمن قال الله تعالى: ﴿فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾ [النساء ١٤١]. * ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات البعث والحساب؛ لقوله: ﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ﴾ [الزمر ٣١].
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب