الباحث القرآني

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تبارك وتعالى حاكيًا عن قريش ما كانوا يتوَاصَوْن به من الصبر على آلهتهم والثبات عليها نقل عنهم من جملة كلامهم ﴿مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ﴾ [ص ٧]. ﴿مَا سَمِعْنَا بِهَذَا﴾ المشار إليه التوحيد أي أنه لا إله إلا الله ﴿فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ﴾ الملة هي الدين الذي يكون عليه الإنسان كما قال الله تعالى: ﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾ [النحل ١٢٣]. وتُطْلَق الملة على الحق وعلى الباطل؛ فالكفار على ملة، والمسلمون على ملة، وفي كلام أهل الفقه في الفرائض: «لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ»[[أخرجه أبو داود (٢٩١١) وابن ماجه (٢٧٣١) وغيرهما من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.]] وجاء في ذلك حديث عن رسول الله ﷺ. فالملة هي الدين الذي يكون عليه المرء من عقائد وعبادات وأخلاق. وقوله: ﴿فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ﴾ قال المؤلف: (أي: ملة عيسى)؛ لأن عيسى هو آخر الرسل قبل محمد ﷺ، لم يكن بينه وبين محمد ﷺ نبي، وما قيل عن نبوة بعض العرب مثل: خالد بن سنان أو غيره فإنه لا صحة له؛ وذلك لأن العرب ليس فيهم رسول إلا إسماعيل عليه الصلاة والسلام ومحمد ﷺ، وما سوى ذلك فكل ما يُدَّعى من أن في العرب رسولًا أو نبيًّا فهو كذب. يقول: (﴿فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ﴾ أي: ملة عيسى)؛ وذلك لأن الذي سمعوه في ملة عيسى هو أن الله ثالث ثلاثة وهذا ليس بتوحيد. والعجب من ضلال النصارى حيث يقولون: إننا نُوَحِّد الله، وهم يقولون: إن الله ثالث ثلاثة، فأين التوحيد في ثلاثة؟! لا يمكن أن تجعل الثلاثة واحدًا؛ ولهذا يُعْتَبر هذا من أَضَلِّ ما ضل فيه النصارى وهم -كما تعلمون- ضالون، لكن هذا من أشد ما يكون من الضلال، كيف تقول: إنك موحد وأنت تقول: إن الله ثالث ثلاثة؛ مريم وابنها والله؟! فالعرب الذين في عهد الرسول ﷺ ما سمعوا في ملة عيسى توحيدًا، وإنما سمعوا فيها تثليثًا فكأنهم يقولون: أنت يا محمد أتيت بملة لم تكن لمن قبلك، فالذين مِنْ قبلك آخرهم الملة النصرانية، وهم لا يقولون بالتوحيد. ﴿مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ﴾ (إن) يقول المؤلف: (ما)، وعلى هذا فهي نافية، وعلامة (إن) النافية أن يأتي بعدها الإثبات بـ(إلا) أو نحوها، وهنا أتى بعدها الإثبات بـ(إلا) ما هذا إلا اختلاق. و(إن) تأتي في اللغة العربية على أوجه: نافية، وزائدة، وشرطية، ومخففة من الثقيلة.. ﴿مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ﴾ [ص ٧] ﴿إِنْ﴾ يقول المؤلف: (ما) وعلى هذا فهي نافية، وعلامة (إن) النافية أن يأتي بعدها الإثبات بـ (إلا) ونحوها، وهنا أتى بعدها الإثبات بـ (إلا) ما هذا إلا اختلاق، و(إن) تأتي في اللغة العربية على أوجه: نافية، وزائدة، وشرطية، ومخففة من الثقيلة، فهنا نافية. وفي قولك: إن أكرمتني أكرمتُك، شرطية. وفي قوله تعالى: ﴿وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [الإسراء ٥٢] مخففة أو نافية؟ * طالب: نافية. * الشيخ: لأن (إلا) إذا أثبت (إلا) فهي نافية، وفي قول الشاعر: ؎.............................. ∗∗∗ وَإِنْ مَالِكٌ كَانَتْ كِرَامَالْمَعَادِنِ (إِنْ مَالِكٌ) مخففة من الثقيلة، وفي قول الشاعر: ؎بَنِي غُدَانَةَ مَا إِنْ أَنْتُمُ ذَهَبٌ ∗∗∗ ............................ قال المؤلف هنا: (﴿إِنْ هَذَا﴾ ما) هذا المشار إليه، ما جاء به ﷺ من التوحيد، وقوله: ﴿إِلَّا اخْتِلَاقٌ﴾ أي: إلا كذب، يقال: اختلق الكلام أي افتراه وكذبه، وهذا مبني على قولهم فيما سبق: ﴿وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ﴾، والكذاب لا يأتي إلا بأيش؟ إلا بالكذب والاختلاق. ولما أنكروا التوحيد أنكروا الرسالة أيضًا، فقالوا: ﴿أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا﴾ [ص ٨]، وهذا الاستفهام للنفي لكنه أتى بصيغة الاستفهام مبالغة في نفيه كأنهم يتعجبون كيف يُنْزَل عليه الذكر من بيننا ولم يُنْزَل على أحد غيره؟! وهذا كقوله تعالى: ﴿وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ [الزخرف ٣١] والقريتان هما مكة والطائف، يقولون: لو نُزِّل هذا القرآن على رجل من الأكابر والأشراف لا على هذا الغلام الذي يُعْتَبر من أصغر القوم فكيف ينزل عليه الذكر من بيننا؟ وقوله: ﴿أَأُنْزِلَ﴾ ذكر المؤلف فيها قراءات قال: (بتحقيق الهمزتين)، الهمزتان هما همزة الاستفهام وهمزة الفعل، والتحقيق أن تقرأها هكذا: ﴿أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ﴾، (وتسهيل الثانية) بأن تمر عليها مرًّا فلا يظهر أنك حذفتها ولا أنك بَيَّنْتَها فتقول: ﴿أَاُنْزِلَ﴾ لم تتبين، (وإدخال ألف بينهما على الوجهين) أي: وجهي التحقيق والتسهيل، (ألف بينهما) أي: بين الهمزتين، فتقول على قراءة التحقيق: ﴿آأُنْزِلَ﴾ ، وعلى قراءة التسهيل: ﴿آانْزِلَ﴾ فالقراءات إذن أربع: تحقيق الهمزتين بلا ألف، تحقيق الهمزتين بألف، تسهيل الثانية بدون ألف، تسهيلها مع الألف. طيب، ﴿أَؤُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ﴾ (﴿عَلَيْهِ﴾ على محمد) ﷺ الذي جاء بهذا القرآن الذي يُذَكِّرُهم به. (﴿الذِّكْرُ﴾ أي: القرآن) وهذا إقرار منهم بأن القرآن ذِكْر، وإن كان يحتمل أن يكونوا قالوه على سبيل التنزل والتهكم وأنهم لا يؤمنون بأنه ذكر، وأيًّا كان فالمقصود بذلك نفي أن يكون محمدٌ ﷺ هو الرسول، يقول: (وليس بأكبرنا ولا بأشرافنا) ويريدون أن يكون نزول القرآن على أكبرهم وأشرفهم، ولكن الذي نتيقن أنه لو نزل على أكبرهم وأشرفهم لكذَّبوا أيضًا كما قال الله تعالى: ﴿وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (٨) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ﴾ [الأنعام ٨، ٩] فهم معاندون لا يريدون الحق، ونعلم أنه لو نزل على غير محمدٍ ﷺ لطالبوا أن يكون نزل على غيره؛ لأنهم لم ينفوا الرسالة حقيقةً من أجل شخصية محمد ﷺ، فإن شخصيته عندهم من أفضل الشخصيات وأقواها أمانةً وأحسنها خُلُقًا، ولكن يقولون هذا على سبيل العناد والمكابرة فهو كقولهم لما حُدِّثوا بالبعث قالوا: ﴿ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [الجاثية ٢٥]، وهذا مكابرة منهم؛ لأنهم لم يُحَدَّثوا بالبعث الآن، حُدِّثوا بالبعث متى؟ يوم القيامة، فلم يأتِ الموعد الذي حُدِّد للبعث حتى يتحدَّوا بهذا التحدي، فيقال لهم: إن الله يميتكم ثم يحييكم ثم يجمعكم إلى يوم القيامة، والرسل ما قالت لهم: إنكم تبعثون الآن حتى تقولوا لهم: هاتوا آباءنا، يقول: ستبعثون يوم القيامة وسيأتي آباؤهم ومَنْ سبقهم. طيب. نقول: إن قولهم: ﴿أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا﴾ قالوه على سبيل أيش؟ المكابرة والمعاندة؛ لأننا نعلم أنه لو نزل على غيره لطلبوا شيئًا آخر. قال: (وليس بأكبرنا ولا أشرفنا) أما قولهم: وليس بأكبرنا إن كانوا قالوه فهم صادقون، فالرسول ليس بأكبرهم سِنًّا فيهم من يكبره، وأما قوله: ولا أشرفنا فهم كاذبون، فإن محمدًا ﷺ أَشْرَفُ الخلق، قال النبي ﷺ: «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى بَنِي إِسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى مِنْ بَنِي إسْمَاعِيلَ كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى مِنْ كِنَانَةَ قُرَيْشًا، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ»[[أخرج مسلم (٢٢٧٦ / ١)، وأحمد (١٦٩٨٧) واللفظ له من حديث واثلة بن الأسقع رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: «إن الله عز وجل اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من بني إسماعيل كنانة، واصطفى من بني كنانة قريشًا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم».]]. وقال الله تبارك وتعالى: ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ [الأنعام ١٢٤] فلم يجعل رسالته إلا في أحق الناس بها وأجدرهم بها وأَوْلَاهم بها. يقول المؤلف: (أي لم يُنْزَل عليه) هذا تفسير للاستفهام في قولهم: ﴿أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا﴾ أي أن الاستفهام للنفي، لكنه جاء على سبيل الاستفهام، لماذا؟ للتعجب والاستبعاد مِنْ أن يُنْزَل عليه الذكر من بيننا. قال الله تعالى: ﴿بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي﴾ ﴿بَلْ﴾ هذا إضراب لإبطال ما ادَّعَوْه من كونهم يريدون أن ينزل القرآن على أشرفهم، يقول: ﴿هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي﴾ فكيف يقولون: لو نزل على أشرفنا، لو نزل على غير محمد؟ والشاك في الأصل لا يطلب الفرع أصلًا، فإذا كانوا في شكٍّ من نزول هذا الذكر بقطع النظر عن كونه من محمدٍ وآله، فكيف يقولون: ﴿أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا﴾؟! وعلى هذا فقولهم ليس مبنيًّا على أصل يعني أنهم لم يؤمنوا بهذا الذكر أصلًا فضلًا عن أن يكون مع محمد أو غيره. (﴿بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي﴾ وَحْيِي؛ أي القرآن، حيث كذَّبوا الجائي به) فإن من كَذَّب من جاء بالشيء فإنه مُنكِر للشيء؛ لأنه لو قال لك قائل: قَدِم فلان اليومَ فقلت: أنت كاذب، هل تكون مؤمنًا بقدومه؟ لا، لا تكون مؤمنًا بقدومه، وكيف تكون مؤمنًا بقدومه وهو لم يأتكِ إلا من هذا الطريق الذي زعمتَ أن صاحبها كذاب؟ ولهذا إذا كان هذا الذكر لم يأت إلا عن طريق محمد ﷺ، وقالوا: إنه كاذب، وإنه ليس برسول، وليس له حق في الرسالة لأن فيه من هو أحق منه، فكيف تقولون: إنه ذكر؟ إذن هم في شك من هذا الذكر، وهل هذا الشكُّ حقيقة أو على سبيل العناد؟ الظاهر -والله أعلم- أنه على سبيل العناد، لكن منهم من يشك لقوة الدعاية المضادة، فبقوة الدعاية المضادة، ولا سيما إذا جاءت من الأكابر سوف يلحق العامة شَكٌّ من هذا القول. ﴿بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي﴾ وقوله: ﴿مِنْ ذِكْرِي﴾ أي: من الذكر الذي أنزلت وهو القرآن. والشك هو التردد وعدم الجزم. وقد قيل: إن الإدراك ينقسم إلى خمسة أقسام: إدراك الشيء على ما هو عليه إدراكًا جازمًا، وإدراك الشيء على خلاف ما هو عليه، وإدراك الشيء برجحان، وإدراك الشيء بمرجوحيَّة، وإدراك الشيء على السواء. هذه خمسة أقسام. فإدراك الشيء على ما هو عليه إدراكًا جازمًا يُسَمَّى علمًا؛ كإدراكنا أن الواحد نصف الاثنين، هذا علم. وإدراك الشيء على خلاف ما هو عليه جهل مركب؛ مثل أن تدرك أن غزوة بدر مثلًا السنة الثالثة، هذا نسميه جهلًا مركبًا. وعدم إدراكه بالكلية هذا جهل بسيط. وإدراك الشيء مع رجحان ظن. وإدراكه مع المرجوحية وَهْم. وإدراكه مع التساوي شَكٌّ، فهذه ستة أقسام. إدراكه على ما هو عليه، وعلى خلاف ما هو عليه، وعدم الإدراك بالكلية، والإدراك برجحان، والإدارك بمرجوحية، والإدراك بالتساوي. ستة أقسام. الشك أحيانًا يُراد به التساوي، وأحيانًا يطلق على الراجح والمرجوح والمساوي، وهذا ما يكون في كلام الفقهاء عندما يتحدثون عن الشك في الْحَدَث أو الشك في نجاسة الطاهر، فإنهم يريدون الشك الراجح والمرجوح والمساوي؛ يعني بمعنى أنه إذا شككتَ في نجاسة الماء الطاهر ولو غلب على ظنك أنه نجس فهو طاهر، وإذا شككت هل أحدثتَ ولو غلب على ظنك أنك أحدثت فأنت طاهر، وعلَّلوا ذلك بأن الرسول ﷺ قال: «لَا يَنْصَرِفْ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ ريِحًا»[[متفق عليه؛ البخاري (١٧٧)، ومسلم (٣٦١ / ٩٨) من حديث عبد الله بن زيد بن عاصم رضي الله عنه.]] يعني: حتى يتيقن ولا عبرة بالظن. يقول: ﴿بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ﴾ ﴿بَلْ﴾ هذه للإضراب الانتقالي لا للإبطالي. ﴿لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ﴾ قال المؤلف: أي: (لم)، وهذا تفسير ببعض المعنى لأن (لَمَّا) و(لم) تشتركان في النفي، لكنهما تختلفان فيما عداها؛ لأن (لم) لنفي غير المتوقَّع، و(لَمَّا) لنفي المتوقع القريب، فإذا قلت: لم يقم زيد. فهذا نفي لقيامه على وجه لم يُتَوَقَّع منه القيام، وإذا قلت: لَمَّا يقم زيد فهو نفي لقيامه على وجه يُتَوَقَّع منه القيام عن قرب وعلى هذا فقوله: ﴿لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ﴾ أي: لم يذوقوه ولكن سيذوقونه قريبًا. قالوا: و(لَمَّا) تأتي على أوجه: تأتي نافية فتجزم الفعل المضارع كما تجزمه (لم)، وتأتي بمعنى حين، وتأتي شرطية، وتأتي استثنائية. هذه أربعة أوجه؛ تأتي نافية كنفي (لم) لكنها تختلف عنها بأن منفي (لم) لا يُتَوَقَّع، ومنفيها يُتَوَقَّع قريبًا مثل هذه الآية، وتأتي شرطية كقوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا﴾ [هود ٨٢]. وتأتي استثنائية كقوله تعالى: ﴿إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ﴾ [الطارق ٤] أي: ما كل نفس إلا عليها حافظ. وتأتي بمعنى (حين) فتقول: قدمت البلد لَمَّا طلعت الشمس أي: حين طلعت الشمس. طيب هنا ﴿لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ﴾ مِنْ أي الأقسام الأربعة؟ نافية. قال: ﴿بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ﴾ ﴿يَذُوقُوا﴾ أصلها يذوقون لكن حُذِفَت النون للجزم؛ لأن (لما) من حروف الجزم طيب. (﴿بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ﴾ ولو ذاقوه لصدقوا) قوله: ﴿عَذَابِ﴾ قد يُشكِل على طالب العلم وهو أن الفعل واقع عليه ومع ذلك لم يُنْصَب؛ أي لم يقل: بل لما يذوقوا عذابًا، فكيف توجيه ذلك؟ كيف لم ينصب عذاب مع أن الفعل واقع عليها؟ والجواب عن ذلك أن نقول: إن ﴿عَذَابِ﴾ أصلها عذابي بالياء، والمضاف إلى ياء المتكلم تُقَدَّر عليه الحركات؛ وذلك لأنه لا بد أن يُكْسَر من أجل مناسبة الياء، فتكون الحركات مُقَدَّرة عليه، وعلى هذا فنقول: ﴿عَذَابِ﴾ مفعول ﴿يَذُوقُوا﴾ منصوب بفتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة تخفيفًا منعَ من ظهورهًا اشتغالُ المحل بحركة مناسبة. والياء هنا حُذِفَت للتخفيف وهذا كثير في القرآن وفي اللغة العربية أن تُحْذَف ياء المتكلم للتخفيف كما في قوله تعالى: ﴿الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ﴾ [الرعد ٩]، ﴿وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ﴾ [الرعد ١١]، التقدير المتعالي، من والي. طيب ﴿بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ﴾ العذاب ليس مطعومًا يُذاق، ولكن الإصابة به ذَوْق، وذوق كل شيء بحسبه فإذا أعطيتك حلاوة وأدخلتها في فمك ومصصتها فهذا ذوق، وإذا أعطيتك لحمة ومضغتها فهذا ذوق، وإذا ضربتُك وأحسست بالضرب فهذا ذوق، فذوق كل شيء بحسبه. فالعذاب ليس ذوق العذاب كذوق الطعام والشراب، بل هو ذوق مناسب له. ﴿بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ﴾ قال المؤلف: (ولو ذاقوه لصدقوا النبي ﷺ فيما جاء به)، ولكن هذا التصديق لا ينفعهم؛ لأنه إذا صَدَّق الجاحد بعد نزول العذاب به فإن ذلك لا ينفعه، قال الله تعالى: ﴿فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (٨٤) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا﴾ [غافر ٨٤، ٨٥]. قال الله تعالى: ﴿أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ﴾ [ص ٩] هذا كقوله تعالى: ﴿وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ [الزخرف ٣١] قال بعدها: ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ﴾ [الزخرف ٣٢] حتى يقولوا: نجعل النبوة في فلان دون فلان، وهنا لما قالوا: ﴿أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا﴾ [ص ٨] قال الله تعالى: ﴿أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ﴾ يعني: هل هم الذين يقسمون هذه الخزائن فيجعلون الرسالة في فلان دون فلان؟ وأم هنا بمعنى (بل)، وهمزة الاستفهام الذي يراد به النفي، وعلى هذا فتقدير الكلام: بل أعندهم خزائن رحمة ربك؟ أي ليس خزائن رحمة الله عندهم حتى يقولوا: ﴿أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا﴾ ولماذا لم يُنَزَّل على فلان أو فلان؟ وقلت لكم: إن نظير هذه الآية قوله: ﴿وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ قال الله تعالى: ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ﴾ حتى يجعلوا القرآن ينزل على فلان دون فلان. قال: ﴿أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ﴾ [ص ٩] خزائن جمع خزينة، والخزينة مُستودَع الشيء يُسَمَّى خزينة، والرحمة ﴿رَحْمَةِ رَبِّكَ﴾ أي: ما يكون برحمته من الأرزاق الحسية والمعنوية، والجواب: نعم أو لا؟ لا، ليس عندهم خزائن رحمة ربك. وقوله: ﴿الْعَزِيزِ﴾ قال المؤلف: (الغالب)، الوهاب أي كثير الهبات وهي العطايا، أولًا قال: ﴿رَحْمَةِ رَبِّكَ﴾ فأضاف الربوبية إلى النبي ﷺ اعتناء به وبيانًا أن ما حصل له من الرسالة فهو بمقتضى ربوبية الله الخاصة له ولهذا نقول: أخص أنواع الربوبية ما كان لِمَن؟ للرسل، كما أن أخص العبودية عبودية الرسل؛ ولهذا أضاف الربوبية إليه؛ لأن أخص الربوبية ربوبية الله سبحانه وتعالى لرسله وعلى رأسهم محمد ﷺ، فكأنه يشير إلى أن رسالة الله للرسول ﷺ من رحمته به. وقوله: ﴿الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ﴾ فيه مناسبة عظيمة ﴿الْعَزِيزِ﴾ لمقابلة هؤلاء الذين كانوا في عزة وشقاق ليبين أن عزة الله فوق عزتهم وأنفتهم وحميتهم وأنه غالب لهم وقاهر لهم. ﴿الْوَهَّابِ﴾ بالنسبة لمن؟ بالنسبة للرسول ﷺ؛ يعني أنه وهبه النبوة. ﴿الْعَزِيزِ﴾ يقول المؤلف: إنه (الغالب)، وهذا أحد معانيها، ولكنها تشتمل على معنى أكثر. فالعزيز يشمل أو يدل على ثلاثة أنواع من العزة: عزة القدر، وعزة الامتناع، وعزة القهر. فعزة الامتناع معناه امتناع الله سبحانه وتعالى عن كل نَقْصٍ وعيب، فهو عزيز يمتنع عليه كل نقص وعيب. عزة القدر يعني عزة الشرف والسيادة، فالسيادة المطلقة لله عز وجل والعزة المطلقة لله عز وجل ﴿فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا﴾ [فاطر ١٠]، والثالث: عزة القهر وهي عزة الغلبة؛ أي أنه غالب لكل أحد، فعزة القهر يعني عزة الغلبة أنه غالب لكل أحد، ومن أشعار الجاهلية: ؎أَيْنَ الْمَفَرُّ وَالْإِلَهُ الطَّالِبُ ∗∗∗ وَالْأَشْرَمُ الْمَغْلُوبُ لَيْسَالْغَالِبُ طيب. فإذن يكون تفسير المؤلف رحمه الله للعزيز بالغالب تفسير لها ببعض المعاني، وهو تفسير قاصر؛ لأننا ذكرنا فيمن سبق أن كل مَنْ فَسَّر القرآن ببعض ما يدل عليه فإن تفسيره قاصر، لكن أحيانًا يُفَسَّر القرآن ببعض ما دل عليه تمثيلًا لا حصرًا، خذوا بالكم، يُفَسَّر على سبيل التمثيل لا الحصر، كتفسير بعضهم قول الله تعالى: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ﴾ [فاطر ٣٢] فسَّر الظالم لنفسه بأنه الذي يؤخر الصلاة عن وقتها، والمقتصد هو الذي يصليها في آخر الوقت، والسابق بالخيرات الذي يصليها في أول الوقت، وبعضهم فسَّر الظالم لنفسه بالذي لا يزكي، والمقتصد بالذي يزكي ولا يتصدق، والسابق بالخيرات بالذي يُزَكِّي ويتصدق، فهذا التفسير نقول: لا شك أنه قاصر، لكن المفسر لم يُرِدْ أن المعنى منحصر في هذا، وإنما أراد بذلك أيش؟ التمثيل؛ يعني: الظالم لنفسه مثل الذي لا يزكي، المقتصد مثل الذي لا يزكي ويتصدق، السابق بالخيرات مثل الذي يزكي ويتصدق. (﴿الْوَهَّابِ﴾ من النبوة وغيرها فيعطونها من شاؤوا) هذا مفرع على النفي؛ يعني: هل عندهم خزائن رحمة الله من النبوة وغيرها فيعطونها مَنْ شاؤوا ويمنعونها من شاؤوا؟ فالجواب: لا. * طالب: شيخ -أحسن الله إليك- في قول الله عز وجل: ﴿بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ﴾ قال: (لو ذاقوه لصدقوا النبي) مع أن الله عز وجل يقول: ﴿بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ﴾ [الأنعام ٢٨]، وهذا بعد قوله: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ﴾ [الأنعام ٢٧]. * الشيخ: نعم، هذا يوم القيامة. * الطالب: (يذوقوا العذاب) هذا في الدنيا؟ * الشيخ: إي، في الدنيا. * * * أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تبارك وتعالى: ﴿أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ﴾ [ص ٩]. أولًا: مناقشة فيما سبق. ﴿أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ﴾ فيها عدة قراءات، كم؟ * طالب: أربع قراءات. * الشيخ: أربع قراءات. نعم، اذكرها. * الطالب: القراءة الأولى الآن الموجودة بالتحقيق. * الشيخ: بتحقيق أيش؟ * الطالب: الهمزتين. * الشيخ: نعم. * الطالب: والثانية بتسهيل الهمزتين. * الشيخ: بتسهيل أيش؟ * الطالب: الهمزتين. * الشيخ: خطأ. * الطالب: الثانية بتسهيل الأولى وتحقيق الثانية. * الشيخ: خطأ. * طالب: بتسهيل الثانية. * الشيخ: تسهيل الثانية، طيب. الثالث؟ * الطالب: وضع ألف بين الهمزتين. * الشيخ: إدخال ألف بين الهمزة الأولى والثانية مع التحقيق. طيب الرابعة؟ * الطالب: إدخال ألف مع تسهيل الثانية. * الشيخ: إدخال ألف بينهما مع تسهيل الثانية. طيب، اقرأ تحقيق الهمزتين بألف بينهما؟ * الطالب: ﴿آأُنْزِلَ﴾ . * الشيخ: ﴿آأُنْزِلَ﴾ . طيب، بتسهيل الثانية معها ألف؟ * الطالب: ﴿آانْزِلَ عَلَيْهِ﴾ . * الشيخ: نعم، تسهيل الثانية بدون ألف؟ * الطالب: ﴿أَاُنْزِلَ﴾ . * الشيخ: بدون ألف، طيب. ما معنى قوله تعالى ﴿أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا﴾؟ * الطالب: ينكرون هذا ويتعجبون؛ ﴿أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ﴾ هذا القرآن (...)؟ * الشيخ: يعني: وتُرِكْنَا نحن مع أن فينا من هو أشرف منه، تمام. قوله: ﴿بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي﴾ هنا ﴿بَلْ﴾ للإضراب الإبطالي أو الانتقالي؟ * طالب: للإضراب. * الشيخ: أي النوعين لأن فيه إضراب إبطالي يبطل ما سبق وفيه إضراب انتقالي؟ * طالب: انتقالي. * الشيخ: انتقالي، طيب. ما وجه اتصاله بما سبق ﴿أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا﴾ ﴿بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي﴾؟ * طالب: الاضراب هنا إبطالي لبيان أنهم في شك مما أُنْزِل على النبي ﷺ. * الشيخ: طيب الأخ يقول: انتقالي. لكن ما وجه ارتباطه بما سبق سواء كان إبطاليًّا أو انتقاليًّا؟ * الطالب: قال: إنهم لن يؤمنوا أو سوف يكونون في شك مما نزل (...). * الشيخ: يعني أنهم في شك من الذكر سواء على محمد أو على غيره. طيب، إذن دعواهم هذه تحججًا فقط. طيب، قوله: ﴿بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ﴾ ﴿لَمَّا﴾ عملها أيش؟ ماذا تعمل في مدخولها؟ * طالب: (...). * الشيخ: ما أريد معناها، إذا دخلت على شيء فماذا تعمل فيه؟ * الطالب: ﴿لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ﴾ نعم، تجزم الفعل المضارع. * الشيخ: تجزم، ولهذا فسرها المؤلف بـ (لم). طيب، تأتي (لما) في اللغة العربية على عدة أوجه؛ منها هنا أنها للنفي والجزم. * الطالب: للنفي. * الشيخ: للنفي وللجزم ، وغير؟ * الطالب: الشرطية. * الشيخ: تأتي شرطية، مثاله؟ * الطالب: وصلت البلد لما طلعت الشمس. * الشيخ: لا. * الطالب: هذه بمعنى حين. * الشيخ: طيب هذه بمعنى حين. * الطالب: أما الشرطية.. * الشيخ: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ﴾ [البقرة ٨٩] طيب. * الطالب: استثنائية. * الشيخ: مثل؟ * الطالب: ﴿إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ﴾ [الطارق ٤]. * الشيخ: أحسنت، تمام. طيب، قوله: ﴿بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ﴾ تدل على أنهم لم يذوقوا العذاب ولكن.. * الطالب: سيذوقون العذاب، يعني إما أن يذوقوه في الدنيا عاجلًا.. * الشيخ: لا، هنا تفيد النفي. لكن نفي الشيء نفيًا قاطعًا أم ماذا؟ * الطالب: نفي الشك أنهم (...). * طالب آخر: نفي المتوقع عن قرب. * الشيخ: أحسنت، نفي المتوقع عن قرب، فلما يذوقوا عذاب ولكن سيذوقونه عن قرب. في قوله: ﴿عَذَابِ﴾ إشكال، وهي أنه قد تسلط عليها الفعل ومع ذلك هي مكسورة؟ * الطالب: هو منصوب ولكنه مضاف إلى ياء المتكلم، وحذفت ياء المتكلم تخفيفًا. * الشيخ: يقول: الإعراب هنا على الباء مقدرًا. * الطالب: نعم. * الشيخ: لأنها على تقدير ياء المتكلم. قوله: ﴿أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ﴾ مناسبتها لما سبقها؟ * طالب: استنكار التعجب بمعنى هل عندهم خزائن رحمة الله حتى يعطوا النبوة لمن يريدون ويحجزونها عمن لا يريدون؟ * الشيخ: أنت تقول بهذا؟ صح؟ * طالب: نعم. * الشيخ: طيب، هل له نظير في القرآن؟ ما نظيرها في القرآن (...) لها آية تبين أكثر؟ * الطالب: ﴿وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (٣١) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ﴾ [الزخرف ٣١، ٣٢]. * الشيخ: ثم قال الله عز وجل: ﴿أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ [ص ١٠]، ﴿أَمْ﴾ هنا للإضراب فهي بمعنى (بل) والهمزة، يعني بل ألهم ملك السماوات؟! وهذا الاستفهام للنفي، يعني: ليس لهم ملك السماوات والأرض. وقوله: ﴿مُلْكُ السَّمَاوَاتِ﴾ السماوات جمع سماء، وهو في اللغة العربية: كل علا، فكل ما علاك فهو سماء، ولكن المراد به هنا السماوات المعروفة المحفوظة، السماوات والمعروف أنها سبع سموات كما صرح الله به في عدة آيات. وقوله: ﴿وَالْأَرْضِ﴾ هي هذه الأرض المعروفة، وهي سبع أرضين أيضًا كما هو ظاهر القرآن في قوله تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ﴾ [الطلاق ١٢] فإن المثلية هنا في العدد لا في الحجم ولا في الكيفية، ولكنها في العدد، وكما جاءت السنة بذلك صريحًا، في قول النبي ﷺ: «مَنِ اقْتَطَعَ شِبْرًا مِنَ الْأَرْضِ ظُلْمًا طُوِّقَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ»[[أخرجه مسلم (١٦١٠ / ١٣٧) من حديث سعيد بن زيد رضي الله عنه.]]. وقوله: ﴿وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ أي: ما بين السماء والأرض من المخلوقات العظيمة كالشمس والقمر والنجوم والكواكب وغيرها مما لا يعلمه إلا الله، ولكن جَعْلُ ما بين السماوات والأرض قسيمًا لهما يدل على أن ما بينهما مخلوقات عظيمة تقابل السماوات والأرض، طيب مِنَ الذي بينهما؟ قلنا: الشمس والقمر والنجوم والكواكب وكذلك الرياح وكذلك الغيوم، إلى ما غير ذلك مما لم نعلمه وربما يعلمه الخلق وربما لا يعلمونه. قال المؤلف: (إن زعموا ذلك) أي: أن لهم ملك السماوات، فهل يملكون ذلك؟ لا يمكن. ﴿فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ﴾ كأن المؤلف رحمه الله جعل قوله: ﴿فَلْيَرْتَقُوا﴾ جوابًا لشرطٍ مُقَدَّرٍ؛ يعني: (إن زعموا أن لهم ملك السماوات والأرض فليرتقوا في الأسباب الموصلة إلى السماء فيأتوا بالوحي فيخصوا به من شاؤوا). قوله: ﴿فَلْيَرْتَقُوا﴾ الفاء هذه واقعة في جواب شرط مُقَدَّر أي: فإن زعموا ذلك فليرتقوا، واللام لام الأمر وسُكِّنَت لوقوعها بعد فاء العطف؛ لأن لام الأمر تُسَكَّن إذا وقعت بعد الفاء و(ثُمَّ) والواو، قال الله تعالى: ﴿ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ﴾ [الحج ٢٩] هذه بعد (ثم)، ﴿وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ﴾ هذه بعد الواو، ﴿فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ﴾ [الحج ١٥] هذه بعد الفاء بخلاف لام التعليل؛ فإن لام التعليل تكون مكسورة ولو وقعت بعد هذه الحروف، كما قال الله تعالى: ﴿لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا﴾ [العنكبوت ٦٦] ولم يقل: وَلْيَتَمَتَّعوا لأن اللام للتعليل؛ فلام التعليل تكون مكسورة دائمة، ولام الأمر تكون مكسورة إلا إذا وقعت بعد الواو والفاء و(ثم)؛ ولهذا قال هنا: ﴿فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ﴾ [الحج ١٥] فاللام هنا للأمر، والظاهر أن المراد بالأمر هنا التحدي؛ يعني إن كانوا صادقين فليرتقوا في الأسباب. الأسباب جمع سبب وهو كل ما يوصل إلى المقصود، وهذه الآية نظير قوله تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ﴾ [الحج ١٥]، أي بشيء يوصله إلى السماء كالحبل ﴿ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ﴾. فهنا قال: ﴿فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ﴾ أي: فليجعلوا أسبابًا يرتقون بها يصلون إلى السماء، ومعلوم أن هذا التحدي لا يمكن لهم أن يحققوه. ثم قال: (الموصلة إلى السماء فليأتوا بالوحي فيخصوا به مَن شاؤوا) بناء على قولهم: ﴿أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا﴾ يعني: كيف أُنْزَل؟ قالوا: إذن ارتقوا إلى السماء وأنزلوا الوحي وخُصُّوا به من شئتم، طيب. ثم قال المؤلف: (و(أن) في الموضعين بمعنى همزة الإنكار) الإنكار الذي بمعنى النفي، يعني ليس عندهم خزائن الله وليس لهم ملك السماوات والأرض، بل هم خَلِيُّون من هذا كله. ثم قال تعالى: (﴿جُنْدٌ مَا﴾ [ص ١١] أي جند حقير ﴿هُنَالِكَ﴾ أي: في تكذيبهم لك ﴿مَهْزُومٌ﴾ صفة جند ﴿مِنَ الْأَحْزَابِ﴾ صفة جند أيضًا). ﴿جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ﴾ ﴿جُنْدٌ﴾ خبر مبتدأ محذوف، التقدير هم جند، و﴿مَا﴾ نكرة واصفة، لأن ﴿مَا﴾ لها عدة معان، لها عشرة معان جُمِعَت في قول الشاعر: ؎مَحَامِلُ (مَــــا) عَشْـــــــرٌ إِذَا رُمْتَعَـــــــدَّهَا ∗∗∗ فَحَافِظْ عَلَى بَيْتٍ سَلِيمٍ مِنَ الشِّعْرِ؎سَتَفْهَمُ شَرْطَ الْوَصْلِ فَاعْجَبْ لِنُكْرِهَا ∗∗∗ بِكَفٍّ وَنَفْيٍ زِيـــــــــدَ تَعْظِيــــمُمَصْدَرِ من حفظهما؟ * طالب: ؎مَحَامِلُ (مَــــا) عَشْـــــــرٌ إِذَا رُمْتَعَـــــــدَّهَا ∗∗∗ فَحَافِظْ عَلَى بَيْتٍ سَلِيمٍ مِنَ الشِّعْرِ؎سَتَفْهَمُ شَرْطَ الْوَصْلِ فَاعْجَبْ لِنُكْرِهَا ∗∗∗ بِكَفٍّ وَنَفْيٍ زِيـــــــــدَ تَعْظِيــــمُمَصْدَرِ * الشيخ: طيب، نبدأ (ستفهم) يعني استفهامية، (شرط) شرطية، (الوصل) موصولة، (فاعجب) تعجبية، (لنكرها) نكرة سواء واصفة أو موصوفة، (بكف) كافَّة، و(نفي) نافية، (زيد) زائدة، (تعظيم) للتعظيم، (مصدر) مصدرية.طيب. هنا ﴿جُنْدٌ مَا﴾ قال المؤلف: (حقير) فعلى هذا تكون نكرة واصفة أو موصوفة؟ واصفة يعني موصوفًا بها؛ لأن ﴿مَا﴾ هنا صفة لجند، لكن المراد بهذا التحقير، والدليل على أن ذلك للتحقير قوله: ﴿مَهْزُومٌ﴾ والمهزوم حقير ولا خطير؟ حقير، طيب. وقوله: ﴿هُنَالِكَ﴾ (هنا) إشارة إلى المكان، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب. ﴿هُنَالِكَ﴾ أي: في ذلك المكان، يعني المؤلف يقول: (أي في تكذيبهم لك) فجعل الظرفية المكانية هنا التكذيب، ولكن يبدو أن الأمر على خلاف ما قال المؤلف رحمه الله، وأن المشار إليه المكانُ الحسي لا المكان المعنوي؛ أي أنهم إن ارتقوا في الأسباب فسوف يُهْزَمون، فيكون ﴿هُنَالِكَ﴾ أي في المكان الذي يرتقون إليه، فإذا قُدِّر أنهم ارتقوا إلى السماء فهل ستكون لهم الغلبة؟ أبدًا، بالعكس حتى لو ظنوا أنهم وصلوا إلى السماء وصعدوا إلى السماء أنهم انتصروا وأنهم صار لهم العزة فالأمر بالعكس، هذا هو الذي يظهر من الآية الكريمة، أما جعل الظرف هو التكذيب فهذا بعيد، بل التكذيب سبب للخذلان. ﴿جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ﴾ يقول المؤلف: (صفة جند) ثانية ولَّا ثالثة؟ ثانية، والأولى ﴿مِنَ الْأَحْزَابِ﴾ صفة جند أيضًا يعني: جند من الأحزاب مهزوم، واعلم أنه إذا تكررت الصفة للنكرة فإن ما بعد الصفة الأولى يجوز أن يكون حالًا، نعم، إذا تكررت الصفة فما بعد الصفة الأولى يجوز أن يكون حالًا؛ فإذا قلت: مررت برجلٍ عظيمٍ كريمٍ شجاعٍ جاز لك أن تقول: مررت برجل عظيمٍ كريمًا شجاعًا نعم، طيب؛ ولكن أيهما أولى؟ الأولى أن تكون صفة أي: نعتًا، لتناسق الكلام وكونه على وتيرة واحدة، فهنا عندنا ثلاثة صفات للجند ﴿ما _ مهزوم _ من الأحزاب﴾ ما الذي يجوز فيه أن يكون منصوبًا على الحال؟ ﴿مَهْزُومٌ﴾ لكن لا يمكن هنا؛ لأن حركة الإعراب ظهرت على أنه مرفوع صفة وكذلك ﴿مِنَ الْأَحْزَابِ﴾ مثله، يعني يجوز أن يكون صفة وهو الأصل، ويجوز أن نجعله في موضع نصب على الحال. (أي كالأجناد من جنس الأحزاب المتحزبين على الأنبياء قبلك، وأولئك قد قُهِروا وأهلكوا فكذا نهلك هؤلاء) نعم، يعني أن هؤلاء جند من الأجناد الأخرى، والأجناد الأخرى الأحزاب الذين كَذَّبوا الرسل ماذا كان مآلهم؟ كان مآلهم الهلاك والدمار، وقد مر علينا في أول السورة ﴿كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ﴾ [ص ٣]. ثم بدأ الله الإشارة إلى قصة أولئك الأجناد أو أولئك الأحزاب؛ فقال عز وجل: ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ﴾ [ص ١٢] قبل من؟ قبل الذين كَذَّبوك من قريش ومن اليهود وغيرهم. ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ﴾، ونوح هو أول رسول أرسله الله عز وجل بدلالة القرآن والسنة، قال الله تعالى: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ﴾ [النساء ١٦٣]، وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ﴾ [الحديد ٢٦] ولو كان أحد قبل نوح لخرج من ذريتهما، وبه نعرف أن ما يوجد من شجرة الأنبياء التي كُتِبَ فيها أن إدريس قبل نوح خطأ، فإن إدريس بعد نوح بلا شك. أما السنة فصريحة في ذلك؛ فإنه ثبت في حديث الشفاعة الطويل أن الناس يأتون إلى نوح فيقولون له: أنت أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض، وهذا صريح وبه أيضًا نعرف أن ما يُذْكَر في كتب التاريخ من أن إدريس جد لنوح فهو خطأ بلا شك، فإدريس فيما يظهر لنا -والعلم عند الله- من أنبياء بني إسرائيل. طيب ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ﴾ نوح عليه الصلاة والسلام بُعِثَ إلى البشر حين اختلف الناس، وكان الناس في الأول على ملة واحدة فاختلفوا ﴿فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾ [البقرة ٢١٣]. أرسله الله إلى قومه ﴿فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا﴾ وهو يدعوهم إلى الله، ويأتيهم بالآيات ويتحداهم، ولكنهم -والعياذ بالله- كلما دعاهم ازدادوا عُتوًا ونفورًا ﴿وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا﴾ [نوح ٧]. ولما أَذِن الله تعالى بهلاكهم دعا نوح، دعا ربه ﴿أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ﴾ [القمر ١٠] فانتصر الله له ﴿فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (١١) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (١٢) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (١٣) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا﴾ [القمر ١١ - ١٤]. وأمره الله أن يحمل معه من آمن من قومه، قال الله تعالى: ﴿وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ﴾ [هود ٤٠]. فتصوروا أيها الدعاة، كيف لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عامًا وهو رسول؟ والناس لم يَكثُروا بعد، ومع ذلك ما آمن معه إلا قليل، حتى أحد نسله قد كفر به وهو ابنه الذي كان من المغرقين. قال المؤلف رحمه الله: (تأنيث قوم باعتبار المعنى) هل (قوم) مؤنث أو الفعل الذي كان القوم فاعلًا له هو الذي يؤنث؟ نعم نقول: هكذا، الفعل هو الذي أُنِّث ﴿كَذَّبَتْ﴾، أما قوم فليس فيها تاء تأنيث، لكن من المعلوم أن الفعل إذا أُنث فالفاعل مؤنث؛ يعني: معناه إذا وقع الفاعل لفعل مؤنث فهو مؤنث، لكن هذا اللفظ هل هو مؤنث لفظًا أو باعتبار المعنى؟ قال المؤلف: (باعتبار المعنى). وهنا نسأل كيف يكون مؤنثًا باعتبار المعنى؟ لأن ﴿قَوْمُ﴾ جماعة، وكل جَمْعٍ يجوز تأنيثه، قال ابن مالك رحمه الله: ؎وَالتَّاءُ مَعْ جَمْعٍ سِوَى السَّالِمِ مِنْ ∗∗∗ مُذَكَّرٍ كَالتَّاءِ مَعْ إِحْدَىاللَّبِنْ (إحدى اللبن) هي اللبنة، فلبنة يجوز فيها التذكير والتأنيث، لكن التأنيث أرجح، كذلك جميع الجموع ما عدا جمع المذكر السالم يجوز فيه وجود التاء في الفعل. قال: ﴿وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ﴾ [ص ١٢] ﴿عَادٌ﴾ قوم هود كانوا بالأحقاف وكانوا ذوي شدة وقوة من أشد الناس قوة، فأُعجبوا بقوتهم واستكبروا وعصوا رسولهم عليه الصلاة والسلام، وافتخروا بما أعطاهم الله من القوة كما قال الله عنهم: ﴿فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً﴾. قال الله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً﴾ [فصلت ١٥]. فتأمل قوله: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ﴾ لأن فيها إشارة إلى أنهم ضعفاء أمام خالقهم، ولم يقل: أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات، قال: ﴿خَلَقَهُمْ﴾، فهم مخلوقون، والخالق أعلى مِنَ المخلوق وأشد منه قوة ﴿هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ﴾ فأهلكهم الله، وعلى حين طمع في رحمته أرسل الله عليهم ريحًا عظيمًا، ولما رَأَوْا ما تحمله الريح من الرمال العظيمة ظنوا أن ذلك سحاب، لما رأوا هذا قالوا: ﴿هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا﴾. فقال الله تعالى: ﴿بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (٢٤) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا﴾ [الأحقاف ٢٤، ٢٥] فعصفت بهم الريح العقيم حتى كانت تحمل الواحد منهم إلى جو السماء، ثم تقلبه على رأسه فصاروا كأعجاز نخل خاوية، (أعجاز نخل) يعني: أصولها وجذوعها، (خاوية) منتكسة، فأصبحوا لا يُرى إلا مساكنهم. طيب ومع ذلك ما آمن معه إلا نفر قليل. قال: ﴿وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ﴾ [ص ١٢] كان يَتِدُ لكل من يغضب عليه أربعة أوتادًا يشد إليها يديه ورجليه ويعذبه، شوف فرعون الذي أُرْسِلَ إليه موسى، وكان ملكًا قاهرًا لمصر جبارًا عنيدًا، استعبد أهلَ مصر، وقال لهم: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾ [النازعات ٢٤] وسَخِرَ بموسى وقال لهم: ﴿أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ﴾ [الزخرف ٥٢]، وفخر بما أعطاه الله تعالى من الأنهار قال لهم: ﴿أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ [الزخرف ٥١]، وكذب موسى وحارب موسى لكن ليس بالسلاح، بل بما جَمَع له من السحرة؛ لأنه أوهم الناس أن موسى كان ساحرًا، قال: هذا ساحر؛ لأنه يضع العصا في الأرض فتكون حية، ويدخل يده في جيبه فتخرج بيضاء من غير سوء، هذا ساحر، وجمع السحرة وألقوا بما عندهم من السحر العظيم الذي أرهب الناس حتى موسى عليه الصلاة والسلام رهب وخاف فقال الله تعالى: ﴿قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (٦٨) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا﴾ [طه ٦٨، ٦٩] فأيده الله وألقى ما في يمينه العصا فصارت حية عظيمة التهمت الحبال والعصي التي مَلَؤوا بها الأرض، وصار يُخَيَّل للناس أنها حيات وثعابين تسعى، الْتَهَمَتْهَا كلها، وسبحان الله كيف هذه الحية التي كانت عصا تلتهم كل هذا؟ هذا من آيات الله. فلما رأى السحرة هذا الأمر دُهِشُوا وعلموا أن هذا ليس بساحر؛ لأن الساحر لا يمكن أن يأتي بمثل هذا الأمر، بل هو حقيقة وهو آية أيد الله بها موسى فآمنوا كلهم، كل السحرة، وسجدوا لله ذلًّا وعبادة، وقالوا معلنين: ﴿آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (١٢١) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ﴾ [الأعراف ١٢١، ١٢٢] فماذا يكون تأثير هؤلاء القوم الذين انتصر بهم فرعون بين الناس؟ سيكون تأثيرُهم بين الناس كبيرًا وعظيمًا، أرأيتم أن أحدًا من الملوك جمع أكبر ما عنده من المهندسين في حشد عظيم، ثم أقروا وأعلنوا لخصوم هذا الملك، ماذا يكون شعور الناس؟ أجيبوا، سيكون شعورهم أن الملك مهزوم؛ ولهذا لما حصل إيمان السحرة لجأ فرعون إلى القوة والقهر وهدَّدَهم بأن يقطِّع أيديهم وأرجلهم من خلاف ويصلبهم على جذوع النخل حتى يذوقوا العذاب، ولكنهم بإيمانهم ﴿قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (٧٢) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ [طه ٧٢، ٧٣] فصمدوا أمام هذا الطاغية العنيد حتى صاروا في أول النهار من السحرة الكفرة، وصاروا في آخر النهار من المؤمنين البررة، ما الذي حصل من فرعون؟ بقي مستمرًا على طغيانه والعياذ بالله حتى أهلكهم الله بالغرق، بجنس ما كان يفتخر به على قومه وعلى موسى حين قال: ﴿وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي﴾ [الزخرف ٥١] فأُهْلِك بالماء الذي كان يفتخر به. وقول المؤلف: ﴿وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ﴾ [ص ١٢] (كان يَتِدُ) إلى آخره، الذي يظهر أن هذا ليس سبب الوصف بـذي الأوتاد، وإنما السبب الحقيقي أن المراد بالأوتاد القوة التي ثبت بها ملكه كأوتاد الخيمة تُثَبَّت بها الخيمة، ولا يبعد أن يكون من جبروته أن يضع أوتادًا أربعة يصلب عليها الإنسان ويعذبه، ما يبعد هذا، لكن هذا لا يمكن أن يمتدح به فرعون على أنه ذو قوة، بل الصحيح أن المراد بالأوتاد هنا أيش؟ ما كان عليه من القوة التي ثبت بها ملكه كأوتاد الخيمة تُثَبَّت بها الخيمة. * الطالب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (١٢) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (١٣) إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (١٤) وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (١٥) وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (١٦) اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ [ص ١٢ - ١٧]. * الشيخ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تبارك وتعالى: ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ﴾. وقبل ما نأخذ المناقشة في قوله: ﴿أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ [ص ١٠] لنسأل عن (أم) هنا. * طالب: الهمزة للإضراب. * الشيخ: هل هي منقطعة أم متصلة؟ * طالب: منقطعة، مقدرة بـ (بل) والهمزة. * الشيخ: منقطعة، مقدرة بـ بل والهمزة. ما الفرق بين المتصلة والمنقطعة؟ * الطالب: المنقطعة لا تذكر بين شيئين متعادلين كما تكون بمعنى (بل). * الشيخ: والمتصلة؟ * الطالب: والمتصلة تذكر بين شيئين متعادلين. * الشيخ: هذا فرق. * الطالب: وتكون بمعنى (أو). * الشيخ: الفرق الثاني أن المتصلة بمعنى (أو) والمنقطعة بمعنى (بل). طيب، ماذا يفيد قوله: ﴿وَمَا بَيْنَهُمَا﴾؟ * طالب: أن ما بين السموات والأرض من المخلوقات جعله الله قسيمًا للسماوات والأرض (...). * الشيخ: مما يدل على أن بينهما أشياء عظيمة، تمام، اللام في قوله: ﴿فَلْيَرْتَقُوا﴾ اللام لام أيش؟ * الطالب: ﴿فَلْيَرْتَقُوا﴾ اللام لام الأمر لكن أتي بها للاستهزاء بهم. * الشيخ: اللام لام الأمر، لكن ما المراد بالأمر هنا؟ * الطالب: الاستهزاء بهم (...). * طالب آخر: اللام لام الأمر والفاء جواب الشرط. * الشيخ: لكن ما المراد بالأمر؟ * طالب: استهزاء بهم. * طالب آخر: التحدي. * الطالب: المراد بالأمر التحدي. * الشيخ: المراد بالأمر التحدي، إن كانوا صادقين فليرتقوا بالأسباب، طيب، والفاء؟ * الطالب:(...). * الشيخ: في جواب شرط مقدر، والتقدير؟ * الطالب: إن كانوا صادقين فليرتقوا في الأسباب. * الشيخ: إن كانوا صادقين أو إن كان لهم ملك السماوات والأرض فليرتقوا في الأسباب، طيب، ما المراد بالأسباب؟ * الطالب: الأسباب هنا ما يوصل إلى السماء. * الشيخ: إي، ما المراد بها؟ * الطالب: كل ما يوصل إلى.. * الشيخ: إي لكن ما المراد بها هنا؟ * الطالب: كل ما يوصل إلى السماء. * الشيخ: الأسباب الموصلة إلى السماء، طيب هل هناك دليل يؤيد ما قلت؟ نعم. * طالب: قول الله سبحانه وتعالى: ﴿مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ﴾ [الحج ١٥]. * الشيخ: أحسنت، قوله تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ﴾ طيب. قوله تعالى: ﴿جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ﴾ [ص ١١] إعراب (جند)؟ * الطالب: ﴿جُنْدٌ﴾ خبر لمبتدأ محذوف. * الشيخ: التقدير؟ * الطالب: هم جند. * الشيخ: طيب و﴿مَا﴾ ما المراد بها؟ * الطالب: (...). * طالب آخر: نكرة واصفة. * الشيخ: والتقدير؟ * الطالب: التقدير أنهم مهزومون، أنهم هنالك مهزمون. * الشيخ: أنت قلت: إن ﴿مَا﴾ نكرة واصفة، كيف تقدرها؟ * الطالب: التقدير أن هؤلاء جند مهزومون. * طالب: (...) حقير. * الشيخ: تقدر بالحقير؛ أي: جند حقير هنالك. طيب، المشار إليه في قوله: ﴿هُنَالِكَ﴾؟ * الطالب: المكان حسي. * الشيخ: وعلى ما قال المؤلف؟ * طالب: المكان المعنوي هو التكذيب. * الشيخ: المكان معنوي وهو التكذيب، والقول الثاني بالمكان حسي؛ أي: إنهم إن ارتقوا فهم جند حقير مهزومون هنالك. طيب ﴿مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ﴾ كيف تعرب مهزوم؟ * الطالب: صفة. * الشيخ: صفة لأيش؟ * الطالب: لـ ﴿جُنْدٌ﴾. * الشيخ: ومن الأحزاب؟ * الطالب: صفة. * الشيخ: صفة؟ * الطالب: إما أن نقول: صفة ثانية، وإما أن نقول: حال. * الشيخ: صفة ثانية أو ثالثة؟ * الطالب: ثالثة. * الشيخ: ثالثة، لأن (ما) الأولى. * الطالب: الأولى. * الشيخ: ومهزوم؟ * الطالب: صفة ثانية. * الشيخ: طيب، قوله: ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ﴾ مَن نوح؟ * طالب: نبي الله. * الشيخ: آخر الأنبياء. * الطالب: لا، أول الأنبياء. * الشيخ: ما دليلك على أنه أول الأنبياء من كتاب الله؟ * طالب: قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ﴾ [النساء ١٦٣]. * الشيخ: الشاهد من الآية؟ * الطالب: ﴿إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ﴾. * الشيخ: دليل آخر؟ * طالب: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ﴾ [الحديد ٢٦]. * الشيخ: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ﴾.طيب. دليل من السنة؟ * الطالب: قوله عليه الصلاة والسلام فيما ثبت في حديث الشفاعة: (...) سيأتون إلى نوح عليه السلام ويقولون له: أنت أول الرسل.. * الشيخ: «أَنْتَ أَوَّلُ رَسُولٍ أَرْسَلَهُ اللَّهُ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ»[[جزء من حديث الشفاعة الطويل الذي أخرجه الشيخان: البخاري (٤٤٧٦)، ومسلم (١٩٣/٣٢٢) من حديث أنس رضي الله عنه، ولفظه «يجتمع المؤمنون يوم القيامة، فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا، فيأتون آدم فيقولون: أنت أبو الناس، خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء، فاشفع لنا عند ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا، فيقول: لست هناكم، ويذكر ذنبه فيستحي، ائتوا نوحًا، فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض ...» الحديث.]]. طيب، وبناء على هذا نستفيد أن من قال: إن إدريس أحد أجداد نوح.. * الطالب: أنه خطأ. * الشيخ: خطأ وغلط. تمام. * الشيخ: كم بقي نوح في قومه؟ * الطالب: ألف سنة إلا خمسين عامًا. * الشيخ: ألف سنة إلا خمسين عامًا، والنتيجة؟ * الطالب: ما آمن معه إلا قليل. * الشيخ: ما آمن معه إلا قليل، أحسنت، وكفر ممن كفر به أحد أبنائه. طيب نأخذ من هذا عبرة سيأتينا إن شاء الله في الفوائد. * الشيخ: عاد؟ * الطالب: قوم هود. * الشيخ: ما هو وصفهم الذي تميزوا به عن غيرهم؟ * الطالب: كانوا شديدي القوة وتكبروا بهذه القوة، وقالوا: من أشد منا قوة؟ * الشيخ: وبماذا هلكوا؟ * الطالب: أهلكهم الله بالريح. * الشيخ: بالريح. طيب، قوله تعالى: ﴿وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ﴾ ما معنى (ذو الأوتاد)؟ * الطالب: ذو الجبال. * الشيخ: لا، ما هي. * الطالب: ذكر المؤلف أنها (...). * الشيخ: أنها أوتاد يدقها في الأرض ويربط بها أيدي وأرجل مَنْ عصاه. * الطالب: ولكن قلنا: أن الأولى أنها تُفَسَّر بقوة. * الشيخ: بقوة، يعني: بقوة وشدة الملك والسلطان. * الطالب: كما يقال في أوتاد الخيمة. * الشيخ: كما يقال في أوتاد الخيمة التي تمسكها وتثبتها. قال الله عز وجل: ﴿وَثَمُودُ﴾ معطوفة على ﴿قَوْمُ نُوحٍ﴾ يعني: وكذبت قبلهم ثمود أصحاب صالح، وهم في مكان يقال له: الحجر، وتُسَمَّى الآن بمدائن صالح. أرسله الله سبحانه وتعالى إليهم ولكنهم كفروا به ولم يؤمن معه إلا قليل، وآتاهم الله تعالى آية عظيمة وهي ناقة يحلبونها يومًا وتشرب الماء يومًا آخر، وقيل: إن الواحد منهم يأتي إليها فيسقيها ويأخذ من لبنها بقدر ما أسقاها، فالله أعلم. المهم أن هؤلاء القوم عندهم قوة يتخذون من الجبال بيوتًا، ولا تزل آثارهم باقية إلى اليوم، وقد مر النبي ﷺ بها وهو ذاهب إلى تبوك فقَنَّع رأسه ﷺ؛ يعني: غطاه وأسرع في السيرة، وقال: «لَا تَدْخُلُوا عَلى هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الْمُعَذَّبِينَ إِلَّا وَأَنْتُمْ بَاكُونَ، فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا بَاكِينَ فَلَا تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ أَنْ يُصِيبَكُمْ مَا أَصَابَهُمْ»[[متفق عليه؛ البخاري (٤٣٣)، ومسلم (٢٩٨٠ / ٣٨) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما ولفظه: قال رسول الله ﷺ لأصحاب الحجر: «لا تدخلوا على هؤلاء القوم المُعَذَّبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم؛ أن يصيبكم مثل ما أصابهم».]]. قال: ﴿وَقَوْمُ لُوطٍ﴾ لوط ابن أخي إبراهيم، أرسله الله تعالى إلى قومه وكانوا قد ارتكبوا الفاحشة -والعياذ بالله- فكانوا يأتون الرجال ويدعون النساء ووبخهم لوط على ذلك، وقال: ﴿أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (١٦٥) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ﴾ [الشعراء ١٦٥، ١٦٦]، فأنتم الآن تركتم الحلال إلى الحرام، وتركتم النزيه إلى الخسيس، ولكنهم أَبَوْا واستكبروا حتى إن زوجته كانت منهم فأمره الله تعالى أن يسري بأهله، وأرسل على قومه حجارة من سجيل حتى جعل عاليها سافلها، وهذا من المناسبة بوضوح؛ فإن هؤلاء لما انقلبوا عن الحقيقة ونزلوا إلى أسفل الأخلاق جعل الله أعالي قريتهم جعلها سافلها. واختلف العلماء في معنى هذه؛ فقال بعضهم: إن الأرض حملت ثم نُكِّسَت فصارت أعاليها سافلها، وقال بعضهم: بل إنها تهدمت من الحجارة التي أرسلت إليهم حتى صار أعاليها سافلها. قال: ﴿وَأَصْحَابُ الايْكَةِ﴾ [ص: ١٣] ﴿وَأَصْحَابُ الايْكَةِ﴾ أو ﴿الْأَيْكَةِ﴾ فيها قراءتان. ﴿الْأَيْكَةِ﴾ قال المؤلف: (الغيظة وهم قوم شعيب عليه السلام) الغيظة هي الأشجار الملتف بعضها إلى بعض، وكانوا في نعيم ولكنهم عَصَوا شعيبًا وسَخِروا منه وقالوا: ﴿يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ﴾ [هود ٩١] ﴿قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ﴾ [هود ٨٧] يسخرون به ﴿فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ﴾ [الشعراء ١٨٩]. قال أهل العلم: إنهم أصيبوا بحر شديد جدًّا فأرسل الله تعالى غمامة لها ظِلٌّ فتَنَادَوْا إليها يستظلون بظلها فكان ظلها أكثر إحراقًا من الشمس والعياذ بالله، فأتوا من حيث أَمِنُوا. يقول الله عز وجل في هؤلاء: ﴿أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ﴾ [ص ١٣] يعني أولئك الأحزاب العظماء الذين طغوا واستكبروا وكذبوا الرسل، فالإشارة هنا بصيغة البُعد إما لدُنُوِّ منزلتهم وبعدها عن الصواب، وإما لعلوها باعتبار حالهم التي كانوا عليها من الطغيان والعتو؛ وذلك لأن (أولاء) لا يشار بها إلا إلى الشيء البعيد عُلوًّا أو نزولًا أو مساحة. ﴿أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ﴾ جمع (حزب)، والحزب هو الطائفة، قال الله تعالى: ﴿كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ [المؤمنون ٥٣] أي كل طائفة. ﴿أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ﴾ يحتمل أن تكون مبتدأ وخبرًا؛ يعني: أولئك هم الأحزاب الذين كذبوا الرسل فأهلكناهم، ويحتمل أن تكون ﴿الْأَحْزَابُ﴾ صفة لـ﴿أُولَئِكَ﴾. وقوله: ﴿إِنْ كُلٌّ﴾ [ص ١٤] الجملة خير المبتدأ. ﴿إِنْ﴾ قال: (ما) إي (إن) نافية، وقد سبق لنا قريبًا أن (إن) تُسْتَعمل في اللغة العربية على وجوه: النفي، والشرط، ومخففة من الثقيلة، والزائدة، قال: ﴿إِنْ كُلٌّ﴾، ما كُلٌّ من الأحزاب ﴿إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ﴾ ﴿كُلٌّ﴾ من هؤلاء الأحزاب كذبوا الرسل، والرسل جمع رسول. وهل الرسل التي جُمِعَت موزعة على الجمع توزيع أفراد أو توزيع كل؟ المعنى أنهم أحزاب ﴿إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ﴾ يعني: كل حزب كذب رسوله، وعلى هذا فالجمع مُوَزَّع على الجمع الذي قبله توزيع أفراد، أو هو توزيع جملة أي كل حزب كذب جميع الرسل. المؤلف مشى على الثاني: قال: (لأنهم إذا كذبوا واحدًا فقد كذبوا جميعهم لأن دعوتهم واحدة وهي دعوة التوحيد). فمشى رحمه الله على أن الجمع موزع على الأفراد توزيع جمع؛ يعني كل حزب كذب جميع الرسل، ويؤيد ما ذهب إليه رحمه الله قول تعالى: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ﴾ [الشعراء ١٠٥] فإن ذكر قوم نوح كذبوا المرسلين، ومن المعلوم أنه لم يُبْعَث رسول قبل نوح حتى نقول: إنهم كذبوا مَنْ سبق، وعلى هذا فيكون ما ذهب إليه المؤلف أرجح مما يحتمله اللفظ احتمالًا مرجوحًا وهي أن يكون الجمع موزعًا على ما قبله توزيع أفراد ﴿إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ﴾. وقوله: ﴿إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ﴾ يعني سبحانه وتعالى باعتبار الجملة؛ لأن بعض القوم آمنوا لكنهم كانوا قلة، والقلة مع الكثرة تنغمر فيها فلهذا قال: (﴿إِنْ كُلٌّ﴾ من الأحزاب ﴿إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ﴾ )، ويحتمل أن يقال: إنه لا حاجة إلا هذا التقدير فلا حاجة أن نقول: إن هذا باعتبار الكثير من هؤلاء الأقوام؛ لأنه قال: ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ﴾ فيكون قوله: ﴿إِنْ كُلٌّ﴾ أي: من المكذبين، ﴿إِنْ كُلٌّ﴾ يعني من هؤلاء المكذبين ﴿إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ﴾، وعلى هذا فلا حاجة إلى الاستثناء، إلى استثناء الذين آمنوا، وإلى القول: بأن الآية جاءت على الأغلب. قال الله تعالى: ﴿إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ﴾ الرسل الذين أُرْسِلوا إليهم، وهنا نحتاج إلى الفرق بين الرسل والنبيين فنقول: أولًا: كُلُّ مَنْ ذُكِرَ في القرآن من النبيين فهو رسول ودليل ذلك قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ﴾ [غافر ٧٨]، وعلى هذا فيكون كُلُّ مَنْ ذُكِرَ في القرآن من الرسل؛ لأنهم قصوا علينا، وكل من قُصَّ علينا فهو رسول. أما على سبيل العموم فإن العلماء يقولون على المشهور عندهم: إن الرسول من أوحي إليه بشرع، وأُمِرَ بتبليغه والدعوة إليه؛ لأنه رسول، والرسول ما عليه إلا البلاغ ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾ [المائدة ٦٧]، وأما النبي: فهو الذي أوحي إليه بوحي لكن لم يؤمر بالتبليغ، فيكون كالمجدد من هذه الأمة، فالمجدد من هذه الأمة صالح في نفسه ولكنه يدعو حسب استطاعته، فالنبي لم يُكَلَّف بالرسالة، وإنما أوحي إليه بما يصلحه ويصلح به غيره لا على سبيل الإلزام بالرسالة. وذهب بعض أهل العلم إلى أن الفرق أن النبي هو مَنْ جَدَّد شَرْع مَنْ قبله ولم يَسْتَقِلَّ بوحي فهو يأتي بالشريعة لسابقة، وأما الرسول فهو الذي يُجَدِّد له الوحي ويأتي بشريعة مستقلة. وهذا القول قد نقول: إنه جيد لقوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا﴾ [المائدة ٤٤]، ولكنه ينتقض بآدم عليه الصلاة والسلام فإن آدم نبي ولم يكن تابعًا لشريعة سابقة، والقول إذا انتقض فهو ضعيف غير مُعْتَمَدٍ عليه. قال: ﴿إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ﴾ [ص ١٤] ﴿حَقَّ﴾: أي: وَجَب، ﴿حَقَّ﴾ يعني: وجب وثبت. وقوله: ﴿عِقَابِ﴾ فاعل (حَقَّ) مرفوع وعلامة رفعة الكسرة الظاهرة على آخره، لأن الاسم المفرد يرفع بالكسرة! * طلبة: ليس بصحيح. * الشيخ: ما هو صحيح؟ إذن كيف جاءت هذه الكسرة؟ هذه الكسرة جاءت من أجل مناسبة الياء المحذوفة للتخفيف، وتقدير الكلام: (فحق عقابي) لكن حُذِفَت الياء للتخفيف، وعلى هذا فنقول: ﴿عِقَابِ﴾ فاعل مرفوع بضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة المناسبة. ﴿فَحَقَّ عِقَابِ﴾ العقاب هو المؤاخذة على الذنب؛ ولهذا سُمِّي عقابًا لأنه يأتي عقب الجريمة، فكلُّ عذاب على جريمة فإنه يُسَمَّى عقابًا. هذا العقاب الذي أنزله الله بهم هو عقاب مَبْنِيٌّ على العدل؛ لأن الله تعالى أضافه إلى نفسه فقال: (حق عقابي)، ونحن نعلم أن الرَّبَّ عز وجل لا يظلم أحدًا أبدًا لا يزيد في سيئاته ولا وينقص من حسناته، لكن لو كان العقاب من غير الله لكان يمكن أن يزداد على الجريمة، أما العقاب الذي أضافه الله إلى نفسه فهو عقاب عدل. قال الله تعالى: ﴿وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ﴾ [ص ١٥]. ﴿وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ﴾ ﴿يَنْظُرُ﴾ إذا تعدت بـ(إلى)فهي نظر العين، وإن جاءت متعدية بنفسها صارت بمعنى الانتظار، وإن جاءت مطلقة فهي على حسب السياق، يعني: جاءت غير مقيدة بحرف جر ولا مقيدة بمفعول فهي على حسب السياق، مثال التي قُيِّدَت بـ(إلى): قوله تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (٢٢) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ [القيامة ٢٢، ٢٣] فإن ﴿نَاظِرَةٌ﴾ هنا بمعنى باصرة بالعين؛ لأنها تعدت بـ(إلى)، وأُضيفت إلى الوجوه أيضًا التي هي مكان العيون، وإذا جاءت متعدية بنفسها فإنها تكون بمعنى الانتظار، ومنه قوله تعالى: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا﴾ [محمد ١٨]. وقد تأتي متعدية ويكون المراد بها نظر العبرة. ﴿وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ﴾ [ص ١٥] ﴿وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ﴾ ﴿يَنْظُرُ﴾ إذا تعدت بـ(إلى) فهي نظر العين، وإن جاءت متعدية بنفسها صارت بمعنى الانتظار، وإن جاءت مطلقة فهي على حسب السياق؛ يعني إن جاءت غير مقيدة بحرف جر، ولا مقيدة بمفعول فهي على حسب السياق، مثال التي قُيدت بـ(إلى) قوله تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ [القيامة ٢٢، ٢٣]. فإن ﴿نَاظِرَةٌ﴾ هنا بمعنى (باصرة بالعين)؛ لأنها تعدت بـ(إلى) وأُضيفت إلى الوجوه أيضًا التي هي مكان العيون، وإذا جاءت متعدية بنفسها فإنها تكون بمعنى الانتظار، ومنه قوله تعالى: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا﴾ [محمد ١٨]. وقد تأتي متعدية ويكون المراد بها النظر العِبرة والتفكر كما في قوله تعالى: ﴿قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [يونس ١٠١]. وإن جاءت مطلقة غير مُعدَّاة بنفسها، ولا بـ(إلى) فهي بحسب السياق، مثل قوله تعالى: ﴿عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ﴾ [المطففين ٢٣]، منهم من قال: ﴿يَنْظُرُونَ﴾ بمعنى ينتظرون النعيم الذي يُؤتَى بهم إليهم، ومنهم من قال: ﴿يَنْظُرُونَ﴾ أي ينظرون إلى ما أنعم الله به عليهم، ومنه النظر إلى وجه الله. هنا ﴿وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً﴾ متعدية بأيش؟ * طالب: بنفسها. * الشيخ: بنفسها؛ إذن هي بمعنى (ينتظر). يعني ما ينتظر هؤلاء، والمشار إليهم أهل مكة أي كفارها، كما قال المؤلف: (أي كفار مكة) ﴿إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً﴾ ﴿صَيْحَةً﴾ يُصاح بهم ﴿وَاحِدَةً﴾ لا تُعاد مرة أخرى كما قال الله تعالى: ﴿بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرّ﴾ [القمر ٤٦]، وقال أيضًا: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ﴾ [القمر ٤٩-٥٠]، وقال: ﴿إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ﴾ [يس ٥٣]، فالصيحة هي التي تكون يوم القيامة كما قال المؤلف: (هي نفخة القيامة تحل بهم العذاب) وهي الساعة، هذه الصيحة الواحدة. (﴿مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ﴾ بفتح الفاء وضمها أي: رجوع) ﴿مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ﴾ ﴿مَا﴾ نافية، وليست هنا حجازية لاتفاق التميميين والحجازيين على عدم عملها؛ لأن الحجازيين يُعملونها بشرط الترتيب؛ أي تقدم الاسم على الخبر، وهنا لم يتقدم الاسم على الخبر بل تأخر، فهي إذن نافية. و﴿لَهَا﴾ جار ومجرور خبر مقدم ﴿مِنْ فَوَاقٍ﴾، ﴿مِنْ﴾ حرف جر زائد للتأكيد، و﴿فَوَاقٍ﴾ مبتدأ مرفوع بضمة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، أما من حيث التصريف فقال المؤلف: (إنها بفتح الفاء وضمها) ﴿فَوَاقٍ﴾ و﴿فُوَاقٍ﴾ ومعناه الرجوع، وقيل معناه: الإمهال يعني أنها لا تمهلهم بل تأخذهم بسرعة، وقيل: إنها إن كانت ﴿فَوَاقٍ﴾ فهي بمعنى الرجوع؛ لأنها (أفاق، يُفيق) إذا رجع إلى عقله، وإذا كان ﴿فَوَاقٍ﴾ فهي بمعنى الإمهال، مأخوذ من قولهم: فُواق ناقة، فُواق الناقة ما بين الحلبتين، أو ما بين الرضعتين، ما بين الحلبتين إذا كانت تُحلب، وهي مدة وجيزة؛ يعني مثلًا الإنسان يعصر الثدي كذا، ثم يعود فيعصره، ويعود ويعصره، فالمدة بين الحلبتين قليلة، وكذلك بين الرضعتين، الرضيع الطفل إذا كان يرضع الأم يمص، ثم يمص، ثم يمص، وهم يطلقون هذا على سرعة الشيء وعدم إمهاله، ويمكن أن نقول: إن القراءتين تجمعان المعنيين فيكون المعنى ﴿مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ﴾ أي: ما لها من رجوع ولا إمهال. ﴿وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ﴾ [ص ١٦] أعوذ بالله، لما توعدهم الرسول عليه الصلاة والسلام بيوم القيامة، وأن لهم العذاب فيها تحدوا الرسول عليه الصلاة والسلام، بل تحدوا الله وقالوا: ﴿رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا﴾ يعني نصيبنا، يقولون ذلك تحديًا واستكبارًا وعنادًا والعياذ بالله، وهذا كقولهم: ﴿وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الأنفال ٣٢]. هذا قول معاند مستكبر، وكان الواجب عليهم أن يقولوا: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إليه، ووفِّقْنا له، هذا الواجب، أما أن يقولوا: ﴿فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ﴾ فهذا لا شك أنه في غاية الاستكبار والعياذ بالله. قال المؤلف: (وقالوا: لما نزلت ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ﴾ [الحاقة ١٩] إلى آخره يعني ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ﴾ [الحاقة ٢٥] قالوا: ﴿رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا﴾ أي كتاب أعمالنا ﴿قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ﴾ ) قالوا ذلك استهزاء). وما ذهب إليه المؤلف يحتمله اللفظ لكن لا دليل عليه فيه، والصحيح أن المراد ﴿قِطَّنَا﴾ أي: نصيبنا من العذاب، الذي توعدتنا به وقلت: إنه سيأتيكم عذاب كما أتى الأحزاب من قبلكم، فكأنهم يقولون: إذا كان الأحزاب قد أُوتوا العذاب من قبلِنا فليأتِ لنا نصيبنا، وهذا لا شك أنه في غاية ما يكون من التحدي والسخرية والاستكبار والعياذ بالله، وأنت تعجب أن تصل الحال بالبَشر وهو واحد من بني آدم، أن تصل به إلى هذا التحدي والعياذ بالله، ولكن الشيطان إذا أطاعوه، فإن الشيطان عدو للإنسان يحمله على شيء يكاد الإنسان يقول: إن هذا لا يمكن أن يقع، والله الموفق. * * * * طالب: ﴿وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (١٦) اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (١٧) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (١٨) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (١٩) وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (٢٠) وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (٢١) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ﴾ [ص ١٦ - ٢٢]. * الشيخ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، سبق لنا أن الله سبحانه وتعالى ذكر أن الأمم السابقة كَذَّبت رسلها فأُخِذوا بالعقاب، ذكر الله تعالى ذلك تحذيرًا للمكذبين لرسول الله ﷺ وتسلية للرسول ﷺ، وممن ذكر قوم لوط، فما هي معصيتهم التي انفردوا بها عن سواهم؟ * طالب: المعصية هي الفاحشة؛ فاحشة اللواط، انتشرت بينهم حتى زوجة نبي الله لوط عليه الصلاة والسلام كانت معهم، تعاونهم (...)، هذه الفاحشة، واعتراض الناس في طرقهم. * الشيخ: لا، هذه ما ذكرت في القرآن. * طالب: ناديهم. * الشيخ: نعم، يأتون في ناديهم المنكر، المنكر هو نفس هذا الشيء. ماذا كان عقوبتهم؟ * الطالب: عقوبتهم يعني انقلابهم، بيوتهم تركض إلى الأسفل وهي أرضهم على الأسفل، يعني فيه قولان؛ قول: (...) الأسفل. * الشيخ: أن الله قلب مدائنهم، القول الثاني؟ * الطالب: القول الثاني: يعني انقلب عليه الأرض، جعل أعلاهم أسفل. * الشيخ: هذا نفس القول الأول. * الطالب: والقول الثاني: هو الذي (...) السقف الأسفل. * الشيخ: تمام، يعني أمطر الله عليهم حجارة من سجيل فهدمت البناء حتى كان أعلاها أسفلها. قوله: ﴿أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ إِنْ كُلٌّ﴾ [ص ١٣، ١٤] كيف نعرب هذه؟ * الطالب: ﴿أُولَئِكَ﴾ مبتدأ. * الشيخ: ﴿أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ﴾. * الطالب: ﴿أُولَئِكَ﴾ مبتدأ ﴿كُلٌّ﴾ خبر. * الشيخ: و﴿الْأَحْزَابُ﴾؟ * الطالب: صفة. * الشيخ: صفة لـ﴿أُولَئِكَ﴾، ما فيه إعراب آخر؟ * الطالب: ﴿أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ﴾ ﴿أُولَئِكَ﴾ مبتدأ و﴿الْأَحْزَابُ﴾ خبر. * الشيخ: ﴿أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ﴾ فتكون ﴿إِنْ كُلٌّ﴾ استئنافية لبيان مآل هؤلاء الأحزاب. قال الله تعالى: ﴿إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ﴾ كيف نعرب ﴿إِنْ﴾؟ * طالب: (إن) نافية بمعنى (ما). * الشيخ: بمعنى (ما)، ما علامة (إن) النافية؟ * الطالب: تكون بعدها (إلا). * الشيخ: أن يقع بعدها (إلا) تمام. لماذا قال الرسل، هل الرسل هنا جمع موزع على ما سبق توزيع أفراد أو توزيع جمع؟ * الطالب: محتملة، لكن الأرجح أنها توزيع. * الشيخ: محتملة أيش؟ مش محتملة. * الطالب: محتملة أن تكون موزعة توزيع أفراد؛ بمعنى أن كل حزب كذب رسوله وهذا المراد، ويحتمل أن يكون الثاني أن يكون كل حزب كذَّب جميع الرسل، وهذا هو الأرجح. * الشيخ: توزيع أيش يكون؟ * الطالب: توزيع جمع. * الشيخ: توزيع جمع؛ لأن الجمع مُوزَّع على كل فرد؛ يعني كل حزب كذَّب جميع الرسل، ما هو الراجح؟ * الطالب: الراجح أنها توزيع جمع. * الشيخ: توزيع جمع، ما هو الدليل على رجحانه؟ * الطالب: أن الله سبحانه وتعالى قال: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ﴾ [الشعراء ١٠٥]. * الشيخ: أن الله قال: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ﴾ مع أنه لم يسبق نوحًا رسول، ومع ذلك قال: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ﴾ ما وجه هذا القول؟ ما وجه أن نقول: إن المكذب لرسول واحد مكذب لجميع الرسل؟ * الطالب: لأن الكل من عند الله. * الشيخ: لأن الكل من عند الله ودعوتهم واحدة، فيكون تكذيب جنس لا تكذيب شخص، تمام. قوله: ﴿مَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ﴾ ما معنى ﴿مَا يَنْظُرُ﴾؟ * طالب: معنى ﴿مَا يَنْظُرُ﴾ يعني على معنيين.. لفظ يعني وجهين. * الشيخ: ما نريد لفظًا، حدِّد ﴿مَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً﴾؟ * الطالب: إذا جاءت بمعنى (إلى). * الشيخ: أنا قلت: قل الآية هذه؛ لأن ترى الذي إذا سألته عن شيء محدد، وراح يجيب التفصيل معناه ما عرف، كطالب سُئِل عن مسألة فكتب الفصل كله، فيه طالب في الامتحان سأله ما حكم الالتفات في الصلاة؟ فقال: ج: يُكره في الصلاة التفاته، ورفع بصره إلى السماء، وتخصره. واسرد الفصل كله، واكتب في الأخير، خذ ما شئت ودع ما شئت، يعني أنت مثلًا أسألك عن شيء محدد تجيب كل القسم، أقول: ما معنى قوله: ﴿مَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ﴾؟ * الطالب: ما ينتظر يعنى. * الشيخ: ما ينتظر هؤلاء، أحسنت. كلمة ﴿يَنْظُرُ﴾ تأتي لمعانٍ منها ينتظر كما في هذه الآية، ومنها؟ * طالب: منها النظر والإبصار، المعنى الثاني، إذا كانت.. * الشيخ: منها أن تأتي بمعنى النظر للعين. * الطالب: إذا كانت مُعدَّاة بـ(إلى). * الشيخ: إذا كانت مُعدَّاة بـ(إلى) مثل: ﴿أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ﴾ [الغاشية ١٧] والثالث؟ * الطالب: أن تكون بحسب السياق، بنظر التفكر يعني. * الشيخ: أن تكون بنظر التفكر. * الطالب: لقوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [الأعراف ١٨٥]. * الشيخ: ﴿قُلِ انْظُرُوا﴾ [يونس ١٠١]. * الطالب: ﴿قُلِ انْظُرُوا﴾. * الشيخ: في ملكوت ومثل أيضًا الذي ﴿أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ﴾ إذن تأتي بمعنى النظر الفكري، ويؤيد ذلك السياق. قوله: ﴿مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ﴾ ﴿فَوَاقٍ﴾ فيها قراءتان؟ * طالب: ﴿فَوَاقٍ﴾ و﴿فُوَاق﴾ . * الشيخ: هل معناهما واحد على ما ذهب إليه المؤلف وعلى ما قررناه؟ * طالب: ﴿فَوَاقٍ﴾ معناها الرجوع والإهمال. * الشيخ: ما معناها على رأي المؤلف؟ هل معنى اللفظتين واحد؟ * الطالب: على رأي المؤلف معناها الرجوع فقط. * الشيخ: إذن معناهما واحد؟ * الطالب: إي نعم. * الشيخ: يعني ﴿فَوَاقٍ﴾ و﴿فُوَاقٍ﴾ معناهما واحد، كذا؟ فيه رأي آخر؟ * طالب: نعم. * الشيخ: ما هو؟ * الطالب: أن ﴿فُوَاقٍ﴾ هو مُدَّة بين حلبتين. * الشيخ: فُوَاق الناقة؛ يعني المدة بين الحلبتين أو الرضعتين إذا كانت يرضعها طفلها. والمعنى إذا أخذنا بالقراءتين يكون معنى الآية، أخذنا بالقراءتين على الوجهين الذين ذكرنا. * طالب: يعني شدة سرعة أخذهم. * الشيخ: سرعة أخذهم كذا؟ وأنه لا يُرفع عنهم، فإذا فسرناها بالرجوع ﴿مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ﴾ بالرجوع بمعنى أن العذاب لا يُرفع عنهم، ﴿مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ﴾ يعني من إمهال، فالمعنى أنه سريع بهم. قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ﴾ [ص ٦، ٧]. * من فوائد هذه الآية: أن هؤلاء المكذبين لرسول الله ﷺ فيما جاء به من التوحيد ليس عندهم دليل إلا ما كان عليهم آباؤهم؛ لقولهم: ﴿مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ﴾. * ومن فوائدها: أن هؤلاء مكابرون معاندون، فمع كونهم لا دليل عندهم قالوا: ﴿إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ﴾. * ومن فوائدها أيضًا: أن كل إنسان ليس عنده علم شرعي فإنه يلجأ إلى ما كان الناس عليه في العادة، وهذا كما هو فيما سبق، فهذا فيما حضر كثير من الناس تنهاه عن المنكر فيقول: هذا الذي مشى عليه الناس، وهذا ليس بحُجَّة، وهذا كما أنه سابق فهو أيضًا لاحق، فإن من الناس من إذا أنكرت عليه المنكر قال: هذا ما زال الناس عليه، أو يقول: ما سمعنا بهذا. ومنه قول بعض العامة إذا نُبِّهوا على شيء لم يكونوا يعرفونه، قالوا: هذا دين جديد، ما سمعنا بهذا، وهذا ليس بحجة، الحجة: الدليل القائم من كتاب الله وسُنَّة رسوله ﷺ. * ومن فوائد هذه الآيات في قوله: ﴿أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا﴾ [ص ٨] إلى آخره: أن هؤلاء يريدون أن يكون الشرع تابعًا لأهوائهم، يأتي الوحي من يشاؤون، ويمتنع عمن لا يشاؤون؛ لقوله: ﴿أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا﴾. * ومن فوائدها: أن صاحب الباطل لا يعرف أن حجته حجة عليه؛ لأن قولهم: ﴿أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا﴾ هي حجة فيما لو نزل الذكر على من يشاؤون؛ لأنه لو نزل على من عينوه وأرادوه لقال غيرهم: ﴿أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا﴾. * ويتفرع على هذه الفائدة: أن كل مُبطل يحتج بحق -أي بدليل الحق- لكن استدلاله به باطل فإنه لا حجة له، ومن ذلك ما يحتج به أهل التحريف في باب الصفات أو غيره من الأدلة الصحيحة التي ليس لهم فيها استدلال، فمثلًا أهل التعطيل يستدلون لتعطيلهم بقول الله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى ١١]، ومن المعلوم أنه عند التأمل يكون هذا الدليل حجة عليهم؛ لأن نفي المماثلة يدل على ثبوت أصل المعنى، ولو لم يكن أصل المعنى ثابتًا لم يكن لنفي المماثلة فائدة، أليس كذلك؟ وهكذا كل مبطل يحتج لباطله بحجة صحيحة لكن استدلالها بها غير صحيح نجد أن هذه الحجة حُجَّة عليه، وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في كتابه درء تعارض العقل والنقل المعروف بالعقل والنقل أنه ملتزم بأنه ما من صاحب باطل يحتج بآية أو حديث صحيح إلا كان دليله حجة عليه وليس له. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن هؤلاء الذين اقترحوا هذا الاقتراح، وأنكروا أن ينزل الوحي على محمد ﷺ هم في شك مما يدعون، فإذا كانوا في شك فكيف يقترحون؟ ولهذا قال: ﴿بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي﴾. * ومن فوائد الآية الكريمة: أن المكذبين للرسل يوشك أن ينزل بهم العذاب؛ لقوله: ﴿بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ﴾. * ومن فوائدها: أن العذاب إذا نزل فإنه يكون ماسًّا للإنسان مؤثرًا فيه؛ لأنه عبر عن ذلك بقوله: ﴿يَذُوقُوا عَذَابِ﴾. * ومن فوائدها أيضًا: أن الكلمات تُفسَّر بحسب السياق، فالذوق في الأصل إنما هو في الطعام والشراب، ولكن قد يُراد به ما أصاب الإنسان إصابة مباشرة فإنه يُسمى مذوقًا. ثم قال عز وجل: ﴿أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ﴾ [ص ٩، ١٠]. * من فوائد هاتين الآيتين: إبطال حجة هؤلاء الذين قالوا: ﴿أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا﴾، وذلك بأن إنزال الوحي على شخص ما هو من فضْل الله عليه، ومن خزائن رحمته، وهذا لا يملكه هؤلاء المقترِحون؛ لأن الأمر والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء. * ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات هذين الاسمين من أسماء الله ﴿الْعَزِيزِ﴾ و﴿الْوَهَّابِ﴾، وإثبات ما تضمنها من صفة، فالعزيز تضمن صفة هي العزة وأقسامها ثلاثة، كما مر علينا في التفسير، والوهاب تضمن صفة هي الهبة الكثيرة، وما أكثر هبات الله عز وجل، وتضمن القدرة؛ لأنه لا يهب إلا القادر، وتضمن الغِنى؛ لأن من لا شيء عنده لا يمكن أن يهب، وتضمن الكرم؛ لأن البخيل لا يهب، دلالة الوهاب على الهبة من باب دلالة؟ * طالب: المطابقة. * الشيخ: لا. * الطالب: التضمن. * الشيخ: التضمن، من باب دلالة التضمن وعلى الهبة والوهاب من باب دلالة المطابقة، وعلى القدرة والغنى والكرم من باب دلالة الالتزام، فإذن في هذا الاسم أنواع الدلالات الثلاثة وهي؟ * طالب: (...) الوهاب. * الشيخ: أنواع الدلالات الثلاثة ما هي؟ * الطالب: الالتزام، والمطابقة، والتضمن. * الشيخ: الفرق بين هذه الثلاثة؛ أن دلالة اللفظ على جميع معناه دلالة مطابقة، وعلى جزء معناه التضمن، وعلى اللازم الخارج الذي لا يدل عليه اللفظ بلفظه لكن من لوازمه دلالة التزام، أضرب لها مثلًا في أمر حسي ليتبين به الأمر المعنوي، هذا بيت يشتمل على غرف ومجالس وبرحات؛ يعني أحواشًا، دلالة هذا البيت على جميع ما فيه من الغرف والمجالس والأحواش دلالة مطابقة، ودلالته على كل حجرة وحدها، وكل مجلس وحده، وكل حوش وحده دلالة تضمن، ودلالته على أن له بانيًا دلالة التزام؛ لأن البيت لا بد له من بانٍ فنقول: هذا قد بناه بانٍ، ويش الدليل؟ لأن البيت لا بد له من بانٍ، فالوهَّاب مثلًا دلالته على الاسم والصفة التي هي الهبة، على الاسم والهبة؟ * طلبة: مطابقة. * الشيخ: مُطابَقة، وعلى الاسم وحده أو الهبة وحدها؟ * طلبة: التضمن. * الشيخ: التضمن. وعلى القدرة والغنى والكرم. * طلبة: التزام. * الشيخ: دلالة التزام. * ومن فوائد الآية الكريمة: مراعاة فواصل الآيات لسياق الآية؛ لأن ﴿الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ﴾ يناسب قوله: ﴿أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ﴾. والمطابقة أو مناسبة فواصل الآيات لمضمون الآية دليل على البلاغة، ولا يشذ عن هذا شيء؛ ولهذا لما قرأ رجل عند أعرابي: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُور رَحِيم) استغرب الأعرابي كيف يقول: (نكالًا من الله)، ثم يقول: (والله غفور رحيم)؟ المغفرة والرحمة لا تتناسب مع النكال، فقال الأعرابي للقارئ: أعِدْ قال: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ غفور رحيم) قال: أعِد، ما هكذا الآية. فقال: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [المائدة ٣٨]، قال: الآن عز وحكم فقطع، ولو غفر ورحم ما قطع، سبحانه وتعالى، ولهذا قال الله تعالى في سورة المائدة في الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا قال: ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [المائدة ٣٣، ٣٤] فأخذ العلماء من هذه الآية أنهم إذا تابوا قبل القدرة عليهم سقط عنهم الحد؛ لأن الله قال: ﴿فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ أي: فإذا غفر لهم ورحمهم فإنهم لا يُقام عليهم الحد. في هذه الآية مناسبة ﴿أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ﴾ مناسبة ظاهرة؛ لأن الله ذو رحمة، وذو عزة وغلبة، وذو هبة وعطاء، فيُعطي من شاء بما تقتضيه عزته من خزائن رحمته، لكن بعض الآيات تكون فواصلها مخالفة لمضمونها فيما يظهر، مثل قول عيسى عليه الصلاة والسلام: ﴿مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [المائدة ١١٧، ١١٨]. فهنا جاء قوله: ﴿فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ جوابًا لقوله: ﴿وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ﴾ وكان المتوقع أن تكون الآية (وإن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم)، فاستشكل بعض العلماء هذا، وقالوا: كيف يقول: ﴿وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ ولم يقل: (فإنك أنت الغفور الرحيم)، وأُجيب عن ذلك بأن عيسى عليه الصلاة والسلام لم يقتصر على ذكر المغفرة، بل ذكر المغفرة والتعذيب، قال: ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ﴾ ﴿وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ﴾ فكان الحُكم الآن مترددًا بين المغفرة والرحمة، إن نظرنا إلى قوله: ﴿وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ﴾ وبين العزة والحكمة والحكم إذا نظرنا إلى قوله: ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ﴾ فصار ختم الآية، أو ختم القول بقوله: ﴿إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ أنسب؛ لأن حتى المغفرة إذا حصلت فهي من عزة وحكمة. ثم قال عز وجل: ﴿أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ [ص ١٠]. * من فوائد هذه الآية كالتي قبلها: أن الخلق لا يملكون خزائن رحمة الله، ولا يملكون السماوات والأرض وما بينهما؛ لأن ذلك ممن؟ من الله عز وجل؛ ولهذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: «اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ»[[متفق عليه؛ البخاري (٨٤٤)، ومسلم (٥٩٣ /١٣٧) من حديث المغيرة بن شعبة. ]]. فخزائن رحمة الله لا يملكها أحد، الذي يملكها هو الله عز وجل. وفي حديث ابن عباس: «وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَنْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ»[[أخرجه الترمذي (٢٥١٦)، وأحمد (٢٦٦٩).]]. * ويتفرع على هذه الفائدة: أنه لا ينبغي للإنسان أن يعلق رجاءه إلا بمن؟ إلا بالله عز وجل، لا يعلق رجاءه بمخلوق إلا في الحدود الضعيفة المرسومة، يجعل الرجاء كله والتعلق كله بالله سبحانه وتعالى، وإذا جعل هذا بالله سَخَّر الله له المخلوقات؛ حتى البشر يُسخِّرهم له، لكن إذا تعلق بغير الله وُكِل إليه وضاع، من أين يؤخذ؟ من قوله: ﴿أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ﴾ [ص ٩]، فخزائن رحمة الله عند الله سبحانه وتعالى. * ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات ملكية الله للسماوات والأرض وما بينهما؛ لأن نفي ملك هؤلاء لها دليل على ثبوت الملكية لغيرهم، ولا مالك لهذه إلا الله. * ومن فوائد الآية الكريمة: عِظَم ما بين السماء والأرض، ووجهه: أن الله جعل ما بينهما قسيمًا لهما، والقسيم لا بد أن يكون معادلًا أو مقاربًا لقسيمه، لا يمكن أن تأتي بشيء عظيم تُقارِن بينه وبين شيء بعيد منه في العِظَم. * ومن فوائد الآية الكريمة: تحدي هؤلاء المكذبين أن يأتوا بما يدل على أن لهم شيئًا من ملك السماوات والأرض؛ لقوله: ﴿فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ﴾. * ومن فوائدها: أنه لا ينبغي التحدي إلا بما لا يستطيعه المتحدَّى، لماذا؟ لأنك لو تحديته بشيء يستطيعه، ثم قام به؛ بطلت حجتك، تبطل الحجة نهائيًّا، وهذا يفيدك في باب المناظرة وفي باب النظر أيضًا؛ لأن الناس ناظر ومناظر، فالناظر هو الذي يتأمل الأدلة من ذات نفسه ويحكم عليها والناظر هو الذي يناقشها مع غيره، فمن فوائد النظر والمناظرة أن الإنسان لا يفرض شيئًا على وجه التحدي إلا إذا علم أنه غير ممكن للمتحدَّى؛ لأنه لو فرض شيئًا يتحداه به، ثم أتى به المتحدَّى بطلت حجته وانهارت، وهو أيضًا بنفسه لا تكون عنده القوة المدافِعة أو المهاجمة إذا بطلت حجته كما هو معلوم، والله أعلم. * طالب: إذا كان يا شيخ (...) المناظرة يأتي له بالدليل الأسهل فالأسهل حتى يعرف مقدار علمه، يعني ما يعرف الرجل (...). * الشيخ: على كل حال هذا حسب الحال، قد يكون من المصلحة أن تأتي له بالدليل الأعلى علشان يسكت على طول، أحيانًا يستعمل الإنسان السلاح الثقيل ليقضي على خصمه من أول وهلة؛ لأنه ربما لو تأتي له بالسهل ويجيب ربما تضعف أنت؛ لأن تعرف الضربات إذا توالت على الإنسان أضعفته، (...). من أن يرتقوا إلى السماء، ويؤخذ من قوله: ﴿جُنْدٌ مَا﴾ [ص ١١] فإن ﴿مَا﴾ هذه تفيد التحقيق. * ومن فوائد هذا الآية: أن بعض العلماء أخذ منها أنه لا يمكن الوصول إلى القمر؛ لأن الله قال: ﴿فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ﴾، ثم قال: ﴿جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ﴾. ومعلوم أن القمر في السماء، فإذا كان هؤلاء الذين يحاولون أن يرتقوا في الأسباب إلى السماء إذا كانوا جندًا حقيرين مهزومين فإنه لا يمكن أن يُوصَل إلى القمر، فهل يمكن أن يُؤخَذ من هذه الآية؟ * طلبة: ما يمكن. * الشيخ: يمكن أو لا يمكن؟ * طلبة: ما يمكن. * الشيخ: نعم؟ * طالب: ظاهر الآية ممكن. * الشيخ: ظاهر الآية أنه ممكن، والله مشكلة، معناه أننا أيضًا نأخذ من هذه الآية دليل على أن الناس يصلون إلى القمر، إذا كان هذا ظاهر الآية معناه أن الآية دلَّت على أيش؟ إمكان الوصول إلى القمر عكس ما استدل به بعض الناس، والحقيقة أنه لا يمكن أن يكون فيها دليل على امتناع الوصول إلى القمر؛ لأن القمر في السماء الذي هو بمعنى العلو، وليس في السماء الذي هو السماء المحفوظة، وهذا أمر مؤكد يعني ما يختلف فيه اثنان، وإذا كان السحاب في السماء، ويُطلق عليه سماء كما قال تعالى: ﴿أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا﴾ [الرعد ١٧]، والناس الآن يصعدون فوق السماء الذي هو السحاب، أليس كذلك؟ كثير منكم ركب الطائرة وهي فوق السحاب، السحاب تحتها، فكذلك القمر في السماء ﴿تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا﴾ [الفرقان ٦١] لا شك أن القمر في السماء، ولكن هل هو في السماء الذي هو السقف المحفوظ الذي لا يدخل إليه أشرف الملائكة وأشرف البشر إلا باستئذان؟ أجيبوا. * طلبة: لا. * الشيخ: لا، قطعًا لا، بل هو تحته بكثير. إذن فنقول: إنه ليس في الآية دليل على استحالة الوصول إلى القمر كما أنه ليس فيها دليل على إمكان الوصول إلى القمر، ويُترك هذا الأمر للواقع، فإذا صح أنهم وصلوا إلى القمر فإن الشرع لا يحيله، الشرع لا يحيل ذلك، وإذا لم يصح فإن الشرع لا يثبته، الشرع لا يثبت أنهم يصلون، ولا ينفي أنهم يصلون، فإذا قالوا: وصلنا إلى القمر، وثبت ذلك، قلنا: الحمد لله، هذا لا يعارض شرعنا؛ لا كتاب الله ولا سُنَّة رسوله ﷺ، ومعلوم أن القمر تحت النجوم، والنجوم قال الله فيها: ﴿وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ﴾ [الملك ٥] لكن القمر تحتها، وأنا وغيري شاهدنا أن القمر حجب النجوم، أنا شاهدته بعيني كان يساير النجمة التي تسمى (نجمة الصباح)، يسايرها، ومعروف أن القمر يتأخر، فإذا بها تختفي، ابتلعها القمر، ما نشاهدها، فصار كما لو جاءت سحابة، فحالت بيننا وبين القمر، وحدثني من أثق به أن هذا يقع أحيانًا ونشاهده. إذن صار القمر ليس في السماء التي هي السقف المحفوظ، فإذا ثبت أنهم وصلوا إليه فلا غرابة في ذلك. إذن ليس في الآية ما يدل على انتفاء الوصول إلى القمر. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: بيان قدرة الله عز وجل، وأن الجنود مهما عظموا فهم حقيرون بالنسبة إلى قوة الله عز وجل وعزته، مهزومون أمام قوته؛ ولهذا قال: ﴿مَهْزُومٌ﴾. * ومن فوائد الآية الكريمة: أنه يجب على هؤلاء المكذبين للرسول ﷺ أن يعتبروا بمن سبقهم؛ لقوله: ﴿مِنَ الْأَحْزَابِ﴾ أي: هم جند حقير مهزومون كما هُزِم غيرهم من الأحزاب، قالت عاد: ﴿مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً﴾ [فصلت ١٥] ؟ فقال الله: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ﴾. ثم قال الله تعالى: ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ﴾ [ص ١٢] إلى آخره، في هذه الآية: تسلية وتهديد، تسلية لمن؟ * طلبة: للرسول ﷺ. * الشيخ: للرسول ﷺ، وتهديد للمكذبين له؛ أن يصيبهم مثل ما أصاب من قبلهم. * ومن فوائدها: إثبات الرسالة لنوح عليه الصلاة والسلام؛ لقوله: ﴿قَوْمُ نُوحٍ﴾ وهو كذلك، فإن نوحًا ﷺ هو أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض. * وكذلك أيضًا من فوائدها: إثبات الرسالة لهود؛ لقوله: ﴿وَعَادٌ﴾. وعاد هم قوم هود فإنهم كذبوا مَنْ؟ كذبوا هودًا، إذن ففي الآية إثبات رسالته، وفي الآية إثبات رسالة موسى؛ لقوله: ﴿وَفِرْعَوْنُ﴾ ومعلوم أن الذي أُرسِل إلى فرعون هو موسى، ففي الآية إثبات رسالة موسى. * ومن فوائدها: أنه مهما عظم سلطان المكذبين للرسل فإنهم أذلاء بالنسبة لسلطان الله عز وجل؛ لقوله: ﴿وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ﴾. * ومن فوائد الآية: إثبات رسالة صالح؛ لقوله: ﴿وَثَمُودُ﴾ [ص ١٣] والمرسل إلى ثمود أخوهم صالح. * ومن فوائدها: إثبات رسالة لوط؛ لقوله: ﴿وَقَوْمُ لُوطٍ﴾. * ومن فوائدها أيضًا: إثبات رسالة شعيب؛ لقوله: ﴿كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ﴾ [الشعراء ١٧٦، ١٧٧]. * ومن فوائدها: أن جميع هؤلاء الأحزاب كذبوا الرسل؛ لقوله: ﴿إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ﴾ [ص ١٤]. * ومن فوائدها: الاعتبار بالأغلب، وأن الكل قد يُطلق عليه؛ أي على الأغلب؛ لأن قوم نوح لم يُكذِّبوا كلهم، قال الله تعالى: ﴿وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ﴾ [هود ٤٠]، وكذلك عاد قال الله تعالى: ﴿وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا﴾ [هود ٥٨] وكذلك لوط آمن معه مَنْ آمن مِنْ أهله كما قال تعالى: ﴿فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الذاريات ٣٥] كذلك فرعون، توافقون؟ * طالب: (...) رجل. * الشيخ: لا، هؤلاء قومه، أما فرعون نفسه فهو ما آمن إلا حين أدركه الغرق إيمانًا لا ينفعه. ثمود أيضًا آمن معه من آمن، وعلى هذا فالله عز وجل قال: ﴿إِنْ كُلٌّ﴾ أي من هؤلاء ﴿كَذَّبَ الرُّسُلَ﴾ باعتبار الأغلب. * ومن فوائد الآية: أن من كذب رسولًا من الرسل فهو مُكذِّب لجميع الرسل؛ لقوله: ﴿إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ﴾ [ص ١٤] وقد ذكرنا في تفسيرها أنها محتملة أن تكون عائدة لكل فرد باعتبار الجمع، أو باعتبار الأفراد؛ يعني هل من توزيع الجمل أومن توزيع الأفراد؟ وذكرنا أن الراجح أنها من باب توزيع الجمل على الأفراد، وذكرنا الدليل على ذلك. * ومن فوائد الآية الكريمة: أن تكذيب الرسل سبب للعقوبة؛ لقوله: ﴿إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ﴾ والفاء هنا للسببية، وهي أيضًا عاطفة تدل على الترتيب والتعقيب، ففيها سببية وتعقيب، وأن العقاب حل بهم، وهم ما زالوا على تكذيبهم. ثم قال تعالى: ﴿فَحَقَّ عِقَابِ﴾ يؤخذ منها فائدة؛ وهو شدة هذه العقوبة؛ لأن الله أضافها إلى نفسه، وقد قال سبحانه وتعالى عن نفسه: ﴿اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [المائدة ٩٨]. ثم قال تعالى: ﴿وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ﴾ في هذا أشد التهديد للمكذبين لرسول الله ﷺ، ولازم ذلك إثبات رسالته ﷺ، ووجهه أن الله توعَّد المكذبين له، ولولا أن رسالته حق لكان الوعيد عليه هو كما قال تعالى: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (٤٤) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (٤٦) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ﴾ [الحاقة ٤٤ - ٤٧]. الله أكبر، شوفت الآيات، بهذه الشدة هذا الأسلوب الشديد للرسول عليه الصلاة والسلام ﴿لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ﴾ بالقوة ﴿ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ﴾ حتى لا يبقى به حياة، ﴿الْوَتِينَ﴾ عرق يتصل بالقلب لو قُطِعَ مات الإنسان فورًا. ﴿فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ﴾، هذا وهو الرسول ﷺ، لو تقوَّل على الله كلمة واحدة لأخذه الله باليمين، فكيف بالذين يتقوَّلون على الله كلمات ولا يبالون أن يقولوا: قال الله وهو لم يقُل؟! ولهذا كان الإمام أحمد رحمه الله من ورعه لا يمكن أن يقول: هذا حرام إلا إذا كان قد نُصَّ على تحريمه، وإلا تجده يقول: أكره هذا، أو: لا يعجبني، أو: لا يفعل أو: تركه أحبُّ إليَّ، أو ما أشبه ذلك، ولكن ما شاء الله كان إمامًا صار الناس يتداولون هذه الكلمات ويحللونها، هل إذا قال: لا يعجبني يعني التحريم أو يعني الكراهة؟ ثم بدأ الناس يتلقون كلامه كأنه كلام رسول، يحللونه؛ لأنه رحمه الله خاف الله، واتقى الله، فجعل الله لكلماته نورًا، بخلاف الآن اللي يقولون: ما شاء الله: الإسلام يحرم كذا وكذا، وإذا رأيته الإسلام يحلله، يمكن يوجبه بعض الأحيان، وهذا يقول: يُحرِّم، الإسلام يتكلم واحد مُعرَّض للخطأ باسم الإسلام، أنت لو قلت: أرى أنه حرام، قلنا: هذا رأيك، وممكن تخطئ وتصيب، أما أن تقول: الإسلام، وقال الإسلام، وفعل الإسلام، هذه خطيرة يا جماعة؛ لأن أعداء المسلمين يتآخذون مثل هذا، ويقولون: هذا الإسلام، وكانت تخالف الإسلام، أخذوا من هذا قدحًا في الإسلام، والإسلام بريء منه، لكن بعض الناس سبحان الله العظيم يجعل لنفسه منصبًا عاليًا فوق مستواه. إذن نعود إلى هذا، نقول: في هذا إثبات رسالة النبي ﷺ، ووجهه أن الله توعد المكذبين له، ولو كانت غير رسول لكان الوعيد على منْ؟ عليه هو، والدليل قوله: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ﴾. * ومن فوائد هذه الآية: تسلية رسول الله ﷺ؛ لأنه إذا قيل له: سنهلك أعداءك سوف يتسلى. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن العذاب إذا أخذهم فإنه لن يرجع ولن يتأخر، قال الله تعالى: ﴿فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا﴾ [غافر ٨٤، ٨٥]. ثم قال تعالى: ﴿وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ﴾ لما كان الرسول ﷺ يتوعدهم بعذاب يوم القيامة سخروا من هذا ﴿وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا﴾ يعني عجِّل لنا نصيبنا من العذاب، يقولون هذا استهزاءً برسول الله ﷺ وسخرية به، قال: (قالوا ذلك استهزاءً). فقال الله تعالى: ﴿اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ﴾ [ص ١٧]. هم في قولهم: ﴿رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا﴾ يريدون بذلك مضايقة الرسول ﷺ، يريدون بذلك مضايقته حتى يضجر ويتعب نفسيًّا وفكريًّا وربما جسميًّا، ولا شك أن هذا يؤذي الداعية، أنت لو دعوت إلى الله وقام واحد وقال: هذا الذي تتوعدنا به يلَّا هاته عجِّل لنا، تضيق بهذا ولَّا لا؟ لا شك أنك تضيق، فالرسول ﷺ بشر، لولا أن الله تعالى يصبره بالآيات، اصبر اصبر؛ ما صبر، لكن الرب عز وجل يُصبِّره شرعًا، ويعينه على ذلك قدرًا، يصبره شرعًا بالأمر: اصبر اصبر، ويعينه على ذلك قدرًا، فقد صبر النبي ﷺ صبرًا لا يصبره أحد ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ﴾ [الأحقاف ٣٥]. والعجيب أن من صبره أنه صبر حين المقدرة عليهم، صبر على العذاب الذي يكون بيده، وعلى العذاب الذي يكون من عند الله، صبر على العذاب الذي يكون بيده حين فتح مكة، ووقف على باب الكعبة وقريش تحتها يقول: «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، مَا تَرَوْنَ أَنِّي فَاعِلٌ بِكُمْ؟» قالوا: خَيْرًا، أَخٌ كَرِيمٌ، وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ، قال: «اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ» »[[ذكره ابن هشام في سيرته (٢/٤١٢)، والطبري في تاريخه (٣/٦٠) من حديث قتادة السدوسي.]]. في هذا الحال يستطيع أن يبطش بهم ولَّا لا؟ يستطيع، كلهم أذلة بين يديه، لكن قال: «اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ». » بل قال قبل ذلك: «مَنْ دَخَلَ دَارَهُ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ»[[أخرجه أبو داود (٣٠٢٢)، والطبراني في المعجم الكبير (٧٢٦٤) من حديث عبد الله بن عباس.]]. زعيمهم، كل هذا من باب العفو والتسامح مع المقدرة. أما عفوه وتسامحه مع المقدرة بأمر يوقعه الله سبحانه وتعالى فيهم، فإنه «لما رجع من الطائف بعد أن فعل به أهل الطائف ما فعلوا أرسل الله إليه جبريل ومعه ملك الجبال وقال: إن الله يقرئك السلام، وهذا ملك الجبال يفعل ما تأمر به. فقال له ملك الجبال: إن شئتَ أن أُطبق الأخشبين عليهم فعلتُ. ولكنه عليه الصلاة والسلام أَبَى. قال: «أَسْتَأْنِي بِهِمْ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَلَا يُشْرِكُ بِهِ»[[متفق عليه؛ البخاري (٣٢٣١)، ومسلم (١٧٩٥ /١١١) من حديث عائشة. ]]. اللهم صلِّ وسلِّم عليه، انظر إلى العفو، وإلى النظر البعيد، فأخرج الله -ولله الحمد- من أصلاب هؤلاء من عَبَدَ الله، ولم يشرك به، وكانوا أئمة يهدون بأمر الله، فالنبي عليه الصلاة والسلام يجد المضايقات العظيمة من قريش لكنه يصبر، يصبر على كل أذى، ولهذا قال الله له: ﴿اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ﴾ من أقول الاستهزاء والسخرية والكذب قالوا: إنه ساحر مجنون كذاب كاهن ولكنه يصبر، صبر على ما يقولون، وصبر على ما يفعلون أيضًا، ماذا فعلوا به؟ أعظم شيء علمتُ به أنه «كان ذاتَ يوم ساجدًا تحت الكعبة » في آمَن مكان وأعظمه حُرْمة وأقرب ما يكون من ربه، ساجد لله، «وكان حوله ملأ من قريش، فقالوا: من ينتدب لنا يأتي بسلى جزور بني فلان يضعه على محمد وهو ساجد؟ فانتدب أشقاهم وذهب وأتى بسلى الجزور، ووضعه على ظهره، دم وروث وقذر ونجاسة على ظهره وهو ساجد، ولكنه لم يقم من السجود، حتى جاءت ابنته فاطمة وهي صغيرة فأزاحته عنه فقام ﷺ»[[أخرجه البخاري (٥٢٠) من حديث عبد الله بن مسعود بنحوه. ]]. هذا لا يستطيع أحد أن يتصور فداحة الأذى والعياذ بالله، ثم لما فرغ من الصلاة دعا الله عليهم، فأجاب الله دعوته، وعذبهم بيده، وسُحِبوا في قليب بدر في غزوة بدر جُثثًا منتنة خبيثة، وطُرِحوا في أحد الآبار هنالك، اللهم انصر الحق أينما كان يا رب العالمين (...). [[اختُصِرَ كلام المؤلف لشدة طوله]]
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب