الباحث القرآني
قال: ﴿وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ﴾ [الصافات ٨٣] أي ممن تابعه في أصل الدين.
﴿وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ﴾ هذه الجملة مكونة من (إن) واسمها وخبرها، واسمها متأخر ﴿إِبْرَاهِيمَ﴾ هو الاسم، والخبر مقدم ﴿مِنْ شِيعَتِهِ﴾، واللام هنا لام التوكيد، أي أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام من شيعة نوح عليه الصلاة والسلام، والشيعة تُطلق في اللغة على كل من شايع الإنسان وتابعه وأعانه وناصره، فهو شيعته، إبراهيم عليه الصلاة والسلام من شيعة نوح، أي من أتباعه وأشكاله وناصري ما جاء به من الشرع، فإن من نصر الشرع في أي زمان ومكان فإنه ناصر لجميع الشرائع؛ لأن تأييد الشرع الذي جاء من الله في أي زمان ومكان تأييد لشرع الله كله، ولهذا نحن مثلاً نفرح بانتصار الرسل وأتباعهم ولو كانوا في زمن بعيد، ولو كانوا ليسوا من الذين أرسلوا إلينا خاصة، فإبراهيم عليه الصلاة والسلام من شيعة نوح، أي من مؤيديه وأتباعه فيما جاء به، وليس في نفس الشريعة، ولكن في الجنس، أي أنه يؤيد وينصر الوحي الذي هو من جنس الوحي الذي جاء به نوح عليه الصلاة والسلام.
ولهذا قال المؤلف: (أي ممن تابعه في أصل الدين)، وهو قبول وحي الله عز وجل، والعمل به، والدعوة إليه، إذن جميع الرسل بعضهم لبعض شيعة، يعني هم كلهم يتناصرون ويؤمنون بالوحي كله. وقوله: (﴿لَإِبْرَاهِيمَ﴾ وإن طال الزمان بينهما، وهو ألفان وست مئة وأربعون سنة)، قوله: (وإن طال الزمان بينهما) هذا صحيح لا شك أن بين نوح عليه الصلاة والسلام وإبراهيم أزمانًا طويلة، لكن تقييدها بما ذكره المؤلف يحتاج إلى دليل صحيح؛ إما من كتاب الله أو سنة رسول الله ﷺ، ولا نعلم لهذا أصلًا في القرآن ولا في السنة.
فإن قيل: فإنما هو مما نُقل عن بني إسرائيل، لا نصدق به ولا نكذبه.
(وكان بينهما هود وصالح) ودليل ذلك أن الله سبحانه وتعالى يقرن قصة هود دائمًا بقصة نوح ومن بعدها قصة صالح، وهذا مما يدل على أن هؤلاء الثلاثة قبل إبراهيم، إدريس ذكر بعض المؤرخين أنه كان قبل نوح ولكنه قول ضعيف جدًّا؛ لأنه سبق لنا أن نوحًا عليه الصلاة والسلام هو أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض، والقول بأن إدريس قبله قول ضعيف، بل هو باطل في الواقع، فنوح أول الرسل، وإدريس يظهر -والله أعلم- أنه من أنبياء بني إسرائيل.
قال: ﴿إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ قال المؤلف: (أي: تابعه وقت مجيئه) يحتمل ما قال المؤلف وأن ﴿إِذْ﴾ متعلقة بقوله: ﴿شِيعَتِهِ﴾ أي: وممن شايعه حين جاء ربه بقلب سليم إبراهيم، ويحتمل أن ﴿إِذْ﴾ استئنافية، وأن تقدير الكلام: اذكر ﴿إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾، وهذا هو الأصح، فالصحيح أنها ليست متعلقة بذلك، وأنه من شيعته وقت المجيء، بل هو من شيعته وقت المجيء وغيره، لكن أراد الله هذا أن ننوه بهذا الوصف العظيم لإبراهيم عليه الصلاة والسلام ﴿إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ قال: (من الشك وغيره) ﴿إِذْ جَاءَ رَبَّهُ﴾ متى مجيئه لربه؟ هل المراد جاء ربه حين لاقاه بعد الموت، أو جاء ربه حين آذاه قومه وهددوه بالإحراق، أم نطلق كما أطلق الله؟ الأولى أن نطلق كما أطلق الله ونقول: ﴿جَاءَ رَبَّهُ﴾ في الوقت الذي يعلم الله سبحانه مجيئه فيه ﴿بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾. قال المؤلف: (من الشك وغيره) والصحيح أن السلامة أعم مما قال المؤلف، فهو سليم من الشبهات، وسليم من الشهوات، سليم من الشبهات، ليس فيه شك بأي وجه من الوجوه، بل هو على علم ويقين بما آمن به، سليم من الشهوات، ليس في قلبه هوى مخالف لما جاء به الوحي، وهذه هي سلامة القلب، أن يكون سالمًا من الشبهات التي تعرض له والشكوك، فيكون مؤمنًا حقًّا، وأن يكون سالمًا من الشهوات.
وما هي الشهوات؟
الشهوات: الإرادات المخالفة لما جاء به الوحي، فهل كل قلب يهوى ما جاء به الوحي؟ لا، القلوب جوالة يمينًا وشمالًا، أحيانًا قلب الإنسان نفسه يتجول في بعض الأحيان، يكون مقبلًا غاية الإقبال على الوحي محبًّا له مطبقًا له، وأحيانًا يجد فتورًا عن الإقبال على الوحي، وفتورًا عن تطبيق ما جاء به الوحي، ولهذا ينبغي للإنسان دائمًا أن يسأل الله سبحانه وتعالى الثبات على الأمر، وثبات القلب؛ لأن القلب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء، فعلى الإنسان ألا يغتر بنفسه ولا يعجب بعقيدته، عليه أن يسأل الله دائمًا الثبات؛ لأن القلب -كما قلت- يعتريه شبهات ويعتريه شهوات، أحيانًا يكون الإنسان مؤمنًا حقًّا، ثم يُلقي الشيطان في قلبه شبهة فيعمى والعياذ بالله ويضل، أحيانًا يكون الإنسان صالحًا مستقيمًا على أمر الله، فيلقي الشيطان في قلبه شهوة فيضل ويتبع الشهوات، فالقلب السليم هو السالم من أيش؟ من الشبهات والشهوات، بل فيكون إذا سلم من ذلك مستقيمًا على طاعة الله سبحانه وتعالى.
﴿إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾.
(﴿إِذْ قَالَ﴾ في هذه الحالة المستمرة له ﴿لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ﴾ ) هذا نقول فيه كما قلنا في: ﴿إِذْ جَاءَ رَبَّهُ﴾ أنها جملة استئنافية لبيان حال إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فكان قلبه سليمًا صالحًا في نفسه، ومع ذلك يحاول إصلاح غيره ﴿إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ﴾ (موبِّخًا لهم) ﴿مَاذَا تَعْبُدُونَ﴾، ﴿إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ﴾ قال المؤلف: (موبخًا لهم)، فالاستفهام هنا بمعنى التوبيخ، والتوبيخ يَستلزِم الإنكار عليهم وزيادة؛ لأنك قد تنكر على الإنسان بدون توبيخ، ولكن إذا وبخته فإن توبيخك مستلزم للإنكار عليه.
قوله: ﴿إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ﴾ سمى الله هذا الأب في سورة الأنعام فقال: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا﴾ [الأنعام ٧٤]، وكان أبوه مشركًا ووعده عليه الصلاة والسلام أن يستغفر له: ﴿سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا﴾ [مريم ٤٧]، فاستغفر له، ولكنه لما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه، ومحاورته بينه وبين أبيه في سورة مريم واضحة، كيف يخاطبه بالرفق واللين، ولكن ذلك يخاطبه بالشدة والعنف، قال له: ﴿لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي﴾ أي: دعني واتركني ﴿مَلِيًّا﴾ [مريم ٤٦] أي زمنًا طويلًا.
﴿إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ﴾ [الصافات ٨٥] ﴿مَاذَا تَعْبُدُونَ﴾ هذه جملة استفهامية، ولكن هل (ذا) ملغاة أو اسم موصول؟ يجوز الوجهان، فإن جعلناها اسمًا موصولًا أعربنا (ما) مبتدأ و(ذا) خبره، وجعلنا العائد محذوفًا والتقدير: ما الذي تعبدونه؟ هذا إن جعلناها اسمًا موصولًا، وإن جعلناها ملغاة فإننا نعرب ﴿مَاذَا﴾ جميعًا، ونقول: (ماذا) اسم استفهام مفعول مقدم لـ﴿تَعْبُدُونَ﴾، ﴿مَاذَا تَعْبُدُونَ﴾ أو نقول (ما) اسم استفهام مقدَّم، و(ذا) لا محل لها من الإعراب، حرف أو بمنزلة الحرف، ليس لها محل من الإعراب، على كل حال الإعراب لا يهمنا، إنما المعنى أنه أنكر عليهم وقال: ما الذي تعبدون؟ هل تعبدون إلهًا حقًّا، أو تعبدون إلها باطلًا.
(﴿أَئِفْكًا﴾ [الصافات ٨٦] في همزتيه ما تقدم) وهو التحقيق والتسهيل، تسهيل الثانية وإدخال ألف بينهما في التحقيق والتسهيل، فتكون القراءات أربعًا.
يقول: ﴿أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ﴾ يقول: (إفكًا مفعول له، وآلهة مفعول به لتريدون، والإفك أسوأ الكذب، أي: أتعبدون غير الله)، المؤلف رحمه الله أعرب لنا هذه الجملة فقال: إن (إفكًا) مفعول له، أي: مفعول لأجله، وإن قوله: ﴿آلِهَةً﴾ مفعول لـ(تريدون)، و(دون الله) صفة لـ(آلهة)، والاستفهام في قوله: ﴿أَئِفْكًا آلِهَةً﴾ كالذي قبله، لأي شيء؟ للتوبيخ، يعني أتريدون آلهة غير الله من أجل الإفك والكذب يحملكم على هذا الإفك، وهو أسوأ الكذب، المعنى: أتريدون آلهة دون الله تعبدونها، فالإرادة هنا بمعنى القصد، والآلهة بمعنى المألوهة، أي: المعبودة، تريدون ذلك للإفك الذي أفكتموه، وهو أسوأ الكذب، ولا شك أن أسوأ الكذب وأظلم الكذب من جعل مع الله إلهًا آخر، فإنه أكذب الكاذبين، وأظلم الكاذبين أيضًا، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان ١٣]، وهنا قال: دون الله، أي: سواه وغيره، وربما تشعر بدون المنزلة، أي أنها لا تساوي الله عز وجل، فكيف تريدونها آلهة وتقصدونها.
يقول: (﴿فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الصافات ٨٧] إذا عبدتم غيره أنه يترككم بلا عقاب) إلى آخره.
قوله: ﴿فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ الاستفهام هنا استفهام تهديد على كلام المؤلف، يعني ماذا تظنون أن الله فاعل بكم إذا عبدتم غيره، أتظنون أن يترككم؟ والجواب: لا، ويحتمل أن المعنى إذا اتخذتم مع الله غيره إلهًا فما ظنكم به؟ أتظنون أنه يقبل هذه الشركة؟ فالله عز وجل لن يقبل، قال تعالى: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ»[[أخرجه مسلم (٢٩٨٥ / ٤٦) من حديث أبي هريرة.]]، أو ﴿فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، فما ظنكم بعظمته وجلاله، لو كنتم عظمتموه حق تعظيمه ما أشركتم به غيره، فالمهم أن هذه الاستفهام في قوله: ﴿فَمَا ظَنُّكُمْ﴾ تشمل كل هذه المعاني، ما ظنكم به أن يترككم هملًا بدون عقاب، ما ظنكم به إذا اتخذتم معه غيره أنكم تنقصتموه، ما ظنك به أنه يرضى أن تعبدوا معه غيره، كل هذا أمر إن كانوا يظنونه فقط أساءوا الظن بالله، ولم يقدروا الله حق قدره، ولكن هذه الظنون تلزمهم إذا اتخذوا مع الله غيره، لا يمكن أن يفروا عنها، وقوله: ﴿بِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ سبق لنا أن المراد بالعالم هنا ما سوى الله عز وجل، كل ما سوى الله فهو عالم، وسموا عالمًا؛ لأنهم علم على الله، يستدل بمخلوقاته سبحانه وتعالى عليه، كما قال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ﴾ [فصلت ٣٧]، ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ﴾ [الروم ٢٠]، ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ﴾ [الروم ٢٢] إلى آخر ما استدل الله به على نفسه من آياته، فقوله: ﴿بِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ المراد بالعالمين من؟ من سوى الله، وسموا عالمًا لأنهم علم على خالقه ودليل عليه، وقوله: ﴿بِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ الربوبية هنا عامة ولَّا خاصة؟ عامة، ولهذا قال: ﴿الْعَالَمِينَ﴾ بالشمول لكل أحد.
قال المؤلف: (وكانوا نجامين، فخرجوا إلى عيد لهم وتركوا طعامهم عند أصنامهم، زعموا التبرك عليه، فإذا رجعوا أكلوه، وقالوا للسيد إبراهيم: اخرج معنا ﴿فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ﴾ ) هذا الكلام المقدر الذي زعمه المؤلف أنه محذوف من باب الإيجاز بماذا؟ بالحذف يحتاج إلى دليل أن هؤلاء القوم صنعوا طعامًا ووضعوه عند هذه الأصنام للتبرك عليه، وأنهم أرادوا أن يأكلوه بعد رجوعهم، وطلبوا خروج إبراهيم معهم، كل هذا يحتاج إلى دليل، وذكرنا فيما سبق أن قصص الأنبياء السابقين لا يعلمه إلا الله: ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ﴾ [إبراهيم ٩]، فإذا كان الأمر كذلك فإننا لا نتلقى أخبار هؤلاء القوم إلا من الوحي؛ إما بالكتاب وإما بالسنة، وما جاء من أخبارهم من غير هذا الطريق، أي: طريق الوحي، فإننا نتوقف فيه ما لم نعلم مناقضته للشرائع، فإن علمنا مناقضته للشرائع وجب علينا رده.
فإذن نقتصر في هذه القصة على ما ذكر الله عز وجل، وأن إبراهيم في يوم من الأيام نظر نظرة في النجوم من أجل محاجة قومه وإظهار عجزهم، فهو كقوله تعالى في سورة الأنعام عن محاجة إبراهيم لقومه: ﴿لَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ﴾ أي غاب ﴿قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ﴾ [الأنعام ٧٦]؛ لأن الرب لا يمكن أن يغيب عن مربوبه، فلما غاب هذا النجم علم أنه ليس برب؛ لأن الرب لا بد أن يكون له كمال الرعاية لمن كان ربًّا لهم.
﴿فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي﴾ [الأنعام ٧٧] والقمر أبين وأظهر من الكوكب ﴿فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ﴾ [الأنعام ٧٧]، وهذا تعريض لقومه بماذا؟ بالضلال، شوف، تدرج، الأول قال: ﴿لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ﴾ يعني وتبرأ من ذلك، الثاني عرض بأن قومه ضالون ﴿لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (٧٧) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ﴾ [الأنعام ٧٧، ٧٨]، وصحيح الشمس أعظم من القمر ﴿فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ﴾ [الأنعام ٧٨] فأعلن بشركهم وبالبراءة منهم، وهذا من كمال محاجته، فلا يبعد أن تكون هذه الآية ﴿فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ﴾ [الصافات ٨٨] من جنس المحاجة المذكورة في سورة الأنعام.
* طالب: شيخ، أحسن الله إليك (...) قوله عز وجل: ﴿جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ أن هذا بعد الموت (...) في سورة الشعراء ﴿وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (٨٧) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (٨٨) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [الشعراء ٨٧ - ٨٩] نقول: هذا ما يؤيد (...) بعد الموت.
* الشيخ: هذا ربما يؤيد أنه بعد الموت لكن ﴿إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ﴾ هذا في الحياة، فهذا الذي يمنع الجزم بأنه بعد الموت، ولهذا نطلق ﴿جَاءَ رَبَّهُ﴾ مجيئًا الله أعلم بعد الموت أو في حال الحياة.
* طالب: (...) منشورات يؤلفها بعض (...) في سيرة الأنبياء يضعون بعد آدم إدريس وبعده نوح.
* الشيخ: إي نعم، هذه يجب بيان أنها كذب.
* الطالب: غالبًا ما يكون المصدر للسماح من دار الإفتاء.
* الشيخ: غريب، ما رأيت هذا.
* طالب: (...).
* الشيخ: إي لكن من دار الإفتاء (...).
* طالب: (...).
* الشيخ: أرنيها، عشان نكتب لهم في الموضوع.
* طالب: (...).
* الشيخ: على كل حال نشوفها وننبههم.
* طالب: (...) المؤرخين كيف يعرفون أشياء سمعت اليوم (...).
* الشيخ: إي نعم، هذه، سلمك الله، الكسوف الآن يعلم الماضي والمستقبل، الآن هم يحددون الكسوف في المستقبل أو لا؟ يحددون كسوف المستقبل الآن، يقول لك: يبدأ الكسوف في الدقيقة الفلانية وينتهي في الدقيقة الفلانية، هم يعرفون الماضي كما يعرفون المستقبل، فحددوا الكسوف الواقع في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام في ذلك اليوم يوم الاثنين الموافق للتاسع والعشرين من شهر شوال سنة عشر في الساعة الثامنة والنصف بتوقيت القاهرة، السابعة والنصف في توقيت المملكة، أنا راجعت الوقت هذا بالتوقيت الإفرنجي أظن ما أدري والله في يناير نسيت في أي يوم من يناير، ووجدت أن بين كسوفه وبين طلوع الشمس أربعين دقيقة، يعني ثلثي ساعة، وبعض الروايات اللي جاءت في مسند أحمد: «لَمَّا ارتفعتِ الشمسُ قِيدَ رُمْحٍ»[[(٢٠١٧٨) من حديث سمرة بن جندب.]].
* طالب: كأنهم مؤيدون الكلام هذا، كأنهم مصدقون؟
* الشيخ: إي، لأن هذا (...) بالحساب هذا وشيء ماض يعلم بالحساب، وفيه دليل على أن المؤرخين، المؤرخون تدري متى يقولون؟ يقولون: إن إبراهيم رضي الله عنه إنه توفي في عاشر ربيع الأول، إبراهيم ابن النبي ﷺ في عاشر ربيع الأول، وهذا ما يمكن، الشمس ما يمكن تكسف في اليوم العاشر أبدًا.
* طالب: (...).
* الشيخ: لأن سبب كسوف الشمس حيلولة القمر بينها وبين الأرض، وفي يوم العاشر من ربيع ما يمكن هذا، هذا لا يمكن أبدًا.
* طالب: والقمر يا شيخ.
* الشيخ: والقمر ما يكون إلا في ليالي الإبدار.
* طالب: (...) يعني ليلة خمسة عشر.
* الشيخ: أربعة عشر، خمسة عشر، ستة عشر، يعني يمكن ليالي الإبدار؛ لأن سبب كسوفه السبب الكوني حيلولة الأرض بينه وبين الشمس، ولهذا لما مثل العلماء قالوا: إن طلعت الشمس والقمر كاسف فإنه لا تصلى صلاة الكسوف، نقول: هذا فرض مستحيل؛ لأنه لا يمكن أن تجتمع الشمس والقمر في أفق فيحصل كسوف أبدًا ولَّا لا؟ لأنه –الكسوف- يلزم أن يكون هو تحت الأرض علشان تحول بينه وبين القمر.
* طالب: (...).
* الشيخ: ما عمري سمعت أنه (...).
* طالب: (...).
* الشيخ: لا، كسفت، لكن حيث إنه ما بان ما (...) لا، كسفت عندنا كيف حطينا مراية؛ لأنك بالعين ما تشوفها، لكن حطينا مراية وشفناها كاسف يمكن حوالي بين الثمن والربع.
* طالب: لكن أعلن عنها كثيرًا يا شيخ (...) أعلن أكثر من مرة (...).
* الشيخ: لا، يقينا ما عندي فيها شك، وهذا شيء ذكره العلماء من قبل المحققين؛ كشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره وابن حزم (...) ما يمكن، هذا شيء يعلم بالحساب، ما هو بعلم غيب.
* طالب: وجهة نظر الفقهاء حينما قالوا إذا اجتمع كسوف وعيد.
* الشيخ: ما يمكن أبدًا.
* الطالب: هكذا افترضوا.
* الشيخ: لو اجتمع كسوف وعيد نقول هذا في شوال، يعني في عيد الفطر، إذا اجتمع كسوف وعيد علم أن اليوم ليس بعيد، وأن الشهود أخطؤوا في شهادتهم؛ لأن وهم الرائي أمر ممكن، لكن اختلاف العادة التي أجراها الله أمر غير ممكن، حتى العلماء أيضًا، قالوا: لو وقع الكسوف وهو واقف بعرفة –كسوف القمر- صلى ثم دفع؛ لئلا تفوت الصلاة هذه، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: هذه مسألة فرضية لا يمكن أن تقع أبدًا، لكن العلماء يقولون، الفقهاء يفرضون أشياء للتمرين على الأحكام الشرعية، مثل أن يقولوا ما فرضوا في الوصايا والفرائض عشرين جدة، عشرين جدة، متى تكون عشرين جدة؟ بقطع النظر عن الملحق بأبوين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة عشرين جدة وين؟ مين بيبقى له عشرون جدة يرثن، على كل حال هذه مسائل حسابية ما فيها إشكال (...).
* * *
* طالب: ﴿مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (٩٢) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (٩٣) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (٩٤) قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (٩٥) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (٩٦) قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (٩٧) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ﴾ [الصافات ٩٢ - ٩٨]
* الشيخ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ﴾ ما معنى قوله: ﴿مِنْ شِيعَتِهِ﴾؟
* طالب: أي من مناصريه في الشرع والوحي.
* الشيخ: إي نعم، وهذا المراد به في أصل الرسالة والوحي أو حتى في الفروع؟
* الطالب: المراد به أصل الرسالة والوحي.
* الشيخ: (...) الاستفهام هذا ما معناه؟
* طالب: إنكار عليهم.
* الشيخ: كيف الإنكار.
* طالب: المقصود فيه يعني ما تظنون بالله سبحانه وتعالى (...) أن يفعل بكم إذا اتخذتم معه آلهة غيره.
* طالب آخر: الاستفهام هنا للتهديد.
* الشيخ: للتهديد، يهددهم بالله عز وجل، إذا عبدوا غيره ما تظنون أن يفعل بكم أيترككم أم لا؟ هذا على رأي المؤلف فيه معنى آخر ذكرناه.
* طالب: يعني (...) هذا من باب التنقص (...) الله عز وجل ﴿فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (...) أن يفعل بكم
* الشيخ: هذا رأي المؤلف؟
* طالب: إي نعم.
* الشيخ: يعني ما الذي تظنون بالله عز وجل إذا عبدتم غيره أتظنونه يعني ناقصًا أم ماذا؟
* طالب: (...) من أربعة وجوه: الوجه الأول: أنه من باب التنقص، الوجه الثاني: ما ظنكم أيترككم الله ولا يعذبكم (...) فما ظنكم بربكم، أيسمح لكم أن تشركوا به؟ لقوله ﷺ: «تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ»[[أخرجه مسلم (٢٩٨٥ / ٤٦) من حديث أبي هريرة.]] (...). الوجه الرابع: فما ظنكم بعظمة الله سبحانه وتعالى.
* الشيخ: هذه أربعة أوجه كلها تحتملها الآية، ومر علينا أنه إذا احتملت الآية أوجهًا لا تتعارض فإنها تُحمَل على ذلك.
قوله: ﴿بِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ ولم يقل: بالله عز وجل، لماذا؟ نذكرها الآن لأن ما ذكرناها أمس، قال: ﴿بِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (...) ما ظنكم بالله إشارة إلى أن هذه الآلهة المعبودة مربوبة لله عز وجل، فكيف تكون معبودة من دونه فإن هذه الآلهة داخلة في ضمن ﴿الْعَالَمِينَ﴾؛ لأن مراده بـ﴿الْعَالَمِينَ﴾ من أو ما سوى الله عز وجل، ومنها أو ومنهم هذه الآلهة المعبودة، فإذا كانت هذه الآلهة المعبودة عندكم في ضمن المربوبات لله عز وجل فكيف يمكن أن تعبدوها مع الله، وقد ضرب الله سبحانه مثلًا لهذا في الإنسان المملوك هل يرضى سيده أن يشاركه فيما يختص به سيده: ﴿ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ﴾ [الروم ٢٨] ويش الجواب؟
* طالب: لا.
* الشيخ: ﴿ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ﴾.
* طلبة: (...).
* الشيخ: لا، ليس كذلك ﴿تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾ [الروم ٢٨] ليس هذا، فليس لنا مما ملكت أيماننا من شركاء في ما رزقنا الله، وتأمل قوله: ﴿فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ يتبين لك أن هذا رزق الله، ومع ذلك يحتكره الأسياد عمن؟ عن العبيد ﴿فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ﴾ وهذا هو محط الاستفهام والجواب: لا، وإنما قلنا: إن هذا محط الاستفهام لأنهم شركاء لهم في ما رزقهم الله، ولكن بقدر القوت والضرورة، فالعبد مشارك لسيده يأكل ويشرب ويلبس كما يفعل السيد، وهذا كله مشاركة في رزق الله، لكن هل هم مساوون لأسيادهم في ذلك؟ لا، إذا كان هكذا فلماذا تساوون غير الله بالله في عبادته. فالمهم أن قوله: ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ عليه الصلاة والسلام أراد بذلك إقامة البرهان على أن هذه الآلهة لا تصح أن تكون آلهة، لماذا؟ لأنها مربوبة لله عز وجل، والمربوب عبد لا يصح أن يكن ربًّا.
(﴿فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ﴾ إيهامًا لهم أنه يعتمد عليها ليعتمدوه ﴿فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ﴾ عليل أي: سأسقم ﴿فَتَوَلَّوْا عَنْهُ﴾ إلى عيدهم ﴿مُدْبِرِينَ﴾ ) إلى آخره ﴿نَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ﴾ هذا إبراهيم عليه الصلاة والسلام ﴿نَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ﴾ أي نظر إليها، وإنما فعل ذلك لأن قومه كانوا يعبدون النجوم ويضعون لها الهياكل في الأرض، وأصل العبادة للنجوم، فنظر في هذه النجوم، فلما نظر قال: ﴿إِنِّي سَقِيمٌ﴾، وإنما نظر فيها وهو لا يعتقدها عليه السلام من باب التورية، وهذا تورية بالفعل، فكما تكون التورية بالقول تكون التورية بالفعل، فالتورية بالقول كثيرة ومعروفة، التورية بالفعل أن يري الإنسان غيره أنه يرى شيئًا وهو لا يريده، أو أنه معرض عن شيء وهو قد وضع باله عليه، ربما أنت تسمع اثنين يتحادثان وتفعل شيئًا كأنك معرض عنهما، يعني تبدو مثلًا تشتغل (...) كتاب تشتغل في أي عمل تريهما أنك أيش؟ غافل عما يتحدثان به، ولكنك تسجل ما يتحدثان به، هذا من التورية بالفعل؛ لأنك أظهرت لغيرك خلاف ما يراه، والتورية بالقول أظهرت لغيرك خلاف ما يسمعه، فإبراهيم عليه السلام ورى بالنظر في النجوم ثم قال: ﴿إِنِّي سَقِيمٌ﴾ وفسر المؤلف (سقيم) بمعنى (سأسقم) وهذه تورية أيضًا تورية قولية.
نظر نظرة في النجوم، هذا إبراهيم عليه الصلاة والسلام نظر نظرةً في النجوم؛ أي نظر إليها، وإنما فعل ذلك؛ لأن قومه كانوا يعبدون النجوم، ويضعون لها الهياكل في الأرض، وأصل العبادة للنجوم، فنظر في هذه النجوم، فلما نظر قال: ﴿إِنِّي سَقِيمٌ﴾، وإنما نظر فيها وهو لا يعتقدها عليه الصلاة والسلام؛ من باب التورية، وهذا تورية بالفِعْل، فكما تكون التورية بالقول تكون التورية بالفعل، التورية بالقول كثيرة ومعروفة؛ التورية بالفعل أن يُرِي الإنسان غيره أنه يرى شيئًا وهو لا يريده، أو أنه مُعرِض عن شيء وهو قد وضع باله عليه، ربما أنت تسمع اثنين يتحادثان وتفعل شيئًا كأنك مُعْرِض عنهما؛ يعني تبدأ مثلًا تشتغل من كتاب، تشتغل في أي عمل تريهما أنك غافل عما يتحدثان به، ولكنك تسجل ما يتحدثان به، هذا من التورية بالفعل؛ لأنك أظهرت لغيرك خلاف ما يراه.
والتورية بالقول أظهرت لغيرك خلاف ما يسمعه، فإبراهيم عليه الصلاة والسلام ورَّى بالنظر في النجوم، ثم قال: ﴿إِنِّي سَقِيمٌ﴾ [الصافات ٨٩]، وفسر المؤلف سقيم بمعنى (سأسقم)، وهذه تورية أيضًا، تورية قولية؛ لأن ظاهر اللفظ ﴿إِنِّي سَقِيمٌ﴾ يعني الآن، ولا أستطيع الخروج معكم، ولكنه يريد سقيم سأسقم؛ لأن اسم الفاعل صالح للزمان الحاضر والزمان المستقبل، فيصح أن تقول: إني حاضر الآن، وإني حاضر غدًا، أليس كذلك؟ فلما كان صالِحًا للأمرين، ونظر نظرة في النجوم وقال: إني سقيم، تولوا عنه وتركوه وهو يريد -عليه الصلاة والسلام- بفعله هذا أمرًا سيتبين فيما بعد.
(﴿فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (٩٠) فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ﴾ [الصافات ٩٠، ٩١] أي: مال في خفية إلى آلهتهم وهي الأصنام وعندها الطعام) راغ إلى آلهتهم وهي الأصنام التي يعبدونها، قال: (وعندها الطعام) وأخذه المؤلف من قوله: ﴿فَقال: أَلَا تَأْكُلُونَ﴾ لأن عرض الأكل عليهم يدل على أن الأكل كان موجودًا.
(راغ إلى آلهتهم) أي: مال بخفية وانطلق بخفية، والروغان -كما هو معروف- هو السرعة؛ سرعة الإنسان، لكن على وجه لا أحد يحس به، هو راغ إلى هذه الآلهة؛ أي معبوداتهم ﴿فَقال أَلَا تَأْكُلُونَ﴾، و(ألا) هنا للعَرْض، وهذا القول هل هو على سبيل الإلزام؟ الجواب: لا، ليس على سبيل الإلزام، ولا يمكن أن يلزمها بأن تأكل؛ لأنه يعلم أنها لن تأكل، ولكنه قالها على سبيل الاستهزاء والسخرية وإلزام هؤلاء العابدين بأن هذه الأصنام لا تستحق العبادة، لا لأنها مستغنية عن الطعام ولكن لأنها لا تعقل ولا تعلم، والذي لا يعقل ولا يعلم لا يمكن أن يكون معبودًا، ثم إن صح وضع الطعام عندها من قبلهم، فإن هذا دليل على أنها ليست صالحة للألوهية؛ لأن الإله مُسْتغنٍ عن غيره؛ ولهذا أقام الله الدليل على أن عيسى بن مريم وأمه ليسا بإلهين؛ بكونهما يأكلان الطعام، وأنه سبحانه وتعالى وحده الإله الحق بكونه يُطعِم ولا يُطعَم، فاحتياج ما يُعبد إلى الطعام دليل على نقصه، وأنه لا يصح أن يكون إلهًا لكن هم من سخافتهم يجعلون هذا الطعام عندها كأنها تحتاجه وتأكله وتتصرف فيه.
يقول: ﴿فَقال أَلَا تَأْكُلُونَ (٩١) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ﴾ [الصافات ٩١، ٩٢] ﴿مَا لَكُمْ﴾ الاستفهام هنا للتحقير؛ يعني أنه يحقرها بكونها لا تنطق، وخاطب هذه الأصنام مخاطبَة العقلاء في قوله: ﴿مَا لَكُمْ﴾ ولم يقل: ما لَكُنَّ تنزلًا مع أصحابها الذين يجعلونها من ذوات العلم، وذوات القبول والدفع عنهم ﴿مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ﴾ يعني أي شيء يمنعكم من النطق إن كنتم آلهة؟!
فإذا قال قائل: هذا الخطاب لهذه الأصنام هل كان في غيبة عابديها؟ إن قلت: نعم، فما فائدة هذا الخطاب؟ وإن قلت: لا، فكيف الجواب عن قوله: ﴿فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ﴾ [الصافات ٩٠]؟
والجواب أن نقول: إن عابديها لم ينصرفوا كلهم عنها، بل كان عندها من الحراس ما يقتضي أن يتكلم إبراهيم عليه الصلاة والسلام على هذه الأصنام بمثل هذا الكلام، وإلا لو لم يكن عندها أحد لكان كلامه هذا لغوًا لا فائدة منه، لكن عندها من الحراس ما يستطيع أن يعلم عنها ما علمه إبراهيم بسبب أنه عرض عليهم الأكل، وأن هذه لا تنطق، وإذا كانت لم تنطق وليس لها إرادة ولا شعور لم تكن صالحة للعبادة.
﴿مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (٩٢) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ﴾ [الصافات ٩٢، ٩٣] في أول الآيات يقول: ﴿فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ﴾ أي: مال بخفية. و(إلى) للغاية، أما هنا قال: ﴿فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْب﴾، وإنما قال: (عليهم) دون (إليهم) لوقوع ذلك الضرب على هذه الأصنام؛ ليكسرها عليه الصلاة والسلام.
﴿فَرَاغَ عَلَيْهِمْ﴾ أي: على هذه الآلهة، وكما أشرت أولًا أنه خاطبها مخاطبة العاقل فأتى بميم الجمع.
﴿فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ﴾ بالقوة فكسرها.
قوله: ﴿ضَرْبًا﴾ هذه مصدر في موضع الحال؛ أي: فراغ عليهم ضاربًا باليمين، ويجوز أن تكون مصدرًا لفعل محذوف، والتقدير فراغ عليهم يضرب ضربًا.
وقول المؤلف: (باليمين أي: بالقوة) لا يتعين بل يجوز أن يكون باليمين؛ أي: باليد اليمنى، وضرب بها؛ لأن اليد اليمنى هي آلة العمل غالبًا؛ ولأنها -أي اليد اليمنى- أقوى من اليد اليسرى في الغالب؛ ولهذا تجد من النادر أن يكون بعض الناس أعسر، يعمل بيده اليسرى عمله بيده اليمنى.
﴿فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ﴾ (بالقوة فكسرها فبلغ قومه ممن رآه ﴿فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ﴾ [الصافات ٩٤] أي: يسرعون المشي، فقالوا له: نعبدها وأنت تكسرها!) لما بلغ قومه ما صنع أقبلوا إليه يزفون؛ أي: يسرعون على وجه الجماعات بدليل قوله: أقبلوا بالواو، فهم أقبلوا إليه مسرعين للإنكار عليه، لماذا كسرها؟ وقد ذكر الله تعالى في سورة الأنبياء ﴿قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِين﴾ [الأنبياء ٥٩]، فجعلوا ذلك ظلمًا وعدوانًا، فجاؤوا يزفون لينتصروا لآلهتهم، وهكذا العابدون للأصنام ينتصرون للأصنام، والأصنام لا يستطيعون نصرهم، لكن هم جند محضرون لها.
إذن أقبل هؤلاء يزفون إلى إبراهيم لينتصروا لآلهتهم، ولكنه -عليه الصلاة والسلام- كان قويًّا في ذات الله، قال لهم موبخًا: ﴿أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ﴾ [الصافات ٩٥] (من الحجارة وغيرها أصنامًا؟ والاستفهام هنا للتوبيخ والإنكار)، والحقيقة أنه للتوبيخ والإنكار والاستهزاء بهم، كيف تعبدون شيئًا أنتم تنحتونه بأيديكم؟! وهل يليق عقلًا أن يكون المعبود مصنوعًا لعابده؟!
الجواب: لا يليق، لا يفعل هذا إلا أسفه السفهاء، شيء تصنعه أنت بيدك، ثم تعبده، وتتضرع إليه، وتنيب إليه، وتتعلق به، وترجو منه النفع والضرر! هذا من السفه، ولكن -والعياذ بالله- الإنسان إذا أعمى الله بصيرته، لا يغنيه بصر العين، وكانوا في الجاهلية يفعلون شِبْه هذا الفعل، كانوا إذا نزلوا أرضًا في سفر جمعوا أربعة أحجار، ثلاثة منها للقِدْر وواحدًا للعبادة، فصار هذا الحجر المعبود مساويًا لمناصب القدور، وبعضهم يقولون: إنهم كانوا يعجنون إلهًا من العجوة؛ يعني من التمر، تمثالًا من التمر يعبدونه من دون الله، فإذا جاعوا أكلوه، ما يقولون: أطعمنا أو هيِّئ لنا طعامًا، هو نفسه يُؤكل هذا من السفه، كذلك أصحاب إبراهيم عليه الصلاة والسلام؛ قوم إبراهيم، صنعوا آلهة هم بأيديهم، ثم صاروا يعبدونها.
وقول المؤلف: (أصنامًا) أشار به إلى أن تنحتون تنصب مفعولين، أحدهما: العائد للموصول الذي تقديره: ما تنحتونه، والثاني: هذا المحذوف الذي قدَّره المؤلف، أتعبدون ما تنحتونه أصنامًا؟
قال: (﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ [الصافات ٩٦] من نحتكم، ومنحوتكم فاعبدوه وحده، و(ما) مصدرية، وقيل: موصولة، وقيل: موصوفة).
﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ﴾ وإذا كان الله هو الخالق فهو أحق بالعبادة، هل الأحق بالعبادة مَنْ خلقكم أو من خلقتموه؟ مَنْ خلقكم، ولهذا قال: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ قال: (من نحتكم ومنحوتكم)، أتى رحمه الله بالمصدر، وأتى باسم المفعول: (من نحتكم) إشارة إلى أن (ما) يجوز أن تكون مصدرية، ويجوز أن تكون موصولة، فإذا جعلناها مصدرية صار التقدير: مِن نحتكم، وإذا جعلناها موصولة صارت (من منحوتكم).
واستمع: والله خلقكم وعملكم، إذا قلنا هكذا؛ صارت (ما) مصدرية، وإذا جعلنا التقدير: والله خلقكم ومعمولكم؛ صارت (ما) موصولة، وإذا جعلنا (ما) موصولة فلا بد من عائد يعود على (ما) وهو في الآية محذوف؛ يعني وما تعملونه، واللازم واحد على الاحتمالين، فإذا قلنا: إن المعنى (والله خلقكم وعملكم)؛ فإن خالق العمل خالق للمعمول، وإذا جعلنا المعنى (والله خلقكم ومعمولكم)؛ فإنه إذا كان الله تعالى قد خلق المعمول وهم الذين باشروا عمله؛ دل ذلك على خلق العمل وخلق العامل أيضًا، وعلى كل تقدير، ففي الآية إقامة الحجة على أن هذه الأصنام لا تصلح أن تكون معبودة؛ لأنها معمولة.
﴿خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ قالوا: ((ما) مصدرية، وقيل: موصولة، وقيل: موصوفة) ويش معنى موصوفة؟ الموصوفة هي التي يُعبَّر عنها بالنكرة الموصوفة؛ يعني خلقكم وصنمًا تعملونه، أو وأصنامًا تعملونها، ولا نقول: والذي تعملون، بل نقول: وأصنامًا تعملونها، وأفادنا المؤلف الآن أن لـ(ما) ثلاثة معانٍ، أن تكون مصدرية، وموصولة، وموصوفة، وهذه ثلاثة من عشرة؛ لأن (ما) لها عشرة معانٍ، من يحفظ البيت المنشود في هذا؟
* طالب:
؎مَحَامِلُ (مَا) عَشْرٌ إِذَا رُمْتَ عَدَّهَا ∗∗∗ فَحَافِظْ عَلَى بَيْتٍ سَـــــــــــلِيمٍ مِنَالشِّــــعْرِ؎سَتَفْهَمُ شَرْطَ الْوَصْـــلِ فَــــــــــاعْجَبْ ∗∗∗ لِنُكْرِهَا بِكَفٍّ وَنَفْيٍ زِيدَ تَعْظِيمُمَصْدَرِ
* الشيخ: (وما مصدرية، وقيل: موصولة، وقيل: موصوفة).
(سَتَفْهَمُ) الاستفهامية مثل: ما هذا؟
(شَرْط) الشرطية ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ﴾ [البقرة ١٩٧].
(الْوَصْلِ) موصولة.
(فَاعْجَبْ) التعجبية مثل: ما أحسن هذا!
(لِنُكْرِهَا) النكرة الموصوفة، أو النكرة الواصفة تقول: مررتُ بما معجب لك؛ أي: بشيء معجب لك، وتقول: عرفته نوعًا ما؛ يعني نوعًا قليلًا، فهي نكرة واصفة.
(بِكَفٍّ) كافة مثل: ﴿إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ [النساء ١٧١] فهنا كفت (ما) عن العمل.
و(نَفْيٍ) نافية، ما حضر زيد.
(زِيدَ) زائدة، إذ ما، وإذا ما ﴿إِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ﴾ [الشورى ٣٧].
؎وَيَا طَالِبًا خُذْ فَائِدَهْ ∗∗∗ مَا بَعْدَ إِذَا زَائِدَهْ
(تعظيم مَصْدَرِ) يعني أنها تأتي للتعظيم، وهذه غير التعجب، مثل أن تقول: مررتُ بما مذهل؛ أي بعظيمٍ مُذهل، وربما نقول أيضًا: إن (ما) التعجبية فيها نوع من التعظيم فإنها تدل على التعظيم والتعجب.
(مصدر) المصدرية، ومنه هذه الآية: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ [الصافات ٩٦]، فهذه محامل (ما) عشر، وينبغي لطالب النحو أن مثل هذه الأبيات يحفظها؛ لأنها تحصر له المعاني مثلما قال الناظم في الجملة التي تحتاج إلى الفاء إذا وقعت جوابًا للشرط:
؎اسْمِيَّةٌ طَلَبِيَّةٌ وَبِجَامِدٍ ∗∗∗ وَبِمَا وَقَدْ وَبِلَنْ وَبِالتَّنْفِيسِ
* طالب: ما أعظم الله! تعجبية ولَّا تعظيم؟
* الشيخ: غالبًا تكون التعجبية يكون فيها نوع من التعظيم.
* طالب: قوله: (...) ﴿إِنِّي سَقِيمٌ﴾ إني سقيم من آلهتكم؛ أي مريض من عبادتكم إياها، أي المعنى البعيد؟
* الشيخ: يمكن يكون هذا، لكن ما هو بالظاهر؛ لأنه هل هو سُقِم من عبادتهم، مرض؟
* الطالب: هذا المعنى البعيد ما هو المعنى القريب؟
* الشيخ: لا، المعنى القريب أنه سقيم الآن، هذا القريب، ويقربه أنه نظر في النجوم، وأنه أراد أن يتعذر عن الذهاب معهم.
* الطالب: إذا كان كذلك تصبح معنى ﴿فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ﴾ [الصافات ٩٠] تصير عندما قال: ﴿إِنِّي سَقِيمٌ﴾ تولوا عنه مدبرين؟
* الشيخ: قالوا: هذا ما يتحمل أن يذهب معنا، فجعلوا سقمه عذرًا له.
* الطالب: إذا كان كذلك أيش الدليل على أنه (...) عندما كان وحده، وخاطب الأصنام أنهم ذهبوا عنه كلهم؟
* الشيخ: ما هو كلهم ذهبوا عنه، فيه ناس الحراس ما يمكن يدعون هذه الأصنام بدون جنود، لا بد أن لديها حراسًا يعظمونها ويحرسونها.
* طالب: (...) المرض النفسي ما يقال: إني سقيم؟
* الشيخ: النفسي؟ بلى.
* طالب: (...) مريض نفسي من عبادتهم..
* الشيخ: هذا الذي قاله، يعني ﴿إِنِّي سَقِيمٌ﴾ معناه أنه مريض من العبادة.
* الطالب: (...) على وجه (...).
* الشيخ: والله ما أدري.
* طالب: يا شيخ، في آية أخرى الله يقول: ﴿قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا﴾ [الأنبياء ٥٩] يعني كأنهم لا يدرون لو كان كما قلنا: عندها حراس ما كان (...)، فيدل هذا أنهم ما عرفوا ﴿قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ﴾ [الأنبياء ٦٠] يعني ما رأيناه لما كسرها، إنما سمعناه يذكرها بسوء.
* الشيخ: ألم تعلم أنهم لو أخذوه وقالوا: أنت الذي فعلتَ من أول مرة، وأتوا بشهود من أصحابها، حراسها ما قبل الناس ذلك، لكن إذا بحثوا عنه كأنما يسألون صار هذا أبعد عن التهمة كما فعل يوسف عليه الصلاة والسلام حينما جعل الصواع في رحل أخيه، أول ما فتش بدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه، هو عارف أنه في وعاء أخيه، لكن لو ذهب يستخرجها من وعاء أخيه مِنْ أول مرة لشكُّوا في ذلك، فهم يقولون هذا لئلا يُقال: إنهم متهمون فيأتون إبراهيم بأول وهلة، ويكون الحراس مثلًا علموا.
أما الفوائد فتبتدئ من قوله: ﴿وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ﴾.
قال الله عز وجل: ﴿وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ﴾ [الصافات ٨٣].
* من فوائد هذه الآية وما بعدها: أن أصل دين الأنبياء واحد، فكلهم شيعة للآخر، مُقَوٍّ لدعوته، ودليل ذلك قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء ٢٥]، ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ﴾ أي رسول كان ﴿إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن الأنبياء وإن طال الزمن بينهم فإنهم إنما يأتون بالوحي من الله؛ لأنه إذا طال الزمن تناسى الناس العهد، واضمحل وانمحى، ولكن إذا كان بوحي من الله فإنه يتجدد بحسب تجدد هذا الوحي؛ لأن بين إبراهيم وبين نوح أزمان طويلة.
* ومن فوائد الآية الكريمة: الثناء على إبراهيم، ووجهه أنه كان شِيعَة لمن يدعو إلى توحيد الله عز وجل، وكل من كان شيعة لمن يدعو إلى الله فإنه -بلا شك- محل ثناء.
* ومن فوائد الآية الكريمة في قوله: ﴿إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾: الثناء على إبراهيم أيضًا بكونه جاء الله سبحانه وتعالى بقلب سليم، وهذه الصفة وإن كانت سلبية لكنها تتضمن كمالًا؛ لأن القلب إذا سَلِم من الشبهات والشهوات صار خالصًا لله تعالى قصدًا وإرادة وعملًا، ففيها الثناء على إبراهيم بسلامة القَلْب.
* من فوائدها: عناية الله سبحانه وتعالى بإبراهيم، وذلك بإضافة الربوبية إليه؛ إذ جاء ربه، وهذه الربوبية خاصة أو عامة؟ خاصة، والربوبية الخاصة تقتضي عناية أكثر من الربوبية العامة؛ لأن المربوبين بالربوبية العامة شملتهم الرحمة العامة لكن الربوبية الخاصة يكون لهم الرحمة الخاصة.
* ومن فوائد قوله: ﴿إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ﴾: بيان قوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وأنه لم تأخذه في الله لومة لائم؛ لأن رجلًا يخاطب أباه وقومه بهذه العبارة قوي في ذات الله عز وجل؛ إذ إن العادة أن الإنسان يحابِي أباه وقومه لكن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لم يحابهم بل أنكر عليهم وقال: ﴿مَاذَا تَعْبُدُونَ﴾.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن القُرْب النَّسَبِي من أهل الخير لا يفيد الإنسان شيئًا؛ فإبراهيم بالنسبة لأبيه أقرب شيء؛ لأنه بَضعة منه، ومع ذلك لم ينتفع به أبوه بل كان مشركًا، بل كان يحاج ولده على ذلك، ويؤيد هذا قوله تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (١٤) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا﴾ [لقمان ١٤، ١٥]، فهذا يدل على تباين ما بين الابن والأبوين حتى إنهما ليجاهدانه على الإشراك بالله، ومع ذلك قال الله تعالى: لا تُطعهما.
* ومن فوائد الآية الكريمة: صحة نسبة القوم إلى الرسول وإن كذبوه؛ لقوله: ﴿إِذْ قال لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ﴾، والانتساب بالنسب لا يعني التبرؤ من الدين، فيصح أن ينتسب الإنسان إلى أبيه الكافر ولا يقال: إن هذا من باب الموالاة بل هذا من باب الحقيقة، والنسب لا يزول باختلاف الدين أبدًا، وانظر إلى قوله تعالى للنبي ﷺ: ﴿وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ﴾ [الأنعام ٦٦]، فأضافهم إليه مع نسبة التكذيب إليهم، وهذا يدل على الإنسان قد يكون من قومٍ كافرين ويُنسب إليهم، وأن ذلك لا يخدش في دينه.
* ومن فوائد الآية الكريمة: سفه هؤلاء القوم، حيث كانوا يعبدون مع الله غيره؛ ولهذا أنكر عليهم من كان من أعقل الخلق إبراهيم، فقال: ﴿مَاذَا تَعْبُدُونَ﴾، وقد أرشد الله إلى هذا في قوله: ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ [البقرة ١٣٠]، وملة إبراهيم هي الحنيفية المبنية على الإخلاص، فكل من خالف ذلك فقد سَفِهَ نفسه؛ أي أوقعها في السفه الذي هو ضد الرشد والعقل.
* ومن فوائد الآيات الكريمة في قوله: ﴿أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ﴾: أن كل من زعم أن مع الله إلَهًا يعبده فهو آفك كاذب؛ لقوله: ﴿أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ﴾.
* ومن فوائدها: أن دعوى كون هذه آلهة لا يعطيها سمة الألوهية؛ لأن الكذب لا يقلب الحقائق عن أصلها، فلو قلت مثلًا: قدم زيد وهو لم يقدم؛ لم يكن قادمًا، فهذه الآلهة وإن جعلوها آلهة لن تكون آلهة، كما قال الله تعالى في آية أخرى: ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ﴾ [النجم ٢٣].
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن عابدي الآلهة من دون الله يقصدونها قصدًا حقيقيًّا بقلوبهم كما يتجهون إليها بجوارحهم؛ ولهذا قال: ﴿دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ﴾ فليسوا يعبدونها مجرد عادة، ولكنهم يعبدونها قصدًا وعبادة حتى إنهم نسوا الله عز وجل.
* ومن فوائد الآيات الكريمة في قوله: ﴿فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الصافات ٨٧]: الإنكار الشديد من إبراهيم عليه الصلاة والسلام على قومه حيث سألهم موبخًا لهم ما الذي تظنونه برب العالمين إذا عبدتم غيره؟ هل تظنونه ناقصًا لا يستحق أن يُعْبَد وحده؟ هل تظنونه غافلًا عن عملكم فيدعكم بدون عقوبة؟ هل تظنونه يرضى بأن يُعبد معه غيره؟ كل هذا لم يكن، فظنُّكم ظن خاطئ.
* ومن فوائد الآية الكريمة: عموم ربوبية الله سبحانه وتعالى؛ لقوله: ﴿بِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾.
* ومن فوائدها: إقامة الحجة على الخصم بما لا ينكره؛ لقوله: ﴿بِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾؛ لأن العالم تشمل حتى آلهتهم التي يعبدونها، فإذا كانت آلهتهم مربوبة، فكيف يمكن أن تكون معبودة؟ هذا تناقض! وقد مر علينا في أثناء الدرس أن من أقر بانفراد الله بالربوبية؛ لزمه أن يقر بانفراده بالألوهية، وإلا صار متناقضًا؛ إذ لا يستحق العبادة إلا الرب الخالق المالك المدبِّر، ومن لم يكن كذلك فإنه لا يستحق أن يُعبد.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن الخَلْق عَلَم على خالقهم وآية ودليل، وهو -أي الخلْق- باعتبار كونه آية على وجود الله وقدرته وكمال سلطانه وتدبيره؛ أمر معلوم، لكن قد يكون آية على معنى خاص، فمثلًا نزول المطر آية على الرحمة، والنكبات، والخوف، والنقص في الأموال، والأنفس آية على عقوبته وغيرته وانتقامه ممن عصاه، فالمهم أن هناك معنًى عامًّا تشترك فيه جميع الآيات وهو كونها دالة على وجود الخالق عز وجل وكمال ربوبيته وسلطانه، وأنه لا يعارضه شيء من هذه المخلوقات، وهناك معنى خاص للآية وما تدل عليه بعينها كدلالة الغيث على الرحمة ودلالة الجدب على الانتقام ممن عصاه.
* ومن فوائد الآيات في قوله تعالى: ﴿فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ﴾ [الصافات ٨٨]: جواز التورية؛ وهي أن يُظْهِر للمخاطَب ما لا يريده، ويفهم منه المخاطب معنى غير المراد، والتورية قد تكون واجبة، وقد تكون مستحبة، وقد تكون جائزة، وقد تكون مكروهة، وقد تكون مُحرَّمة، فتجري فيها الأحكام الخمسة، فإذا توقَّف على التورية إنقاذ معصوم من هلكة مثلًا صارت واجبة، مثل: أن يأتي شخص ظالم يسأل عن إنسان يريد أن يقتله، وأنت تعرف مكان هذا الإنسان، فهنا يجب عليك أن توري؛ لأن في ذلك إنقاذًا للمعصوم من الهلَكَة، وقد تكون مستحبة كما لو سألك سائل عن عمل صالح عمِلته تخشى أن تقع في الرياء إن أخبرته به، فماذا يكون؟
يكون هنا التورية مستحبة، وقد تكون مباحة كما لو وَرَّيْت على شخص يريد أن يظلمك، أو يريد منك شيئًا لا تحب أن تعطيه، مثل أن يقول: يا أخي، أقْرِضْني مئة ألف ريال، وأنت تعرف أن هذا الرجل فقير معدم أو مماطل، لا يفي بالواجب، فهنا تكون التورية مُباحة، وقد تكون مكروهة كما إذا كانت لغير سبب.
والصحيح أنها مكروهة لما يخشى فيه من نسبة الإنسان إلى الكذب؛ لأن الإنسان إذا ورَّى، ثم ظهر الأمر على خلاف ما فهمه السامع نَسَبَه إلى الكذب، هذه مكروهة، لا يبيحها إلا السبب، وقد تكون محرمة كما لو تخاصم رجلان إلى القاضي، فادعى أحدهما على الآخر بدعوى، فالمدعي عليه البينة، والمنكِر عليه اليمين، هذا المدَّعَى عليه حلف عند القاضي، قال: والله ما له عندي شيء، فالقاضي في مِثل هذا التعبير يفهم براءة هذا المدَّعَى عليه، والمدعَى عليه أراد بـ(ما) أن تكون اسمًا موصولًا؛ يعني والله الذي له عندي شيء، هذه التورية نقول: إنها حرام؛ لأنها تتضمن جحد الحق الواجب عليه أداؤه، فالمهم أن التورية تجري فيها الأحكام الخمسة.
فإذا قال قائل: ما هو الأصل فيها الإباحة أو الكراهة؟
فالأقرب أن الأصل فيها الكراهة، ولكن قد تكون مباحة، مستحبة، واجبة، حرامًا.
* ومن فوائد الآية الكريمة: جواز إسناد الوصف إلى الإنسان باعتبار المستقبل، يؤخذ من قوله: ﴿إِنِّي سَقِيمٌ﴾ فإنه الآن ليس بسقيم، لكن كل إنسان عُرضة لأن يسقم على أنه يمكن أن يريد بقوله: ﴿إِنِّي سَقِيمٌ﴾ أي: ضعيف باعتبار قوله تعالى: ﴿وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا﴾ [النساء ٢٨] فيكون الوصف هنا حاليًّا ولَّا مُستقبليًّا؟ حاليًّا.
* من فوائد الآية الكريمة في قوله: ﴿فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ﴾ [الصافات ٩٠]: أن هؤلاء القوم لما قال لهم هذا القول، وبعد أن نظر نظرة في النجوم اقتنع، فيتفرع على ذلك أن الإنسان المبطل قد يقتنع بالشيء ولو كان باطلًا في حقيقته، وهو كذلك فالإنسان المبطل إذا وُرِّيَ له بباطله ظن أنه حق، فأخذ به واعتبره.
* ومن فوائد قوله: ﴿فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقال أَلَا تَأْكُلُونَ﴾ إلى آخره [الصافات: ٩١، ٩٢]: بيان قوة إبراهيم كما سلف؛ حيث ذهب بسرعة وخفاء إلى هذه الآلهة ليكسرها، ولكنه -عليه الصلاة والسلام- لم يكسرها إلا بعد أن أقام البينة على من كان عندها بأن هذه الآلهة لا تصلح أن تكون آلهة؛ لأنها لا تعقل، لا تنطق، ولا تعرف ما ينفعها، ولا تجلب لنفسها نفعًا فلغيرها من باب أولى؛ ولهذا قال: ﴿فَقال أَلَا تَأْكُلُونَ (٩١) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ﴾.
* ومن فوائد الآية الكريمة أيضًا: جواز التورية كما سبق؛ لأنه عليه الصلاة والسلام يعلم أن هذه الأصنام لا تأكل ولا تنطق، لكن أراد بهذا السؤال، أراد بذلك إقامة الحجة على من كانوا عندها يحرسونها، وينتصرون لها بأن هذه الأصنام غير صالحة للعبادة؛ لأنها لا تعرف ما ينفعها ولا يضرها، ولا تجلب لنفسها نفعًا، ولا تدفع عن نفسها ضررًا.
* ومن فوائد قوله: ﴿فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ﴾ * أيضًا: بيان قوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
* ومن فوائدها أيضًا: أنه ينبغي للإنسان إذا عمل عملًا أن يكون فيه جادًّا وحازمًا، فيفعله بقوة، لا بتوانٍ وكسل، خلافًا لما يقوم به بعض الناس من الأعمال، حيث تجده يواجه عمله بضعْف وتوانٍ وكسل، والإنسان في الحقيقة مع نفسِه على ما اعتاد، إذا اعتاد الحزم والقوة، وألا يدع عملًا لوقت مستقبل صار حازمًا في أعماله مُدركًا لأعماله، أما إذا كان كسولًا متهاونًا يقول: أَدَع هذا الشيء إلى بكرة فإن الأعمال سوف تتراكم عليه، وسوف يجد في النهاية أنه عاجز عنها، أليس كذلك؟ لأنه إذا أَخَّر عمل يوم إلى غد اجتمع عليه غدًا عملان؛ عمل الماضي وعمل الحاضر، فإن أخره مرة أخرى اجتمع عليه ثلاثة أعمال، وهكذا حتى يعجز ويكل، ولهذا مُنِع الإنسان الذي عليه قضاء رمضان، مُنِع أن يؤخره إلى ما بعد رمضان الثاني، لماذا؟ لأنه إذا أخَّره للثاني؛ تراكمت عليه الديون، ثم عجز بالتالي عن قضاء هذه الديون، المهم أن قوله: ﴿فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ﴾ يستفاد منه: أنه ينبغي للإنسان أن يقابل أعماله بقوة وحزم حتى يقضيها بكل سهولة.
* ومن فوائد الآية الكريمة في قوله: ﴿فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ﴾ [الصافات ٩٤]: بيان شدة انتصار هؤلاء لآلهتهم؛ لأن قوله: ﴿فَأَقْبَلُوا﴾ يدل على الترتيب والتعقيب والسببية أيضًا؛ أي بسبب ما عمل بهذه الآلة أقبلوا إليه يزفون، والفاء -كما تعرفون- تدل على الترتيب والتعقيب، ففيها دليل على شدة انتصار هؤلاء لآلهتهم مع بطلان هذه الآلهة.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن الاجتماع له أثر حتى في الباطل؛ لقوله: ﴿فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ﴾ يعني جميعًا، والناس إذا اجتمعوا صار بعضهم لبعض ظهيرًا، ومعلوم أن الإنسان ينتصر ويقوى بغيره.
* يتفرع على هذه الفائدة: أن الإنسان إذا أراد عملًا هامًّا، وخشي أن يعجز عنه بنفسه فالأفضل أن يستعين بغيره، ولا يقول: إن هذا استعانة بغير الله؛ لأن الله قال لنبيه محمد ﷺ: ﴿هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (٦٢) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ﴾ [الأنفال ٦٢، ٦٣]، ولا يعد هذا نقصًا في التوكل على الله عز وجل؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام سيد المتوكلين، ومع ذلك فإن الله قال: ﴿هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ﴾، وقال: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾ [آل عمران ١٥٩].
وهذه نقطة يغفل عنها بعض الناس، تجده يهم بالأمر العظيم، ولكن لا يتخذ له مُناصرًا، وفيه نظر؛ يعني في هذا التصرف نظر، ولكن يجب أن تُرَاعَى الحكمة في هؤلاء المناصِرين، هل الحكمة أن يذهبوا جميعًا أو أن يتفقوا على الرأي وإن تفرقوا في الذهاب؟ أي أقول: إنه يجب أن تُستعمل الحكمة هنا؛ لأنه قد يكون من الحكمة أن يذهبوا جميعًا، وقد يكون من الحكمة أن يذهبوا متفرقين لكن يتفقون على رأي واحد، وهذه ترجع في الواقع إلى العمل الذي يريدون الاتفاق عليه، وإلى المواجَه الذي يريدون أن يواجهوه، فإن بعض الناس قد يتأثر بالجماعة الكثيرة، ويخضع لهم، وبعض الناس قد تأخذه العزة بالإثم، ويظن أن هذا من باب التظاهر عليه، فلا يقبل منه صرفًا ولا عدلًا.
المهم أن الاجتماع على الشيء سبب للعزة والانتصار، ولكن كيف يُعالَج الشيء الذي اجتمعنا عليه؟ هل يعالج على سبيل الانفراد أو على سبيل الاجتماع؟ هذا يرجع إلى ما تقتضيه الحال، والإنسان ينبغي أن يستعمل الحكمة في ذلك. (...)
* * *
* طالب: ﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾ [الصافات ١٠٢].
* الشيخ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تعالى: ﴿قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ﴾ [الصافات ٩٧].
قال الله تعالى: ﴿فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (٩٤) قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ﴾ إلى آخره [الصافات: ٩٤، ٩٥].
* من فوائد هذه الآية وما بعدها: أن أهل الباطل يُسرعون إلى نَيْل غرضهم؛ لقوله: ﴿فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ﴾ [الصافات ٩٤]، وإذا كان أهل الباطل يسرعون إلى نيل غرضهم فينبغي أن يكون أهل الحق أسرع منهم؛ لأن أهل الحق منصورون، وأهل الباطل مخذولون.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن الاجتماع على الشيء من أسباب نَيْل المراد؛ يعني كلما اجتمع الناس على أمر كان ذلك أقرَب إلى نيل مرادهم؛ لقوله: ﴿فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ﴾ يعني ولم يأتوا واحدًا واحدًا، وهذا أقوى للشوكة فيتفرع على هذا أنه ينبغي للإنسان إذا أراد أمرًا أن يجتمع عليه مع إخوانه، ولكن هل من الحكمة أن يأتوا جميعًا مُجتمعين، أو أن يأتوا أفرادًا لكن يتفقون على أمر؟ ذكرنا أن هذا يرجع إلى ما تقتضيه الحال، فيُتبع في ذلك ما هو أصلح، فقد يكون الاجتماع جميعًا أصلح وقد يكون بالعكس.
* ومن فوائد هذه الآية أيضًا: أن هؤلاء القوم منتصرون لأصنامهم ومعبوداتهم مع أنها باطلة، فينبغي أن يكون أهل الحق الذين ينتصرون لله عز وجل أشد منهم انتصارًا في دين الله سبحانه وتعالى، وإذا ما نظرت إلى واقع المسلمين اليوم وجدت أنهم متفرقون، فكل عالِم لا يأوي إلى عالم، ولا يشاوره، ولا يأخذ برأيه، بل إنه -مع الأسف- ربما يضاده في رأيه مع علمه بأنه على حق، لكن يكون فيه شبه من اليهود، الذين حسدوا العرب على ما أعطاهم الله عز وجل من النبوة العظيمة التي جعلها فيهم، فإن اليهود كانوا يستفتحون على الذين كفروا، وينتصرون عليهم؛ يعني يُؤَمِّلون النصر عليهم باتباع محمد ﷺ، فلما جاء محمد كفروا بمحمد؛ لأنهم يظنون أنه يأتي من بني إسرائيل، وأتى من العرب وهم يظنون هذا تمنيًا وإلا فهم يعرفون النبي ﷺ كما يعرفون أبناءهم.
* ومن فوائد قوله: ﴿أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ﴾ [الصافات ٩٥]: الإنكار على أهل الباطل بباطلهم عن طريق العقل الاحتجاج على أهل الباطل بباطلهم عن طريق العقل، كيف ذلك؟ ﴿أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ﴾ يعني كيف تنحتونه أنتم وتصنعونه أنتم، ثم بعد ذلك تعبدونه؟ أليس الأولى من الناحية العقلية أن يكون هذا المنحوت هو الذي يعبدكم؛ لأنكم أنتم الذين نحتموه وأوجدتموه؟ ولكن عقولهم منتكسة، فصار الأمر بالعكس يعبدون ما ينحتون.
* ومن فوائد الآية في قوله: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ [الصافات ٩٦]: إقامة الدليل على أن الله وحده هو الذي يستحق أن يُعبد؛ لقوله: الذي خلقكم، فالخالق هو الذي يجب أن يُعبد، كيف تعبد مَنْ لم يخلقك وتدع من خلقك، أو تعبد من لم يخلقك مشركًا له مع من خلقك؟! ولهذا أقام الله البرهان على أنه لا يصح أن يعبد سواه في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ [البقرة ٢١] فقال: ﴿اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾ ولم يقل: اعبدوا الله إقامة للدليل عليهم بالربوبية.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن أعمال العباد مخلوقة لله؛ لقوله: ﴿خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ سواء جعلنا (ما) مصدرية أو موصولة، إن جعلناها مصدرية فالأمر واضح، خلقكم وخلق عملكم، وإن جعلناها موصولة فلأن خلق المعمول فرع عن خلق العمل، فإذا كان معمولك الذي باشرت أنت عمله مخلوقًا لله فكيف بعملك الذي كان من عند الله؟!
وفي هذه الآية رد على مَنْ؟ على القدرية الذين أنكروا أن يكون لله سبحانه وتعالى شأن في أعمال بني آدم، وقالوا: إن الإنسان مستقل بعمله ليس لله فيه إرادة ولا خلق.
وفي الآية أيضًا رد على الجبرية الذين يقولون: إن الإنسان مُجْبَر على عمله؛ لقوله: ﴿تَعْمَلُونَ﴾ حيث أضاف العمل إليهم، وإضافة العمل إلى الإنسان تقتضي أنه هو العامل وهو الفاعل حقيقة، وهو كذلك، فالإنسان في الواقع هو الذي يعمل، ويفعل، ويريد، ويختار، فإذا كان فيها رد على الطائفتين المنحرفتين فأي طائفة تؤيدها؟ تؤيد طائفة السنة والجماعة الذين قالوا: إن الإنسان له قدرة واختيار، وإيجاد لعمله، ولكن الذي خلقه وخلق هذه القدرة والإرادة هو الله، ففِعله يضاف إلى الله خلقًا وتقديرًا، ويضاف إليه إيجادًا ومباشرة، فهو مضاف للعبد باعتبار، ومضاف إلى الله باعتبار آخر.
* ومن فوائد الآية الكريمة أيضًا: ما سبقت الإشارة إليه وهو إقامة الحجة على أهل الباطل بباطلهم عن طريق العقل، فإذا كان الله خلقهم وخلق ما يعملون فكيف يعبدون هذا المخلوق لله ويجعلونه شريكًا مع الله في العبادة؟
{"ayahs_start":83,"ayahs":["۞ وَإِنَّ مِن شِیعَتِهِۦ لَإِبۡرَ ٰهِیمَ","إِذۡ جَاۤءَ رَبَّهُۥ بِقَلۡبࣲ سَلِیمٍ","إِذۡ قَالَ لِأَبِیهِ وَقَوۡمِهِۦ مَاذَا تَعۡبُدُونَ","أَىِٕفۡكًا ءَالِهَةࣰ دُونَ ٱللَّهِ تُرِیدُونَ","فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ","فَنَظَرَ نَظۡرَةࣰ فِی ٱلنُّجُومِ","فَقَالَ إِنِّی سَقِیمࣱ","فَتَوَلَّوۡا۟ عَنۡهُ مُدۡبِرِینَ","فَرَاغَ إِلَىٰۤ ءَالِهَتِهِمۡ فَقَالَ أَلَا تَأۡكُلُونَ","مَا لَكُمۡ لَا تَنطِقُونَ","فَرَاغَ عَلَیۡهِمۡ ضَرۡبَۢا بِٱلۡیَمِینِ","فَأَقۡبَلُوۤا۟ إِلَیۡهِ یَزِفُّونَ","قَالَ أَتَعۡبُدُونَ مَا تَنۡحِتُونَ","وَٱللَّهُ خَلَقَكُمۡ وَمَا تَعۡمَلُونَ"],"ayah":"قَالَ أَتَعۡبُدُونَ مَا تَنۡحِتُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق