الباحث القرآني
طالب: ﴿الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (٢٣) أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٢٤) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (٢٥) فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ [الزمر ٢٣ - ٢٦].
* الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تعالى: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ﴾ [الزمر ٢٣].
في مناقشة الدرس الماضي ما معنى الهمزة في قوله: ﴿أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ﴾؟
* طالب: الهمزة للاستفهام.
* الشيخ: والفاء؟
* الطالب: الفاء عاطفة.
* الشيخ: والمعطوف عليه؟
* الطالب: قيل: إن المعطوف على ما سبق، وقيل: إن المعطوف على مقدَّر بعد الهمزة.
* الشيخ: وعلى الأول؟
* الطالب: معطوف على ما سبق
* الشيخ: إي نعم، تكون الهمزة تقدَّر مؤخرة عن العطف، والتقدير؟
* الطالب: أَفَمَن شرح الله صدره للإسلام (...).
* الشيخ: لا، ما هو تقدير المعادِل، إذا قلنا: المعطوف على ما سبق، فكيف يكون التقدير؟
* طالب: (...).
* الشيخ: فَأَمَنْ؟
* طالب: فَأَمَنْ شَرَحَ.
* الشيخ: فَأَمَنْ شرح الله صدره.
قوله: ﴿فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ﴾، هل المراد النور الحسي أو المعنوي؟
* طالب: المعنوي.
* الشيخ: المعنوي، ماذا يتضمن؟
* الطالب: (...).
* الشيخ: هذا النور ما هو؟ هل هو العلم أو العلم وشيء آخر؟
* الطالب: البصيرة والهدى.
* الشيخ: طيب.
* طالب: يجعل صدره واسعًا.
* الشيخ: لا.
* طالب: العلم.
* الشيخ: العلم، وغيره؟
* طالب: الفراسة.
* الشيخ: الفراسة ومعرفة الأمور.
قوله: ﴿فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾، (مِن) هنا؟
* طالب: قيل: إنها بمعنى (عن)، أو أنها على بابها، أي هذه القلوب قاسية من ذكر الله، أي: بسبب ذكر الله.
* الشيخ: وهل يمكن أن يكون ذِكْر الله سببًا للقسوة؟
* طالب: نعم، قال الله عز وجل: ﴿وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ﴾ [التوبة ١٢٤، ١٢٥]
* الشيخ: نعم.
قوله: ﴿فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾، ما معنى ﴿مُبِينٍ﴾؟
* طالب: بَيِّن.
* الشيخ: أي: بَيِّن، ذكرنا أن ﴿مُبِينٍ﴾ فِعْلها رباعي أو ثلاثي؟
* طالب: فِعْلُها ممكن أن يكون (بَانَ) أو (أَبَانَ)..
* الشيخ: هل هو فعلها ثلاثي أو رباعي؟
* طالب: ثلاثي.
* الشيخ: ثلاثي، يعني: بَانَ، الثلاثي بَانَ، الباء والألف والنون، أو رباعي؟
* الطالب: الرباعي أَبَانَ.
* الشيخ: الآن (مبين) هل فعلها ثلاثي ولَّا رباعي؟ كلمة مُبِين التي معنا هل فعلها ثلاثي أو رباعي؟ ما عندك علم بالنحو؟
* طالب: ثلاثي.
* الشيخ: أيش يقول؟
* طلبة: ثلاثي.
* الشيخ: ثلاثي؟ خطأ.
* طالب: (...).
* الشيخ: لا، مُبِين.
* الطالب: من الثلاثي.
* الشيخ: من الثلاثي، خطأ.
* طالب: من الثلاثي والرباعي.
* الشيخ: خطأ.
* طالب: من الرباعي، ولكن جاءت لازمة.
* الشيخ: نعم، صح، من الرباعي، ولكن جاءت لازمة (مُبِين) مُفْعِل، لا يمكن أن تكون من الثلاثي، (مُكْرِم) من الثلاثي ولَّا الرباعي؟
* طالب: رباعي.
* الشيخ: رباعي، هذه نفس الشيء؛ لأن (مُبِين) أصلها (مُبْيِن).
إذن (مُبِين) من الرباعي، لكن الرباعي يأتي لازمًا ويأتي متعديًا، بخلاف الثلاثي فإنه لا يأتي إلا لازمًا، أعرفتم؟ -سبحان الله! أنا يعني كنت ظننت أن هذا مفهوم تمامًا.
(مُبِين) مِن (أَبَانَ) الرباعي، لكن من (أَبَانَ) اللازم أو المتعدي؟
* طلبة: اللازم.
* الشيخ: اللازم؛ لأن (أَبَانَ) تأتي لازمًا وتأتي متعديًا، فقل: أَبَانَ الحقَّ بمعنى أظهره، فهي متعدية، وتقول: أَبَانَ الصبح، بمعنى ظهر الصبح.
* * *
ثم قال الله تعالى: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ﴾، هذا بَدْء درس اليوم.
﴿اللَّهُ نَزَّلَ﴾ جملة خبرية اسمية الصدر فعلية العَجُز.
﴿نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا﴾، (نَزَّل) من المضعَّف، ويأتي التعبير أحيانًا بـ(أنزل) من الرباعي الْمَزِيد بالهمزة.
واختلف العلماء هل هما بمعنى واحد، يعني: (أنزل) و(نَزَّلَ) معناهما واحد، أو يختلف المعنى؟
والصحيح أن معناهما واحد، إلا مع وجود قرينة، فمع وجود القرينة يكون التنزيل لِمَا ينزل شيئًا فشيئًا، والإنزال لما ينزل جملة واحدة، لكن هذا لا يكون إلا مع القرينة، أما مع عدم القرينة فنَزَّلَ وأنزل بمعنى واحد، ولهذا يقول الله عز وجل: ﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا﴾ [الفرقان ٤٨]، ويقول: ﴿وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا﴾ [ق ٩]، وهما بمعنى واحد، وكذلك في القرآن أحيانًا يقول الله: ﴿أَنْزَلْنَا﴾، وأحيانًا يقول: ﴿نَزَّلْنَا﴾، وهما بمعنى واحد، لكن مع وجود قرينة يكون التنزيل شيئًا فشيئًا، كما في قوله تعالى: ﴿وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ﴾، بعدها: ﴿نَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا﴾ [الإسراء ١٠٦]، هنا نَزَّلْنَا تختلف عن أَنْزَلْنَا، فهي بمعنى التنزيل شيئًا فشيئًا، بدليل قوله: ﴿وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ﴾.
يقول: ﴿نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا﴾، ﴿أَحْسَنَ الْحَدِيثِ﴾ (أحسن) اسم تفضيل من الْحُسْن، والْحُسْن يتضمن حُسْن الأسلوب وحُسْن الموضوع.
ويشمل قوله: ﴿أَحْسَنَ﴾ هذا وهذا، يعني: أحسن في أسلوبه، وأحسن في موضوعه.
أما الأسلوب: فأن يكون مطابقًا للبلاغة في غايتها، إيجاز في موضع الإيجاز، إطناب في موضع الإطناب، توكيد في موضع التوكيد، تخليه من التوكيد في موضع يقتضي ذلك، وهلم جَرّا.
كذلك أحسن في الموضوع: موضوعه أخبار وأحكام، فالأخبار أحسنها أصدقها، وأنفعها في العبرة.
والأحكام أحسنها أعدلها وأَقْوَمها بمصالح العباد، والقرآن الكريم متضمِّن للأَحْسَنَيْن.
الأسلوب أيش بعد؟ والموضوع ﴿أَحْسَنَ الْحَدِيثِ﴾.
﴿كِتَابًا مُتَشَابِهًا﴾، ﴿كِتَابًا﴾ بدل من ﴿أَحْسَنَ﴾ أو عطف بيان، إذا جعلنا ﴿كِتَابًا مُتَشَابِهًا﴾ شيئًا واحد، أما إذا جعلنا ﴿كِتَابًا﴾ مستقلًّا عن ﴿مُتَشَابِهًا﴾ فإنه يكون بدلًا ولا يكون عطف بيان.
﴿كِتَابًا﴾ أي: مكتوبًا؛ لأن فِعَال تأتي بمعنى مفعول كثيرًا، ومنه الغِرَاس والبِنَاء والكِسَاء والفِرَاش والغِطَاء، وأمثلة هذا كثيرة في اللغة العربية؛ أن يأتي فِعَال بمعنى أيش؟ مفعول، فإنّ غِرَاسًا بمعنى مَغْرُوس، وبِناءً بمعنى مَبْنِيّ.
﴿كِتَابًا﴾ بمعنى مكتوب، وفي أي شيء هو مكتوب؟ مكتوب في ثلاثة أشياء: في اللوح المحفوظ، وفي الصحف التي بأيدي الملائكة، وفي الصحف التي بأيدينا، القرآن الكريم مكتوب بهذا وهذا وهذا.
وقوله: ﴿كِتَابًا مُتَشَابِهًا﴾ يعني يشبه بعضه بعضًا، في أي شيء؟ في الكمال والجودة وحسن الموضوع، لا تجده متناقضًا أبدًا، ولا تجده مختلفًا أبدًا، لكن بحسب المقام؛ تارة يكون المقام يقتضي الاختصار، وتارة يكون المقام يقتضي البسط، فإذا نظرنا إلى سورة (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) والسورة التي قبلها وجدنا بينهما تشابهًا في الحسن، حيث إن كل سورة كانت مناسبة للحديث أو للمتحدَّث عنه، (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) تتحدث عن الرب عز وجل وأسمائه وصفاته، فجاءت بالأسلوب المناسب، و(تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ) تتحدث عن رجل كافر، فصارت بالأسلوب المناسب، لا يقول قائل: أين التشابه بين: (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) وبين (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ)؟
نقول: التشابه معناه أن كل كلام جاء على الوجه المناسب لموضوعه، هذا وجه التشابه، واضح يا جماعة؟
إذن متشابه في أيش؟ في الكمال والجودة وحسن الموضوع، ومن الكمال والجودة أن يكون الكلام مناسبًا لموضوعه، بسط في موضع البسط، وإجمال في موضع الإجمال، وتفصيل في موضع التفصيل، وبسط وتطويل في موضع البسط والتطويل، حسب ما تقتضيه البلاغة.
وقال عز وجل: ﴿مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ﴾، ﴿مَثَانِيَ﴾ مأخوذ من التثنية، يعني القرآن مثاني، يعني: من اثنين اثنين.
والمثاني أنه يقرن المعنى وما يقابله، فتأمل الآيات الكريمة تجد أنه إذا ذُكِرَت النار ذُكِرَت بعدها الجنة، وإذا ذُكِرَ أهل النار ذُكِرَ بعدهم أهل الجنة، وهكذا، وذلك من أجل ألَّا يَمَلَّ السامع من موضوع واحد، ومن أجل أن يتنقل من تخويف إلى ترغيب، فينشط لفعل الواجبات، ويحذر من فعل المحرَّمات، وهذا من أساليب البلاغة التامة أو الكاملة.
﴿مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ﴾، ﴿تَقْشَعِرُّ﴾ أي: ترتعد عندما تسمع آيات الوعيد والتخويف، ترتعد وتخاف وتضطرب، وقد كان بعض السلف يمرض أيامًا حتى يُعَاد إذا سمع بعض الآيات، كما جرى ذلك لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين تلا قوله تعالى: ﴿إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (٧) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ﴾ [الطور ٧، ٨] فمرض أيامًا حتى عاده الناس.
وقوله: ﴿تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ﴾، ﴿الَّذِينَ يَخْشَوْنَ﴾ أي: يخافونه مع العلم بعظمته وجلاله؛ لأن الخشية لا تكون إلا بعلم، قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر ٢٨]، وقد فَرَّقَ العلماء بين الخشية والخوف بوجوه:
أولًا: أن الخشية تكون مقرونة بعلم.
وثانيًا: أن الخشية تكون من عظمة المخشيّ وإن كان الخاشي عظيمًا.
أما الخوف فيكون من ضعف الخائف، وإن كان الْمَخُوف منه غير عظيم، هذان فرقان بين الخشية وبين الخوف؛ أن الخشية تكون بعلم، والخوف قد يكون بِوَهْم، قد يرى الإنسان شبحًا من بُعْد فيخافه وهو ليس بشيء، والثاني أن الخشية تكون أيش؟ لعِظَم الْمَخْشِيّ وإن كان الخاشي عظيمًا، لكن المخشيّ أعظم منه، وأما الخوف فيكون من ضعف الخائف وإن كان الْمَخُوف ليس عظيمًا.
﴿يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ﴾، وقوله: ﴿يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ﴾ هذه الربوبية من الربوبية الخاصة التي مَنَّ الله عليهم بها بالخشية التي ألقاها في قلوبهم.
﴿يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ اللَّهِ﴾، ﴿تَلِينُ﴾ بعد الاقشعرار أو القشعريرة، ﴿تَلِينُ﴾ أي: تطمئن وتهدأ، ﴿إِلَى ذِكْرِ اللهِ﴾ أي: منقادة إلى ذِكْرِه، فتكون هذه الليونة غايتها ذِكْر الله عز وجل.
﴿ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾، يحتمل أن يكون المشار إليه ما حصل لهم من خشية، وعلى هذا فيكون المراد به -المراد بالهداية- هداية التوفيق؛ لأن الخشية عمل، ويحتمل أن يكون المشار إليه ﴿ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ﴾، الكتاب الذي هو أحسن الحديث، فتكون الهداية هداية دلالة؛ لأن الكتاب يهدي بمعنى يدل، والتوفيق بِيَدِ مَن؟ بيد الله عز وجل، ﴿ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾، هذه الجملة الشرطية بَيَّنَ الله فيها أن مَنْ كَتَبَهُ ضالًّا فما أحد يهديه.
وقوله: ﴿فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ أصلها: هادي، بالياء، لكن حُذِفَت الياء لالتقاء الساكنين، أين الساكنان؟ التنوين في الدال، والياء الساكنة المحذوفة، ويجوز إبقاؤها، فيقال: هادي، لكنها تُحْذَف كثيرًا للتخفيف والتقاء الساكنين.
نرجع إلى كلام المؤلف رحمه الله، يقول: (﴿﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا﴾ ﴾ بدل من ﴿﴿أَحْسَنَ﴾ ﴾ أي قرآنًا).
قوله: (بدلًا من ﴿﴿أَحْسَنَ﴾ ﴾) مَرَّ علينا أنه يَصِحّ أن يكون بدلًا أو عطف بيان، بشرط أن يوصَل بما بعده، ﴿كِتَابًا مُتَشَابِهًا﴾، وذلك لأن عطف البيان يكون مُبَيِّنًا للمعطوف عليه، ولهذا سُمِّيَ عطف بيان، ولا يكون مُبَيَّنًا إلا إذا جعلنا ﴿مُتَشَابِهًا﴾ صفة لازمة.
وقوله: (أي: قرآنًا)، هذا التفسير تفسير لفظي أو معنوي؟
* طالب: تفسير لفظي.
* الشيخ: إذا أردنا أن نفسِّر تفسيرًا لفظيًّا أتينا باللفظ نفسه، أو معنويًّا أتينا بالمعنى، فهنا هل أتى بتفسير اللفظ نفسه فقال: كتابًا أي مكتوبًا، أو أتى بالمعنى؟
* طلبة: بالمعنى.
* الشيخ: بالمعنى، فالمراد بالكتاب هنا القرآن، فالمؤلف رحمه الله فسَّرها تفسيرًا معنويًّا، أي فسَّرها بالمراد منها.
﴿مُتَشَابِهًا﴾ قال: (أي يشبه بعضه بعضًا في النَّظْم وغيره)، لا يراد بالنَّظْم هنا ما يقابل النثر، فإن القرآن ليس شعرًا، لكن في النَّظْم أي نَظْم الكلام وتنظيمه حتى يكون مشبهًا بعضه لبعض.
يقول: ﴿مَثَانِيَ﴾ (ثُنِّيَ فيه بالوعد والوعيد وغيرهما) يعني: يؤتَى بالوعد ثم يعقبه الوعيد، يؤتَى بذِكْر النار ثم يعقبه ذِكْر الجنة، يُؤْتَى بصفات المؤمنين ثم يُؤْتَى بصفات غيرهم، انظر إلى قوله تعالى: ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [البقرة ٢٥٧]، مَن ضدهم؟ الذين كفروا، ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ﴾ [البقرة ٢٥٧]، وانظر إلى قوله: ﴿فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ﴾ [هود ١٠٥]، وانظر إلى قوله: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾ [آل عمران ١٠٦]، وانظر إلى قوله في سورة الكهف لما ذكر ما للمؤمنين من الثواب في الجنة ذَكَر ما للكفار من العقاب في النار، والأمثال في هذا كثيرة جدًّا.
﴿تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ﴾، قال المؤلف: (﴿﴿تَقْشَعِرُّ﴾ ﴾ ترتعد عند ذِكْر وعيده).
﴿جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ﴾: يخافون ربهم.
قوله: ﴿تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ﴾ أي: عند ذِكْر الوعيد، أو ذِكْر النار، أو ما يوجِب الخوف والفزع كذِكْر ما حَلَّ بقوم نوح وقوم لوط وغيرهم.
ثم يقول: (﴿﴿يَخْشَوْنَ﴾ ﴾: يخافون)، وهذا التفسير ضعيف؛ لأنه فسَّر المعنى بما دونه؛ إذ قلنا: إن الخشية هي الخوف مع العلم، واستدللنا لذلك بقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر ٢٨]، فلو أن المؤلف قال: يخشون ربهم خوفًا مَبْنِيًّا على العلم بعظمته، لكان التفسير صوابًا، لكن الآن نعتبر التفسير قاصرًا.
(﴿﴿ثُمَّ تَلِينُ﴾ ﴾: تطمئن)، ولكن لا شك أن ذِكْر اللِّين أبلغ من ذِكْر الطمأنينة؛ لأن القشعريرة تقتضي نشوذ الجلد وارتفاعه وتصلُّبه، والذي يقابل ذلك اللين والهدوء والطمأنينة، فتفسير المؤلف أيضا اللين بالطمأنينة تفسير باللازم في الواقع، وإلا فإن اللين غير الطمأنينة؛ لأن الجلد إذا اقشعر يتصلب، ولهذا تجد أطراف الإنسان تبرُد لانحسار الدم عنها بعض الشيء، فإذا هدأ الرَّوْع فإنه يلين ويزول بذلك التصلب.
﴿ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾، لين القلب ضد قسوته، يعني عندما يسمعون الوعيد تقشعر الجلود وتنفر القلوب، ثم بعد ذلك تلين الجلود والقلوب ﴿إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾، قال المؤلف: (أي: عند ذكر وعده)، ولكن الصواب أنها إلى ذِكْر الله مطلقًا، حتى الوعيد إذا تأمل الإنسان وهدأت نفسه بعد أن ورد عليه ما يُخَوِّفه فإنه يلين حتى للوعيد.
فتخصيص المؤلف ذلك بذِكْر الوعد في النفس منه شيء، ومع ذلك فله وجه إذا كان القرآن مثاني ثم جاء ذِكْر النار وجاء بعده ذِكْر الجنة لانت القلوب، أو ذِكْر أهل النار وجاء بعده ذِكْر أهل الجنة لانت القلوب أيضًا.
وقوله: ﴿إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾، لم يقل: لِذِكْر الله، بل قال: (إلى) ﴿إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾، وكأن هذا اللين صار له وقاية وهو ذِكْر الله عز وجل.
وقوله: ﴿إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾ هل هو من باب إضافة المصدر إلى الفاعل، يعني: إلى ما ذَكَّرَهُم الله به، أو من باب إضافة المصدر إلى المفعول به، أي: إلى ذِكْرِهِم اللهَ؟
الجواب: هذا وهذا، الكلمة صالحة لهذا وهذا، أي إلى ذِكْرِهم لله، أو إلى ما ذَكَّرَهُم الله به وهو القرآن الذي جعله الله مثاني.
﴿ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ﴾، ﴿ذَلِكَ﴾ أي: (الكتاب) ﴿هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾، أفادنا المؤلف رحمه الله أن الإشارة في قوله: ﴿ذَلِكَ﴾ تعود إلى الكتاب، وعلى هذا فيكون المراد بالهداية هنا هداية الدلالة، فإن القرآن هدى، بمعنى أنه دَالٌّ على كل خير، بل على كل شيء؛ لقوله تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ [النحل ٨٩].
وقوله: ﴿يَهْدِي بِهِ﴾ هنا الهداية هداية الدلالة والتوفيق؛ لأنها أضيفت إلى الله عز وجل، والله سبحانه وتعالى بيده الهدايتان، والباء في قوله: ﴿يَهْدِي بِهِ﴾ لم يُبَيِّن المؤلف معناها، ولكن معناها السببية، أي بسبب ﴿مَنْ يَشَاءُ﴾.
﴿وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾، * في هذه الآية فوائد:
* أولًا: إثبات أن القرآن نزل من عند الله؛ لقوله: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ﴾.
* ثانيًا: إثبات عُلُوّ الله، وجهه: أنه إذا كان القرآن كلامه، ووَصْف القرآن بأنه مُنَزَّل دَلّ على أن المتكلِّم به عالٍ؛ وعُلُوّ الله عز وجل ينقسم إلى قسمين: عُلُوّ ذات، وعُلُوّ صفات؛ فأما عُلُوّ الصفة فمتفَق عليه بين أهل السنة وأهل البدعة، وأما علو الذات فمختلَف فيه، فأهل السنة يؤمنون بأن الله تعالى عالٍ فوق خلقه بذاته، وأهل التعطيل ينكرون ذلك، ثم انقسموا إلى قسمين:
منهم مَن قال: إنه بذاته في كل مكان، وليس فوق السماوات، بل هو فوق السماوات، وفي السماوات، وفي الأرض، وفي البيوت، وفي المساجد، وفي الأسواق، وفي كل شيء، حتى توصلت الحال في بعضهم إلى أن قالوا: أنه حالٌّ حتى في الأجسام، حتى في البشر، حتى في الكلاب، حتى في الحمير -والعياذ بالله- وهؤلاء هم حلولية الجهمية الذين فتحوا الباب لحلول الاتحاد.
والقسم الثانى قالوا: إن الله لا يوصَف بعلو ولا نزول، فهو ليس فوق العالم ولا تحته، ولا متصل بالعالم، ولا منفصل عن العالم، ولا داخل العالم، ولا خارج العالم، هذا تعطيل محض، أليس كذلك؟
ولهذا قال بعض العلماء: لو قيل لنا: صِفُوا لنا العدم، ما وجدنا أدق من هذا الوصف، أن العدم كل مَن ليس في داخل العالم ولا خارجه، ولا فوق ولا تحت، ولا متصل ولا منفصل.
ولهذا قال محمود بن سبكتكين رحمه الله لابن فورك، قال له: يعني بَيِّن لنا ربك إذا كنت تصفه بهذا الوصف، أين الرب الذي تعبده؟ وصدق، فصار المنكِرون لعُلُوّ الذات انقسموا إلى؟
* طلبة: قسمين.
* الشيخ: حلولية، ومُعَطِّلة تعطيلًا محضًا.
* طالب: النبي ﷺ قال: «أَلَا إِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ»[[متفق عليه؛ البخاري (٥٢)، ومسلم (١٥٩٩ / ١٠٧) من حديث النعمان بن بشير.]]، إن النص هنا ذَكَرَ لِينَ الجلود ولِينَ القلوب، ما الفائدة من لِين الجلود؟
* الشيخ: أقول: لا مانع من أن أقول: صلح قلبي وعملي.
* الطالب: لا مانع لكن ..
* الشيخ: هذا أيضًا لا مانع، وأيضًا لأن الله وصف الجلود نفسها، قال: ﴿تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ﴾، واقشعرار الجلود مَبْنِيّ على خوف القلب، فذكر الله أن هذه القشعريرة تزول، وأنها تتحول إلى لِين، وكذلك القلب الذي هو أصلها.
* طالب: قوله تعالى: ﴿تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ﴾، شيخ الإسلام ذم الذين يعني يصعقون عند سماع الآيات.
* الشيخ: ذَمَّهُم؟
* الطالب: وذكر أن الصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا كذلك.
* الشيخ: إي، فرق بين قشعريرة الجلد وبين الذي يصعق، الذي يصعق يُغْشَى عليه.
* الطالب: الخشية المطلوبة.
* الشيخ: لا، الخشية المطلوبة هي اللي يكون عند الإنسان علم بالله وعظمته وخوف منه، أما أن يعجز عن تحمُّل ما ورد على قلبه حتى يصعق ويموت، أو يفعل فعل المجانين، فيه أيضًا ناس على خلاف ذلك، ما تقشعر جلوده، لكن تجده يقول: الله الله الله، يقعد يخبط، هذا صحيح ولَّا لا؟ أقول: هذا العمل جيد؟
* طلبة: لا.
* الشيخ: أبدًا، هذا خلاف ما كان عليه السلف، ولذلك عند الصوفية تسبيحة يسمونها الغُبَيْرَة، يأتون بأسواط معهم ثم يجلسون حِلَقًا، ثم يتكلم الذي يذكر الله، فإذا زعق: لا إله الا الله وسبحان الله، خبَّطوا بالأسواط على الأرض، والجيد منهم الذي يُثِير غبارًا أكثر؛ لأنه يكون عنده انفعال بقوة وشدة، يسمون هذه الغُبَيْرَة، أظن بعضهم يقول لبعض: هل غَبَّرْت اليوم؟
* طالب: شيخ، ﴿مَثَانِيَ﴾ ما يحتمل يعني يُثَنَّى به ذِكْر الوعيد وذكر التوحيد وذكر القصص، والأنبياء؟
* الشيخ: لا، عام.
* طالب: قوله: ﴿ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ﴾، لين القلوب يا شيخ هل فيه مجاز، يعني القائلين بذلك؟
* الشيخ: أبدًا، ما فيه مجاز.
* الطالب: لكن هل الأمر حسي ولَّا معنوي؟
* الشيخ: لا، معنوي.
* الطالب: طيب، الأمر المعنوي أُخِذَ من الأمر الحسي.
* الشيخ: لا، ما أُخِذَ؛ لأن لين القلب اللي هو لين الملمس ما هو بوارد هنا، القلب الظاهر إنه ما يكون كالجلد يقف ويتصلب، الظاهر، فإن كان يقف ويتصلب فيُسْأَل عن هذا علماء التشريح، إذا قالوا: إنه عند الخوف يتصلَّب صار اللين حسيًّا (...).
* * *
* طالب: ﴿أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٢٤) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (٢٥) فإذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (٢٦) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ [الزمر ٢٤ - ٢٧]
* الشيخ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تبارك وتعالى: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ﴾.
ما معنى قوله: ﴿مُتَشَابِهًا﴾؟
* طالب: يشبه بعضه بعضًا.
* الشيخ: في أيش؟
* الطالب: يشبه بعضه بعضًا في الأسلوب و(...).
* الشيخ: نعم في الكمال والجودة، كله كامل، وكله جيد، وكله بليغ.
ما معنى ﴿مَثَانِيَ﴾؟
* طالب: إذا ذكر الجنة ذكر النار تثنية.
* الشيخ: تُثَنَّى فيه الأمور والأشياء، إذا ذُكِرَت الجنة ذُكِرَت النار، والوعد والوعيد، والمؤمن والكافر.
ما معنى قوله: ﴿تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ﴾.
* طالب: تبتعد وتنشز جلود الذين آمنوا.
* الشيخ: من أي شيء، فرحًا ولَّا أيش؟
* الطالب: عند ذِكْر الوعيد.
* الشيخ: يعني خوفًا وخشية.
قوله: ﴿ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ﴾ المراد به؟
* طالب: (...).
* الشيخ: اقشعرار الجلود ثم لين القلوب والجلود إلى ذِكْر الله هذاية توفيق.
قوله: ﴿مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ ما معناها؟
* طالب: (...).
* الشيخ: من كان ضالًّا في علم الله فإنه لا يستطيع أحد أن يهديه.
* نأخذ فوائد هذه الآية: لأننا لم نأخذها، قال الله تعالى: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ﴾، وقد سبق بيان أظن فائدة أو فائدتين؛ أن القرآن؟
* طالب: مُنَزَّل من عند الله.
* الشيخ: مُنَزَّل من عند الله.
* طالب: إثبات العُلُوّ.
* الشيخ: وإثبات العُلُوّ.
ومن المعلوم أنه * يتفرع على الفائدة الأولى: أن القرآن كلام الله إذا كان نازلًا من عنده، والقرآن كلام الله عز وجل لفظًا ومعنى، تكلَّم به لفظًا ومعنى هو عنده عز وجل، خلافًا للأشاعرة الذين يقولون: إن الكلام هو المعنى القائم بالنفس، وليس صوتًا يُسْمَع ولا حروفًا تُرَى، ولكنه المعنى القائم بنفسه.
وما كُتِبَ في المصاحف أو سُمِع بالآذان فإنه عبارة عن كلام الله وليس هو كلام الله، وحقيقة الأمر أن قولهم هذا يتضمن إنكار الكلام لله عز وجل؛ لأنهم يقولون: هذا القرآن الذي نسمع الآن هو مخلوق، عبارة عن كلام الله، وليس هو كلام الله، كلام الله هو المعنى القائم بنفسه فقط.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن هذا القرآن أحسن الحديث؛ لقوله تعالى: ﴿أَحْسَنَ الْحَدِيثِ﴾، وهكذا حديث الله عز وجل هو أحسن الحديث، قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا﴾ [النساء ٨٧].
* ومن فوائد هذه الآية: أن القرآن مكتوب؛ لقوله: ﴿كِتَابًا﴾، وسبق أنه يُكْتَب في؟
* طلبة: ثلاثة مواضع.
* الشيخ: في ثلاثة مواضع: اللوح المحفوظ، والصحف التي بأيدي الملائكة، والصحف التي بأيدينا.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن القرآن متشابه؛ لقوله تعالى: ﴿مُتَشَابِهًا﴾، وحينئذٍ يطلب الجمع بين هذه الآية وبين قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾ [آل عمران ٧]، فهي هذه الآية، جعل الله القرآن نوعين: محكمًا ومتشابهًا، وفي الآية التي في الزُّمَر جعله نوعًا واحد متشابهًا.
والجمع بينهما أن يقال: إن التشابه المذكور في الزُّمَر غير التشابه المذكور في آل عمران؛ التشابه المذكور في الزُّمَر أنه يشبه بعضه بعضًا في الكمال والجودة، والتشابه المذكور في آل عمران هو اشتباه المعنى وخفاؤه، فالقرآن بهذا الوجه ينقسم إلى قسمين: محكم، أي: واضح المعنى، والثانى: متشابه، أي: خَفِيّ المعنى، أعرفتم؟
إذن الجمع أن نقول: إن التشابه في آل عمران غير التشابه في الزُّمَر؛ التشابه في الزُّمَر أن بعضه يشبه بعضه، كل القرآن متشابه، وأما في آل عمران فهو الخفاء، ﴿مُتَشَابِهَاتٌ﴾ أي: خَفِيَّات المعنى، فالقرآن بعضه مُحْكَم بَيِّن، وبعضه متشابه لا يعرفه إلا الراسخون في العلم.
في بعض الآيات وُصِفَ القرآن بأنه حكيم، بدون أن يُذْكَر التشابه، مثل قوله تعالى: ﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ﴾ [يونس ١]، وهذا بمعنى المحكَم الْمُتْقَن الذي لا يتناقض، فهو عكس المتشابه، الْمُحْكَم الذي لا يتناقض -قِف على هذا- فالقرآن إذن وُصِفَ أنه مُحْكَم كله، وأنه متشابه كله، وأن بعضه مُحْكَم وبعضه متشابه، فوَصْفُه بالإحكام كله أنه كله مُحْكَم مُتْقَن لا يتناقض، ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ [النساء ٨٢].
وَصْفه بأنه كله متشابه، أي: يشبه بعضه بعضًا في الكمال والجودة، وَصْفه بأن بعضه مُحْكَم وبعضه متشابه، أي أن بعضه واضح المعنى وبعضه خَفِي المعنى، تمام.
مثال الواضح المعنى: السماء، والأرض، والنجوم، والشمس، والقمر، والإنسان، وما أشبهه، هذا واضح.
مثال المتشابه: أن توجد آياتان ظاهرهما التعارض، مثل قوله تعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا﴾ [النساء ٤٢]، وفي آية أخرى: ﴿ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام ٢٣]، فكيف تجمع؟ في هذه الآية ينكرون، وفي الآية التي ذكرناها قبل لا يكتمون الله حديثًا؟ فيأتي إنسان يقول: أنا ما أعرف وجه التناقض، ولكن الراسخون في العلم يعلمون كيف يجمعون بين هذه وهذه.
الجمع بينهما أنّ يوم القيامة للناس فيه أحوال؛ لأنه يوم مقداره خمسون ألف سنة، فمرة يكتمون، ومرة يُقِرُّون، ﴿وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا﴾.
كذلك أيضًا ذكر الله أنه يحشر المجرمين يوم القيامة زُرْقًا، وقال: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾ [آل عمران ١٠٦]، فيكف نجمع، مرة يقول: ﴿تَسْوَدُّ﴾، ومرة ﴿زُرْقًا﴾ [طه ١٠٢]؟
الجواب أن يقال: إن بعضهم كذا وبعضهم كذا، أو إنهم في وقت يكونون زُرْقًا، وفي وقت يكونون سودًا، أو أن الأزرق الداكن يكون مائلًا إلى السواد فيطلق أنه أسود، أو أن الزُّرْقة في عيونهم والسواد في بقية الجسم، وما أشبه ذلك.
المهم أن الراسخين في العلم يعرفون كيف يجمعون، لكن غيرهم يكون خفيًّا عليهم.
ولهذا يقول العلماء: إن القرآن وُصِفَ بالتشابه على سبيل العموم، وبالإحكام على سبيل العموم، ووُصِف بأن بعضه مُحْكَم وبعضه متشابه، والجمع كما سمعتم.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن القرآن قد بلغ في البلاغة غاية أكمل البلاغة؛ لكونه يأتي مثاني.
* ويتفرع على هذه الفائدة: أنه ينبغي لمن تكلم في موعظة الناس ألا يأتي بالترغيب المطلق، ولا بالترهيب المطلق، وذلك لأنه إذا أتى بالترغيب المطلق حملهم على الرجاء فتهاونوا، وإذا أتى بالترهيب المطلق حملهم على اليأس فقنطوا من رحمة الله، فالذي ينبغي للإنسان الذي يتكلم مع الناس في المواعظ، الذي ينبغي له أن يكون دائمًا يتكلم أحيانًا بهذا وأحيانًا بهذا، حتى لا يحمل الناس على القنوط أو على الرجاء الذي يوجب الأمن من مكر الله.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن المؤمن يتأثر بالقرآن، يقشعر منه جلده ويخاف، ثم بعد ذلك ترجع إليه الطمأنينة ولِين القلب.
* ويتفرع على هذه الفائدة: أنك إذا رأيت نفسك على غير هذه الحال فاعلم أن إيمانك ضعيف؛ لأن هذا الخبر خبر مَن؟ خبر الله عز وجل، فلا يمكن أن يتخلف مخبره، فكل مؤمن يقشعر جلده مما يسمع من القرآن الكريم في الوعيد، وإذا لم تكن كذلك فإن إيمانك ضعيف.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن ذِكْر الله عز وجل سبب للين القلوب وطمأنينتها؛ لقوله: ﴿تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ اللَّهِ﴾، ويشهد لهذا قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد ٢٨].
* ومن فوائد الآية الكريمة: امتنان الله عز وجل على هؤلاء بالهداية؛ لقوله: ﴿ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾.
* ومن فوائدها: إثبات الأسباب؛ لقوله: ﴿يَهْدِي بِهِ﴾، الباء للسببية كما مَرَّ علينا في التفسير، وإثبات الأسباب هو الموافق للمنقول والمعقول؛ أما المنقول فما أكثر الآيات التي فيها إثبات الأسباب: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً﴾ [الحج ٦٣]، ﴿أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أو دِيَةٌ بِقَدَرِهَا﴾ [الرعد ١٧]، ﴿وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ﴾ [ق ٩]، والآيات في ذلك كثيرة.
والمعقول كذلك يدل على إثبات الأسباب، وأن لها تاثيرًا في مسبباتها، فكلنا يعرف أن ضرب الزجاج بالحجر يكسره، وأن الزجاج انكسر بضرب الحجر، خلافًا لمن أنكر الأسباب وقال: إنه لا أثر للأسباب في مسبباتها، فإن قوله خلاف الشرع وخلاف العقل، حتى إنه قيل لهم: أليست الورق تحترق بالنار؟ فقالوا: لا، تحترق عند النار لا بالنار، وقيل لهم: أليس الزجاج ينكسر بالحجر يُرْمَى به؟ فقالوا: لا، ينكسر عند الحجر لا بالحجر، لماذا؟ قالوا: لأننا لو أثبتنا تأثير الأسباب في أسبابها لأشركنا بالله وجعلنا معه فاعلًا مؤثرًا، ولا أحد يرضى أن يشرك بالله شيئًا.
وجوابنا على هذه الشبهة أن نقول: إن الأسباب لم تؤثر بذاتها، وإنما أثرت بما أودع الله فيها من القوى.
والدليل على هذا أن الله قال لنار إبرابهيم: ﴿كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا﴾ [الأنبياء ٦٩]، فكانت بردًا وسلامًا ولم تحرق، فإذا قلنا: إن هذه الآثار المترتِّبة على الأسباب إنما هي بما أودع الله في هذه الأسباب من القوى المؤثرة، فإننا بذلك لم نشرك بالله.
وتطرَّف آخرون من وجه آخر فقالوا: إن للأسباب تأثيرًا بذاتها، وإننا نحن نعلم أن الحجر إذا أرسل على الزجاج كسره بنفسه، ولكن هؤلاء هم الذين جعلوا مع الله شركاء، فإننا نقول: هذا الحجر لو شاء الله ألَّا يكسر الزجاجة لم يكسرها، كما أن الله لما شاء أن لا تحرق النار إبراهيم لم تحرقه، فأهل السنة والجماعة وسط بين هاتين الطائفتين المتطرفتين؛ الغالية في الأسباب، والغالية في مشيئة الله، نحن نقول: الأسباب مؤثرة لكن بمشيئة الله.
* ومن فوائد هذه الأية الكريمة: إثبات أن الهداية بمشيئة الله؛ لقوله: ﴿يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾، وهذه الآية فرد من أفراد أدلة كثيرة تدل على أن فعل العبد واقع بمشيئة الله، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (٢٨) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ [التكوير ٢٨، ٢٩]، وهذا الْمَوْطِن حصل فيه معترَك عظيم جدًّا بين ثلاث طوائف: طائفتان متطرفتان، وطائفة معتدلة.
الطائفتان المتطرفتان إحداهما قالت: إن الإنسان يشاء عمله ولا علاقة لله به، فالإنسان حر يتصرف كما يشاء وليس لله فيه تدخل إطلاقًا، هو يهدي نفسه وهو يُضِلُّ نفسه، قالوا: ولولا ذلك لكان تعذيب الله للعاصي ظلمًا، وثوابه للطائع عبثًا؛ لأنك إذا قلت: إن الإنسان ليس بحر فهو مدبَّر، والمدبَّر لا يُحْمَد على فضل ولا يُذَمّ على سوء، ومن المعلوم أن الله تعالى رَتَّب الذم على العاصي، والمدح على المطيع، فهذا يدل على أن فعل العبد فعل مستقل.
أما المتطرفون الآخرون فقالوا: إن الإنسان لا مشيئة له، ولا قدرة له، ولا اختيار له في فعله، بل هو مُجْبَر عليه عاجز عن المخالفة، يُجْبَر جبرًا، يأكل جبرًا، ويشرب جبرًا، ويُقْدِم جبرًا، ويتأخر جبرًا، وليس له اختيار على أي حال، وتعذيب الله للظالم ليس ظلمًا وإن كان الظالم يفعل بغير اختياره؛ لأن تعذيب الله له تصرُّف في ملكه، والله عز وجل يفعل ما يشاء لا مُعَقِّب لحكمه.
فحينئذٍ لا يرد علينا ما استدل به الطرف الأول الذي قال: لو كان الإنسان غير مطلق الحرية لكان تعذيب العاصي ظلمًا وإثابة الطائع لغوًا.
نحن نقول: إن تعذيب الظالم ليس بظلم وإن كان مُجْبَرًا، ليش؟ لأن الله مالكه، يفعل فيه ما يشاء، كما أنت تفعل في ملكك ما تشاء، تهدم البيت، تبني البيت، تبيع السيارة، تشتري بدلها، وما أشبه ذلك، الطرف هذا هم الجبرية يسمون الجبرية، والطرف الأول يسمون القدرية، فسُمِّيَ الطرف الأول القدرية؛ لأنهم يُنْكِرون قَدَر الله عز وجل فيما يتعلق بفعل العبد، وسُمِّي هؤلاء جبرية؛ لأنهم يرون أن العبد مُجْبَر على عمله.
يتساوى عند هؤلاء مَن نزل من السلم بتؤدة وطمأنينة درجةً درجةً، ومَن دُفِع من أعلى السلم حتى انزخّ على وجهه، يقولون: الكل سواء، كلٌّ مُجْبَر.
أما أهل السنة والجماعه فإنهم توسطوا في هذا وقالوا: إننا نثبت الأدلة الدالة على أن كل شيء واقع بمشيئة الله، ونثبت الأدلة الدالَّة على أن للإنسان اختيارًا وإرادة، وبذلك نجمع بين الأدلة.
فنقول: فِعْل العبد واقع بمشيئته، لكن مشيئته تحت مشيئة الله، فإذا شئتُ أنا شيئًا فإنني أعلم أن الله شاءه، إذا شئت شيئًا علمت بأن الله شاءه، ولا يمكن أن أعلم بأن الله شاء شيئًا إلا بعد أن يقع؛ إذ إن قضاء الله مكتوم، سر مكتوم لا نعلم عنه، لكن إذا وقع علمنا أن الله شاءه، فأنا لا أشاء إلا ما شاء الله، ولكني في نفس الوقت لي حرية أن أشاء ما شئت، إلا أنني أؤمن بأن مشيئتي هذه كانت أيش؟ كانت بمشيئة الله.
ويدل لهذا أن الإنسان أحيانًا يعزم على فعل شيء، وبينما هو متجه له إذ انتقضت عزيمته إلى اتجاه آخر، أو إلى إلغاء العمل، ألستم تدركون هذا؟
إذن هناك سلطة فوق سلطتي، لكن هذه السلطة غير معلومة، لا تُعْلَم إلا بآثارها.
وقد قيل لأعرابي: بما عرفت ربك؟ قال: بنقض العزائم وصَرْف الْهِمَم.
أعرابي بدوي أجاب بهذا الجواب العجيب: عرفتُ ربي بنقض العزائم، يعني أعزم هذا الشيء ثم تنتقض عزيمتي بدون سبب، وصرف الهمم: أهمّ بشيء إلى اليمين ثم أجدني منصرفًا إلى اليسار بدون سبب إلا من الله عز وجل.
إلا أنني أؤمن بأن مشيئتي هذه كانت بمشيئة الله، ويدل لهذا أن الإنسان أحيانًا يعزم على فعل شيء، وبينما هو متجه له إذ انتقضت عزيمته إلى اتجاه آخر أو إلى إلغاء العمل، ألستم تدركون هذا؟ إذن هناك سلطة فوق سلطتي، لكن هذه السلطة غير معلومة، لا تُعلم إلا بآثارها.
وقد قيل لأعرابي: بِمَ عرفت ربَّك؟ قال: بنقض العزائم، وصرْف الهمم. أعرابي بدوي أجاب بهذا الجواب العجيب، عرفت ربي بنقض العزائم؛ يعني أعزم على الشيء، ثم تنتقض عزيمتي بدون سبب وصرف الهمم؛ أهم بشيء إلى اليمين، ثم أجدني منصرفًا إلى اليسار بدون سبب إلا من الله عز وجل.
فأهل السنة والجماعة يقولون: الإنسان يشاء ويختار، وليس مُجْبرًا، لكن أي شيء يشاؤه فهو بعد مشيئة الله، نعلم أن ذلك بمشيئة الله، وهذا هو الذي تطمئن إليه النفس، وتجتمع به الأدلة.
فإن قال قائل: إذن يكون قول المشركين: ﴿لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ﴾ [النحل ٣٥]؛ لأننا لما عبدنا غير الله علمنا أن الله شاء ذلك، وليس لنا قدرة في مخالفة المشيئة، ما تقولون في هذه الحجة؟ حجة داحضة، أبطلها الله عز وجل، ويبطلها العقل؛ أبطلها الله بقوله: ﴿كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا﴾ [الأنعام ١٤٨]، وفي آية أخرى: ﴿كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾ [النحل ٣٥] أبطلها الله.
فلما أبطلها الله شرعًا ننظر هل هي باطلة عقلًا أو لا؟ نقول: هي أيضًا باطلة عقلًا؛ لأنك لم تعلم أن الله قضى عليك بعبادة الأصنام إلا بعد العبادة، فلماذا لم تعدل عن عبادة الأصنام وتقدِّر أن الله قضى عليك بترك عبادة الأصنام؟ لماذا لم تفعل؟ فإقدامك على عبادة الأصنام وأنت لم تعلم أن الله كتب ذلك هو منك وأنت الذي أردته، ولو أنك قدَّرْت الأفضل والأحسن، وأن الله قدَّر أن تكون موحدًا مجتنبًا لعبادة الأصنام لحصل لك ذلك، واضح؟
ثم إنَّا نقول: هناك أيضًا دليل حسي لو خُيِّر الإنسان بين شيئين أحدهما أفضل من الآخر، ماذا يختار؟ يختار الأفضل، وهل يمكن لشخص أن يختار الأردأ ويقول: هذا الذي قُدِّر لي؟ أبدًا، لو قيل له: لِمَكة طريقان؛ طريق آمِن وطريق مَخُوف، فقال: نذهب مع الطريق المخوف؛ لأن الله كتب علينا هذا؟ هل يمكن أو لا يمكن؟ لا يمكن أبدًا، سيسلك الطريق الآمن بلا شك.
لو عُرض عليه عملان في وظيفة مثلًا، أحد العملين شاق وأجرتُه قليلة، والثاني خفيف وأجرته كثيرة، ماذا يختار؟
* طالب: الثاني.
* الشيخ: يختار الثاني لا شك، وهذه أدلة محسوسة تدل على أن الاحتجاج بالقَدَر على المعاصي أو على ترْك الواجبات احتجاج باطل لا يستقيم لا شرعًا، ولا عقلًا، ولا حِسًّا، فهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة، يقولون: نحن نفعل باختيارنا، ولكن اختيارنا نعلم أن الله قد اختاره لنا قبل أن نختاره نحن إلا أنه لا حُجَّة لنا في أن نقول: هذا مختار الله لنا، فلا نستطيع أن نتخلص منه؛ لأننا حين الفعل لم نعلم ما قُدِّر، ولا يمكن لأي إنسان يدري أن الله قدَّر شيئًا إلا بعد الوقوع، ولهذا قال الله تعالى: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ [الصف ٥]، فجعلهم هم السبب في ذلك.
* من فوائد الآية أيضًا: أنه ينبغي للإنسان -وهذه فائدة مَسْلكِيَّة- أن يلجأ إلى الله وحده في طلب الهداية؛ لقوله: ﴿يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ [الزمر ٢٣]، فأنت لا تعتمد على نفسك فتهلك، اعتمد على ربك، اتجه إليه دائمًا في سؤال الهداية حتى يهديك الله، وكان النبي عليه الصلاة والسلام وهو الهادي المهدي يستفتح فيقول: «عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ؛ إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ»[[أخرجه مسلم (٧٧٠ / ٢٠٠) من حديث عائشة.]]. هذا وهو النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فكيف بنا نحن؟ فأنت الجأ إلى ربك في طلب الهداية، لا تعتمد على نفسك، اعتمد على الله عز وجل؛ فإن الله تعالى هو مرجعك.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن من يضله الله فلا هادي له؛ لقوله: ﴿وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ [الزمر ٢٣]، وفي آية أخرى: ﴿وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ﴾ [الزمر ٣٧].
فإن قال قائل: أفلا يُوجِب لنا هذا الحكم أن نتوقف عن دعوة الناس إلى الحق؛ لأن الله قال: ﴿وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ [الزمر ٢٣]؟
فالجواب: لا يُوجِب لكن الفائدة من ذلك أننا إذا دعونا أحدًا للحق ولكنه لم يَقْبل فإننا لا نهلك أنفسنا من أجله، بل نقول: هذا قد قضى الله عليه بالضلال، وليس لنا في أمره من شأن؛ ولهذا نجد الله عز وجل يقول لنبيه محمد ﷺ: ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء ٣] أي مهلك.
* طالب: (...).
* الشيخ: ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ﴾ [الشعراء ٣].
* الطالب: (...)؟
* الشيخ: لا، ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء ٣] في (طسم)، ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ أي: مهلك نفسك ألا يكونوا مؤمنين، لا تهلك نفسك، وأَنْزَل الله تعالى عليه تسلية حين دعا عمه أبا طالب ولكنه لم يهتدِ، قال: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [القصص ٥٦].
وحينئذٍ لا يمنعنا مثل هذا الحكم أن ندعو إلى الله، ولكن إذا دعونا إلى الله ولم نجد الناس اهتدوا فإننا لا نكلف أنفسنا، لا نهلك أنفسنا بالهم والغم؛ لأن الإنسان إذا نَظَرَ إلى هذه النظرة سوف تتكدر عليه دنياه بل سوف يضيع عمله الصالح؛ لأن الناس ليسوا بمهتدين على ما يريد، فإذا أتعب نفسَه وراء الناس وصار يلهث وراءهم تعب، يبذل ما يجب عليه والباقي على مَنْ؟ على الله عز وجل.
* ومن فوائد الآية الكريمة أيضًا: أن اسم (الهادي) يطلق على غير الله؛ لقوله: ﴿وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ [الزمر ٢٣]، وكما قال تعالى: ﴿وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾ [الرعد ٧]، فالهادي تُطلق على الله وعلى غيره لكن الذي يمتنع إطلاقه على غيره هو هداية التوفيق، فإن هداية التوفيق لا تكون إلا لله وحده، أما هداية الدلالة فإنها تكون لله ولغيره.
* طالب: (...) يستمرون؟
* الشيخ: لا، يستمرون؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد يُؤخِّر هدايتهم إلى أجل مسمى.
* طالب: (...) أن الإنسان يُخيَّر بين طريقين؛ إما خير وإما شر، ولكن فيه كفرة لم يصلهم الإسلام، ولا يعلمون شيئًا عن الإسلام، إذا ماتوا لم يروا الخير ولكن رأوا الشر، فهل هؤلاء كفرة؟
* الشيخ: نعم، هؤلاء كفار هؤلاء كفار..
* الطالب: (...).
* الشيخ: نعم، هؤلاء كفار لكن لعُذرهم بعدم وصول الرسالة إليهم يكلفهم الله يوم القيامة بما شاء من أنواع التكليف، ثم إن اهتدوا في ذلك الوقت فهم من أهل الجنة، وإن ضلوا فهم من أهل النار، هذا أصح ما قيل في الجواب عن هؤلاء.
يعني أهل الفَتْرة والذين بعد الرسالة ولكن لم تبلغهم الصحيح أنهم يُمتحنون يوم القيامة بما شاء الله من التكاليف التي لا نعلمها، ثم إن اهتدوا نجوا وإلا (...).
{"ayah":"ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحۡسَنَ ٱلۡحَدِیثِ كِتَـٰبࣰا مُّتَشَـٰبِهࣰا مَّثَانِیَ تَقۡشَعِرُّ مِنۡهُ جُلُودُ ٱلَّذِینَ یَخۡشَوۡنَ رَبَّهُمۡ ثُمَّ تَلِینُ جُلُودُهُمۡ وَقُلُوبُهُمۡ إِلَىٰ ذِكۡرِ ٱللَّهِۚ ذَ ٰلِكَ هُدَى ٱللَّهِ یَهۡدِی بِهِۦ مَن یَشَاۤءُۚ وَمَن یُضۡلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُۥ مِنۡ هَادٍ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق