الباحث القرآني

﴿قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ﴾ [الصافات: ٩٧] ﴿قَالُوا﴾ أي: قال بعضهم لبعض: ﴿ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا﴾ الأمر هنا إن كان من الرؤساء فهو أمر حقيقي، وإن كان من غير الرؤساء أو من الرؤساء بعضهم لبعض فهو أمر مشورة والتزام وليس أمر إلزام؛ وذلك لأن أمر الإلزام إنما يكون من الأعلى إلى من دونه، وقالوا: ﴿ابْنُوا لَهُ﴾ اللام هنا ليست للملك، ولكنها للتعليل؛ أي: ابنوا لأجله بُنيانًا، هذا البنيان بنوه من أجل أن يملؤوه حطبًا، ثم يوقدوه على إبراهيم، فبنوا البنيان، وأضرموا النار في الحطب، كما أشار بعضهم على بعض. قال: ﴿فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ﴾ يقول المؤلف: ﴿ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا﴾ (فاملؤوه حطبًا وأضرموه بالنار، فإذا التهب ﴿فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ﴾ في النار الشديدة). قوله: ﴿ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ﴾ هذه الآية فيها إيجاز حذف قدَّرَه المفسر، التقدير فاملؤوه حطبًا، وأضرموه بالنار، فألقوه في الجحيم، وفي الإتيان بالفاء عقب قوله: ﴿ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا﴾، وحذف ما توسط بينهما إشارة إلى أنهم أرادوا الإسراع العظيم في هذا الأمر كأنهم قالوا: ابنوا بنيانًا وألقوه مباشرة، وطبعًا ليس يُلقى بالبنيان فقط ليتمتع فيه، ولكن بعد إيقاد النار فيه إنما أرادوا بهذا الإسراع والمبادرة كأنهم طووا ذِكْر ما بين البناء والإلقاء لعدم وجوده من سرعة المبادرة، ويدل لذلك أيضًا قوله: ﴿فَأَلْقُوهُ﴾ والفاء هذه تدل على الترتيب والتعقيب. قال: ﴿فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ﴾ (أي النار الشديدة) ففعلوا ذلك، وألقوه في النار، ولكن خالق النار قال للنار: ﴿كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ [الأنبياء ٦٩] فكانت بردًا وسلامًا عليه، لم تكن بردًا شديدة البرودة حتى يهلك، ولم تكن حارة بل كانت على عكس ما يريد به، الأعداء أرادوا بالنار أن تكون حارة مهلكة، والله عز وجل أراد أن تكون باردة مُسلِّمة ﴿كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾، فكانت بردًا وسلامًا عليه. وهنا نقف لنبين أن بعض المفسرين رحمهم الله قالوا: إنه في تلك اللحظة صارت جميع النيران في جميع أقطار الدنيا باردة، ولكن هذا قول ضعيف جدًّا مخالِف للقرآن؛ لأن الله تعالى قال في القرآن: ﴿يَا نَارُ﴾ [الأنبياء ٦٩]، وهذا النداء يكون موجهًا للمقصود بالنداء؛ ولهذا يسميها أهل النحو نكرة مقصودة، فالمراد تلك النار التي خُوطِبت فقط، فصارت النار التي خُوطبت بردًا وسلامًا، وأما الزعم بأن جميع النيران في جميع أقطار الدنيا صارت بردًا، فهذا لا شك أنه مخالف لظاهر القرآن وليس له أي فائدة. قال الله تعالى: (﴿فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا﴾ [الصافات ٩٨] بإلقائه في النار لتهلكه ﴿فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ﴾ المقهورين فخرج من النار سالِمًا) أرادوا به كيدًا، الكيد في الأصل التوصل إلى الإيقاع بالخصم من حيث لا يدري، وهو والمكر والخِداع بمعنى واحد، أو بمعنى متقارب، لكنها كلها تدور على أن الإنسان يُوقِع بخصمه من حيث لا يشعر،، هذا في الأصل؛ قال الله تعالى: ﴿إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (١٥) وَأَكِيدُ كَيْدًا﴾ [الطارق ١٥، ١٦]، ولكنهم هم أرادوا بذلك إهلاكًا لإبراهيم. ويحتمل أنهم لما بنوا هذا البناء والنار في وسطه يحتمل أن الإنسان إذا رآه يظن أن ذلك قصر، فيُقدم على أن يستسلم للإلقاء؛ لأنه لو علم أن ما في جوفه نار لكان يهرب أو يدافع، ويكون هذا معنى الكيد؛ أي أنهم لم يشقوا الأرض كما فعل أصحاب الأخدود ويضعوا فيها الحطب ويوقدوه، ولكن بنوا بنيانًا من رآه من خارج ظن أنه منزل سكن، ولكنه في الواقع حسب صنعهم نار تتأجج. أقول: يمكن أن يقال: إن هذا هو المراد بقوله: ﴿كَيْدًا﴾؛ لأن الكيد كما أسلفنا هو التوصل إلى الإيقاع بالخصم من حيث لا يشعر، ولكن الله تعالى جعلهم الأسفلين، وذلك بعدم نيل مرادهم وخروج إبراهيم سالِمًا، فكان العلو له عليهم من وجهين: الوجه الأول: أنه سلم مما أرادوا من إهلاكه. الوجه الثاني: أن الله عز وجل أكرمه بأمر لم يكن معهودًا عند البشر، ما هو؟ سلامته من النار التي ظنوا أنها ستحرقه فصاروا أسفلين من هذين الوجهين؛ الوجه الأول، ما هو؟ * طالب: الأول: سلامته من كيدهم. * الشيخ: سلامته من النار التي أرادوا أن تهلكه، والثاني؟ * طالب: الثاني: أن الله عز وجل أكرمه بأمر لم تعتده البشرية. * الشيخ: صح، أن الله أكرمه بأمر لم يكن معهودًا، وهذا بلا شك يُوجِب أن يكون عاليًا عليهم بل عاليًا علوًّا بالغًا؛ لأنه قال: ﴿الْأَسْفَلِينَ﴾، والأسفلين هذه اسم تفضيل؛ أي البالغ في الأسفل أو في السفل غايته ﴿فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ﴾. وهنا نسأل عن إعراب: ﴿فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ﴾. * طالب: مفعول ثانٍ لـ(جعلنا). * الشيخ: أيها؟ * الطالب: ﴿الْأَسْفَلِينَ﴾. * الشيخ: والهاء؟ * الطالب: مفعول أول. * الشيخ: مفعول أول، وهذه (جعلنا) من أفعال القلوب ولَّا من أفعال التصيير؟ * طالب: من أفعال القلوب. * الشيخ: هل تعد (جعل) من أفعال القلوب؟ * طالب: بمعنى (...). * الشيخ: مثاله؟ جعل من أفعال القلوب؟ * الطالب: إذا كان بمعنى (أعطى). * الشيخ: إي نعم، لكن نريد مثالًا لها؟ * طالب: اجعل الدراهم في جيبك، ضعها. * الشيخ: لا، صيرها، وضعها ما هي من أفعال القلوب؛ من أفعال الجوارح ﴿وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا﴾ [الزخرف ١٩] جعلوا بمعنى (صيروا)؟ لا، لكن اعتقدوهم (...) إي وليست من أفعال القلوب، وكلاهما يعني (جعل) التي من أفعال القلوب أو التي من أفعال التصيير كلاهما ينصب مفعولين. قال: ﴿فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (٩٨) وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ [الصافات ٩٨، ٩٩]، وقال: مَنْ؟ إبراهيم. قال: مُعْلِنًا هجرته من بلدهم إلى بلد الشام، وإنما قال ذلك؛ لأنهم بلغوا إلى حد يكون به اليأس من هدايتهم، فإن قومًا أضرموا النار ليحرقوا بها داعيهم إلى الله لا يُرجَى فيهم خير؛ ولهذا قال: ﴿إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾، فإن قلت: هل أمر بذلك أو أُذِن له بذلك؟ فالجواب: نعم، أُذِن له بذلك، والدليل: أن الله سبحانه وتعالى أقرَّه فلم يُنكر عليه، لكن يونس عليه الصلاة والسلام لما ذهب من غير أن يؤذن له بَيَّنَ الله سبحانه وتعالى أن ذهابه عن غير إذن، فقال: ﴿وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ﴾ [الأنبياء ٨٧]، ولما ذكر هجرة إبراهيم لم يذكر ما فيه انتقاد عليه؛ ولهذا قال: ﴿وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي﴾ [الصافات ٩٩] قال المؤلف: (مهاجر إليه من دار الكفر ﴿سَيَهْدِينِ﴾ إلى حيث أمرني ربي بالمسير إليه وهو الشام فلما وصل إلى الأرض المقدسة قال: ﴿رَبِّ هَبْ لِي﴾ [الصافات ١٠٠]). ﴿وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي﴾ ولم يقل: إلى الله؛ لأن المقام يختص بالربوبية أكثر؛ إذ إن الربوبية مقتضاها التدبير، وهو الآن محتاج إلى مُدَبِّر يُدَبِّره إلى ما فيه مصلحته، فقال: ذاهب إلى ربي، والإضافة هنا إضافة تعطُّف وتحنُّن، وهي من الربوبية الخاصة؛ يعني إلى الرب الذي أرجو منه أن يهديني ويدلني لما فيه الخير. وقوله: ﴿سَيَهْدِينِ﴾ [الصافات ٩٩] (السين) هذه للتنفيس، وتفيد أمرين: تحقق الوقوع وقربه. ﴿سَيَهْدِينِ﴾ والمراد بالهداية هنا هداية الدلالة؛ أي: سيهديني إلى ما فيه الخير والصلاح لهذه الدعوة، وربما يقال: إنها تشمل هداية الدلالة وهداية التوفيق. ﴿إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (٩٩) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِين﴾ [الصافات ٩٩، ١٠٠] (هب لي ولدًا من الصالحين) أشار المؤلف بقوله: (ولدًا) إلى أن المفعول الثاني لـ(هب) محذوف، تقديره ولدًا. وقوله: ﴿مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ الصالح هو الذي صلح ظاهره وباطنه، ولزم من صلاحه أن يكون قائمًا بحقوق الله وحقوق عباده، وهو ضد الفاسد، وفساد كل شيء بحسبه، وصلاح كل شيء بحسبه، فصلاح الطعام أن يكون قابلًا للأكل مُهيئًا له، وفساده أن يكون غير صالح للأكل، ولا قابلًا للأكل، وصلاح الإنسان أن يكون مُهيئًا مُستعدًّا لما أمر به، قائمًا بأمر الله في حقوقه وحقوق عباده. ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠٠) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ﴾ [الصافات ١٠٠، ١٠١] (أي ذي حلم كثير) الفاء في قوله: ﴿فَبَشَّرْنَاهُ﴾ تدل على الترتيب والتعقيب، وربما تدل أيضًا على السببية؛ أي: فبسبب دعائه لله أجاب الله دعوته وبَشَّره بغلام حليم؛ أي: ذي حلم كثير، وأفادنا المؤلف بقوله: (ذي حلم كثير) إلى أن ﴿حَلِيمٍ﴾ هنا صيغة مبالغة، ولكن يحتمل أن تكون صفة مشبهة؛ أي: بغلام صفته الدائمة المستمرة الحِلْم. * طالب: النار قال: كانت بردًا يعني نار إبراهيم باردة على كل شيء ولَّا على إبراهيم خاصة (...)؟ * الشيخ: الله أعلم، أما ظاهر الآية: ﴿عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ [الأنبياء ٦٩] على إبراهيم فقط. * طالب: (...). * الشيخ: اللي غيره على طبيعته، هذا ظاهر الآية. * الطالب: (...). * الشيخ: إلا الآية. * الطالب: (...). * الشيخ: أما مسألة الطيور أنها تموت وتقع، هذا الله اعلم لكن ظاهر الآية أنها برد وسلام على هذا الرجل فقط. * * * * طالب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ﴿فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (٩٨) وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (٩٩) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠٠) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (١٠١) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (١٠٢) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (١٠٣) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٠٥) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (١٠٦) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (١٠٧) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٠٨) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (١٠٩) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١١٠) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الصافات ٩٨ - ١١١]. * الشيخ: قال الله تعالى: ﴿فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ﴾ أخذنا دلالة الفاء فقط أنها تدل على أن الله استجاب له فور دعائه. وقوله: ﴿بَشَّرْنَاهُ﴾ البشارة هي الإخبار بما يسر، هذا هو الأصل إذا أُخْبِر الإنسان بما يَسُر قيل: بُشِّر، وإذا أُخبر بما يخوف قيل له: أُنْذِر؛ ولهذا يذكر الله عز وجل دائمًا التقابل بين البشارة والإنذار ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا﴾ [البقرة ١١٩] ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ﴾ [النساء ١٦٥]، فالبشارة في الأصل هي الإخبار بما يسر، وقد تطلق على الإخبار بما يسوء إما من باب التهكم بالمخبَر، وإما من باب الجامِع بين البشارة والإنذار؛ لأن كل واحد منهما يؤثر في بشرة الْمُخبَر، البشارة تؤثر به سرورًا وفرحًا، واستنارة وجه، وراحة قلب، والإنذار بالعكس يظلم الوجه، ويصغر ولا ينتشب الوجه، ويحصل فيه الغم. المهم أن البشارة في الأصل الإخبار بما يسر، وقد تُطلق على الإخبار بما يسوء كقوله تعالى: ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [آل عمران ٢١] إما من باب التهكم بهم كما تقول مثلًا لشخص: أَبْشِر بالعقوبة تتهكم به، وإما من باب الجامع بينه وبين البشارة بما يَسُر، وهو أن كُلًّا منهما يؤثر على البشرة تأثيرًا يظهر. ﴿فَبَشَّرْنَاهُ﴾ (أي بشرنا إبراهيم) ﴿بِغُلَامٍ حَلِيمٍ﴾ (أي ذي حلم كثير) وما هو الحِلم؟ الحلم: هو التأني وعدم التسرع في مقابلة الأمور بل يتلقاها الإنسان بطمأنينة واتزان وتصرف رشيد، ضد الحليم هو سريع الغضب، سريع الانفعال، الذي لا يتأنى في الأمور، ولا يتروَّى فيها فتجده يرد الشيء مبادرة، أو يقبله مبادرة، فالْحِلْم -في الحقيقة- هو غاية ما يكون من الرشد. ووصف الله هذا الغلام هنا بالحِلم، وفي آيتين من كتاب الله وُصِفَ الغلام الذي لإبراهيم بالعلم؛ وذلك لأن الغلامين اثنان؛ أحدهما: وُصِفَ بالعلم، والثاني: وُصِف بالحِلْم، الذي وُصِفَ بالحلم، سيأتينا إن شاء الله تعالى بيان من هو، وأما الذي وُصِفَ بالعلم فهو إسحاق عليه الصلاة والسلام، كما تفيده الآيات التي جاءت في سياقها. ﴿فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (١٠١) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ﴾ [الصافات ١٠١، ١٠٢] ﴿فَلَمَّا بَلَغَ﴾ الضمير يعود على الغلام، والضمير في ﴿مَعَهُ﴾ يعود على إبراهيم، والسعي إما أن يراد به الكسب، وإما أن يراد به المشي، وكلاهما صحيح، ولكن الأقرب عندي أن المراد به المشي، فإن السعي يطلق على المشي كثيرًا كما في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ﴾ [الجمعة ٩]، وكذلك قال الله تعالى: ﴿وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ﴾ [البقرة ٢٠٥]، فالمراد بالسعي يعني المشي، ولكن كلمة (مع) تفيد المصاحبة؛ يعني صار تابعًا لأبيه يسير معه؛ لأنه ليس صغيرًا، قد مكث في مكانه، وليس كبيرًا انفرد بنفسه، فالصغير الذي في المهد لا يبلغ السعي مع أبيه، والكبير الذي انفرد يبلغ السعي لا مع أبيه؛ لأنه منفرد، أما هذا فقد بَلَغَ مع أبيه السعي، وكان ملازمًا له، وهذا أشد ما يكون الأب تعلُّقًا بابنه إذا كان في مثل هذا السن؛ لأن الصغير -كما تعلمون- الذي في المهد لا تتعلق به النفس، والكبير الذي انفرد كذلك لا تتعلق به النفس، إنما تتعلق بمن كان في مِثْل هذا السن، وهذه من حكمة الله عز وجل أن ابتُلِي إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه بهذا البلاء المبين. قال: ﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ﴾ [الصافات ١٠٢] (أي أن يسعى معه ويعينه، قيل: بلغ سبع سنين، وقيل: ثلاث عشرة سنة)، ويحتمل أن يكون ما بينهما، ما بين السبع إلى ثلاث عشرة؛ لأنه إذا زاد على ذلك فقد يستقل بنفسه، وما دون السبع أيضًا يحتاج إلى من يَعُوله، ولا تتعلق به النفس كثيرًا لا سيما نفس الأب، أما الأم فقد يكون تعلق نفسها بالصغير أكثر من تعلق نفسها بالكبير، ولكن الأب تتعلق نفسه بمثل هذا السن. لما بلغ معه السعي امتحن الله سبحانه وتعالى إبراهيم بمحنة عظيمة لا يصبر عليها إلا من كان في مثل حاله، واعلم أن هذا الولد هو بكر إبراهيم؛ يعني أنه أول مولود وُلِدَ له، ووُلِدَ له كما قيل: على كبر السن؛ يعني أنه كان كبيرًا، وُلِدَ له هذا المولود البكر الذي ليس له ولد سواه، فامتحنه الله، فأراه الله سبحانه وتعالى في المنام أنه يذبح هذا الولد، وهذا خبر بمعنى الأمر؛ لأن الذبح هنا مجرد فعل، رأى في المنام أنه يذبح ولده، فهو كما لو أُخْبِر بأنه يذبح ولده أُرِيَ، والإراءة إخبار بالقول ولَّا بالفعل؟ الإراءة إخبار بالفعل، ولهذا قيل: الخبر ما ترى لا ما تسمع. المهم أن الله أراه أنه يذبحه، وهذا خبر بمعنى الأمر كما سيأتي إن شاء الله تعالى في قوله: ﴿افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ﴾ [الصافات ١٠٢]، أراه الله ذلك، فلم ينزعج إبراهيم، ولم يتأثر واطمأن إلى هذا، ثم عرض الأمر على هذا الابن لا للاستشارة، ولكن للاختبار، وإلا فلا يمكن أن يستشير إبراهيم ابنه فيما أمره الله به أليس كذلك؟ وإنما عَرَضَ عليه الأمر ليختبره بهذا، وينظر مدى قوة تحمله لهذا الأمر العظيم. قال: ﴿قَالَ يَا بُنَيَّ﴾ يعني لما بلغ معه السعي وأُرِيَ ما رأى ﴿قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى﴾ (أي: رأيت) ﴿فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ﴾ شوف هذا التلطف ﴿يَا بُنَيَّ﴾ ليُبعد عن ابنه أنه ذَكَرَ ذلك عن جفاء؛ لأن الإنسان إذا كان يبغض ابنه فإنه لا يهمه أن يعذبه أو أن يذبحه ولا يتأثر بذلك، لكنه قال: ﴿يَا بُنَيَّ﴾ من باب التلطف به، وبيان أن الحنان قد بلغ في قلبه كل مبلغ، وصَغَّرَه فقال: ﴿يَا بُنَيَّ﴾ ولم يقل؛ يا ابني؛ زِيادة في التلطف. ﴿قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ﴾، قال: المفسِّر (أي: رأيت ولكنه عَبَّرَ بالمضارع ليدل على استمرار حكم هذه الرؤية) نعم، إني أرى في المنام أني أذبحك، هذه ماضٍ ولَّا مضارع؟ * طلبة: مضارع. * الشيخ: عبَّر بالمضارع عن الماضي ليبين أنه مستمر على تنفيذ حُكْم هذه الرؤيا، قال: إني أرى أني أذبحك، أو نَزَّلَ الماضي منزلة الحال كأنه الآن يرى أنه يذبحه. وعلى كل حال فإن (أرى) هنا أبلغ من (رأيت)؛ لأن (رأيت) شيء مضى، أما هذا فهو شيء حاضر يدل على الاستمرار، وأنه سيُنفِّذ حكم ما رأى. (﴿فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ﴾ ورؤيا الأنبياء حق وأفعالهم بأمر الله) هاتان كلمتان يُعبِّران عن سؤال مُقدَّر، أولًا: قوله: ﴿إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ﴾ [الصافات ١٠٢]، قد يقول قائل: رؤيا المنام أضغاث أحلام، فأجاب عن ذلك بقوله: (رؤيا الأنبياء حق)، أنا لو رأيت في منامي أني أعتقت عبيدي، أو أوقفت دوري، هل يكون ذلك نافذًا؟ لا، ولا أؤمر بذلك من أجل هذه الرؤيا، لكن رؤيا الأنبياء حق يعني أنها وحي. والجواب الثاني قال: (وأفعالهم بأمر الله) وهو أيضًا جواب عن سؤال مُقدَّر، وإذا كانت هذه الرؤيا حقًّا فهل يثبت بها حكم شرعي؟ فأجاب المؤلف بما يقتضي نعم، لماذا؟ لأن أفعال الأنبياء بأمر الله لا سيما مثل هذا الفعل العظيم هذا الفعل العظيم، هذا الفعل العظيم هو من أكبر الكبائر ليش؟ لأنه قتْل نفس بغير حق، وليست نفسًا بعيدة قتْل نفس قريبة، فهو جامع بين قتل النفس وبين قطيعة الرحم؛ لأن من قتل أجنبيًّا ليس كمن قتل قريبًا، لكن هذا الذنب العظيم إذا كان بأمر الرب الذي له ملكوت السماوات والأرض صار طاعة، كما أن السجود لغير الله شِرْك، ولما كان بأمر الله كان تركه كفرًا ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ [البقرة ٣٤]، المهم أن المؤلف أجاب عن هذه الرؤيا بأنها فِعْل من نبي، وأفعال الأنبياء بأمر الله عز وجل تقع بأمر الله؛ لأنهم معصومون. قال: (﴿فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى﴾ [الصافات ١٠٢] من الرأي؛ يعني فكر في أمرك، وانظر ماذا ترى) فكان جوابه جوابًا عجيبًا عظيمًا. ﴿قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ﴾، وهذا شبيه بما وقع من عائشة رضي الله عنها حين خَيَّرَها النبي ﷺ بين أن تبقى معه، وأن تفارقه للدنيا وقال لها: «اسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ»؛ يعني استشيريهم، فقالت رضي الله عنها:« أفي هذا أَسْتَأْمِرُ أَبَوَيَّ؟! إني أختارُ اللَّهَ ورسولَهُ والدارَ الآخرةَ »[[أخرجه البخاري (٢٤٦٨) من حديث عمر بن الخطاب.]]. قال: ﴿فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى﴾ [الصافات ١٠٢] من الرأي؛ يعني: فكرْ في أمرك وانظر ماذا ترى، فكان جوابه جوابًا عجيبًا عظيمًا ﴿قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ﴾ وهذا شبيه بما وقع من عائشة رضي الله عنها حين خيَّرها النبي ﷺ بين أن تبقى معه وأن تفارقه للدنيا وقال لها: «اسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ» يعني: استشيريهم. «فقالت رضي الله عنها: أفي هذا أستأمر أبوي؟ إني أختار الله ورسوله والدار الآخرة»[[أخرج البخاري (٤٧٨٥) ومسلم (١٤٧٥/٢٢) بسنديهما عن عائشة رضي الله عنها أخبرته أن رسول الله ﷺ جاءها حين أمره الله أن يُخَيِّر أزواجه، فبدأ بي رسول الله ﷺ فقال: «إِنِّي ذَاكِرٌ لَكِ أَمَرًا، فلا عليك ألا تستعجلي حتى تستأمري أبويك»، وقد علم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه، قالت: ثم قال: «إن الله قال: ﴿يا أيها النبي قل لأزواجك﴾ [الأحزاب: ٢٨]».. إلى تمام الآيتين، فقلت له: فَفِي أَيِّ هذا أستأمر أبوي؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة.]]. هنا قال: ﴿انْظُرْ مَاذَا تَرَى﴾ يعني: فَكِّرْ في أمرك. هل أنت مستعد لهذا الشيء أو لا؟ وهذا من باب الاختبار في حال هذا الابن وتهيُّئِه لتنفيذ ما أمر الله به أباه. ﴿فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى﴾ قال المؤلف أي: (من الرأي شاوره ليأنس بالذبح وينقاد للأمر به)، نعم لو أنه حين قام من النوم جر ابنه وذَبَحَه بدون أن يخبره لفات في ذلك فائدتان عظيمتان: الفائدة الأولى عدم ظهور تَقبُّل هذا الابن لأمر الله، والثانية أنه إذا أتاه بغتة صار أشد وقعًا في نفسه وأشد ألمًا مما لو أُخْبِر به؛ لأن الإنسان إذا أخبر بالشيء قبل أن يقع واستعدت نفسُه له وتهيأت صار الوالد العظيم يرد على النفس وهي أيش؟ متهيئة فيسهل عليها، بخلاف إذا ما وَرَد على غِرَّة فإنه يكون أشدَّ وقعًا وأشد ألمًا؛ ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (ليأنس بالذبح وينقاد للأمر به). قال: (﴿يَا أَبَتِ﴾ التاء عوض عن ياء الإضافة) وأصلها يا أبي، ولكن العرب قد يبدلون الياء تاء فيقولون: يا أبت، وعلى هذا فالتاء بدلا عن الياء فهي ياء المتكلم. (﴿افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ﴾ به) سبحان الله! ما قال: يا أبت لا مانع عندي، قال: ﴿افْعَلْ﴾ فحثه على أن يفعل، ولم يقل: افعل ما رأيت، قال: افعل ما تؤمر به حثًّا لإبراهيم على أن يفعل؛ لأنه إذا ذَكَّرَه أن هذا أمر الله فإنه يزيده قوة في تنفيذ هذا الأمر؛ لأن إسماعيل عليه الصلاة والسلام خاف أن تُدْرِكَ إبراهيم رحمةُ الولد فيراجعَ الله عز وجل في ذلك فأشار عليه أن يُبادِر بفعل ما أُمِرَ به، افعل ما تُؤْمَر، ولم يقل: ما رأيت، ليكون هذا أشد حثًّا لإبراهيم على الإقدام لهذا. (﴿افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ﴾ به ﴿سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾ ) ما شاء الله نعم، ﴿سَتَجِدُنِي﴾ هذه السين كما قلنا فيما سبق قريبًا للتنفيس وتفيد شيئين: التوكيد، وقرب الوقوع. والتأكيد يعني تحقق هذا الشيء، ولكنه لما كان أمرًا مستقبلًا والإنسان لا يثق أن يقوم بالأمر المستقبل قال: ﴿إِنْ شَاءَ اللَّهُ﴾ ﴿سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ﴾، وأتى بالاستثناء قبل ذِكْر المفعول الثاني للمبادرة به ﴿سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾ ولم يقل: ستجدني من الصابرين إن شاء الله، فبدأ بالاستثناء الدال على الاستدراك يعني: إن لم يشأ الله لن تجدني كذلك ولكن ﴿سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾. وقوله: ﴿إِنْ شَاءَ اللَّهُ﴾ جملة معترضة بين مفعولي (تجد) لأن المفعول الأول الياء والثاني ﴿مِنَ الصَّابِرِينَ﴾ أي: من الصابرين على أيش؟ على أمر الله، هذا الأمر العظيم الصابرين على بلاء الله؛ لأن هذا من بالبلاء العظيم أن يصبر الإنسان على أن يُقْتَل امتثالًا لأمر الله سبحانه وتعالى، وهنا لم يقل: ستجدني إن شاء الله صابرًا قال: ﴿مِنَ الصَّابِرِينَ﴾ إشارة إلى أنه عليه الصلاة والسلام سيكون له تَأَسٍّ بمن سبق حتى يكون من جملة المتصفين بهذا الوصف وهو الصبر. قال الله تعالى: (﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا﴾ [الصافات ١٠٣] خضعا وانقادا لأمر الله ﴿وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ﴾ ) ﴿أَسْلَمَا﴾ يعني: استسلما لأمر الله، وانقادا لأمره عن كره ولّا عن رضا ورغبة؟ عن رضا ورغبة بلا شك من الأب الذي عزم على أن ينفذ أمر الله، والابن الذي تَقَبَّل هذا الأمر بانشراح صدر وحَثٍّ لأبيه على أن يفعل ما أمره الله به، وهذا غاية ما يكون من الاستسلام وهذا استسلام القلب، ﴿وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ﴾ هذا استسلام الجوارح، يعني أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام تَلَّ ابنه للجبين يعني: صرعه على الأرض على جبينه ليذبحه، وإنما صرعه على جبينه من أجل ألا يرى وجهه حين يذبحه، ولئلا يرى الابن السكين فيفزع، ومعلوم أن رؤية المذبوح للسكين تريعه ويروى «عن النبي ﷺ أنه رأى رجلًا يَحُدَّ الشفرة ليذبح شاة فقال: «أَتُرِيدُ أَنْ تُمِيتَهَا ميتتين»[[أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (١١٩١٦) والأوسط (٣٥٩٠) بلفظ: «تريد أن تميتها موتتين» وبنحوه أخرجه الحاكم في المستدرك (٧٧٥٤)، والبيهقي في السنن الكبرى (٩/٢٨٠) كلهم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.]]؛ لأنه إذا ارتاعت البهيمة هذا روعة عظيمة، حتى إن بعض البهائم إذا رأى السكين تُحَدُّ هرب وهو بالأول مطمئن، المهم أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام تَلَّ ابنه للجبين بسرعة قوةً في تنفيذ أمر الله عز وجل. قال المؤلف رحمه الله: (﴿وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ﴾ صرعه عليه ولكل إنسان جبينان بينهما الجبهة، وكان ذلك بمنى وأَمَرَّ السكين على حلقه فلم تعمل شيئًا بمانع من القدرة الإلهية) ونحن نقول، وقلنا سابقًا أيضًا: إن قَصَص الأنبياء السابقين إنما يُؤْخَذ من الكتاب والسنة الصحيحة؛ لقوله تعالى: ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ﴾ [إبراهيم ٩]، ونحن في قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام لا ينبغي لنا أن نتجاوز القرآن ولا أن نُقَدِّر شيئًا لا يقتضيه السياق فهنا يقول: ﴿تَلَّهُ لِلْجَبِينِ﴾ صَرَعَه على جبينه، الجبين هذا طرف الجبهة؛ يعني القرنين، وذكرتُ لكم الحكمة في فعله هذا. وأما قول المؤلف: (وذلك بمنى) فهذا يحتاج إلى دليل هو لا شك أنه في مكة؛ لأن إسماعيل كان نشأ في مكة من صغره، ولكن كونه في منى هذا يحتاج إلى دليل من الكتاب أو السنة وإلَّا وجب التوقف فيه. يقول: (أَمَرَّ السكين على حلقه فلم تعمل شيئا بمانع من القدرة الإلهية)، هذا أيضا يحتاج إلى دليل، وليس في القرآن الكريم أنه أَمَرَّ السكين على حلقه، فالواجب علينا أن نتوقف في هذا، لا نصدِّق ولا نكذِّب، لأن القرآن لم يصدق ذلك ولم يكذبه، لكن عندي -والله أعلم- أن هذا لو وقع لكان من الحكمة أن يُذْكَر؛ لأن فيه دلالة على آية من آيات الله وهي عدم تأثير السكين في حلقه، ولو وقع مثل هذا لذكره الله عز وجل لما فيه من الدلالة على آية عظيمة من آيات الله، والذي نجزم به الآن أنه وقع أنه تله للجبين ليذبحه فقط، وكفى بذلك فخرًا أنه لم يَبْقَ إلا أن يمر السكين على حلقه، فماذا كان؟ قال الله تعالى: ﴿وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ [الصافات ١٠٤، ١٠٥]. قوله: ﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ﴾ (لما) هذه شرطية تحتاج إلى شرطٍ وجوابِه؛ فشرطها قوله: ﴿أَسْلَمَا﴾ ﴿وَتَلَّهُ﴾ معطوف عليه ﴿وَنَادَيْنَاهُ﴾ لا يستقيم أن نجعله معطوفًا على ﴿أَسْلَمَا﴾، ولكن اختلف العلماء في الواو هنا فقيل: إنها زائدة، وتقدير الكلام: فلما أسلما وتلَّه للجبين ناديناه: أن يا إبراهيم قد صَدَّقْتَ الرؤيا، وقال آخرون: ليست بزائدة؛ لأن زيادة الحروف المعنوية التي تقتضي المغايرة لا يمكن أن يقع في القرآن الكريم، بل هي معطوفة على شيء مُقَدَّر، فالتقدير: فلما أسلما وتلَّه للجبين تحقق تنفيذ أمر الله أو ما أشبه ذلك من الكلام المناسب، ثم عطف على الجواب المحذوف قولَه: ﴿وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا﴾ إلخ. * طالب: إبراهيم لما ترك هاجر وإسماعيل هل رجع إليهم؟ * الشيخ: إي، رجع إليهم وحصلت القصة هذه ثم ذهب ثم رجع مرة ثانية بعد أن تزوج إسماعيل. * طالب: ما ذكر في القرآن موقف أم اسماعيل. * الشيخ: إي نعم. * الطالب: (...)؟ * الشيخ: الله أعلم، ما نعرف لماذا لم يُذْكَر، هل هي قد ماتت أم هي موجودة؟ الله أعلم. * طالب: بالنسبة للرؤيا في المنام بعد انقطاع الوحي إذا رأيت فيها أمرًا شرعيا أو حكمًا هل يجوز العمل به؟ * الشيخ: أبدًا لا يجوز العمل بالرؤيا ولو صادقة فيما يخالف الأحكام الشرعية، أما ما يؤيد الأحكام الشرعية وتشهد له النصوص بالصحة يمكن. * من فوائد الآيات الكريمة في قوله تعالى: ﴿قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ﴾ [الصافات ٩٧] شدة كيد هؤلاء المكذبين لإبراهيم عليه الصلاة والسلام حيث أَروا الناس أنه بُنِيَ له بنيانًا دون أن يروه أنهم يريدون أن يحرقوه؛ لقوله: ﴿فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا﴾ [الصافات ٩٨]. * ومن فوائدها: أن النار التي أضرموها في هذا البنيان كانت عظيمة؛ لقولهم: ﴿فِي الْجَحِيمِ﴾ والجحيم هي النار العظيمة. * ومن فوائدها: عتوهم؛ لأنهم قالوا: ألقوه، والإلقاء يدل على العنف وعدم الرحمة، وهو كذلك هم لو كانوا يريدون رحمته ما هَمُّوا بإحراقه. * ومن فوائدها أيضًا: أن نيتهم هذه نية عدوان؛ لأنهم قالوا: ﴿ابْنُوا لَهُ﴾ واللام ذكرنا أنها أيش؟ للتعليل يعني: ما بنوا هذا البنيان إلا بهذه النية السيئة. * ومن فوائد هذه الآيات في قوله: ﴿فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ﴾ بيان ما يُكِنُّه أعداء الإسلام للمسلمين وللإسلام من إرادة الكيد بالإسلام وأهله، وهذا كما أنه في الأمم السابقة فيكون في الأمم اللاحقة؛ لقول الله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ﴾ [الفرقان ٣١]. * ومن فوائدها: الرد على الجبرية؛ لقوله أيش؟ ﴿فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا﴾، والجبرية ينفون أن يكون للإنسان إرادة في فعله؛ لأنهم يرون أن الإنسان مُجْبَر على الفعل وأن فعله الواقع بإرادته كفعله الواقع بغير إرادته، الكل عندهم سواء. * ومن فوائد الآية الكريمة: أن هؤلاء الذين كادوا كاد الله بهم فجعلهم هم الأسفلين. * ومن فوائدها: أن مَنْ تعالى على الحق فإن الله تعالى يجازيه بنقيض قصده؛ لأن هؤلاء أرادوا العلو والفساد في الأرض فعاملهم الله تعالى بنقيض قصدهم فجعلهم الأسفلين. * ومن فوائد الآية الكريمة: أن الحكم لله عز وجل، وأن بني آدم مهما بلغوا من الطغيان فإنهم تحت حكم الله تعالى وسلطانه؛ لقوله: ﴿فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ﴾. * ومن فوائدها: أن الجزاء من جنس العمل؛ لأن هؤلاء لما طغوا واعتدوا وتعالَوْا عاقبهم الله تعالى بالسفل المناقض لِمَا أرادوا فكانت العقوبة مناسبة للفعل. * ومن فوائد الآيات الكريمة في قوله: ﴿وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ [الصافات ٩٩] الثناء على إبراهيم عليه الصلاة والسلام بإعلانه الهجرة من بلده الذي يتضمن تحدي قومه وعدم مبالاته بهم؛ لأنهم لم يُمْسِكُوه ولم يمنعوه عن الهجرة وهذا من حكمة الله عز وجل أن يظهر التحدي في مثل هذا ولا يقع. * ومن فوائدها: ثقة إبراهيم عليه الصلاة والسلام بربه؛ حيث قال: ﴿إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾. * ومن فوائدها: الإشارة إلى الإخلاص في العمل؛ لقوله: ﴿إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي﴾، وهذا فيه إخلاص القصد لله عز وجل، وهذه هي النية الصالحة أن يكون الإنسان قاصدًا بعمله الوصول إلى رضا الله عز وجل. * ومن فوائدها أيضا: تَحَنُّن الإنسان إلى ربه في الدعاء بأن يأتي بالعبارات الدالة على التحنن والتعطف والافتقار إلى الرب؛ لقوله: ﴿إِلَى رَبِّي﴾ فأضاف الربوبية إلى نفسه من باب التلطف والتحنن إلى الله عز وجل. * ومن فوائد الآية الكريمة: أنه ينبغي بل يجب على الإنسان ألا يعتمد على نفسه، بل يعتمد على ربه عز وجل؛ لقوله هنا: ﴿سَيَهْدِينِ﴾. * ويستفاد من الجملة: ما أشرنا إليه أيضًا من الفوائد وهي ثقة إبراهيم بالله عز وجل. * ومن فوائد هذه الآيات في قوله: ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [الصافات ١٠٠] أن كلَّ أحد وإن علا قَدْرُه من البشر مفتقر إلى الله عز وجل، ومفتقر إلى من يُعِينُه؛ لقوله: ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ﴾، والمؤلف رحمه الله قَدَّر أن في الآية محذوفًا تقديره (ولدًا)، وكأنه خص هذا الطلب بالولد لقوله تعالى: ﴿فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ﴾ [الصافات ١٠١] على أن الآية تحتمل أن المحذوف ليس كلمة (ولدًا)، وأنه حُذِفَ المعمول لإفادة العموم؛ يعني هب لي من الصالحين مَنْ يكون عونًا لي من الأولاد وغيرهم، لأن القوم الذين كان فيهم غير صالحين فسأل الله أن يهب له من الصالحين مَنْ يُعينُه ويساعده فكانت الإجابة من الله أن بَشَّرَهُ بمن يعينه من صُلْبِه في قوله: ﴿فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ﴾ فيكون هذا الوجه الذي ذكرنا أعم من الوجه الذي قاله المؤلف، المؤلف خَصَّه بالولد بقرينة قوله: ﴿فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ﴾ وهذا الوجه الذي ذكرنا أنه عام، سأل الله أن يهبه من الصالحين مَنْ يكون عونًا له، وحُذِفَ المعمول لإفادة العموم. * ومن فوائد الآية: الحث على الاستعانة بالصالحين؛ لقوله: ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ وأنه ينبغي للإنسان أن يكون قرناؤه من الصالحين؛ لأن القرين الصالح يعينك على الخير ويحذِّرك من الشَّرِّ وكما مثل الرسول عليه الصلاة والسلام للقرين الصالح الجليس الصالح بحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن يبيعك وإما أن تجد منه رائحة طيبة[[متفق عليه؛ البخاري (٥٥٣٤)؛ ومسلم (٢٦٢٨ / ١٤٦) من حديث أبي موسى رضي الله عنه، ولفظه: «مثل الجليس الصالح والسوء، كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحا طيبة. ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد ريحا خبيثة».]]. * ومن فوائد الآية الكريمة في قوله: ﴿فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ﴾ إجابة الله سبحانه وتعالى للدعاء؛ لقوله: ﴿فَبَشَّرْنَاهُ﴾. والفاء هنا ماذا تفيد؟ * طالب: ما أعرف. * الشيخ: ما حضرت؟ * طالب: حضرت، لكن لا أعرف اللغة. * الشيخ: ما لغة هذه، هذه معنى. * طالب: تفيد التعقيب. * الشيخ: وغيره، التعقيب والترتيب. * الطالب: التعقيب والترتيب. * الشيخ: لكن التعقيب غير الترتيب غير. * طالب: الفورية. * الشيخ: هذا التعقيب. * طالب: السببية. * الشيخ: السببية على كل حال فبسبب دعائه بادرنا ببشارته فبشرناه. يستفاد -يعني يتفرع أو يلزم- من هذه الفائدة -وهي إجابة الله عز وجل لمن دعاه- صدق وعده؛ لقوله: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [غافر ٦٠] وقدرته على تحقيق ما وَعَد به؛ لأنه لو كان عاجزًا لم يُعْطِ ما دُعِيَ به؛ لأنه عاجز، ولكن الله عز وجل على كل شيء قدير. * ومن فوائد هذه الآية: الثناء على إسماعيل بوصفه بماذا؟ * طلبة: بالحلم. * الشيخ: بالحلم. * ومن فوائدها: تبشير المرء بما وُلِدَ له من ولد ولا سيما إذا كان ذكرًا؛ لأن الله عَبَّر عن إخباره إبراهيم أنه سيولد له، عبَّر عن ذلك بالبِشارة، فأخذ العلماء من هذا أنه تُشْرَع بِشارة مَنْ وُلِدَ له ولد ولا سيما إذا كان ذكرًا. وهل يستفاد من الآية الكريمة إثبات كلام الله؟ * طالب: (...). * الشيخ: لو كانت البشارة من الله لكان يستفاد من ذلك إثبات الكلام، لكن قد يكون بشرناه على لسان الملائكة؛ يعني الملائكة هي اللي بَشَّرَتْه، فالله أعلم. * ومن فوائد الآيات في قوله: ﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ﴾.. إلى آخره أن الله عز وجل قد يبتلي عبده المؤمن ببلوى عظيمة شديدة على النفوس وذلك بما أرى الله نبيه إبراهيم عليه الصلاة والسلام من ذبح ولده، نحن نعلم أن الله لو قدر على ولدك أن يموت لكان هذا مصيبة عظيمة، لكن إذا أمرك الله سبحانه وتعالى أن تذبحه أنت بنفسك صار هذا أعظم وأشد وصار الصبر على هذا الأمر أشد وأفضل من الصبر على موته بقدر من الله، أليس كذلك؟ الصبر على أنك أنت بنفسك تتولى قتل ابنك أشد مما لو أماته الله عز وجل بقدر من عنده. * ومن فوائد الآية: أن هذا الوقت الذي أُمِرَ إبراهيم بذبح ابنه فيه كان وقتًا يكون فيه تنفيذ الأمر شديدًا؛ لأنه بلغ معه السعي فتنفيذ الأمر في هذه الحال يدل على كمال عبودية المأمور حيث نفذه في أَشَدِّ ما يكون تَعَلُّقًا بابنه. * ومن فوائد الآية الكريمة: أنه ينبغي لمن أراد أن يُنَفِّذ شيئًا مكروهًا لشخص أن يأتي بأسلوب يدل على أنه لا يريد الإضرار به وإنما هو أمر لا بد منه؛ لقوله: ﴿يَا بُنَيَّ﴾ فإن إتيانه بهذه الصيغة على صيغة التلطف من أجل أن يبعد عنه تهمة أنه لا يحبه. * ومن فوائد الآية الكريمة: أنه يجوز امتحان الشخص بما لا يُؤْخَذ رأيه فيه ولكن للاستعلام؛ لقوله: ﴿إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى﴾ فإن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لا يريد أن ينظر لابنه إن قال: لا تذبحني ترك الذبح، بل يريد أن يعرف مدى قبوله واستعداده فيكون في هذا تورية، والتورية لاشك أنها جائزة للاستعلام والاستخبار ولا سيما عند الحكم في القضاء. وقد مر علينا «قصة سليمان عليه الصلاة والسلام في المرأتين اللتين تخاصمتا في ولد بينهما، حيث تخاصمتا عند داود فحكم به للكبرى، ثم تخاصمتا عند سليمان فدعا بالسكين ليشقه نصفين بينهما». وهل سليمان سيفعل؟ لا، لن يفعل أبدًا، لكن هذا من باب التورية واستطلاع الحقيقة، «فلما دعا بالسكين وأراهما أنه يريد أن يشقه نصفين قالت الصغرى: هو ولدها يا نبي الله»[[أخرج البخاري واللفظ له (٦٧٦٩)، ومسلم (١٧٢٠ /٢٠) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: «كانت امرأتان معهما ابناهما، جاء الذئب فذهب بابن إحداهما، فقالت لصاحبتها: إنما ذهب بابنك. وقالت الأخرى: إنما ذهب بابنك، فتحاكمتا إلى داود عليه السلام فقضى به للكبرى، فخرجتا على سليمان بن داود عليهما السلام فأخبرتاه، فقال: ائتوني بالسكين أشقه بينهما. فقالت الصغرى: لا تفعل يرحمك الله هو ابنها فقضى به للصغرى». قال أبو هريرة: والله إن سمعت بالسكين قط إلا يومئذ، وما كنا نقول إلا المدية.]] فعرف أنه لها؛ لأنها أدركها حب الولد فتنازلت عن حقها منه ودعواها والكبيرة رضيت؛ لأنه لا يهمها أن يقتل ابن هذه المرأة كما أكل الذئب ولدها. طيب، إذن يؤخذ من هذا أنه يجوز للإنسان أن يُوَرِّي بالشيء لاستطلاع الأمر واستظهاره؛ لأن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما قال لابنه: ﴿انْظُرْ مَاذَا تَرَى﴾ فإن ظاهر ذلك أنه يريد أن يستشيره ويأخذ رأيه إن وافق وإلا لم ينفذ، وليس الأمر كذلك بل أراد أن يختبره لأي شيء؟ لينظر مدى قبوله لهذا الأمر واستعداده لتنفيذه. * ومن فوائد الآيات: أن رؤيا الأنبياء حق؛ وذلك لأن إبراهيم اعتمدها ولو لم تكن حقًّا لم يعتمدها، لكن لو رأى أحدنا مثل هذه الرؤيا أنه يذبح ابنه فهل هذا حق؟ * طالب: نعم. * طالب آخر: لا. * الشيخ: لا، ليس بحق قطعًا؛ لأننا لا نؤمر أبدًا عن طريق المنام ولا عن طريق اليقظة بذبح أبنائنا، لكن إما أن تكون رؤيا ويكون فيها إشارة إلى شيء مشابه، وإما أن تكون من الشيطان ليحزنك، أما أن تكون أمرا يجب تنفيذه فهذا لا يمكن. * * * * الطالب: ﴿قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٠٥) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (١٠٦) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (١٠٧) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٠٨) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (١٠٩) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١١٠) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الصافات ١٠٥ - ١١١]. * الشيخ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، سبق لنا البحث إلى قوله: ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ أظن، بعده؟ * طالب: أخذنا أن رؤيا الأنبياء حق لأن إبراهيم اعتمدها. * الشيخ: * ومن فوائد الآيات في قوله تعالى: ﴿يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾. * من فوائد هذه الآية: أنه يجوز اختبار الإنسان ليُنْظَر مدى استعداده وقبوله للأمر؛ لأن إبراهيم عليه الصلاة والسلام اختبر ولده بذلك في قوله: ﴿فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى﴾، وقد سبق لنا أن هذا ليس من باب المشاورة لأنه من المستحيل أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام يستشير ابنه في تنفيذ أمر الله. * ومن فوائد الآية الكريمة: حسن أدب إسماعيل؛ حيث قال في جواب أبيه: ﴿يَا أَبَتِ﴾، ولم يقل: يا هذا، أو يسكت، بل قال: ﴿يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ﴾. * ومن فوائدها أيضًا: أن الخبر قد يكون بمعنى الأمر؛ لأن هذه الرؤيا -كما مر علينا- بمنزلة الخبر حيث لم يقل له في الرؤيا: اذبح ولدك، بل رأى نفسه يذبح الولد، ولكن الخبر قد يكون بمعنى الأمر، وهل يحتاج إلى قرينة في هذا أو لا؟ الجواب: نعم، يحتاج إلى قرينة؛ لأن الأصل في الخبر أنه لا يدل على الطلب، ولكن إذا وُجِدَ قرينة تقتضي ذلك كان أمرًا. * ومن فوائد الآية الكريمة: جواز حث المفضول للفاضل على فعل الأوامر؛ لقوله : ﴿افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ﴾. * فيتفرع على هذه الفائدة: أنه لا ينبغي للإنسان أن يُحَقِّر نفسه في الأمر بالخير فيقول مثلًا: هذا أجل مني، هذا أعلم مني، أكبر مني، فلن آمره بشيء، بل نقول: مر بالخير سواء كنت أصغر سنًّا أو شأنًا من المأمور أو مثله أو أكبر منه. * ومن فوائد الآية الكريمة: أنه ينبغي للإنسان أن يُعَلِّق كل أمر مستقبل على مشيئة الله؛ لقوله: ﴿سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾ فإن هذا أمر مستقبل، وينبغي أن يعلق الإنسان كل شيء مستقبل بمشيئة الله سبحانه وتعالى. فإن قال قائل: كيف نفهم هذا الحكم من قول إسماعيل؟ فالجواب: أن الله سبحانه وتعالى قصَّه علينا لنعتبر به كما قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [يوسف ١١١] ويؤيد هذا أيضًا شرعنا فإن الله قال لنبيه محمد ﷺ: ﴿وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (٢٣) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ [الكهف ٢٣، ٢٤]. * ومن فوائد الآية الكريمة: أن الصبر يكون على امتثال الأوامر وعلى المصائب؛ فإن قوله: ﴿سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾ أي الصابرين على تنفيذ هذا الأمر وعلى ما يقتضيه من الآلام؛ لأنه ذَبْحٌ، والصبر ثلاثة أقسام دلت هذه الآية على قسمين منها، والثالث الصبر عن معصية الله. * ومن فوائد هذه الآيات في قوله: ﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ﴾ فضيلة إبراهيم وإسماعيل؛ حيث استسلما لأمر الله في هذه الأمر العظيم الذي لا يقدم عليه إلا أمثالهما، ولا شك أن هذا من مناقبهما. * ومن فوائدها: أنه ينبغي للإنسان أن يحول بين نفسه وبين كل شيء قد يعيقه عن تنفيذ أمر الله؛ لقوله: ﴿تَلَّهُ لِلْجَبِينِ﴾ فإن هذا يهون عليهم الأمر فيهون عليهم التنفيذ وربما يتفرع على هذه الفائدة العمل لسد الذرائع ومنعها، الذرائع التي تحول بين المرء وبين تنفيذ أمر الله أو توجب أن يقع فيما نهى الله عنه. ثم قال: ﴿وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ ﴿نَادَيْنَاهُ﴾ ضمير الفاعل يعود على الله عز وجل، والنداء -كما سبق- يكون بالصوت العالي للمنادى بخلاف المناجاة فتكون بالصوت المنخفض، ولا شك أن الصوت العالي يقال لمن كان بعيدًا، والصوت المنخفض يقال لمن كان قريبًا. وقوله: ﴿أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ﴾، ﴿أَنْ﴾ هذه تفسيرية؛ لأنها -أي التفسيرية- هي التي تأتي بعد فعل أو بعد عامل يتضمن معنى القول دون حروفه فهي بمعنى أي. ﴿أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا﴾ صدقتها أي: فعلت ما يقتضي تصديق هذه الرؤيا، وقد رأى أنه يذبح ابنه وعزم على ذلك وقام ببعض العمل الذي يكون بين يدي الذبح فجعل الله تعالى ذلك تصديقًا، والرؤيا ما يراه الإنسان في منامه. وما يراه الإنسان في منامه ينقسم إلى ثلاثة أقسام: قسم رؤيا، وقسم حلم، وقسم يكون عن حديث النفس؛ أما الأول فإنه من الله وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام: «أن الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة»[[أخرجه البخاري (٦٩٨٩) من حديث أبي سعيد الخدري.]]، وأما الثاني فهو من الشيطان، وغالب ما يكون هذا فيما يمتنع شرعًا أو حسًّا أو عقلًا، أي: أن الشيطان يسول للشخص شيئًا ممتنعًا في الشرع أو ممتنعًا في العقل أو ممتنعًا بالحس، وغالب ما يكون هذا أيضًا من أجل إحزام الرأي وإخلال عقله، وقد «حدث رجلٌ النبي ﷺ بأنه رأى في منامه أنه قد ذُبِحَ وأن رأسه هرب، وذهب الرجل يشتد وراء رأسه يريد أن يطلب رأسه، فقال النبي ﷺ : «لَا تُحَدِّثُ النَّاسَ بِمَا يَتَلَاعَبُ بِكَ الشَّيْطَانُ فِي مَنَامِكَ»[[أخرج مسلم (٢٢٦٨ /١٥) بسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن رسول الله ﷺ أنه قال لأعرابي جاءه فقال: إني حلمت أن رأسي قُطِعَ فأنا أتبعه، فزجره النبي ﷺ وقال: «لا تخبر بتلعُّب الشيطان بك في المنام».]] لأن هذا الشيء غير معقول، إنسان قُطِعَ رأسه وهرب الرأس وذهب يشتد وراءه ليأخذه ويضعه على رقبته، هذا شيء ينافي العقل. أحيانًا يضرب لك الشيطان مثلًا بما يمتنع شرعًا كما يُذْكَر عن عبد القادر الجيلاني رحمه الله أنه رأى نورًا عظيمًا وسمع من هذا النور قولًا يقول: إني أنا ربك، وحدثه فقال: إنه قد وضع عنه الصلاة. فقال له: كذبت ولكنك الشيطان. بما عرف أنه كاذب؟ بأنه حدثه بما يمتنع شرعًا، فإن وضع الصلاة لا يمكن أن يكون أبدًا، وهي أهم أركان الإسلام والوحي قد انقطع فإذا رأى الإنسان في منامه ما يمتنع شرعًا فإنه من الشيطان. كذلك القسم الثالث من الحلم ما يريه الشيطان للإنسان في منامه لأجل أن يحزن وهذا كثير جدًّا، ودواء هذا ما أخبرنا به رسول الله ﷺ: «أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا رَأَى فِي مَنَامِهِ مَا يَكْرَهُ فَلْيَقُمْ وَلْيَتْفُلْ عَنْ يَسَارِهِ ثَلَاثًا، وَلْيَقُلْ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ وَمِنْ شَرِّ مَا رَأَيْتُ، ثُمَّ يَنْقَلِبُ إِلَى الْجَنْبِ الْآخَرِ، وَلَا يُحَدِّثُ النَّاسَ بِمَا رَأَى، وَبَعْدَ ذَلِكَ لَا يَضُرُّهُ هَذَا الْحُلْمُ»[[أخرجه أبو داود (٥٠٢١) بسنده عن قتادة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله ﷺ، يقول: «الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان، فإذا رأى أحدكم شيئًا يكرهه فلينفث عن يساره ثلاث مرات، ثم ليتعوذ من شرها، فإنها لا تضره».]] عرفتم؟ طيب، فصار ما يريه الشيطان النائم إما ممتنعًا عقلًا وإما ممتنعًا شرعًا، وإما لأجل الحزن وإدخال الهَمِّ والغَمِّ على الرائي؛ لأن الشيطان حريص على ما يؤذي الإنسان. أما القسم الثالث من أقسام الرؤيا فهو ما يُحَدِّث الإنسان به نفسه في اليقظة؛ فإنه لشدة تعلق نفسه به قد يراه في منامه، وهذا كثير أيضًا، وقد قال العامة: إن رؤيا أهل نَجْد حديث قلوبهم، أقولها باللغة العامية يعني يرون ما تتحدث به نفوسهم، وهذا شيء كثير يوجد، وقد حدثني بعض الناس أنهم كانوا إذا رَأَوْا رؤيا تقع على حسب ما رَأَوْا تمامًا إما في نفس اليوم أو بعد أيام قليلة، ويقولون: أن هذا الشيء مطرد لا نرى رؤيا إلا وقعت كما رأيناها، لا يَرَوْنها على سبيل المثل، بل يرونها هي مباشرة، وهذا شيء عجيب يعني حتى إن بعضهم يتأذى إذا رأى شيئًا يكره ثم وقع على حسب ما رأى، لكن على كل حال هذا شيء نادر، والنادر لا حكم له، فالحاصل أن الرؤيا في المنام تنقسم إلى ثلاثة أقسام، والقسم الذي من الشيطان ينقسم أيضًا إلى ثلاثة أقسام. (﴿قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا﴾ بما أتيت به مما أمكنك من أمر الذبح أي: يكفيك ذلك فجملة ناديناه جواب (لما) بزيادة الواو) وهذا سبق البحث فيه وبيَّنَّا أن الصحيح أن الواو ليس زائدة، ولكنها عاطفة على مُقَدَّر مناسب للمقام؛ لأن الواو من حروف المعاني وتفيد فائدة لا نستفيدها إذا قلنا بزيادتها، وما كان كذلك فإنه لا يمكن أن يكون زائدًا. قال: (﴿وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ﴾ كما جازيناك ﴿نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ لأنفسهم بامتثال الأمر بإفراج الشدة عنهم). ﴿إِنَّا كَذَلِكَ﴾ أي: مِثْل جزائنا إياك نجزي المحسنين؛ وذلك بإزالة الشدة عنهم إذا فعلوا ما أُمِرُوا به، وشاهد هذا قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (٢) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾ [الطلاق ٢، ٣]، ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا﴾ [الطلاق ٤]، فهاتان آيتان تدلان على أن الإنسان كلما اتقى الله زالت عنه الهموم وفُرجت عنه. وقوله: ﴿الْمُحْسِنِينَ﴾ يشمل الإحسان في عبادة الله والإحسان إلى عباد الله، أما الإحسان في عبادة الله فقد فَسَّره النبي ﷺ بقوله: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ»[[متفق عليه؛ البخاري (٥٠)، ومسلم (٩ / ٥) من حديث أبي هريرة.]]. وأما الإحسان في معاملة الخلق فقيل فيها: إنها بذل الندى، وكف الأذى، وطلاقة الوجه؛ بذل الندى يعني بذل المعروف القولي والفعلي والمالي والجاهي، هذا بذل الندى. كف الأذى معروف؛ أن تكف أذاك عن الناس أو أذاك للناس بالقول أو بالفعل. وطلاقة الوجه ألا تكون عبوسًا، بل تكون دائمًا منشرح الصدر مستنير الوجه. وكان النبي ﷺ دائمَ البشر كثير التبسم، والإنسان إذا كان كذلك يبقى هو نفسه مسرورًا منشرح الصدر دائمًا، وكذلك يكون مَنْ يقابله مسرورًا منشرح الصدر ولا بأس إذا وُجِدَ سبب حقيقي للعبوس وكانت المصلحة تقتضيه لا بأس أن يقوم به الإنسان لكن بشرط ألا يكون ممنوعًا شرعًا، فلو عبَّس الإنسان في وجه إنسان جاء يطلب الخير والحق وانشرح لآخرين لا يريدون ذلك فهذا لا يجوز له، ولهذا عاتب الله النبي ﷺ على ذلك في قوله: ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى (١) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى﴾ [عبس ١، ٢] إلى آخره، لكن إذا كانت الحال تقتضي ذلك بكون هذا الرجل لو أنك استبشرت في وجهه وأطلقت وجهك له زاد عُتُوًّا ونفورًا وطغيانًا، فإن الأولى ألا تريه انشراحًا. طيب، يقول: ﴿إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ [الصافات ١٠٥] (﴿إِنَّ هَذَا﴾ الذبح المأمور به، ﴿لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ﴾ أي الاختبار الظاهر) فهذه الجملة مؤكدة بمؤكدين: أولهما: (إِنَّ)، والثاني: اللام، بل الثالث؟ * طالب: قسم مقدر. * الشيخ: ضمير الفصل، ما فيها قسم مقدر، لكن فيها ضمير الفصل. ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ﴾ [الصافات ١٠٦] ولا شك أن الأمر -كما قال ربنا عز وجل- أنه بلاء مبين اختبار عظيم ظاهر أن أُمِرَ بذبح ابنه الذي فيه هلاكه وموته على يده، والواحد منا قد لا يطيق الصبر على موت ابنه الذي جرى بفعل الله عز وجل، فكيف يصبر على أن يذبح ابنه بيده؟ ولهذا قال الله: ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ﴾ [الصافات ١٠٦] قال: (أي الاختبار الظاهر) ففسر المؤلف ﴿الْمُبِينُ﴾ هنا بأيش؟ بالبين، ولكن يحتمل أن يكون المراد به ﴿الْمُبِينُ﴾ المظهر يعني الذي أظهر حقيقة إبراهيم عليه الصلاة السلام، وأنه يُقَدِّم محبة الله على ما يحب، قال أهل العلم: ولهذا جعله الله تعالى خليلًا له، والخُلَّة هي أعلى أنواع المحبة حيث قَدَّم عليه الصلاة والسلام ما يحبه الله على ما تحبه نفسه. (﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (١٠٦) وَفَدَيْنَاهُ﴾ [الصافات ١٠٦، ١٠٧] أي المأمور بذبحه وهو إسماعيل أو إسحاق قولان ﴿بِذِبْحٍ﴾ بكبش ﴿عَظِيمٍ﴾ من الجنة وهو الذي قربه هابيل جاء به جبريل عليه السلام فذبحه السيد إبراهيم مكبِّرًا) ﴿فَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ﴾ فدينا مَنْ؟ الذبيح علشان نأخذ بالقولين، الذبيح يعني الذي أُمِرَ بذبحه أي: جعل الله له فداء، فنُقِلَ الأمر من ذبح هذا الولد إلى ذبح أيش؟ * طلبة: الكبش. * الشيخ: الكبش؛ لأن الشيء الذي يقع فداء للشيء يكون بدلًا عنه ونائبًا منابَه، فانتقل الأمر من ذبح هذا المولود إلى ذبح الكبش فصار فداء له. وقوله: (بكبش عظيم) الكبش هو الكبير من الضأن يعني الكبير الجسم، وزيد في ذلك قوله: ﴿عَظِيمٍ﴾ [الصافات ١٠٧] يعني أنه من عظيم الكباش، ثم ما هذا الكبش؟ يقول المؤلف: (إنه الذي قربه هابيل) كيف قربه هابيل؟ هابيل أخو قابيل وكان قد قَرَّب قربانًا فتقبل منه وقَرَّب قابيل قربانًا فلم يتقبل منه فحَسَدَه قابيل وقال له: لأقتلنك، قال له هابيل: إنما يتقبل الله من المتقين، يعني: فلو اتقيت الله لقُبِلَ منك، والقصة معروفة في ابني آدم عليه الصلاة السلام، ولكن ما قاله المؤلف دعوى تحتاج إلى دليل وليس فيه دليل من الكتاب والسنة، بل إن الدليل على خلافها؛ لأن القربان الذي تقرب به هابيل لا يتعين أن يكون كبشًا، ثم على فرض أنه كبش فإنه قد ذُبِحَ وأُكِلَ و﴿لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ﴾ [الحج ٣٧]، لكن هذا مما يأخذه بعض المفسرين عن الإسرائيليات، ولا يجوز أن يؤخذ عن الإسرائيليات مثل هذا الكلام؛ لأن هذا كلام يقطع بكذبه، وأخبار بني إسرائيل إذا كان يقطع بكذبها لا يجوز نقلها إلا على سبيل التكذيب لها. وأما قول المؤلف رحمه الله: (وهو إسماعيل أو إسحاق قولان) فالأمر كما ذكر، اختلف العلماء رحمهم الله مَنْ هو الذي أُمِرَ بذبحه هل هو إسماعيل أو إسحاق؟ والصحيح أنه إسماعيل، بل إنه هو المتعين؛ لأن الأوصاف التي ذُكِرَت للذبيح ليست هي الأوصاف التي ذُكِرَت لإسحاق كما يظهر ذلك بالتأمل في الآيات؛ ولأن الله تعالى قال في هذه القصة بعد أن ذكر قصة الذبح قال: ﴿وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [الصافات ١١٢]، ولم يذكر ما جرى بعد هذه البشارة فتعيَّن أن يكون الذبيح هو إسماعيل، والله أعلم. * طالب: الرؤيا ثلاثة أقسام، ما هي الثلاثة أقسام؟ * الشيخ: إحنا ما ذكرناها؟ * طالب: أنا ما فهمت. * الشيخ: يفهمك مهند؟ * طالب: ثلاثة أقسام: الأول المنام، ثم الرؤيا، ثم القسم الثالث، ما يحدث به الانسان نفسه مما يراه في المنام. * الشيخ: الرؤيا التي من الله، والحلم الذي من الشيطان، وما يحدث الإنسان به نفسه (...)؛ الرؤيا من الله هي التي تكون حقًّا، وتكون في الغالب ضرب أمثال؛ «ولهذا لما رأى النبي ﷺ ثُلْمَةً في سيفه قبل غزوة أحد ورأى بقرًا تُنْحَر أَوَّلها عليه الصلاة والسلام بأن الثلمة في سيفه أن يُقْتَل رجل من أهله، وأما البقر التي تُنْحَر أن يقتل رجال من أصحابه»[[قال ابن هشام: وحدثني بعض أهل العلم، أن رسول الله ﷺ قال: «رأيت بقرًا لي تُذْبَح؟ قال: فأما البقر فهي ناس من أصحابي يُقْتَلون، وأما الثَلْم الذي رأيت في ذباب سيفي، فهو رجل من أهل بيتي يُقْتَل» سيرة ابن هشام (٢ / ٦٣).]]، ووقع الأمر كذلك، «ولما رأى في يديه سوارين من ذهب نفخهما عليه الصلاة والسلام فطارا فأَوَّلَها بأنهما كَذَّابان يَدَّعِيَان النبوة»[[أخرج البخاري (٣٦٢١)، ومسلم (٢٢٧٤ / ٢١) بسنديهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: «بينا أنا نائم رأيت في يدي سوارين من ذهب فأَهَمَّنِي شأنهما، فأوحي إليَّ في المنام أن انفخهما، فنفختهما فطارا، فأولتهما كذابين يخرجان من بعدي، فكان أحدهما العنسي صاحب صنعاء، والآخر مسيلمة صاحب اليمامة».]]، وهذا هو الذي وقع في حياته عليه الصلاة والسلام، وكذلك أيضًا رؤيا الرجلين اللَّذَيْن دخلا السجن مع يوسف، ورؤيا أبيه يعقوب، كل هذه ضرب أمثال (...). ﴿وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ﴾ هذه؟ * طالب: إي نعم. * الشيخ: أخذنا الفوائد نكمل القصة ونأخذ الفوائد جميعًا. * طالب: وقفنا على اختلاف العلماء في اسماعيل واسحاق. * الشيخ: في أيش؟ * طالب: وقفنا على اختلاف العلماء في اسماعيل واسحاق. * الشيخ: قال المؤلف: (﴿وَفَدَيْنَاهُ﴾ أي: المأمور بذبحه وهو إسماعيل أو إسحاق قولان)، (أو) في كلام المؤلف ليست للشك، ولكنها للتنويع؛ أي: من العلماء من قال: أن الذبيح إسحاق، ومنهم من قال: إن الذبيح إسماعيل، ولكن القول الراجح أن الذبيح إسماعيل لعدة أوجه منها: ما سيأتي في كلام المؤلف في قوله: ﴿وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ حيث قال المؤلف: (استدل بذلك على أن الذبيح غيره). ومنها: أن الله تعالى قال في إسحاق: بشرناه ﴿بِغُلَامٍ عَلِيمٍ﴾ [الحجر ٥٣]، وفي الذبيح قال: ﴿بَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ﴾ [الصافات ١٠١] وهذا غير هذا؛ لأن الذي وُصِفَ بالحلم هو الذي صبر على الذبح وتنفيذ أمر الله عز وجل. ومنها: أن الله وصف إسماعيل بأنه صادق الوعد ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ﴾ [مريم ٥٤]، وهذا الوصف إنما يقال في أمر عظيم صدق به الإنسان، والوعد الذي وَعَد هو قوله لأبيه: ﴿سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾ وقد وَفَّى بذلك. ومنها أيضًا: أن الله تعالى وصف إسماعيل بأنه من الصابرين، ولم يصف بذلك إسحاق فقال تعالى: ﴿وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾ [الأنبياء ٨٥]، ولم يذكر إسحاق ولم يصف إسحاق بالصبر، ومعلوم أن الصبر الذي صبره إسماعيل هو الصبر الذي يستحق أن يُثْنَى به عليه؛ لأنه صبر عظيم. ومنها: أن الله سبحانه وتعالى بَشَّر بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب فقال: ﴿وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ﴾ [هود ٧١]، ولو كان إسحاق هو الذي أُمِرَ بذبحه لكان هناك تناقض؛ لأنه كيف يؤمر بذبحه وقد بُشِّر بابن له أي: بإسحاق؛ لأن يعقوب ابن إسحاق، فإذا كان قد بُشِّر بأن له ولدًا اسمه يعقوب فلا يليق أن يؤمر بذبحه. وقد يقول قائل: إنه بُشِّر بيعقوب باعتبار المآل؛ لأنه إذا نسخ وجوب الذبح بقي هذا الولد ورزق ولدًا، فيقال: نعم هذا يمكن أن يرد به، لكن تفوت البشارة عندما يُؤْمَر بالذبح تكون البشارة بيعقوب قد انتفت في تلك الحال، ومن المعلوم أن الإنسان المُبَشَّر بالشيء لا يمكن أن يزعج بضده، إذا أُزْعِجَ بضده انقلبت البشارة سوءًا. هذا خمسة أوجه كلها تدل على أن الذبيح إسماعيل. الوجه السادس: قوله هنا: ﴿وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ﴾ [الصافات ١١٢] بعد أن ذكر قصة الذبح كاملة، ولا يمكن أن يكون في القرآن تكرار. السابع: أن الله تعالى ذكر البشارة بإسحاق للأم ﴿وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ﴾ ولم يذكر ذلك في إسماعيل. الثامن: أن الله تعالى قال في إسحاق: ﴿وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ وإذا كان قد بُشِّرَ بأنه نبي فإنه لا يليق ولا يسوغ أن يأمر بذبحه بعد أن بشر بنبوته. هذه ثمانية أوجه كلها تدل على أن الذبيح هو إسماعيل. التاسع: أنه روي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: «أَنَا ابْنُ الذَّبِيحَيْنِ»[[لم نقف عليه بهذا اللفظ، وقد ذكره الحاكم في مستدركه بغير إسناد (٢ / ٥٥٩). وقال العجلوني في كشف الخفا (١ / ١٩٩): قال الزيلعي وابن حجر في تخريج أحاديثه: لم نجده بهذا اللفظ، أما معناه فقد أخرج الحاكم (٤٠٨٠) بسنده عن عبد الله بن سعيد الصنابحي قال: حضرنا مجلس معاوية بن أبي سفيان فتذاكر القوم إسماعيل وإسحاق بن إبراهيم فقال بعضهم: الذبيح إسماعيل، وقال بعضهم: بل إسحاق الذبيح، فقال معاوية: سقطتم على الخبير كنا عند رسول الله ﷺ فأتاه الأعرابي، فقال: يا رسول الله، خلفتُ البلاد يابسة والماء يابسًا، هلك المال وضاع العيال، فعد علي بما أفاء الله عليك يا ابن الذبيحين، فتبسم رسول الله ﷺ ولم ينكر عليه.. الحديث.]] يعني إسماعيل وأباه عبد الله بن عبد المطلب، فإن صحَّ هذه الحديث فهو أيضًا دليل واضح على أن الذبيح إسماعيل؛ لأن النبي ﷺ كان من ذرية إسماعيل ولم يكن من ذرية إسحاق، بل كان من ذرية إسماعيل. طيب، ربما يأتينا أوجه أخرى تؤيد أن الذبيح كان إسماعيل. قال المؤلف رحمه الله: (﴿بِذِبْحٍ﴾ بكبش ﴿عَظِيمٍ﴾ من الجنة وهو الذي قَرَّبه هابيل جاء به جبريل عليه السلام فذبحه السيد إبراهيم مكبِّرًا) تقدم أن هذا قول ليس عليه دليل صحيح، وأن هذا الفداء كان من بهيمة الأنعام الموجودة في وقته، وليس هناك دليل على أنه من الجنة ولا على أن في الجنة كباشًا فالصواب أنه ذبح من ذبح الدنيا أمر إبراهيم عليه الصلاة والسلام بأن يذبحه، وظاهر الآية الكريمة أنه ذبحه فداء عن إسماعيل، ويجوز أيضًا أن يكون مع الفِداء شكرًا لله سبحانه وتعالى على نعمته بهذا البلاء المبين. قال: ﴿وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ﴾ ﴿تَرَكْنَا﴾ قال المؤلف: (أبقينا ﴿عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ﴾ ثناء حسنًا ﴿سَلَامٌ﴾ منا ﴿عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ ) أفادنا المؤلف رحمه الله أن الترك هنا بمعنى الإبقاء، وأن مفعوله محذوف تقديره ثناء حسنًا، وهذا أحد القولين في المسألة، والقول الثاني أن المفعول لـ﴿تَرَكْنَا﴾ هو قوله: ﴿سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ يعني أن الله ترك عليه في الآخرين السلام أي أن يسلم من الثناء القبيح، ورجح هذا ابن القيم رحمه الله في كتابه جلاء الأفهام، وقال: إن مفعول ﴿تَرَكْنَا﴾ هو الجملة في قوله: ﴿سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ هذا هو الذي ترك؛ ولهذا يثنى عليه إلى يوم القيامة، ويقال: اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، كما يقرأ في القرآن الكريم صفاته التي يثنى بها عليه. وقوله: ﴿سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ السلام يعني السلامة من النقائص والعيوب التي تعتري البشر، ومن الثناء القبيح الواقع عليه من غيره؛ ولهذا إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان الناس كلهم يفخرون بالانتساب إليه حتى اليهود قالوا: نحن على ملة إبراهيم والنصارى قالوا: نحن على ملة إبراهيم، قال الله تعالى: ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [آل عمران ٦٧]. ﴿وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٠٨) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (١٠٩) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ [الصافات ١٠٨ - ١١٠] (لأنفسهم). ﴿إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ﴾ الجملة هذه استئنافية يُقْصَد بها الثناء على إبراهيم بغاية ما يُثْنَى به وهو الإيمان والعبودية، العبودية في قوله: ﴿إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا﴾، والعبودية هنا العبودية الخاصة بل خاصة الخاصة؛ لأن العبودية تنقسم إلى قسمين عامة مثل. * طالب: مثل ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الفاتحة ٢]. * الشيخ: لا. * الطالب: مثل ﴿إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ [غافر ٤٤]. * الشيخ: ﴿إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ طيب، وخاصة؟ * الطالب: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا﴾ [الفرقان ٦٣]. * الشيخ: نعم، الخاصة هذه أيضًا فيها ما هو خاص فيه شيء من العموم، وفيها أيضًا ما هو أخص وهي عبودية الرسالة كقوله تعالى: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾ [الفرقان ١] وكلما كان أخص فهو أكمل وهل الأخص ينافي الأعم؟ لا، لأن الربوبية الخاصة أو العبودية الخاصة في ضمن الربوبية العامة أو العبودية الخاصة فكل من كان عبدًا لله بالمعنى الخاص فهو عبد له بالمعنى العام ولا عكس يعني ليس كل من كان عبدًا لله بالمعنى العام يكون عبدًا له بالمعنى الخاص. ﴿وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ﴾ بَشَّرْنا إبراهيم بإسحاق يعني: أعلمناه به على وجه يُسَرُّ به بعد البشارة الأولى بإسماعيل؛ ولهذا كان إسماعيل أكبر من إسحاق عليهما الصلاة والسلام. قال: (استدل بذلك على أن الذبيح غيره) ووجه الاستدلال أن هذه البشارة وقعت بعد قصة الذبح واستكمالها قوله: (﴿وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا﴾ حال مقدرة أي يوجد مقدرًا نبوته). قوله: ﴿بَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ﴾ أي: بولادته ووجوده، ﴿نَبِيًّا﴾ حال من إسحاق، وهل الحال هذه حال مقدرة أو حال واقعة؟ أفاد المؤلف بأنها حال مقدرة لكن لما كانت أمرًا واقعًا لا محالة وُصِفَ بها حال البشارة وإلا فإنه حال البشارة ليس بنبي؛ إذ إنه صغير، ولكن سيكون نبيًّا ولما كان هذا أمر محققًا جُعِلَ كأنه حال واقع وأمر واقع. وقوله: ﴿مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ أي: القائمين بحق الله وحق عباده. ﴿وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ﴾ [الصافات ١١٣] أي: على إبراهيم (بتكثير ذريته) ﴿وَعَلَى إِسْحَاقَ﴾ ابنه (ولده بجعلنا أكثر الأنبياء من نسله) صح، بارك الله على إبراهيم حيث جعل في ذريته النبوة والكتاب، كل الأنبياء بعد إبراهيم من نسله، وعلى إسحاق أيضًا؛ لأن أنبياء بني إسرائيل كلهم من نسل إسحاق، ليس من نسل إسماعيل نبي إلا واحد وهو محمد ﷺ. قال: (﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ﴾ مؤمن ﴿وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ﴾ كافر ﴿مُبِينٌ﴾ بَيِّن الكفر) ﴿مِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا﴾ أي: ذرية إبراهيم وإسحاق. ﴿مُحْسِنٌ﴾ أي: قائم بحق الله عز وجل وحق عباده، ومنهم ﴿ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ﴾ بارتكاب المعاصي والعدوان على الحق وعلى الخلق. ﴿مُبِينٌ﴾ أي: بَيِّن الظلم كما قال المؤلف، وعلى هذا فهي من (أبان) اللازم، ويجوز أن تكون من (أبان) المتعدي، ويكون المعنى مُظْهِر لظلمه، والواقع أن ذرية إسماعيل وإسحاق يتصفون بهذا الوصف، ظالم ومحسن؛ ولهذا لما قال إبراهيم حين قال لهم الله عز وجل: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة ١٢٤] كان في قوله تعالى: ﴿لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ إشارة أنه سيكون من ذرية إبراهيم مَنْ هو ظالم لا يستحق أن يكون إمامًا في دين الله عز وجل. قال: ﴿وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ﴾ (﴿وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ﴾ [الصافات ١١٤] بالنبوة) وموسى وهارون من ذرية إسحاق، وأكد الله مِنَّته عليهما باللام و(قد) والقسم المقدر. والمنة هي العطاء بلا ثمن، العطاء بلا ثمن يُسَمَّى منة، وأعظم عطاء يعطيه الله للإنسان هو النبوة. ولهذا قال: ﴿وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ﴾ قال المؤلف: (بالنبوة، ﴿وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا﴾ بني إسرائيل ﴿مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ﴾ [الصافات: ١١٥] أي: استعباد فرعون إياهم)، فذكر الله مِنَّتَه على موسى وهارون بالنبوة ثم بنجاتهما وقومهما من الكرب العظيم، وما هو الكرب؟ يحتمل أنه الهلاك كما سبق في نظيرها، ويحتمل أنه ما لحقهما من الشدة من فرعون، فإن فرعون استعبد بني إسرائيل وصار يُقَتِّل أبناءهم ويستحيي نساءهم ويذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم، فأحيانًا يذبحهم ذبحًا كالغنم، وأحيانًا يقتلهم قتلًا إما بأحجار أو بغيرها، المهم أنه كان يؤذيهم أشد إيذاء يسومهم سوء العذاب، ولا شك أن هذا سيكون فيه كرب عظيم على هؤلاء القوم، فنجاهم الله سبحانه وتعالى من ذلك فذكر الله مِنَّتَهُ عليهم به. قال: (﴿وَنَصَرْنَاهُمْ﴾ [الصافات ١١٦] على القبط، ﴿فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ﴾ ) ﴿نَصَرْنَاهُمْ﴾ الضمير يعود على موسى وهارون وقومهما، ثلاثة، نصرناهم على عدوهم وأعظم انتصار ما حصل في النهاية؛ حيث أُمِرَ موسى عليه الصلاة والسلام أن يخرج من مصر فاتجه إلى البحر الأحمر ولما بلغه أُمِرَ بضربه فضربه فانفلق، فخرج موسى وقومه سالمين ودخل فرعون وقومه فهلكوا، حتى أراهم الله سبحانه تعالى جُثَّة فرعون فوق الماء ليطمئنوا بموته ويتيقنوا ذلك؛ ولهذا كان ذلك نصرًا لهم. وقوله: ﴿فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ﴾ ﴿الْغَالِبِينَ﴾ في النهاية وإلا فإن أول الأمر كان فرعون قد سامهم سوء العذاب، لكن العبرة بالنهاية، والنهاية أنهم غَلَبُوا؛ لأن الله عز وجل يقول في آل فرعون: ﴿كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٢٥) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (٢٦) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (٢٧) كَذَلِكَ﴾ [الدخان ٢٥ - ٢٨] يعني الأمر كذلك مؤكد ﴿وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ﴾ وهؤلاء القوم هم بنو إسرائيل كما في آية الشعراء ﴿وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ [الشعراء ٥٩]، فهذا من النصر العظيم أن الله تعالى يورث هؤلاء القوم الذين استضعفوا في الأرض يورثهم أرض هؤلاء العتاة الطغاة الفراعنة بكل سهولة. في قوله: ﴿فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ﴾ إشكال لأن هم ضمير والغالبين منصوب فكيف ينصب الخبر؟! * الطالب: ضمير فصل. * الشيخ: ضمير فصل؟ وإذا كان ضمير فصل؟ * الطالب: ﴿الْغَالِبِينَ﴾ خبر كان. * الشيخ: خبر (كان) إي نعم، وضمير الفصل؟ * الطالب: ما له محل من الإعراب. * الشيخ: ما له محل من الإعراب، طيب. * طالب: قول المؤلف: (السيد إبراهيم) (...). * الشيخ: ليس له وجه في الواقع الحقيقة أن هذا كنت بأعلق عليه لكن نسيت، الواقع أن تسميته بالسيد فيه نظر لو أنه قال: إبراهيم أو الخليل أو الرسول، أما السيد في هذا المقام ما ورد ولا شك أن إبراهيم عليه الصلاة السلام سيد من سادات الخلق لكن كوننا نعبر عنه بهذا الوصف عند ذكره وندع وصفه بالرسالة أو العبودية أو ما أشبه ذلك فيه نظر. * طالب: بالنسبة لقوله تعالى: ﴿سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ ليش ما قال: سلام الله؟ * الشيخ: ما إعراب ﴿سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾؟ * طالب: مبتدأ. * الشيخ: ﴿سَلَامٌ﴾ مبتدأ، و﴿عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ خبر، طيب. * طالب: النكرة يمكن أن تكون مبتدأ؟ * الشيخ: يقول: النكرة هل يمكن أن تكون مبتدأ؟ * طالب: تكون مبتدأ. * الشيخ: طيب، لا تكون ولَّا تكون؟ * طالب: تكون. * الشيخ: ابن مالك يقول: ؎وَلَا يَجُـــــوزُ الِابْتِــدَا بِالنَّـــكِرَةْ ∗∗∗ .................... * طالب: (...) يقدم. * الشيخ: ما قدم هنا؟ * الطالب: يجوز. * الشيخ: يجوز الابتداء بالنكرة. * الطالب: إذا أفادت العموم أو الخصوص. * الشيخ: إذا أفادت، ولهذا قال ابن مالك: ؎........................ ∗∗∗ مَا لَمْ تُفِدْ................. فهنا أفادت، أما إذا جعلناها من قول الناس يقولون: سلام على إبراهيم كما اختاره ابن القيم فالفائدة منها أنها من باب الدعاء. * طالب: (...). * الشيخ: لا، من قول الناس، وأما على رأي المؤلف (﴿سَلَامٌ﴾ منا ﴿عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ ) فهي خبر محض؛ لأن الله سبحانه لا يدعو؛ لأنه هو الذي يُدْعَى، ولكن جاز الابتداء بالنكرة؛ لأنها مفيدة. * طالب: كثير من (...) يذكرون قصص الأنبياء يقولون اسم النبي من غير عليه السلام؟ * الشيخ: ما فيها شيء، لكن الأفضل أن يقول: عليه السلام أو ﷺ، هذا هو الأفضل، ويثاب الإنسان على هذا، لكن بعض الناس تأخذه العجلة. * طالب: وصف غير الأنبياء بالصلاة والسلام فيقال: كذا عليه السلام أو ﷺ؟ * الشيخ: وصف غير الأنبياء بالسلام ولَّا بالصلاة؟ * الطالب: بالصلاة والسلام. * الشيخ: بالسلام يجوز، (...) السلام عليك. * الطالب: (...). * الشيخ: أما بالصلاة على غير الأنبياء فإن كانت تبعًا فهي جائزة بالنص والإجماع (اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد) إن كان تبعًا فهذا جائز، وإن كان استقلالًا فإن كان لسبب جاز ذلك أيضًا ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ﴾ [التوبة ١٠٣] فإذا كان هذا السبب الذي جاؤوا به مما أمر بالصلاة عليهم بسببه صلينا عليهم، وإن كان لغير سبب فإن اتخذ شعارًا لهذا الشخص كلما ذُكِرَ قيل صلى الله عليه أو عليه السلام فإن أقل أحواله الكراهة وإن لم يُتَّخَذ شعارًا فالصحيح فلا بأس به. * طالب: (...) علي بن أبي طالب. * الشيخ: علي بن أبي طالب يتخذه الرافضة شعارًا. * الطالب: حتى الناس. * الشيخ: لا مهو بحتى الناس عندنا لا نعرف إلا أنهم يقولون: علي رضي الله عنه. * طالب: أو كرم الله وجهه. * الشيخ: هو يسأل عن السلام يا إخواني، ليش تنقلونا لمسألة ثانية؟ يسأل عن السلام والصلاة، أنا ما عمري سمعت أحدًا من الناس يقول: علي عليه الصلاة والسلام إلا الرافضة، وأما (علي كرم الله وجهه) فكذلك أيضًا الظاهر أنه مِنْ وَضْعِ الرافضة، ولا شك أن قولنا: (علي رضي الله عنه) أفضل بكثير من (عليه السلام) ومن (كرم الله وجهه)؛ لأن رضا الله هو أعلى نعيم في الجنة كما قال تعالى: ﴿وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾ [التوبة ٧٢] والسلام عليه معناها السلامة من الآثام فهي صفة سلبية، أما هذه فهي صفة إيجابية الرضوان لكن لجهلهم صاروا يقولون: عليه السلام، أو لأجل أن يمتاز علي بن أبي طالب رضي الله عنه بصفة لا يشاركه فيها أحد أو لتحقيق ما يدعيه بعض الرافضة من أن عليًّا كان هو النبي وأن جبريل -والعياذ بالله- خان الأمانة ونزل بالوحي إلى محمد، ولا غرابة أن يقولوا هذا كما قالوا: إن الصحابة خانوا ونكثوا عهد النبي عليه الصلاة والسلام فإنه أوصى إلى علي بن أبي طالب بالخلافة وهم ظلموه، ولهذا يستبيحون لعن أبي بكر وعمر ويقولون في دعواهم: إنهم ظلمة، ولعنة الله على الظالمين، فيستبيحون -والعياذ بالله- لعن خير الأمة بهذا الشبهة الباطلة. على كل حال لسنا بصدد الكلام عن الرافضة وعن بدعهم وعن ما هم عليه، لكن نحن نقول: إن تخصيص علي بن أبي طالب بـ(عليه السلام) أو (عليه الصلاة والسلام) أو (كرم الله وجهه) هذا نقص، فإن رضى الله عنه أكمل من هذا كله -رحمك الله- إذا رضي الله عنه فهذا أكبر ما يكون من الثواب كما قال الله تعالى: ﴿وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾. * * * * الطالب: ﴿وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (١١٧) وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (١١٨) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ (١١٩) سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (١٢٠) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ [الصافات ١١٧ - ١٢١]. * الشيخ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تعالى: ﴿وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا﴾. * من فوائد هذه الآية وما بعدها: إثبات الكلام لله عز وجل؛ لقوله ﴿وَنَادَيْنَاهُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا﴾، وأنه بصوت؛ لقوله: ﴿وَنَادَيْنَاهُ﴾، وبحرف؛ لقوله: ﴿أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾.. إلى آخره. * ومن فوائد الآية الكريمة: أن الآية شهدت لما دلَّ عليه الحديث الصحيح من قول النبي ﷺ: «وَاعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ»[[أخرجه أحمد (٢٨٠٣)، والطبراني في المعجم الكبير (١١٢٤٣) من حديث ابن عباس.]]، فإن أشد كرب وقع لإبراهيم بالنسبة لهذه القضية ما حصل منه حين تَلَّ ابنه على جبينه ليذبحه، فما تصورنا لهذا الحال؟ إنه لكرب عظيم، وفي هذا الكرب العظيم جاء الفرج من الله عز وجل: ﴿وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾، فالفرج يكون مع الكرب، وكلما اشتد الكرب والتجأ الإنسان إلى ربه كان الفرج إليه أسرع. * ومن فوائد هذه الآية: أن فيها شاهدًا للحديث الصحيح أن الإنسان إذا قصد العمل وسعى به كُتِبَ له أجره لقوله: ﴿وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا﴾ مع أنه لم يذبح لكنه فعل ما أُمِرَ به ولم يبق إلا أن يُنَفِّذه. وما هو الحديث الذي تشهد له هذه الآية؟ أولًا: ما ثبت في الصحيح في قصة «الرجل الذي قال: لَيْتَ لي مثل ما لفلان فأعمل فيه ما عمل فلان»[[أخرج الترمذي (٢٣٢٥) بسنده من عن أبي كبشة الأنماري رضي الله أن النبي ﷺ قال: «إنما الدنيا لأربعة نفر: عبد رزقه الله مالًا وعلمًا فهو يتقي فيه ربه، ويصل فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقًّا، فهذا بأفضل المنازل، وعبد رزقه الله علمًا ولم يرزقه مالًا فهو صادق النية يقول: لو أن لي مالًا لعملت بعمل فلان فهو بنيته فأجرهما سواء».. الحديث.]]، وكان ينفق ماله في الخير، وكذلك في قصة «الرجلان يقتتلان كلاهما يدخل النار فقيل: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: «لِأَنَّهُ كَانَ حَرِيصُا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ»[[أخرج البخاري واللفظ له (٣١)، ومسلم (٢٨٨٨ / ١٤) بسنديهما عن الأحنف بن قيس، قال: ذهبت لأنصر هذا الرجل، فلقيني أبو بكرة فقال أين تريد؟ قلت: أنصر هذا الرجل. قال: ارجع فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار». فقلت يا رسول الله هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: «إنه كان حريصًا على قتل صاحبه».]] فإذا كان مَنْ فعل السيئة ولم يُتِمَّها يؤزر عليها، فمَنْ فعل الحسنة ولم يُتِمَّها من باب أولى أن يُؤْجَر عليها. * ومن فوائد الآية الكريمة: أن العبادة ما أمر الله به وإن كانت في غير هذا الموضع معصية، فإن قتل الابن من أكبر الكبائر فإذا أَمَر الله به صار طاعة ومن أفضل الطاعات؛ لأن تنفيذه مِنْ أشق ما يكون على النفس فإذا نَفَّذَه الإنسان مع قوة الداعي لمنعه كان ذلك أفضل وأكمل، وهل لهذا نظير؟ الجواب: نعم، له نظير، فالسجود لغير الله شرك، ولما أمر الله به الملائكة أن يسجدوا لآدم صار السجود لآدم طاعة، فالحاصل أن العبادة ما أمر الله به وإن كان جنسها قد يكون معصية في موضع آخر. * ومن فوائد الآية الكريمة: العمل بالرؤيا إذا كانت صالحة، ولكن هل هذا في كل رؤيا؟ والجواب أن رؤيا الأنبياء فَنَعَمْ.. الجواب: نعم لهم نظير، فالسجود لغير الله شرك، ولما أمر الله الملائكة أن يسجدوا لآدم صار السجود لآدم طاعة. فالحاصل أن العبادة ما أمر الله به، وإن كان جنسها قد يكون معصية في موضع آخر. * ومن فوائد الآية الكريمة: العمل بالرؤيا إذا كانت صالحة، ولكن هل هذا في كل رؤيا؟ والجواب: أما رؤيا الأنبياء فنعم؛ لأن رؤياهم وحي، وأما رؤيا غيرهم فإن شهدت النصوص الشرعية باعتبارها أو وُجِدَت قرائن حسية تشهد لها عُمِلَ بها، وإلَّا فلا. إذن: رؤيا الأنبياء يُعْمَل بها مطلقًا، ورؤيا غيرهم لا يُعْمَل بها إلا إذا شهدت النصوص الشرعية باعتبارها أو وجدت قرائن حسية تشهد لها. مثال الأول ما ذكر ابن القيم عن شيخه ابن تيمية رحمه الله شيخ الإسلام رحمه الله: أنه رأى النبي ﷺ في المنام فسأله عن مسائل كانت قد أشكلت عليه، ومنها: أنه يقدم الجنائز لا يدرى أمسلمون هم أم كافرون، فقال له النبي ﷺ: عليك بالشرط يا أحمد، يعني أرشده إلى أن يشترط فيقول مثلًا: اللهم إن كان مؤمنًا فاغفر له وارحمه، هذه الرؤيا شهد الشرع باعتبارها وهو جواز الدعاء المعلق على شرط، مثل قوله تعالى في الرجل يقذف امرأته يشهد لنفسه أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين ﴿وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾ [النور ٧]، والمرأة كذلك تشهد بدرء ما رماها بها أربع مرات وفي الخامسة و﴿أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ [النور ٩] فهنا دعاء مُعَلَّق بشرط. ومثال الثاني: ما ذُكِرَ عن ثابت بن قيس رضي الله عنه الذي استشهد في اليمامة وأتاه رجل من الجيش فأخذ درعه ووضعه في رحله تحت قِدْرٍ فرأى أحد أصحاب ثابت بن قيس ثابتًا في المنام وأخبره بأنه مر به رجل وأخذ درعه ووضعه تحت قدر وهو بُرْمَةٍ وهو قِدْرٌ من الفخار وعنده فرس تستن، وذكر أشياء أوصى بها، فلما بلغ ذلك أبا بكر أنفذ وصيته؛ لأن الرجل الذي رأى هذه الرؤيا ذهب إلى المكان الذي ذكره ثابت فوجد الأمر كما قال فهنا وُجِدَت قرينة حسية تدل على صدق الرؤيا. * ومن فوائد هذه الآيات في قوله: ﴿إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ [الصافات ١٠٥] أن كل محسن فإن الله تعالى يجعل له من كلِّ هَمٍّ فرجًا ويكتب له أجر العبادة وإن لم يفعلها إذا سعى في أسبابها، وهذا له أمثلة كثيرة يمكن أن نذكر منها ما جرى لرسول الله ﷺ في حجة الوداع فإن النبي ﷺ حج قارنًا بلا شك وساق الهدي ومع ذلك قال: «لَوْ أَنِّي اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً»[[أخرجه مسلم (١٢١٨ / ١٤٧) من حديث جابر بن عبد الله وأصله في الصحيحين.]] فهنا تَمَنَّى ﷺ أن يكون قد تمتع ولكنه قرن فيُكْتَب له أجر التمتع الذي قال عنه: «لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً». فالإنسان المحسن الحريص على الخير قد يكتب الله له من الأجور ما هَمَّ أن يفعله وإن لم يفعلها. هذه واحدة. * ثانيًا: أن الله يفرِّج له كل كرب، وشاهد هذا قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (٢) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾ [الطلاق ٢، ٣]، ولكن لا بد في هذه الحال من قَيْدٍ وهو أن ينتظر الإنسان فرج الله عز وجل لا يَبْعُد بنفسه عن الله وييأس، لا، بل ينتظر الفرج فإذا انتظر الفرج مع تقواه وإحسانه فما أقرب الفرج إليه؛ لقوله: ﴿إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ [الصافات ١٠٥]. * ومن فوائد الآية الكريمة: بيان عظمة الرب عز وجل حيث أسند الفعل إليه بضمير العظمة ﴿إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ [الصافات ١٠٥]، ولا شك أن الله تعالى أثنى على نفسه بالعظمة والإحسان والفضل. * ومن فوائد الآية الكريمة: أن الجزاء من جنس العمل ﴿إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ [الصافات ١٠٥]، فكما أحسن في عبادة الله أحسن الله إليه، وقد قال الله عز وجل في سورة الرحمن: ﴿هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾ [الرحمن ٦٠] يعني: ما جزاء الإحسان إلا الإحسان، وبهذا يتبين لك كمال فضل الله عز وجل فإن الله عز وجل هو الذي أحسن إليك أولًا بتوفيقك للطاعات والإحسان، ثم أحسن إليك ثانيًا بماذا؟ بالجزاء عليه. فاعرف أيها المؤمن قَدْرَ نعمة الله عليك بالإحسانين؛ إحسان سابق للهداية هداك الله ووفقك، وإحسان لاحق وهو الثواب العظيم. نحن في الحقيقة في غفلة عن هذا، كثيرًا ما يعتمد الإنسان على نفسه بفعل الخير ولا يرى نعمة الله عليه به مع أن الواجب أن ترى نعمة الله عليك به، إذا أتيت مثلًا إلى المسجد فاعرف قدر نعمة الله عليك حيث سهل عليك المجيء إلى المسجد للصلاة أو لقراءة العلم؛ لأن الله حرم أممًا كثيرة عما مَنَّ الله به عليك، ما أكثر الذين لا يأتون إلى المساجد، وما أكثر الذين يحضرون بأبدانهم لا بقلوبهم، وما أكثر الذين يحضرون عادة لا عبادة، ما أكثر الذين حُرِموا التردد إلى المساجد لطلب العلم أو قراءة القرآن، كل هذه يجب أن يتفطن لها الإنسان وأن يعرف قدر نعمة الله عليه بها، ثم يرجو ثواب الله عز وجل عليها ويُحْسِن الظن بالله سبحانه وتعالى، وقد قال الله سبحانه تعالى: «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي»[[متفق عليه؛ البخاري (٧٤٠٥)، ومسلم (٢٦٧٥ / ٢) من حديث أبي هريرة.]] ﴿إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ [الصافات ١٠٥]. ثم قال عز وجل: ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ﴾ [الصافات ١٠٦]. * ومن فوائد هذه الآية: بيان أن الله عز وجل قد يختبر عبده المؤمن بمصائب يفعلها هو بنفسه أو بمصائب يُقَدِّرها الله عليه لا اختيار له فيها، أليس كذلك؟ اختبار الله عز وجل، يختبر المؤمن بمصائب، إما أن يفعلها هو بنفسه أو يجريها الله عليه بغير اختياره، والأول أكمل من الثاني يعني أن يبتلي الله الإنسان بمصائب يفعلها هو بنفسه، هذه أكمل من الثاني؛ لأن الثاني الذي يجرى عليه بالاختيار كما قال بعض السلف: إما أن يصبر صبر الكرام وإما أن يسلو سلوَّ البهائم، لكن الشيء الذي يفعله بنفسه أعظم وأكمل، ما جرى لإبراهيم من الاختبار من أي النوعين؟ * طلبة: من الأول. * الشيخ: من الأول الذي قَدَّر الله عليه مصيبة يفعلها بنفسه وهو ذبح ابنه فإنه سيفقده، وفقد الابن في هذا السن -وهو أيضًا وحيده الذي ليس له ولد سواه- لا شك أنه مصيبة عظيمة ولهذا وصفه الله بأنه بلاء مبين. * ومن فوائد الآية الكريمة: بيان حكمة الله عز وجل فيما يُقَدِّره على عبده المؤمن من مكروه، لا يقول الإنسان: لماذا ابتلاني الله تعالى بهذا دون غيري؟ نقول: لله في ذلك حكم عظيمة، يبتلي الله المؤمن بالمصائب، إذا صبر نال بذلك درجة الصابرين، وإذا احتسب الأجر بهذا الصبر نال بذلك ثواب الصابرين؛ والصبر كما نعلم جميعًا مرتبة عالية يوفى فيه العامل أجره بلا حساب، وهل يمكن صبر بلا مصبور عليه؟ أجيبوا. * طلبة: لا. * الشيخ: لا يمكن، إذن لا بد من ابتلاء وامتحان يُعلم به قدر صبر الإنسان حتى يثاب على قدر ما حصل منه من الصبر. * ومن فوائد الآية الكريمة: فضيلة إبراهيم وإسماعيل، وقد سبق، لكن من هذه الآية يتبين فضيلتهما بأنهما صبرا على هذا الابتلاء، صبرا صبر الكرام وأسلما، ولم يبق إلا التنفيذ حتى جاء الفرج من الله سبحانه وتعالى. * ومن فوائد الآيات الكريمة في قوله: ﴿وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ﴾ [الصافات ١٠٧] بيان أن رفع القتل أو رفع الذبح عن الابن جُعل له مقابل لتكميل التنفيذ والامتثال، وذلك بأن أُمِرَ إبراهيم بأن يذبح فداءً عن ابنه ويكون هذا الذبح أي المذبوح عظيمًا؛ فلهذا قال: ﴿فَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ﴾ يعني: أمرناه أن يذبح ذبحًا عظيمًا فداء له. * ومن فوائد هذه الآية على ما استنبطه بعض العلماء: أن الإنسان إذا نذر ذبح ابنه وجب عليه أن يذبح فدية عنه كبشًا، قال: لأن هذا هو الذي أمر الله به إبراهيم ليكون فداء عن ابنه، ومعلوم أن الإنسان إذا نذر أن يذبح ابنه فإنه لا يحلُّ له أن يوفي به لأنه نذر معصية، وقد قال النبي ﷺ: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ»[[أخرجه البخاري (٦٦٩٦) من حديث عائشة.]] إذن ماذا يصنع؟ قالوا: يذبح كبشًا كما أُمِرَ إبراهيم بذلك، وهذا الاستنباط جيد لولا مخالفته لظاهر السنة وهو أن من نذر معصية فإنه يحرم عليه فعلها ولكن يُكَفِّر كفارة يمين، فإذا قال شخص: لله علي نذر أن أذبح أول ولد يأتيني، ثم أتاه ولد، فإنه لا يحل له أن يذبحه، ولكن نقول: عليك -على القول الراجح- أن تُكَفِّر كفارة يمين. * ومن فوائد الآيات في قوله تعالى: ﴿وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٠٨) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ [الصافات ١٠٨، ١٠٩] أن الله تعالى أبقى لإبراهيم عليه الصلاة والسلام ثناءً حسنًا وسلامًا في الآخرين؛ ثناءً حسنًا يثنى عليه بما حصل منه من الدعوة إلى الله عز وجل والصبر على البلاء الذي حصل له بغير اختياره والصبر على البلاء الذي حصل له باختياره، فمن البلاء الذي حصل له بغير اختياره الإحراق حين قال قومه: ﴿حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ﴾ [الأنبياء ٦٨]، وأنتم تعلمون ماذا يحصل للإنسان عندما يُعزم على تحريقه أو على إحراقه لقاء الدعوة إلى الله؛ لأنه سيتألم لذلك ألمًا بدنيًّا وألمًا قلبيًّا. إن منا مَنْ إذا رأى عدم قبول الناس لدعوته تألم بمجرد أنهم لم يقبلوها، فكيف إذا ردوها وأحرقوه من أجلها أو حرقوه من أجلها! أليس هذا يكون أشد ألمًا على القلب؟ * طلبة: بلى. * الشيخ: طيب، إذن هذا لا شك أنه بلاء ومع ذلك صبر وأُلْقِيَ في النار، ولكن الله عز وجل أمر أن تكون بردًا وسلامًا عليه. البلاء الثاني اللي حصل باختياره هو الأمر بذبح ابنه وعزمه على أن ينفذ ذلك. طيب، هذا من الثناء الحسن على إبراهيم. كذلك أيضًا إبراهيم اتفقت الأمم على الثناء عليه وعلى ألا يعاب؛ ولهذا قال: ﴿سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ [الصافات ١٠٩]. فإن قلت: إننا -نحن هذه الأمة- نسلم على إبراهيم وغيره؛ فإننا نقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، قال النبي ﷺ: «إِنَّكُمْ إِذَا قُلْتُمْ ذَلِكَ سَلَّمْتُمْ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ صَالِحٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ»[[متفق عليه؛ البخاري (٨٣١)، ومسلم (٤٠٢ / ٥٥) من حديث ابن مسعود.]] ؟ فالجواب أننا نسلم على كل عبد صالح في السماء والأرض، ولكن سلامنا على إبراهيم وأمثاله من أولي العزم من الرسل أشد وأبلغ من سلامنا على عامة الصالحين. * ومن فوائد الآية في قوله: ﴿كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ [الصافات ١١٠] أن الله تعالى كرر هذه الجملة المفيدة لهذا الحكم ترغيبًا للناس في الإحسان، فيستفاد منها: أنه ينبغي لمن تكلم في أمر يُرَغِّب فيه أن يكرر؛ لأن النفوس كلما تكرر لها الحكم ازدادت طمأنينة فيه ورغبة فيه، وفي مقام الترهيب كذلك يُكرَّر، ألم تروا إلى قوله تعالى في سورة المرسلات: ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ [المرسلات ١٥]؟ حيث كُرِّرَت عدة مرات تحذيرًا وإنذارًا، فلكل مقام مقال، التكرار قد يكون من الركاكة ومن البُعْد عن البلاغة، لكن إذا كان في موضع يحسن فيه كان ذلك من البلاغة، وهنا كرر الله هذه الجملة: ﴿كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ [الصافات ١١٠] في عدة آيات. * ومن فوائد الآيات: في قوله: ﴿إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الصافات ١١١] الثناء على إبراهيم عليه الصلاة والسلام بهذين الوصفين وهما: العبودية، والإيمان. * ويتفرع على ذلك: أن من اتصف بالعبودية والإيمان ناله من الثناء بقدر ما اتصف به منهما، فكلما كان الإنسان لله أعبد وبه آمن كان الثناء عليه أكثر وأعظم، ولا تغترَّ بما تلاقيه في الدنيا من مجابهات فإن هذا قد يَرِد ولكن يكون أيش؟ امتحانًا واختبارًا، ويكون الثناء ولو بعد موت الإنسان، كم من أئمة من هذه الأمة أوذوا في حياتهم ولكن بعد مماتهم صار جزاء هذه الأذية أن الله تعالى رفع لهم الذكر، والشواهد على ذلك كثيرة، وكثير منكم يعرف منها كثيرًا، أن كثيرًا من أئمة هذه الأمة أوذوا في الله عز وجل وحصل لهم صدمات وحصل لهم أذى بالقول وبالفعل ولكن صارت العاقبة لهم والثناء الحسن بعد مماتهم. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: فضيلة العبودية لله عز وجل والإيمان به؛ لأنه لا شك أن المراد بقوله: ﴿إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الصافات ١١١] الثناء عليه، وإذا عُلِّق الثناء بل إذا عُلِّق الحكم على وصف فإنه يقوى بقوته ويضعف بضعفه، فإذا كان الثناء معلقًا بالعبودية والإيمان فكلما كان الإنسان أشد عبادة وأقوى عبادة كان أحق بالثناء، وكلما كان الإنسان أقوى إيمانًا كان أحق بالثناء والعكس بالعكس. * ومن فوائد الآيات الكريمة: في قوله: ﴿وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [الصافات ١١٢] مشروعية البشارة بالولد، وقد سبقت، وذلك لأن الولد يُسرُّ به الإنسان بلا شك، لا سيما إذا بُشِّر بأنه نبي كما في هذه الآية: ﴿وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ أو بأنه: ﴿غُلَامٍ حَلِيمٍ﴾ [الصافات ١٠١] كما في الآيات التي في إسماعيل. * ومن فوائد الآية الكريمة: الدليل الظاهر على أن الذي أُمِرَ إبراهيم بذبحه إسماعيل وليس إسحاق، وقد بينا في الدرس الماضي تسعة أوجه تدل على أن الذي أُمِرَ بذبحه هو إسماعيل. * ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات نبوة إسحاق؛ لقوله: ﴿إِسْحَاقَ نَبِيًّا﴾ [الصافات ١١٢]. * ومن فوائدها: أنه قد يُنَبَّأ الإنسان وهو صغير حين ولادته، كيف؟ ﴿بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا﴾ نقول: هذه الحال مقدرة، وليست حال حالية بل هي حال مستقبلة، كما مر علينا في التفسير أمس، إذن يستفاد منها بدل هذه الفائدة أنه ينبغي للإنسان عند البشارة أن يذكر ما يرجى من مستقبل ما بُشِّر به سواء كان ولدًا أم مالًا أم زوجة أم بيتًا أم غير ذلك. المهم أن الإنسان إذا توقع خيرًا في المستقبل فيما بَشَّر به فإنه ينبغي أن يقرن ذلك بالبشارة، لأن الله قرن نبوته بالبشارة به. * ومن فوائد هذه الآية: الثناء على إسحاق عليه الصلاة والسلام بكونه نبيًّا من الصالحين، والأنبياء عليهم الصلاة والسلام جمعوا بين الصلاح بأنفسهم والإصلاح لأممهم، فهم صالحون مُصلِحون. * ومن فوائد الآية الكريمة: أن النبوة وصف كمال؛ لأن الله تعالى قرنها بالبشارة فلولا أنها وصف كمال يستبشر به الإنسان لكان ذكرها لغوًا لا فائدة منه. * ومن فوائدة الآيات الكريمة في قوله: ﴿وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ﴾ [الصافات ١١٣] أن الله سبحانه وتعالى بارك على إبراهيم وعلى إسحاق؛ فمن بركات إبراهيم أن جميع الأنبياء من بعده كانوا من ذريته؛ لقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ﴾ [الحديد ٢٦] في ذريتهما، أما من سبق إبراهيم فهو من ذرية نوح، وأما من بعده فهو من ذرية نوح وإبراهيم كذا؟ ولَّا ما توافقوني؟ * طالب: من بعد يا شيخ ذرية إسحاق. * الشيخ: كيف؟ هنا (من ذريتهما) مَن؟ * طلبة: إسحاق وإبراهيم. * الشيخ: زين، الذي ليس من ذرية إسحاق هو من ذرية إبراهيم، أنا ذهب وهمي إلى نوح، الذي من غير ذرية إسحاق هو من ذرية إبراهيم، والذي من ذرية إسحاق من ذرية إبراهيم وإسحاق. مثال من لم يكن من ذرية إسحاق إسماعيل ومحمد ﷺ فإنهما من ذرية إبراهيم وليسا من ذرية إسحاق، أما أنبياء بني إسرائيل فكلهم من ذرية إسحاق. * ومن فوائد قوله: ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ﴾ [الصافات ١١٣] من فوائدها أن ذرية إبراهيم وإسحاق انقسموا إلى قسمين: محسن، وظالم، وهذا يشمل الإحسان المطلق ومطلق الإحسان، والظلم المطلق ومطلق الظلم، كذا؟ طيب، أو نقول: إن مطلق الإحسان يشترك فيه مطلق الظلم أو يشترك معه مطلق الظلم؛ لأن مَنْ جَمَع حسنات وسيئات ففيه مطلق الإحسان ومطلق الظلم؛ يعني: ليس فيه الإحسان الكامل لأن عنده ظلم، وليس فيه الظلم المطلق لأن عنده إحسان فيكون الإحسان المطلق والظلم المطلق متقابلان. الإحسان المطلق الذي إذا فعل معصية ذكر الله فاستغفر فرُفِعَ عنه أثر المعصية. والظلم المطلق: هو الكافر الذي ظلم بالكفر كما قال تعالى: ﴿وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [البقرة ٢٥٤]. فذرية إبراهيم وإسحاق ينقسمون إلى ثلاثة أقسام عند التفصيل: محسن مطلق، وظالم مطلق؛ المحسن المطلق هو المسلم بل هو المؤمن ﴿الَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ﴾ [آل عمران ١٣٥]. والثاني الظالم المطلق وهذا الكافر. بقي عندنا مَن عنده مطلق الإحسان وهو المؤمن أو المسلم الذي عنده معاصٍ. ومطلق الظلم وهو كذلك المؤمن أو المسلم الذي عنده معاصٍ، فإن كَثُرَت معاصيه على طاعاته صار إلى الظلم أقرب، وإن كثرت طاعاته على معاصيه صار إلى الإحسان أقرب. * ومن فوائد الآية الكريمة: ﴿وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ﴾ [الصافات ١١٣] أن الظلم يكون بينًا أو مظهرًا لصاحبه على حسب القول في ﴿مُبِينٌ﴾ هل بمعنى بين أي ظاهر، أو بمعنى مظهر لظلم صاحبه؟ لأن الظلم قد يكون ظلمًا بينًا واضحًا كالعدوان على الناس على أموالهم ودمائهم وأعراضهم فهذا يكون الرجل فيه مظهرًا لظلمه، وقد يكون خفيًّا يستتر به الإنسان فهذا ظلم بَيِّن بالنسبة له، ولكنه ليس مُظْهِر له لأنه قد أخفاه على الناس، والله أعلم. [[اختُصِرَ كلام المؤلف لشدة طوله]]
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب