الباحث القرآني
ثم قال الله عز وجل: ﴿إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ﴾ [الصافات ٦٤]. شوف هذه الجمل بينها اتصال ولَّا انقطاع، في البلاغة اتصال بلاغي يعني أو انقطاع بينها؟
* طالب: اتصال.
* الشيخ: لا، انقطاع؛ لأن الاتصال هو العطف بالواو، وهنا كل جملة مستقلة، الحكمة من ذلك من أجْل أن يَعلم الإنسان عن هذه الشجرة من كل آية بصفة مستقلة كأن كل صفة مستقلة تُغني عن بقية الصفات، فكم (...) للظالمين هذا من أعظم ما يكون من الأوصاف التي يُخاف منها عند إنكار هذه الشجرة؟
﴿إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ﴾.
* طالب: من أصل الجحيم.
* الشيخ: ﴿فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ﴾ هذا قرآن.
* طالب: أقول: ما فيها قراءة؟
* الشيخ: ما فيها قراءة أبدًا ﴿إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ﴾ (أي قعر جهنم وأغصانها ترتفع إلى دركاتها)، ﴿إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ﴾ وقد سبق لنا هل هذه الشجرة واحدة للشخص، أو هي واحدة بالنوع والجنس؟ وقلنا: في ذلك احتمالان؛ يعني يحتمل أنها شجرة كبيرة تملأ النار كلها، ويتفرع منها أغصان في دركاتها كما هو ظاهر كلام المؤلف، ويحتمل أنها شجرة متعددة، لكن أُفرِدت باعتبار نوعها كما تقول مثلًا إذا شاهدت شجرة في البر: هذه شجرة مذاقها مُر، مذاقها حلو، مذاقها كذا، لا تريد هذه الشجرة الواحدة، تريد هذا الجنس وهذا النوع، فشجرة الزقوم يحتمل أنها شجرة واحدة قد ملأت النار بأغصانها، والله على كل شيء قدير، وإلا فإن النار بعيدة القعر كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: كنا مع النبي ﷺ فسمعنا وَجْبَة فقال: «أَتَدْرُونَ مَا هَذَا؟» قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «هَذَا حَجَرٌ رُمِيَ بِهِ فِي النَّارِ حَتَّى وَصَلَ إِلَى قَعْرِهَا مُنْذُ سَبْعِينَ خَرِيفًا»[[أخرجه مسلم (٢٨٤٤ / ٣١) من حديث أبي هريرة.]].
يعني سبعين سنة وهو يهوي في النار ما وصل إلى قعرها، هذه الشجرة إذا قلنا: إنها واحدة، وأن أغصانها ملأت دركات النار، فالله على كل شيء قدير، وإن قلنا: أنها واحدة بالجنس والنوع، فليس في ذلك إشكال.
يقول: ﴿إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ﴾ وما ظنك بهذه الشجرة النارية التي تخرج في أصل الجحيم؟ سيكون لِمنبتها أثر فيها؛ لأن المنبت يؤثر على النابت، حتى إن النوع الواحد إذا غُرِسَ في هذه الأرض اختلف عما إذا غُرِس في أرض أخرى وهو نوع واحد، هذه الشجرة التي تخرج في أصل الجحيم سوف يكون لمنبتها أثر فيها؛ ولهذا قال: ﴿فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ﴾، ولم يقل: في الجحيم؛ ليبين أنها عميقة الجذور -والعياذ بالله- في النار.
يقول: (﴿طَلْعُهَا﴾ المشبه بطلع النخل ﴿كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ﴾ أي الحيات القبيحة المنظر).
﴿طَلْعُهَا﴾ يعني الثمر الذي يُشبه طلع النخل ﴿كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ﴾، والشياطين جمع (شيطان)، وهل المراد الشيطان الحقيقي، أو المراد نوع من الحيات كما قال المؤلف؟ إذا نظرنا إلى ظاهر اللفظ قلنا: إن المراد الشيطان الحقيقي، واحتمال أن يكون المراد به نوع من الحيات قبيحة المنظر وارد؛ لأن السيئ من الحيوان قد يسمى شيطانًا كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: «الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ شَيْطَانٌ»[[أخرجه مسلم (٥١٠ / ٢٦٥) من حديث أبي ذر.]].
ولكن الواجب علينا -كما مر علينا كثيرًا- إجراء القرآن على ظاهره، وأن نقول: المراد بالشياطين، الشيطان المعروف، وإنما شُبِّهت برؤوس الشياطين مع عدم رؤية الناس لها؛ لأن كل أحد يعرف أن ما يُنسب إلى الشيطان فهو قبيح منفر، لا يركن إليه أحد، فالتشبيه هنا تشبيه بما يُتخيل فكرًا، لا بما يُعلم حِسًّا، وعلى هذا فهو من أبلغ ما يكون من التشبيه القبيح، ولا حاجة إلى أن نقول: إنها حيات، حتى لو قلنا بأنها حيات، هل هذه الحيات معلومة لكل أحد؟ إن حيات لا يعرفها إلا النادر من الناس لا ينفر الناس منها، بل إن المؤلف الآن لما قال: إنها حيات هبطت قيمة هذا القبح في نفس الإنسان، لكن ﴿كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ﴾ الإنسان يقشعر جلده، ويقف شعره عندما يسمع هذا التشبيه القبيح، وعلى هذا فالصحيح أن المراد بذلك رؤوس الشياطين الحقيقية، ولكنها شُبِّهت بها للعلم بأنها قبيحة عند جميع الناس وأنها مُنفِّرة.
(﴿فَإِنَّهُمْ﴾ أَي الْكُفَّار ﴿لَآكِلُونَ مِنْهَا﴾ مَعَ قُبْحهَا لشدة جوعهم) أعوذ بالله ﴿فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ﴾ الجملة هنا اسمية مؤكدة بـ(إن) و(اللام)، أليس كذلك؟ لإفادة أن أكلهم مستمر؛ لأن الجملة الاسمية تفيد الثبوت والاستمرار، وأُكدت بـ(إن) و(اللام) للدلالة على أنهم يأكلون منها أكلًا مؤكدًا مع أنها قبيحة المنظر، كريهة الطعم والرائحة، لكن -والعياذ بالله- الجوع الشديد يضطرهم الى أن يأكلوا منها قسْرًا من غير شهوة، ومن غير لذة، لكن لملء بطونهم فقط، ومع ذلك فإن الإنسان لو كان في الدنيا ربما يُفضِّل الموت على الأكل من هذا لكن في النار يُعذَّبون بالأكل منها؛ ولهذا قال: ﴿فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ﴾ نسأل الله العافية؛ يعني أنهم لا يشبعون، ولا يقتصرون على الضرورة، أنت عندما يعرض لك في الدنيا وأنت جائع جوعًا شديدًا لحم منتن، هل تملأ منه البطن؟ وإنما تأكل بقدر الضرورة فقط، لو حاولت أن تملأ بطنك أبت عليك نفسك، ولو أنك ملأته لأوشك أن تتقيأه، لكن في النار يعذبون بذلك فلا يأكلون بقدْر الحاجة، بل يملؤون بطونهم، يأكل ويقول: هات، هات، كما أنهم يجبرون على شرب الحميم، ويشربونه شرب الهيم، شرب الإبل الهائمة العطشى، وهذا من شدة عذابهم -والعياذ بالله- أنه تصل بهم الحال إلى الجوع الشديد الذي يضطرهم إلى أكل هذه الشجرة الخبيثة، يملؤون بطونهم منها، وإلى العطش الشديد الذي يضطرهم إلى شرب الحميم؛ وهو الماء الحار الذي لا يستفيدون منه، بل قد قال الله تعالى: ﴿وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ﴾ [محمد ١٥]، وقال عز وجل في اغتسالهم: ﴿يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (١٩) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ﴾ [الحج ١٩، ٢٠]، تصل حرارته إلى ما في البطون مع حيلولة بقية الجسم دونها، لكن تصل الحرارة إلى ذلك، كما قال الله تعالى: ﴿نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (٦) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ﴾ [الهمزة ٦، ٧] تصل إلى القلوب، نسأل الله السلامة، اللهم نجنا من النار، يقول: ﴿فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ﴾.
قوله: ﴿الْبُطُونَ﴾ (أل) هنا للعهد، أي عهد؟ الذهني، ألا يمكن أن نقول: إنه العهد الذكري؛ لأنه سبق ما يدل على البطن؟ نقول: العهد الذكري لا بد أن يتقدم نفس اللفظ، وهنا لم يتقدم اللفظ لكن تقدم ما يدل عليه في قوله: ﴿فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ﴾؛ لأنه لا يأكل إلا من له بطن ﴿فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ﴾ يعني البطون منهم.
يقول: ﴿ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ﴾ (ثم) حرف عطف يدل على أيش؟ الترتيب والتراخي مما يدل على أنهم إذا أكلوا عطشوا، وإذا عطشوا لا يأتيهم الماء في الحال، بل يأتيهم بعد مهلة بيَّنها الله عز وجل في قوله: ﴿وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ﴾ [الكهف ٢٩]، فهم ليسوا إذا أكلوها وعطشوا بها؛ أُعطوا الماء بسرعة، لا، يستغيثون، ويدعون أن يأتيهم ماء يُبَرِّد عليهم لهيب العطش، ولكن إذا أُعطوا هذا الماء يُعطونه شوبًا من حميم؛ يعني ماء حارًّا حرارة عظيمة، والشوب وهج النار، هذا الوهج بيَّنه الله عز وجل في الآية التي سقتها قبل قليل، إذا قرب الماء من وجوههم ليشربوه شوى وجوههم والعياذ بالله، شَوَاها حتى إن لحومها لتتساقط من شدة حرارته، فإذا شربوه فإن أمعاءهم تستقبله لكنها تتقطع به ﴿وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ﴾ [محمد ١٥].
أيها الإخوة، إننا لسنا نتكلم عن سواليف الأولين، نتكلم عن أمر حقيقي إذا تصوره الإنسان ينزعج في الواقع؛ يعني ليس هذا أمر قيل، أو يقال، أو يقولون، هذا أمر هو الحقيقة، الحق لهؤلاء الطغاة الذين كذبوا رسل الله عز وجل، وبدلوا نعمة الله كفرًا، كل هذا سيكون، ليس خبر الأولين؛ لهذا يجب علينا إذا قرأنا مثل هذه الآيات أن نشعر بأن هذا هو عِلْم اليقين، وأنه سيكون حق اليقين، هذا الأمر بعد أن يعطشوا ويستغيثوا لا يغاثون بماء بارد ولا بماء عذب، بل بِشَوْب من حميم (أي ماء حار يشربونه فيختلط بالمأكول منها فيصير شوبًا له).
فسر المؤلف الشوب هنا بالخِلط، ومنه: شُبت الماء باللبن؛ أي: خلطته، وهو يصلح بهذا وهذا، فهو خلط وهو أيضًا وهج حرارة هذا الحميم، كل ذلك يكون، فالوهج يكون قبل الشرب، والشوب بعد الشرب.
﴿ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (٦٧) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ﴾ يعني ثم بعد ذلك يكون مرجعهم إلى الجحيم، وجملة (ما ترون) جملة اسمية لم يقل: ثم يرجعون، بل قال: ﴿ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ﴾ مؤكدة بماذا؟ بمؤكدين وهما (إن) و(اللام)، وهذا الترتيب فيه إشكال، فهل هو ترتيب ذكري أو هو ترتيب معنوي؟ المؤلف يرى أنه ترتيب معنوي، ويحتمل أن يكون ترتيبًا ذكريًّا؛ يعني بعد أن ذكر الله عز وجل ما لهم من هذا العذاب بَيَّن أن مرجعهم في يوم القيامة إلى هذا الجحيم، لا يرجعون إلى سواه.
أما المؤلف فيقول: (يفيد أنهم يُخرجون منها لشرب الحميم، وأنه خارجها) وهذه الفائدة فائدة ضعيفة في الواقع، يعني كون نستفيد هذه الفائدة من هذه الجملة، ليس بمتعين والله عز وجل يقول: ﴿وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ﴾ [الحجر ٤٨]، فكيف يقال: إنهم يخرجون ويشربون الحميم، ثم يُردون؟ هذا بعيد جدًّا، لكن إما أن نجعل الترتيب هنا للترتيب الذكري؛ يعني أن الله بعد أن ذكر أنواعًا من العقوبات لهم بَيَّن أن مآلهم إلى الجحيم؛ أي إلى هذا الجحيم الذي فيه هذه العقوبات، والترتيب الذِّكْري موجود في اللغة العربية، ومنه قول الشاعر:
؎إِنَّ مَـــــــــنْ سَــادَ ثُمَّ سَــادَ أَبُـــوهُ ∗∗∗ ثُمَّ سَـــادَ مِـــنْ بَعْدِ ذَلِكَجَـــــدُّهُ
وسيادة الأب سابقة على سيادتي، وسيادة الجد سابقة على سيادة الأب، أو يقال: إنهم كما قال الله عنهم: ﴿كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا﴾ [السجدة ٢٠]، وأنهم يُقرَّبون من أبوابها، ويسقون هذا الحميم، فيُقرَّبون لتتطلع نفوسهم إلى الخروج، فيكون عندهم بعض الأمل، فإذا أملوا هذا الأمل، ثم ردوا إلى أصل الجحيم صار هذا أشد عذابًا عليهم؛ لأن حصول اليأس بعد الأمل أشد من بقاء اليأس؛ لأن الأمل يرفع اليأس، فإذا أُعيد إلى العذاب عاد اليأس فكان أشد وقعًا.
أرأيت لو أن رجلًا مغلولًا بين يديك، سرت تحاول فك غله؛ يفرح، أليس كذلك لكن إذا عدت، ثم شددته ربطًا وأتيت بغل آخر؛ ازداد يأسًا وغمًّا إلى غمه بعد أن رأى بصيص الأمل يعاد فيُهان، هؤلاء -والعياذ بالله- كلما أرادوا أن يخرجوا منها وحصل لهم بعض الأمل أُعيدوا فيها، فيقول: ﴿ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ﴾ أي: إلى أصل الجحيم الذي كانوا قد أمَّلوا أن يخرجوا منه حين قُرِّبوا من أبوابها.
﴿إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (٦٩) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ﴾ ﴿إِنَّهُمْ﴾ أي هؤلاء الظالمين الذين يُعذَّبون بهذا العذاب. ﴿أَلْفَوْا﴾ أي (وجدوا) ﴿آبَاءَهُمْ﴾ وألفى بمعنى (وجد)، ومنه قوله تعالى: ﴿وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ﴾ [يوسف ٢٥] و﴿أَلْفَيَا﴾ يعني وجدا سيدها.
؎..................... ∗∗∗ وَأَلْفَى قَــــوْلَهَا كَـــــذِبًاوَمَـــــيْنَا
أي وجد قولها، فمعنى ﴿أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ﴾ أي: وجدوهم ضالين تائهين عن الحق. يقول: ﴿فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ﴾ [الصافات ٧٠] هم وجدوا آباءهم ضالين بعد أن قامت عليهم الحجة بضلال آبائهم، ولكن هل اتبعوا الحجة؟ لا. قال: ﴿فَهُمْ﴾ يعني بعد أن وجدوا آباءهم ضالين والعياذ بالله، هم ﴿عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ﴾ أي: يُساقون ويُزعجون وهُرِع بمعنى (عَجَّل وأسْرع) في الشيء، فهم على آثار آبائهم وعلى ما كانوا عليه من الشرك والظلم يُهرعون؛ أي: يساقون بشدة، ويسرعون إلى اقتفاء آثارهم، وقد جاءتهم الرسل بالحق، ولكن بماذا أجابوا: ﴿قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ﴾ [الزخرف ٢٣]، وفي الآية الأخرى: ﴿وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ﴾ [الزخرف ٢٢]؛ يعني ولا نقبل منهم، فهم علموا أن آباءهم ضالين ومع ذلك -والعياذ بالله- بقوا على ما هم عليه بل صاروا يسابقون ويتمسكون أشد بما كان عليه آباؤهم.
(﴿فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ﴾ يُزْعَجُونَ إلَى اتِّبَاعهمْ فيسرعون إليه) والكلام كله في مشركي قريش بدليل قوله: ﴿وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ﴾ الجملة هذه فيها ثلاثة مؤكدات بَيِّنها لنا؟ ﴿وَلَقَدْ ضَلَّ﴾.
* طالب: لقد.
* الشيخ: ويش هي لقد؟
* طالب: لقد، وحرف العطف.
* الشيخ: اللام وقد.
* طالب: (...).
* الشيخ: لا، الواو حرف عطف، ويش تعرب اللام؟
* الطالب: واقعة في جواب القسم.
* الشيخ: إي، موطئة للقسم، اللام موطئة للقسم؛ يعني أنها تفيد قسمًا مقدرًا، والله لقد، فتكون الجملة مؤكدة بثلاثة مؤكدات؛ وهي القسم، واللام، وقد، والله أعلم.
* * *
* الطالب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (٦٩) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (٧٠) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (٧١) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (٧٢) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (٧٤) وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (٧٥) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (٧٧) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (٧٨) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (٧٩) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٠) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (٨١)﴾ [الصافات ٦٩-٨١].
* الشيخ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تعالى: ﴿إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (٦٩) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (٧٠) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ﴾. قوله تعالى: ﴿طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ﴾ ما المراد بالشياطين هنا؟
* طالب: يقول المؤلف: إن هي الحيات القبيحة، ولكن الصحيح أن هذه الشياطين على حقيقتها؛ لأن الأصل بقاء اللفظ على (...).
* الشيخ: فإذا قال لك قائل: كيف يشبه الله شيئًا بشيء غير معروف؟
* طالب: لقبح الشيطان.
* الشيخ: صورته ما هي معروفة، رؤؤس الشياطين من رآها؟
* طالب: هذا من عادة العرب إذا أرادت أن تقبح شيئًا تشبهه بالشياطين.
* الشيخ: من عادة العرب أنها إذا أرادت أن تُقبِّح شيئًا وتُنفر منه شبهته بالشياطين، والقرآن نزل بلسان عربي مبين.
قوله تعالى: ﴿فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا﴾ الجملة هذه فيها تأكيد أو لا؟
* طالب: اللام.
* الشيخ: اللام فقط؟
* طالب: ﴿فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا﴾ والقسم المقدر.
* الشيخ: ما فيه قسم.
* طالب: (إن) و(اللام).
* الشيخ: (إن) و(اللام). إذا قال قائل: ما الغرض من هذا التوكيد؟
* طالب: (...).
* الشيخ: يعني لئلا يقول قائل: إنها ما دامت على هذا الوصف فلن يأكل منها أحد، فالإنسان قد يشك في أكلهم؛ لكونها طلعها يشبه رؤوس الشياطين، فأكد الله ذلك بقوله: ﴿فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا﴾.
قوله: ﴿فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ﴾ ماذا يفيد؟
* طالب: شدة الجوع (...).
* الشيخ: يعني يصابون بمرض النهم حتى لا يشبعوا. وهل يصابون بمثل هذا في الشراب؟
* طالب: نعم، يصابون لذلك؛ لقوله تعالى: ﴿فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ﴾ [الواقعة ٥٥].
* الشيخ: لقوله تعالى: ﴿فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ﴾. إذن يُصابون بمرض النهم في الأكل وفي الشرب؛ ليزداد عذابهم، نسأل الله العافية. قوله: ﴿ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا﴾ ما المراد بالشوب؟
* طالب: الشوب له معنيان؛ أنه شديد الحرارة، وخلط، يعني أنه يخلط من عذاب الزقوم (...)، فهم يشربون حميمًا حارًّا ويخالط ما في (...).
* الشيخ: والحميم هو الماء الحار. قوله: ﴿ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ﴾ هل هم كانوا بالأول في غير الجحيم؟
* طالب: لا، في الجحيم.
* الشيخ: كيف قال: ﴿ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ﴾؟
* طالب: لأجل الاستقرار؛ يعني بعض الأكل كذلك في الجحيم، وبعضهم يقولون في التفسير؛ يعني يخرجون إلى الأبواب، ثم يرجعون إلى الأصل، إلى أصل الجحيم.
* الشيخ: إي نعم، صحيح، بس ذكرنا وجهًا آخر.
* طالب: أن (ثم) للترتيب الذكري.
* الشيخ: أن (ثم) للترتيب الذكري، ولا يعني أنهم بعد أن يأكلوا يرجعون، وإنما يعني أنه ذُكِر مرجعهم بعد ذكر أكلهم، وهل في اللغة العربية ما يسمى بالترتيب الذكري دون المعنوي؟
* طالب: نعم.
* الشيخ: شاهده؟
* طالب: قوله:
؎إِنَّ مَــنْ سَـــادَ ثُمَّ سَـــادَ أَبُـــوهُ ∗∗∗ ثُمَّ سَـــادَ مِــنْ بَــعْدِ ذَلِكَجَــدُّهُ
* الشيخ: طيب ﴿إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ﴾ ما معنى ألفوا؟
* طالب: وجدوا.
* الشيخ: وجدوا، ائت بشاهد من القرآن على أن الإلفاء بمعنى الوجود أو الوجدان.
* طالب: (...) قوله: ﴿وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ﴾ [يوسف ٢٥].
* الشيخ: قوله تعالى: ﴿وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ﴾ هذه في أي سورة؟
* طالب: في سورة يوسف.
* الشيخ: في سورة يوسف سبيل (...).
قوله عز وجل: ﴿إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ﴾.
* يستفاد من هذه الآية ومن ما بعدها: يستفاد منها: أن شجرة الزقوم خبيثة المنبت؛ لقوله: ﴿تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ﴾، والخبيث المنبت يكون هو خبيثًا أيضًا؛ لأن العادة أن النبات يكون على حسب أرضه كما يكون على حسب مائه أيضًا.
* ومن فوائدها: بيان قُدرة الله عز وجل، حيث خلق هذه الشجرة في وسط النار مع أن المعروف أن النار تحرق الأشجار، ولكن الله على كل شيء قدير، فها هي نار إبراهيم عليه الصلاة والسلام تحرق الأجسام بلا شك، ولكن لما قال الله لها: ﴿كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ [الأنبياء ٦٩] لم تحرقه بل كانت بردًا وسلامًا عليه.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن هذه الشجرة تنتشر؛ إما أغصانها -كما قال المؤلف- أو أنواعها في النار كلها؛ لأن الله أخبر أن أهل النار يأكلون منها، ومعلوم أن النار دركات، بعضها أسفل من بعض، فيلزم من ذلك أن تكون هذه الشجرة إما ذاتها ومنتشر أغصانها، وإما نوعها موجود في جميع النار.
* ومن فوائد قوله: ﴿طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ﴾ بيان أن هذه الشجرة لها طلع ولكن طلعها أقبح ما يكون من الطلع؛ لأنه يشبه رؤوس الشياطين.
* ومنها: أن من أغراض التشبيه ما يسمى عند البلاغيين بـ(التقبيح)، فيُشبه الشيء بما يُستقبح نفسيًّا، وإن لم يكن معلومًا حسيًّا؛ لقوله: ﴿كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ﴾.
* ومن فوائدها: أن رؤوس الشياطين مُستكرَهة مُستقبحة؛ لأنه شُبِّهَ بها القبيح، والتشبيه إلحاق الشيء بما هو أعلى منه في الصفة التي أُلْحِق به فيها؛ لأن المشبه دون المشبه به.
* من فوائد الآية: إثبات أن للشياطين رؤوسًا؟
* طلبة: نعم.
* الشيخ: نعم، وهو كذلك، فإن الشياطين لها رؤوس.
* ومن فوائدها: الرد على من يقول: إن الشياطين والملائكة والجن هي قوى الشر، الملائكة قوى الخير، والشياطين والجن قُوى الشر، وليس هناك أجسام تُحَس، وجه الدلالة: أنه أثبت للشياطين رؤوسًا، ولا يمكن أن يكون هذا في الأمور المعنوية التي هي القوى.
* ومن فوائدها: ضلال من يعتمد على العقل في إثبات الأشياء أو نفيها؛ لأن الاعتماد على العقل يؤدي إلى أن يرد الإنسان ما ثبت في الكتاب والسنة من أجل ما يدعي أنه عقل.
ثم قال عز وجل: ﴿فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ﴾.
* من فوائدها: إثبات أكلهم منها على سبيل التأكيد؛ لقوله: ﴿فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا﴾.
* ومن فوائدها: أنه ينبغي تأكيد الشيء المستبعَد أمام المخاطَب من أجل اطمئنان نفسه وإقراره به، أليس كذلك؟ ولهذا قال علماء البلاغة: إن المخاطَب له ثلاث حالات: ابتداء، وشك، وإنكار؛ ففي الابتداء لا يحسن أن تؤكد له الخبر بل تلقيه إليه غير مؤكد؛ لأنك إذا أكدته بدون سبب للتأكيد فقد يشك، يقول: لولا أن هذا الرجل كاذب ما ذهب يؤكد الخبر بدون سبب، فالفصاحة أن تلقيه إليه مجردًا من التوكيد، مثلًا إذا أردت أن تخبر بقدوم زيد، تقول: قدم زيد، إذا كنت تخاطب رجلًا خطاب ابتداء ليس عنده شك في قدومه ولا إنكار.
الحال الثانية: أن يكون عند المخاطب شك في الأمر، فهنا يحسن أن يؤكد، ولكن لا يجب، فهذا الرجل الذي تخشى أن يكون شاكًّا في قدوم زيد لاستبعاده إياه يحسن عندما تخبره أنه قادم، يحسن أن تؤكده له فتقول: قد قدم زيد، أو: إن زيدًا قادم، هذا متى؟ مع الشك نؤكده بمؤكد على سبيل الاستحباب.
الحال الثالثة: أن يكون مُنكِرًا، ففي هذه الحال يجب أن يُؤكَّد له الخبر، لماذا؟ من أجل أن يزول عنه الإنكار، ويطمئن إلى مدلول الخبر، كما لو كنت تخاطب شخصًا ينكر أن يكون فلان قدم البلد، فتقول له: لقد قدم. وإن رأيت أنه يحتاج إلى زيادة قلت: والله لقد قدم، وإن كنت تخشى أن يكون غير مقتنع فبعض العامة يقول: عليه الطلاق لقد قدم، إي نعم، لأن كثيرًا من الناس يؤمنون بالحلف بالطلاق أكثر مما يؤمنون بالحلف بالله عز وجل.
بقي أن يقال: هذا باعتبار حال المخاطب؛ أي أنه يحسن توكيد الخبر أو تجريده من التأكيد، أو وجوب تأكيده باعتبار حال المخاطب، قد يكون التأكيد وعدمه باعتبار حال مدلول الخبر، إذا كان المدلول أمرًا هامًّا فإنه يؤكد حتى وإن كنت تخاطب من لا ينكر مثل قوله تعالى: ﴿لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (١) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ﴾ [القيامة ١، ٢]، وأشباه ذلك مما أقسم الله به على البعث وهو يخاطب المؤمنين، فهنا نقول: تأكيد هذا الخبر مع إقرار المخاطَب به؛ يُقصد بذلك بيان أهميته، وأنه أمر يجب أن يتأكد في قلب الإنسان، وأن يثبت فيه ويرسخ، واضح؟
قال أهل العلم -نبحث في البلاغة لأجل أن نستذكر ما مضى- قال بعضهم: وقد يُنَزَّل المقر منزلة المنكر لفعله فعل المنكر، مثل: ﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُون﴾ [المؤمنون ١٥، ١٦]، ﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ﴾ هل الموت مُتَردَّد فيه أو منكر؟ أبدًا، لا يتردد فيه ولا ينكره أي أحد من الناس، إذن فلماذا يؤكد؟ لأن المخاطب قد تكون حاله حال المنكر؛ لعدم استعداده للموت، فكأنه مُنكِر له، فيُؤكَّد له الخبر.
هنا ﴿فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا﴾ نقول: هنا أكد الله عز وجل أنهم سيأكلون، فلماذا؟ لأن المقام مقام استبعاد للأكل، قد يستبعد الإنسان أن يأكل هؤلاء من هذه الشجرة التي تخرج في أصل الجحيم وطلعها كأنه رؤوس الشياطين، فأكد الله ذلك بـ(إن) و(اللام)، وأتى أيضًا بالجملة الاسمية الدالة على استمرار أكلهم.
* من فوائد هذه الآية الكريمة: أن الله يُعذِّب أهل النار بالأكل من هذه الشجرة بكونهم لا يشبعون؛ لقوله: ﴿فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ﴾، فلا يأكلون منها بقدر الضرورة كما يأكل المضطر الميتة بقدر الضرورة ولكن يأكلون أكلًا يملأ بطونهم، وكلما فرغ البطن قليلًا أكلوا.
* ومن فوائد الآية الكريمة أيضًا: أن هذه الشجرة إذا أكلوها -والعياذ بالله- عطشوا، وطلبوا الماء، وطلبوه على طلب المضطر إليه بدليل قوله: ﴿وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ﴾ [الكهف ٢٩] فهم يعطشون كثيرًا، ويسألون سؤال المضطر يستغيثون الله عز وجل، فإذا أُغِيثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه والعياذ بالله؛ ولهذا قال: ﴿ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ﴾ [الصافات ٦٧] يعني مع هذا الأكل القبيح المستكره المبتلى بمحبته يشربون عليه من الحميم الذي يخالطه، وقد سبق لنا أن هذا الحميم يُقطِّع أمعاءهم.
* ومن فوائد قوله: ﴿ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ﴾ أن هؤلاء الذين في النار كلما أرادوا أن يخرجوا منها أُعِيدوا فيها، وهذا فيه زيادة تعذيبهم، كيف ذلك؟ لأن الإنسان إذا انفتح له باب الأمل والرجاء، ثم عاد إلى الخيبة صار ذلك أشق وأشد عليه مما لو استمر في خيبته فيكون في هذا زيادة تعذيب لهم ﴿ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ﴾.
* ومن فوائدها أيضًا: أن هؤلاء لن يذوقوا نعيمًا أبدًا؛ لأن مرجعهم ومآلهم إلى الجحيم، فلا يمكن أن يخرجوا منه، نسأل الله لنا ولكم السلامة.
فلهذا أكدت بثلاثة مؤكدات.
والوجه الثاني: تسلية النبي ﷺ؛ لأن كل ما سبق فيه التحدث عن كفار قريش، فأراد الله عز وجل أن يسلي رسوله ﷺ بأن قومك ليسوا أول من ضل، بل قد ضل قبلهم أكثر الأولين، ففيه تسلية لرسول الله ﷺ، وفيها تأكيد لخبر هؤلاء الأمم الماضية التي قد يشك في خبرها من يشك، كما أن فيه أيضًا زيادة تهديد لهؤلاء المكذبين؛ لأنه قال بعده: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ﴾ وأكد أيضًا هذه الجملة بالوجوه الثلاثة التي أشرنا إليها في ﴿وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ﴾.
وقوله: ﴿ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ﴾ يعني لا كلهم، فإن من الأولين من اهتدى، ولكن أكثرهم ضل حتى قال رسول الله ﷺ حين عُرِضَت عليه الأمم: «رَأَيْتُ النَّبِيَّ وَمَعَهُ الرَّهْطُ، وَالنَّبِيَّ وَمَعَهُ الرَّجُلُ وَالرَّجُلَانِ، وَالنَّبِيَّ وَلَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ»[[متفق عليه؛ البخاري (٥٧٥٢)، ومسلم (٢٢٠ / ٣٧٤) من حديث ابن عباس.]].
إذن أكثر الناس الذين أرسل إليهم الرسل قد ضلوا، ما دام أنه لم يكن مع النبي أحد يُبعث نبي في قومه، ولا يكون معه أحد.
وقوله: ﴿أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ﴾ أي السابقين، فكل من سبق هذه الأمة فإنه يُعتَبر من الأولين.
﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ﴾ هذه الجملة مؤكدة بما سبق؛ بالقسم، واللام، وقد، وأُكِّدت للوجوه الثلاثة التي أشرنا إليها.
وقوله: ﴿أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ﴾ يعني رسلًا منذرين كما قال الله تعالى: ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ﴾ [النساء ١٦٥]، لكنه هنا لم يذكر البشارة؛ لأن المقام مقام تهديد، فكان طي البشارة أنسب والاقتصار على الإنذار أنسب، فقال: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ﴾ فمن هو الرسول؟ قال أهل العلم: إن الرسول هو الذي أُوحي إليه بالشرع ولم يُؤمر بتبليغه، كذا؟
* طالب: لا.
* الشيخ: وأُمر بتبليغه؛ ولهذا يقال: أرسل؛ يعني بُعث برسالة، فهو أوحي إليه وأُمر بالتبليغ، فإن قلت: ماذا نصنع في قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ﴾ [الحج ٥٢]، حيث قال: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ﴾ فهو يقتضي أيضًا أن النبي -وهو الذي أُوحِي إليه بالشرع ولم يُؤمر بالتبليغ- قد أُرسل، فالجواب: أن تقدير الآية وما أرسلنا من قبلك من رسول، ولا نبأنا من نبي فهو على حد قول الشاعر:
؎عَــلَفْتُهَا تِبْــــنًا وَمَــــاءً بَـــارِدًا ∗∗∗ ......................
فالماء البارد لا يُعلف ولكنه يسقى، وهو على تقدير: وسقيتها ماءً باردًا. ومن المعلوم أن حذف ما يُعلم جائز، كما قال ابن مالك رحمه الله في ألفيته:
؎وَحَــــــذْفُ مَــا يُـــــعْلَـــمُ جَــــائِزٌكَــمَا ∗∗∗ تَقُولُ (زَيْدٌ) بَعْدَ (مَنْعِنْدَكُمَا؟)
﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ﴾ أي: مُخَوِّفين، مُخَوِّفين من؟ مخوفين من خالف بالعقوبة، وحرمان الثواب، فالرسل عليهم الصلاة والسلام كلهم ينذرون من خالفهم بالعقوبة وحرمان الثواب؛ لأن العاصي يُحرَم من ثواب الطاعة؛ إذ لو شاء لأحل مكان المعصية طاعة، وكذلك يُعاقَب بما تقتضيه هذه المعصية. يقول: ﴿فِيهِمْ مُنْذِرِينَ﴾ ومنذرين هذه اسم فاعل ولَّا اسم مفعول؟
* طلبة: اسم فاعل.
* الشيخ: اسم فاعل من (أنذر ينذر)، والمنذر هو المخوِّف قال: (﴿مُنْذِرِينَ﴾ من الرسل مُخَوِّفين).
﴿فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ﴾ [الصافات ٧٣] (انظر)، الخطاب هنا مُوجَّه لواحد مُذَكَّر، فمن هو؟ أهو الرسول عليه الصلاة والسلام؟ أمن يصح أن يوجه إليه الخطاب؟ الثاني أعم؛ أي: فانظر أيها المخاطَب أو أيها السامع كيف كان عاقبة المنذرين؟ وهنا قال: ﴿كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ﴾ ولم يقل: ماذا كان؟ يعني انظر إلى الكيفية وإلى الغاية؛ لأن من نظر إلى الكيفية نظر إلى الغاية.
لو قال: ماذا كان عقابهم؟ لكان الجواب: الهلاك، لكن كيف كان عقابهم، انظر إليه إلى كيفيته ﴿فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا﴾ [العنكبوت ٤٠]، فانظر إلى الكيفية، كيفية العاقبة لتستفيد بهذا النظر شدة العقوبة، وملاءمتها للذنب؛ لأن الله قال: ﴿فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ﴾ أي أن عقوبته ملائمة لذنبه، وأنت إذا تأملت هذا وجدت الأمر كما قال الله عز وجل، فمثلًا كانت عاد تفتخر بقوتها وتقول: ﴿مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً﴾ [فصلت ١٥] فأُهلكوا بألطف الأشياء؛ وهي الريح، أرسل الله عليهم ريحًا فدمرتهم ﴿فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ﴾ [الأحقاف ٢٥]، وكان فرعون يفتخر بالأنهار التي تجري من تحته فأُهلك بما كان يفتخر به، وهو الماء، وهكذا كلما تأملت هلاك القوم المكذبين للرسل وجدت أن عقوبتهم مناسبة تمامًا لذنوبهم.
إذن (انظر كيف) أبلغ من (انظر ماذا كان عاقبتهم)، وجه ذلك: أنها تدل على شدة الأخذ وعلى مناسبته للذنب، ثم إنك إذا نظرت إلى الكيفية ستنظر إلى العاقبة لكن إذا قلنا: انظر ما عاقبتهم؛ لم تؤمر إلا بالنظر بالعاقبة فقط.
وقوله: ﴿كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ﴾ الجملة هنا استفهامية، ولكنها في محل نصب مفعول ﴿انْظُرْ﴾، وهذا النظر بالعين ولَّا بالقلب؟ هذا النظر بالقلب، والغالب أن النظر بالعين يُعدَّى بـ(إلى)، فيقال: نظر إليه، وأن نظر القلب يكون متعديًا بنفسه ﴿قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [يونس ١٠١]، يعني بالقلوب، أما بالأعين فلا يُفيد إذا لم يتأثر بذلك القلب.
وقوله: ﴿كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ﴾ ﴿الْمُنْذَرِينَ﴾ هنا اسم فاعل أو اسم مفعول؟ اسم مفعول، الذين أنذروا وخُوِّفوا، ولكن لم يخافوا، ولم يُؤثِّر فيهم الإنذار، فكيف كان عاقبتهم؟
قال المؤلف: (أي عاقبتهم العذاب) يعني أن العاقبة كانت وخيمة والعياذ بالله، عُوقبوا بالعذاب المدمر المهلك.
ثم قال سبحانه وتعالى: ﴿إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ﴾ (أي المؤمنين) نعم، ولهذا فسرها المؤلف باسم الفاعل إشارة إلى أن المخلِص هنا اسم فاعل؛ لأن الْمُفَسِّر يُطابِق الْمُفَسَّر فيقول: ﴿إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ﴾ الاستثناء هنا منقطع؛ لأن ما بعده من غير جنس ما قبله، وإذا كان ما بعد (إلا) من غير جنس ما قبلها فهو استثناء منقطع، والاستثناء المنقطع يكون علامته أن يحل محل (إلا)؛ (لكن)، ولكن لماذا يُؤتى بـ(إلا) بدل (لكن)؟ إشارة إلى قوة اتصال ما بعدها بما قبلها، فهي تفيد الاستدراك مع ارتباط ما قبلها بما بعدها من حيث المعنى، وإن كان هذا يختلف عن ذلك.
وقوله: ﴿إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ﴾ المراد بالعبودية هنا الخاصة أو العامة؟ الخاصة بدليل قوله: ﴿الْمُخْلَصِينَ﴾. وسبق لنا قريبًا بيان أن العبودية تنقسم إلى عامة وخاصة؛ (أي المؤمنين، فإنهم نجوا من العذاب لإخلاصهم في العبادة)، وهذا على قراءة كسر اللام، (أو لأن الله أخلصهم لها على قراءة فتح اللام)، فأفادنا المؤلف رحمه الله أن في الآية قراءتين: ﴿﴿الْمُخْلِصِينَ﴾ ﴾، ﴿الْمُخْلَصِينَ﴾ لكن لم يُصرِّح بهما، وإنما أتى بمضمونهما، ففي الآية قراءتان (مُخْلِصِين) لإخلاصهم لله؛ لأنهم أخلصوا القصد لوجه الله عز وجل، رب العباد إليه الوجه والعمل، فلم يلتفتوا إلى ما سوى الله، والإنسان المخلص لله الذي أخلص قلبه له يُوفَّق، وتكون عاداته عبادات؛ لأنه دائمًا مع الله، ودائمًا يتفكر في آيات الله، ودائمًا يحب القرب من الله، فيسعى إلى أن يكون قوله وفعله وترْكه كله لله عز وجل، وهذا -في الحقيقة- هو الرابح الذي ربح الوقت، وربح العمر؛ لم تضع عليه لحظة من اللحظات إلا وهو كاسب فيها، ولكن أكثر الناس في غفلة عن هذا الشيء، أكثر الناس في غفلة غافلون، لم يخلصوا أنفسهم لله عز وجل، بل إن من الناس من قد تكون العبادات في حقه عادات، يقوم ويتوضأ ويصلي؛ لأن هذه عادته، كأن هذه العبادات عمل يومي يقوم به؛ ولهذا لا نجدها تؤثر على القلب بواسطة الغفلة الشديدة عن الإخلاص لله عز وجل، فهم مخلِصون لله في العبادة، كذلك (مُخْلَصُون) أخلصهم الله، قال المؤلف: (للعبادة).
ولو قيل معنى أسمى من هذا لكان أولى، أخلصهم الله لنفسه واختصهم من بين سائر العباد، ﴿وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ﴾ [ص ٤٧] الذين اصطفاهم الله وجعلهم صفوة عباده لنفسه، وهذا أبلغ في الثناء مما قال المؤلف من أن الله أخلصهم للعبادة، بل نقول: أخلصهم له من بين سائر العباد ﴿إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ﴾.
يقول المؤلف: ﴿وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ﴾ [الصافات ٧٥] هذه الجملة كالتفصيل لقوله: ﴿وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ﴾. فهنا شرع الله عز وجل يُبين كيف كان هذا الضلال، ومتى كان؟ كان من أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض، وهو نوح عليه الصلاة والسلام، نوح أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض، بدليل الكتاب والسنة، أما الكتاب فقوله تعالى: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ﴾ [النساء ١٦٣]، فقال: ﴿كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ﴾. إذن ليس هناك نبي مُرسَل قبل نوح. وقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ﴾ [الحديد ٢٦].
فإذا كانت النبوة والكتاب في ذريتهما فليس قبل نوح أحد أُوتِي النبوة والكتاب، والمراد بالنبوة نبوة الرسالة، أما نبوة الوحي والعبادة فقد سبقت لآدم، فإن آدم نبي مُكَلَّم، لكنه ليس نبيًّا مرسلًا.
وأما من السنة فقد صح عن رسول الله ﷺ في حديث الشفاعة: «أن الناس يأتون إلى نوح ويقولون له: أنت أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض»[[متفق عليه؛ البخاري (٤٤٧٦)، ومسلم (١٩٣ / ٣٢٢) من حديث أنس بن مالك.]]. فنوح عليه الصلاة والسلام هو أول الرسل، ولبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا؛ يعني تسع مئة وخمسين سنة يدعوهم ليلًا ونهارًا ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (٥) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا﴾ [نوح ٥، ٦] يدعوهم سرًّا وعلنًا ﴿ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا﴾ [نوح ٩] ولكنهم -والعياذ بالله- لا يزيدهم ذلك إلا نفورًا واستكبارًا مع قوة الرسالة والآيات العظيمة، لكنهم -والعياذ بالله- نكصوا واستكبروا، وما آمن معه إلا قليل، لما رأى عليه الصلاة والسلام ما حصل من قومه وأيس منهم دعا عليهم، قال: ﴿رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (٢٦) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا﴾ [نوح ٢٦، ٢٧]، وقال: ﴿أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ﴾ [القمر ١٠] فأجاب الله تعالى دعاءه، ولهذا قال: (﴿وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ﴾ قال: بقوله: رب ﴿أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ﴾ ) ﴿فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ﴾، فانتصر الله له، وأجاب دعاءه، قال الله تعالى: ﴿فَفَتَحْنَا﴾ أو ﴿﴿فَفَتَّحْنَا﴾ ﴾ ﴿أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (١١) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ﴾ [القمر ١١، ١٢] ماء ينبع من الأرض، وماء ينزل من السماء، يفور من الأرض فورانًا عظيمًا يشمل كل الأرض حتى التنور الذي هو موضع إيقاد النار صار يتفجر ماء، والسماء تهطل بماء منهمر عظيم، فالتقى الماء حتى بلغ قمم الجبل، ولم ينجُ منه أحد إلا من كان مؤمنًا فإنه مع نوح عليه الصلاة والسلام في السفينة؛ ولهذا قال سبحانه وتعالى: ﴿وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ﴾.
ذكرنا أن نوحًا هو أول الرسل، مَنْ آخرهم؟ محمد ﷺ هو آخر الرسل، قال الله تعالى: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾ [الأحزاب ٤٠] ولم يقل: وخاتم المرسلين مع قوله: ﴿وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ﴾ إشارة إلى أنه لا يمكن أن يأتي بعده لا نبي ولا رسول ﴿فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ﴾ الجملة ﴿وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ﴾ مؤكدة بثلاثة مؤكدات كما سبق: القسم و(اللام) و(قد)، ونقول في توجيه التوكيد هنا ما قلناه فيما سبق.
وقوله: ﴿فَلَنِعْمَ﴾ الفاء حرف عطف تفيد الترتيب والتعقيب، واللام موطئة للقسم، وتقدير الكلام: فوالله لنِعم المجيبون، والمجيبون فاعل (نِعْمَ)، و(نعم) و(بئس) وشبههما تحتاجان إلى فاعل، وإلى مخصوص يكون مبتدأ جملتهما خبره، أليس كذلك؟ تحتاجان إلى فاعل، وإلى مبتدأ تكون جملتهما خبرًا عنه، هذا المبتدأ يُسمَّى المخصوص بالمدح أو بالذم، فأين المخصوص هنا في هذه الآية؟
يقول: نحن، فلنعم المجيبون نحن. وصدق ربنا عز وجل نعم المجيب الله سبحانه وتعالى، فإن إجابته ليست كإجابة غيره، إجابة الله سبحانه وتعالى إجابة محققة لكن بشرط أن تتم شروط الإجابة، وأن تنتفي الموانع، فإن لم تتم شروط الإجابة فإنه لا يُجيب عز وجل؛ لأن إجابته كسائر أفعاله مبنية على الحكمة، والحكمة وضع الشيء في موضعه، فإذا تمت شروط الإجابة صار للإجابة محل فحلت الإجابة، وإذا لم تتم لم يكن للإجابة محل، فلم تتحقق الإجابة، ولا بد له من انتفاء الموانع، ألَّا يوجد مانع من موانع الإجابة، وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكر هذه الشروط والموانع عند ذكر الفوائد.
المهم أن الله تعالى أثنى على نفسه بأنه نِعْم المجيب، وصدق الله العظيم فإنه تعالى نعم المجيب، يجيب عباده إذا اقتضت الحكمة ذلك بوجود الشروط وانتفاء الموانع ﴿فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ﴾ (له نحن؛ أي دعانا على قومه فأهلكناهم بالغرق) نعم، دعا الله على قومه فأهلكهم بالغرق، غرقوا عن آخرهم، وذُكِر أن النبي ﷺ قال: «لَوْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى مُنْجِيًا أَحَدًا مِنَ الْغَرَقِ لَأَنْجَى أُمَّ الصَّبِيِّ»[[مستدرك الحاكم (٣٣٤٩) من حديث عائشة.]]. ما أم الصبي؟ امرأة كان معها صبي، فلما رأت الماء يتزايد خافت على نفسها من الغرق، فلجأت إلى جبل فارتفع الماء حتى وصل إليها، ثم ارتفعت، حتى وصلها الماء، ثم ارتفعت حتى وصلها الماء حتى بلغت قمة الجبل، فوصلها الماء، فلما رأت الماء قد وصلها وألجمها رفعت الصبيَّ فوق يديها؛ لتغرق قبله. قال النبي ﷺ فيما يذكر عنه: «لَوْ رَحِمَ اللَّهُ أَحَدًا لَرَحِمَ أُمَّ الصَّبِيِّ»[[مستدرك الحاكم (٣٣٤٩) من حديث عائشة.]]. لأن هذا من أبلغ ما يكون في الرحمة، أن تجعل موتها قبل موته، ترفعه على يديها حتى يدركها الغرق قبله.
المهم أن هؤلاء القوم وغيرهم من الأمم لا ينفعهم الإيمان إذا رأوا البأس، فانظر إلى فرعون لما أدركه الغرق ويش قال؟ ﴿آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [يونس ٩٠] لكن ما نفعه ذلك، قيل له: ﴿آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ﴾ [يونس ٩١] لم يكن أحد من الأمم نفعه إيمانه حين رأى البأس ﴿إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ﴾ [يونس ٩٨].
قال أهل العلم: والحكمة من ذلك أن نبيهم خرج منهم مغاضبًا قبل أن يُؤذَن له، فلم تحق عليهم الكلمة؛ لعدم تمام الإنذار في حقهم؛ فلهذا لما آمنوا كشف الله عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعهم إلى حين وسيجدون ما يستحقونه من العقوبة أو المثوبة.
قال الله عز وجل: ﴿وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ﴾ [الصافات ٧٦] من أهله؟ هل نقول: المراد المؤمنون؟ أو نقول: إن الأهل هم خاصة الرجل؟ لأن هناك فرقًا بين (آل) و(أهل)، (آل) أتباع، (أهل) هم الخواص خاصة الرجل كما قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ﴾ [الأحزاب ٣٣]، هذا لا يشمل الأمة كلها أهل البيت الخاصة، فهل نقول: إن المراد أهله الذين هم خاصته؟ هذا هو الأقرب من الآية، لكن في آيات أخرى تدل على أن الذي نجا هو ومن آمن معه.
يُستثنى من الأهل أهل نوح ابنه الذي كفر به فإنه أدركه الغرق، ولما سأل نوح عليه الصلاة والسلام ربه: ﴿فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (٤٥) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ [هود ٤٥، ٤٦].
ويستثنى من ذلك امرأته كما قال الله تعالى في سورة التحريم: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا﴾ [التحريم ١٠] خانتاهما بماذا؟ بالكفر لا بالفاحشة والزنا؛ لأنه من المستحيل أن يجعل الله امرأة نبي تزني؛ لأن الزنا خُبْث، وقد قال الله تعالى: ﴿الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ﴾ [النور ٢٦]، فخيانة امرأة نوح وامرأة لوط كانت بالكفْر، والكفر قد يكون في امرأة النبي وهو لا يعلم؛ ولهذا قال: ﴿فَخَانَتَاهُمَا﴾ يعني أخفتا الكفر عن نوح وعن لوط.
المهم أن (أهل) هنا ليس على عمومه، فهل نقول: هو عام أُريد به الخاص أو عام مخصوص؟ عام مخصوص؛ لأن العام الذي أُرِيد به الخاص لا بد أن يكون معلومًا للمخاطَب أنه لم يرد به إلا الخاص من أول الأمر، فأما الشيء الذي لا يُعلم إلا بنص آخر فإن هذا يسمى عامًّا مخصوصًا.
يقول عز وجل: ﴿وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ﴾ [الصافات ٧٦] ﴿الْكَرْبِ﴾ معناه ضد السعة، والإنسان المكروب هو الذي أصابه ما يُكرَب به، ولا شيء أعظم من كرْب الموت، وهذا الكرب الذي أصاب قومه كرب عظيم؛ لأنه غرق يموت الإنسان وهو ينظر؛ يعني موت الإنسان بمرض، يعني يموت بشيء يعلم أنه لا قُدرة له على إزالته، لكن بالغرق يموت وهو يؤمِّل أن ينجو، ولهذا تجده بكل قواه يحاول النجاة، ولكن ما تحصل له، فكأنه يموت، يقطعه الموت وهو ينظر إليه؛ فلهذا صار كربًا عظيمًا؛ لأنه موت بغرق، ومثله الموت بالحرق بالنار، فإن الإنسان يموت بأمر يشعر بنفسه أنه يستطيع التخلص منه، ولكن يعجز فيكون وقع الموت بحق عليه أشد؛ ولهذا قال: ﴿وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ﴾ قال المؤلف: (أي الغرق) ﴿وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ﴾ [الصافات ٧٧].
وفي الآية إشكال إعرابي، وهي أن ﴿الْبَاقِينَ﴾ منصوبة مع أنها بعد ﴿هُمُ﴾، و﴿هُمُ﴾ يكون مبتدأ، والمبتدأ خبره مرفوع، فلماذا جاءت منصوبة هنا؟
* طالب: فصل.
* الشيخ: الأخ يقول: إنه ضمير فصل، وضمير الفصل ليس له محل من الإعراب، وعلى هذا فتكون ﴿الْبَاقِينَ﴾ المفعول الثاني لـ﴿جَعَلْنَا﴾؛ لأن (جعلنا) من أفعال التصيير؛ فهي بمعنى (صيَّرنا) وتنصب مفعولين؛ المفعول الأول ﴿ذُرِّيَّتَهُ﴾ والمفعول الثاني ﴿الْبَاقِينَ﴾.
وقوله: ﴿هُمُ الْبَاقِينَ﴾ الآن نحن قلنا: إنها ضمير فصل، وضمير الفصل ليس له محل من الإعراب لكن له محل من المعنى، فما هو؟
* طالب: هو يا شيخ يفصل بين الخبر.
* الشيخ: يعني يميز بين الخبر والصفة، هذه واحدة، الثاني؟
* الطالب: التوكيد.
* الشيخ: يفيد التوكيد.
* طالب: ويفيد الإحصار.
* الشيخ: ويفيد الحصر، ففوائد ضمير الفصل ثلاثة: التوكيد، والحصر، والفصل؛ يعني التمييز بين الخبر والصفة، أما هو لا يؤثر في الإعراب إطلاقًا.
﴿ذُرِّيَّتَهُ﴾ من ذريته؟ أي نسله، جعل الله نسل نوح هم الباقين؛ ولهذا يقال: إن نوحًا عليه الصلاة والسلام هو الأب الثاني للبشرية، والأب الأول آدم.
ويقال: إن إبراهيم أبو الأنبياء. ولا يقال: أبو البشرية، لماذا؟ لأن البشر لم ينحصروا في ذرية إبراهيم لكنه أبو الأنبياء؛ لأن الأنبياء من بعده كلهم من ذريته كما قال تعالى فيما سبق ﴿وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ﴾ [الحديد ٢٦]، فما قبل إبراهيم من الأنبياء من ذرية مَنْ؟ نوح، وما بعد إبراهيم من الأنبياء من ذرية نوح وإبراهيم؛ لأن إبراهيم من ذرية نوح ﴿وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ﴾.
قال المؤلف: (فالناس كلهم من نسله عليه السلام) كل الناس بعده من نسله..
﴿ذُرِّيَّتَهُ﴾ [الصافات ٧٧] من ذريته؟ أي: نسله، جعل الله نسل نوح ﴿هُمُ الْبَاقِينَ﴾ ولهذا يقال: إن نوحًا عليه الصلاة والسلام هو الأب الثاني للبشرية، والأب الأول آدم، ويقال: إن إبراهيم أبو الأنبياء، ولا يقال: أبو البشرية، لماذا؟ لأن البشر لم ينحصروا في ذرية إبراهيم، لكنه أبو الأنبياء؛ لأن الأنبياء من بعده كلهم من ذريته؛ كما قال تعالى فيما سبق: ﴿وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ﴾ [الحديد ٢٦] فما قبل إبراهيم من الأنبياء من ذرية من؟ نوح، وما بعد إبراهيم من الأنبياء من ذرية نوح وإبراهيم؛ لأن إبراهيم من ذرية نوح.
﴿وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ﴾ قال المؤلف: (فالناس كلهم من نسله عليه السلام)، كل الناس بعده من نسله، أما قبله فليس من نسله، من نسل آدم، قال المؤلف: (وكان له ثلاثة أولاد: سام وهو أبو العرب وفارس والروم، وحام وهو أبو السودان، ويافث أبو الترك والخزر، ويأجوج ومأجوج وما هنالك) هذا هو المشهور عند المؤرخين أن أولاد نوح عليه الصلاة والسلام كانوا ثلاثة: سام وحام ويافث، لكن لم يأت هذا بسنة صحيحة عن النبي ﷺ، ولا في القرآن ما يدل على ذلك، فالأولى أن نقول: إن الناس بعد نوح من ذريته، وأما هذا التقسيم فيحتاج إلى دليل، وليس هناك دليل من كتاب الله ولا من سنة رسوله ﷺ على ذلك، والله سبحانه وتعالى ذكر أن الأمم السابقة لا يعلمهم إلا الله، في أي آية؟ في سورة إبراهيم: ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ﴾ [إبراهيم ٩] فإذا نفى الله علم أحد بهم إلا هو سبحانه وتعالى؛ وجب أن يُتلقى علمهم من؟ منين؟ من الله سبحانه وتعالى، من الله لا من غيره، فنرجع إلى الوحي.
وعلى هذا فما في كتب المؤرخين من أحوال الأمم الماضية إذا لم يقم عليه دليل من الكتاب والسنة، فإنه مما يُتوقف فيه، لا يجزم به؛ كحديث بني إسرائيل، فهؤلاء الثلاثة الأبناء لنوح ممن يتوقف فيهم، ونحن لا يهمنا أن يكون الباقون من أولاده ثلاثة أو ثلاثين، المهم أن نؤمن بما دل عليه كتاب الله، وهو أن ذرية نوح هم الذين بقوا، ومن آمن معه ليس لهم ذرية؟ قد يكون لهم ذرية، لكن لم تبق، فالله أعلم. ومن الجائز أن يكون للإنسان ابن وابن ابن ثم ينقطع نسله، ومن الجائز أن يكون له ابن وابن ابن إلى خمسة ثم ينقطع نسله، فلا نعلم، لكن الذي بقي نسله هو نوح ﴿ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ﴾.
﴿وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ﴾ [الصافات ٧٨] (أبقينا ﴿عَلَيْهِ﴾ ) يقول: ﴿تَرَكْنَا عَلَيْهِ﴾ ولم يقل: تركنا له، ﴿تَرَكْنَا عَلَيْهِ﴾ إشارة إلى أن (تركنا) مضمَّنة معنى يناسب حرف الجر المذكور –ننتبه- يقول: ﴿تَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ﴾ يعنى أبقينا له ثناءً حسنًا، أقول: لم يقل: تركنا له في الآخرين، بل قد قال: ﴿تَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ﴾ فلا بد أن يُضمَّن (تركنا) معنًى مناسبًا لـ(على)، المعنى المناسب لـ(على) هو الثناء، يعني أثنينا عليه ثناءً متروكًا في الآخرين، وهو كذلك؛ فإن الله سبحانه وتعالى أثنى عليه ثناء من أفضل الثناء، قال: ﴿ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا﴾ [الإسراء ٣]، هذا ثناء أعظم ما يكون من الثناء، وأشرف ما يكون من الفخر؛ أن الله عز وجل يصف واحدًا من بني آدم يقول: ﴿إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا﴾، يعني قائمًا بالعبودية، وقائمًا بالشكر عليه الصلاة والسلام.
إذن أبقى الله عليه ثناء حسنًا في الآخرين إلى آخر الأمم، بل إلى يوم القيامة؛ لأن هذا الكتاب سيبقى إلى أن يرفعه الله عز وجل عند قرب قيام الساعة، وكل هذا القرآن فيه الثناء على نوح.
(﴿تَرَكْنَا عَلَيْهِ﴾ أبقينا عليه ثناء حسنًا ﴿فِي الْآخِرِينَ﴾ من الأنبياء والأمم إلى يوم القيامة)، والظاهر من الآية الكريمة أن جميع الأنبياء الذين جاءوا من بعد نوح كان يُذكر فيهم نوح بالثناء الحسن، فيكون الأنبياء كلهم والأمم يطرون نوحًا عليه الصلاة والسلام بما أثنى الله به عليه لأنه مذكور في كل الكتب.
﴿سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ﴾ [الصافات ٧٩]، ﴿سَلَامٌ﴾ مبتدأ، ونُكر من أجل التعظيم، أي: سلام عظيم؛ لأنه سلام ممن؟ من الله ﴿سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ﴾ هذا الثناء معناه أن الله سلمه من القوادح التي تقدح فيه، وحل محل هذه القوادح من البشر الثناء من الله سبحانه وتعالى، فجمع الله له بين أمرين؛ بين الثناء وبين سلامته، أو بين تسليمه مما يقدح فيه، ولهذا نقول: سلام بمعنى تسليم، أي أن الله سلمه من كل ما يضيره من القوادح التي تقدح فيه من بني آدم.
﴿سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ﴾ المراد بـ﴿الْعَالَمِينَ﴾ هنا من بعد نوح، لا من قبله فيما يظهر، وعلى هذا فيكون عامًّا يراد به الخاص.
قال تعالى: ﴿إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ [الصافات ٨٠] ﴿إِنَّا﴾ (...) ولكن المراد بها التعظيم؛ فإن الله واحد سبحانه وتعالى، ولكنه إذا ذُكر اسمه بما يدل على الجمع فالمراد به أيش؟ المراد به التعظيم، ﴿كَذَلِكَ﴾ أي مثل هذا الجزاء ﴿نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ يعني كل من أحسن، فإن الله سبحانه وتعالى يجزيه كما جزى نوحًا عليه الصلاة والسلام، وقد جزى الله نوحًا بأمرين؛ بما ترك عليه في الآخرين، وبما سلمه في العالمين، فكذلك من كان مؤمنًا بالله عز وجل محسنًا في عبادته وإلى عباده، فإن الله تعالى يجزيه كما جزى نوحًا، ولذلك تجدون أئمة المسلمين، تجدون أن الله تعالى وضع في قلوب الناس وألسنتهم الثناء عليهم، على الرغم من أن من الناس من يقدح فيهم؛ لأن كل واحد من أهل الخير لا بد أن يقدح فيه واحد من أهل الشر ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ﴾ [الفرقان ٣١].
وكذلك كل من تمسك بهدي نبي فإن له عدوًّا من المجرمين بلا شك، لكن يقيض الله سبحانه وتعالى لهذا المؤمن من يبدل هذا القدح بالثناء، ومن يدافع هذا القدح، ولهذا قال: ﴿إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ الذين أحسنوا.
والإحسان ينقسم إلى قسمين: إحسان في عبادة الله، وإحسان إلى عباد الله، فالإحسان في عبادة الله لا نفسره بأحسن من تفسير رسول الله ﷺ، حيث قال: «الإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ»[[متفق عليه؛ البخاري (٥٠)، ومسلم (٩/ ٥) من حديث أبي هريرة.]]، ماذا فهمتم من هذا الحديث؟ «أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» ماذا تفهمون؟ نفهم أن العبادة في القسم الأول عبادة طلب، والعبادة في القسم الثاني عبادة هرب، معلوم؟
* طالب: لا.
* الشيخ: ما هو معلوم؟ طيب، العبادة في القسم الأول عبادة طلب «كَأَنَّكَ تَرَاهُ» ومعلوم أن الله سبحانه وتعالى تشتاق إليه النفوس، فإذا كان يعبد الله كأنه يراه فإنه يلح في العبادة ليصل أيش؟ إلى محبوبه، إلى الله عز وجل، «فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ» يعني إن لم تصل إلى هذه الدرجة، وهي عبادة الرغبة والطلب، فإنه يراك، فاعبده عبادة هرب وخوف منه، وهذا ليس كالأول؛ لأن هذا يعبد الله خوفًا منه، والأول يعبده طمعًا، فالمرتبة الأولى أكمل من المرتبة الثانية، ولهذا جعلها النبي ﷺ في الدرجة الثانية، قال: «إِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ» وتعبده كأنك تراه «فَإِنَّهُ يَرَاكَ»، فإياك أن تخالفه أو تقع في معصيته، هذا الإحسان في عبادة الله، أما الإحسان إلى عباد الله، فهو بذل المعروف إليهم بالمال والبدن والجاه، وبعضهم قال: هو بذل الندى، وكف الأذى، وطلاقة الوجه، بذل الندى يعني العطاء، كف الأذى ألا تؤذي أحدًا، لا بقولك ولا بفعلك، طلاقة الوجه ألا تقابل الناس بوجه عابس مكفهر؛ لأن الإنسان مهما كان إذا لقي الناس بوجه عابس مكفهر فليس محسنًا إليهم، بل إن الله سبحانه وتعالى عاتب النبي ﷺ، وهو أفضل الخلق حين حصل له ما حصل مع عبد الله بن أم مكتوم، مع أن الرسول ﷺ حصل له ما حصل اجتهادًا منه، فقال الله تعالى في ذلك، ماذا قال؟ قال: ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى (١) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (٢) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (٣) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (٤) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (٥) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (٦) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (٧) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (٨) وَهُوَ يَخْشَى (٩) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى﴾ [عبس ١ - ١٠] كلمات عظيمة لكنها مع ذلك خففها الله عز وجل بأن بدأها بضمير الغيبة، فقال: ﴿عَبَسَ﴾، كأنما يتحدث عن شخص آخر، لا عن الرسول، ولم يقل: عبست وتوليت؛ لأنه كما مر علينا كثيرًا بأن المخاطبة بصيغة الخطاب أعظم وأشد من التحدث بضمير الغيبة.
المهم أن الإحسان للعباد يكون ببذل الندى، وكف الأذى، وطلاقة الوجه، وإن شئت فقل بأن الإحسان إلى العباد: بذل المعروف فيهم بالمال والبدن والجاه، أما بالمال فظاهر بالبدن أن تخدمه، ومع هذا فإذا خدمت الإنسان وأعنته فأنت مأجور؛ كما قال الرسول ﷺ في: «وَتُعِينُ الرَّجُلَ عَلَى دَابَّتِهِ فَتَحْمِلُهُ عَلَيْهَا، أَوْ تَرْفَعُ لَهُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ»[[متفق عليه؛ البخاري (٢٩٨٩)، ومسلم (١٠٠٩ / ٥٦) من حديث أبي هريرة.]]. ومن البذل البدني طلاقة الوجه، لا شك أنها من البذل المعروف البدني؛ لأنها تتعلق بالبدن، الثالث قلنا: الجاه بأن تنفع الناس بالتوسط والشفاعة فيما فيه الخير لهم ولك (...).
* * *
﴿فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٦٦) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (٦٧) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ﴾ [الصافات ٦٦ - ٦٨].
* من فوائد هذه الآية الكريمة وما بعدها: بيان أن هؤلاء -أعني أهل النار والعياذ بالله- لا يمكن أن يخرجوا من النار؛ لقوله: ﴿ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ﴾.
* ومن فوائدها: أن ظاهرها يفيد تأبيد النار؛ لأنها المرجع النهائي، وهذا يقتضي أنه ليس هناك سواها، وهذا القول -أعني أن النار مؤبدة- هو القول المتعين الذي لا يجوز اعتقاد سواه؛ وذلك لأن الله تعالى ذكر التأبيد في ثلاثة مواضع من القرآن: في سورة النساء، وفي سورة الأحزاب، وفي سورة الجن، ففي سورة النساء يقول الله عز وجل: ﴿لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (١٦٨) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾ [النساء ١٦٨، ١٦٩].
وفي سورة الأحزاب يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (٦٤) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾ [الأحزاب ٦٤، ٦٥].
وفي سورة الجن: ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾ [الجن ٢٣] وبعد هذه الآيات الثلاث من عالم الغيب والشهادة لا يجوز العدول عن القول بمدلولها، فإذا كان الساكن خالدًا خلودًا مؤبدًا لزم أن يكون المسكون كذلك، أي مؤبدًا لا يمكن فناؤه، والقول بجواز فناء النار أو بوجوب فناء النار قول ضعيف جدًّا، وقد علق شيخنا رحمه الله على ابن القيم في كتابه شفاء العليل، حيث ذكر الخلاف عن بعض السلف، علق على هذا بأنه قول ضعيف جدًّا، واستغرب أن يقع هذا من مثل ابن القيم رحمه الله؛ لأنه قول منافٍ للقرآن، ولكن لكل جواد كبوة.
* ومن فوائد الآية الكريمة: الإشارة إلى أن هؤلاء يمنون ويؤملون بأن يخرجوا من النار، ولكن يرجعون فيها؛ لقوله: ﴿ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ﴾، وقد ذكرنا في أثناء التفسير أن كون الإنسان يمني أن يخرج ثم يعاد يكون أشد وقعًا عليه وأشد عذابًا وألمًا.
وفي قوله تعالى: ﴿إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (٦٩) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ﴾ [الصافات ٦٩، ٧٠] من الفوائد: أن هؤلاء المكذبين اتبعوا آباءهم على الضلال؛ لقوله: ﴿أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ﴾ فضلوا مثلهم
* ومن فوائدها: الإشارة إلى ذم التقليد المخالف للحق؛ لأن الله تعالى ذكر هذا تنديدًا بهم، وتوبيخًا لهم أن يجدوا آباءهم ضالين، ثم يتبعوهم ويدعوا طريق الحق، فإذا كان التقليد للضرورة بحيث إن الإنسان لا يتمكن من الوصول إلى الحكم عن طريق الاستدلال؛ فهنا يجوز التقليد للضرورة؛ لقول الله تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل ٤٣]، ولم يقل: فاستنبطوا من القرآن والسنة إن كنتم لا تعلمون؛ لأن من لا علم عنده لا يمكن أن يستنبط بنفسه، ولو حاول استنباط الأحكام من الأدلة، وهو ليس عنده علم، فسوف يضل ويتخبط خبط عشواء، فالإنسان الذي ليس عنده علم فرضه التقليد، والذي عنده علم فرضه الاجتهاد، وهذا القول وسط بين من يشددون في الإنكار على التقليد، وبين من يشددون في الإنكار على المجتهدين، فيكون التقليد للضرورة.
* ومن فوائد الآية الكريمة: إطلاق الآباء على الأجداد أو لا؟ لأن الظاهر أن قوله: ﴿آبَاءَهُمْ﴾ يشمل الأب الأدنى والأب الأعلى. وإطلاق الأب على الجد ولو بعيدًا معروف في الكتاب والسنة، قال الله تعالى: ﴿مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ﴾ [الحج ٧٨] فسمى الله إبراهيم أبًا مع أنه جد بعيد.
ويتفرع على هذه القاعدة: ترجيح القول بأن الجد يسقط الإخوة مطلقًا، أي سواء كانوا أشقاء، أم لأب، أم لأم في باب الميراث، وهو القول الراجح أن الجد إذا وجد وهو جد من قبل الأب فإنه يسقط الإخوة، ولو كانوا أشقاء، أو لأب؛ لأنه أب، وهذا القول هو قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وروي عن ثلاثة عشر صحابيًّا، وهو مذهب أبي حنيفة، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو القول الراجح المتعين.
ووجه ذلك أن القائلين بالتوريث أتوا بتفصيلات لو كانت هي الشرع لوجب أن تُبين في كتاب الله وفي سنة رسوله عليه الصلاة والسلام؛ لأنهم يقولون: إن الجد إذا لم يكن من صاحب فرض يُخير بين الثلث والمقاسمة، وإذا كان معه صاحب فرض فإنه يخير بين السدس وثلث الباقي والمقاسمة، فنقول: من أين لكم هذا التقسيم؟ هذا التقسيم لو كان شرعًا لوجب أن يكون في الكتاب والسنة؛ لأن الله سبحانه وتعالى قسم أصحاب الفروض تقسيمًا واضحًا بينًا، فالأم ذكر أحوالها، وكذلك الإخوة والأخوات، الإخوة من أم، والأخوات مطلقا، فأين هذا التقسيم؟ من أين لكم أن الجد إذا لم يكن صاحب فرض فإن ميراثه الثلث أو المقاسمة، وإذا كان صاحب فرض فإن ميراثه السدس أو ثلث الباقي أو المقاسمة، المهم أن هذا سيأتينا إن شاء الله في الفرائض بأوسع من هذا، لكنا تعرضنا لهذا هنا لقوله: ﴿آبَاءَهُمْ﴾.
* ومن فوائد الآية الكريمة: قبح عمل هؤلاء المقلدين حيث كانوا يهرعون على آثار آبائهم، أما في الحق فإنهم ينكصون على أعقابهم، فيتفرع على هذا: خطر هؤلاء الناس الذين إذا جاء الحق موافقًا لأهوائهم أسرعوا إليه، وإذا كان غير موافق نكصوا عنه، وصاروا يتباطؤون فيه، وهؤلاء فيهم شبه من قول الله تعالى: ﴿وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ﴾ [النور ٤٩]، فإذا كان الحق لهم أتوا إليه مذعنين، وإذا كان الحق عليهم نكصوا وحاولوا أن يلووا أعناق النصوص لتوافق أهواءهم.
وفي قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ﴾ دليل على أن الأمم السابقة قد ضل أكثرهم، وهو كذلك، وقد مر علينا «أن الرسول ﷺ رأى النبي ومعه الرَّهْط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحدٌ»[[متفق عليه؛ البخاري (٥٧٥٢)، ومسلم (٢٢٠ / ٣٧٤) من حديث عبد الله بن عباس.]].
* ومن فوائدها: تسلية النبي ﷺ بذكر المماثل للذين كذبوه؛ لأن الإنسان يتسلى ويتأسى بمصائب غيره.
* ومن فوائد الآية: عناية الله عز وجل برسوله صلى الله عليه ويسلم، حيث كان يضرب له من الأمثلة ما يسليه بها؛ لأن سلو الإنسان بغيره يهون عليه الأمر، ويزيده قوة واندفاعًا فيما يدعو إليه.
* ومن فوائدها: تهديد هؤلاء المكذبين لرسول الله ﷺ أن يصيبهم مثل ما أصاب الأمم السابقة.
وفي قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ﴾ [الصافات ٧٢] دليل على أن الله تعالى أقام الحجة على كل أمة؛ لقوله: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ﴾ أي: في الأولين ﴿مُنْذِرِينَ﴾، ويؤيد ذلك قوله تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ﴾ [فاطر ٢٤] فكل القرى قامت عليها الحجة.
* ويستفاد من الآية أيضًا: أن من لم تبلغه الرسالة فلا حجة عليه؛ لأنه لم يبلغه الإنذار، وهو كذلك، ولكن ماذا يكون مصير هذا الرجل، أو ماذا يكون حكمه في الدنيا والآخرة؟ نقول: أما في الدنيا فيحكم بما يتعبد به ويتدين به، فإن كان يتدين باليهودية فهو يهودي، أو بالنصرانية فهو نصراني، أو بالمجوسية فهو مجوسي، أو بالشيوعية فهو شيوعي، هذا في الدنيا، يعني أننا لا نجري عليه أحكام المسلمين في هذه الحال؛ لأنه يدين بغير الإسلام، أما في الآخرة فحكمه إلى الله عز وجل، وأصح الأقوال في هذا أن الله سبحانه وتعالى يمتحنهم بما يشاء، فمن أطاع منهم دخل الجنة، ومن عصى دخل النار (...)، نعيد هذه المسألة: ما حكم من لم تبلغه الرسالة في الدنيا؟ حكمه حكم ما يدين به؛ لأننا ليس لنا إلا الظاهر، أما في الآخرة فأمره إلى الله عز وجل، يقيم الله له امتحانًا يوم القيامة بما يشاء، فإذا أطاع دخل الجنة، وإذ عصى دخل النار، فإذا قال قائل: وهل في الآخرة تكليف؟ ألستم تقولون: إن التكليف ينقطع بالموت؟
فالجواب: نعم، في الآخرة تكليف، قال الله عز وجل: ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ﴾ [القلم ٤٢] ودعوتهم إلى السجود تكليف.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أنه ينبغي في الخطاب أن يذكر ما يناسب المقام، وأن يحذف ما تكون الفصاحة في حذفه، وجهه أنه اقتصر هنا على ذكر الإنذار بالنسبة للرسل، مع أن الرسل عليهم الصلاة والسلام حالهم الإنذار والتبشير، قال الله تعالى: ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ [النساء ١٦٥].
* ومن فوائد الآية الكريمة: رحمة الله سبحانه وتعالى بالخلق، حيث لم يكلهم إلى عقولهم في تعبدهم لربهم عز وجل، ما وجهه؟ أنه أرسل إليهم الرسل، وأرسل إليهم الرسل أيضًا ليس مجرد (...) ﴿ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ﴾ [الحج ٧٧] لا، بل قرن دعوتهم بماذا؟ بالإنذار والتبشير؛ ليكون ذلك حافزًا لهم على فعل الأوامر واجتناب النواهي.
* ومن فوائد قوله تعالى: ﴿فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ﴾ [الصافات ٧٣] تنبيه العاقل إلى النظر في عواقب المكذبين، وكذلك في عواقب المجيبين، فإن الإنسان مأمور بالنظر في حال هؤلاء وهؤلاء، فإذا نظر في عواقب المجيبين وأنها عواقب حميدة صار منهم، وإذا نظر إلى عواقب المكذبين حذر منهم وابتعد عنهم؛ لقوله تعالى: ﴿فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ﴾.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن الله لا يعاقب على الذنب إلا بعد قيام الحجة؛ لقوله: ﴿عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ﴾ فهم أنذروا فكانت العاقبة.
* ومن فوائد الآية الكريمة: الإشارة إلى أنه ينبغي للناظر أن ينظر إلى كيفية العقوبة؛ لتكون أعظم في تصوره من وجه، وليعرف حكمة الله عز وجل في مناسبة العقوبة، ليش؟ للذنب، فينظر لهذين الأمرين لبيان هذه العقوبة وشدتها ولبيان مناسبتها للذنب ﴿فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ﴾.
وفي قوله تعالى: ﴿إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ﴾ [الصافات ٧٤] إشارة إلى أن المخْلَص أو المخْلِص، وهما متلازمان، إخلاصهم هم وإخلاص الله لهم إلى أن عاقبته النجاة، وجهه الاستثناء ﴿إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ﴾ فإن هؤلاء عاقبتهم النجاة وعاقبتهم حميدة.
* ومن فوائدها: حث الإنسان على أن يكون من هؤلاء العباد لينجو.
* ومن فوائدها: فضيلة الإخلاص؛ لقوله: ﴿إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ﴾ والإخلاص كما تعلمون هو الذي أمرنا به، ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ [البينة ٥]، ﴿فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ [غافر ١٤] ﴿فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ﴾ [الزمر ٢]، والإخلاص كما مر علينا هو إزالة جميع الشوائب في العبادة.
* ومن فوائد الآية الكريمة: تشريف هؤلاء المخلصين، بماذا؟ بإضافة عبوديتهم إلى الله، فإنه لا شك أن ما يضاف إلى الله ينال الشرف، ولهذا شرف الله بيته بإضافته إليه، فقال: ﴿وَطَهِّرْ بَيْتِيَ﴾ [الحج ٢٦] وشرف الله المساجد بإضافتها إليه.
﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ﴾ [البقرة ١١٤]، وسماها النبي عليه الصلاة والسلام بيوت الله: «مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ»[[أخرجه مسلم (٢٦٩٩ / ٣٨) من حديث أبي هريرة.]] وهذا لا شك تشريف للمضاف.
* ومن فوائد الآية الكريمة: بيان نعمة الله على هؤلاء العباد، حيث أخلصهم لنفسه فلم يكن لهم مقصود إلا الله عز وجل.
فإن قال قائل: أليس هؤلاء العباد لهم مقصود فهم يأكلون قصدًا ويشربون قصدًا، ويتمتعون بالمساكن وبالنساء قصدًا، فقد دخل في قصدهم قصد ما سوى الله، فما الجواب؟
الجواب: أنهم يتقربون إلى الله بهذا القصد، فمثلًا في الأكل يأكل الإنسان تشهيًا بلا شك، ودفعًا للضرورة، لكن يمكن أن يكون هذا الأكل عبادة من وجوه: أولا: إذا قصد به امتثال أمر الله؛ لأن الله أمر بالأكل والشرب.
ثانيًا: إذا قصد به حفظ صحته وقيام بنيته؛ لأن الإنسان مأمور بمراعاة نفسه، قال الله تعالى: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ [النساء ٢٩]، وقال النبي ﷺ: «إِنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا»[[أخرجه البخاري (١٩٦٨) من حديث أبي جحيفة.]]، إذا قصدوا بذلك الاستعانة بهذا الأكل والشرب على طاعة الله، ولا سيما إذا كان معينًا إعانة مباشرة، كما في قوله عليه الصلاة والسلام: «تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً»[[متفق عليه؛ البخاري (١٩٢٣)، ومسلم (١٠٩٥ / ٤٥) من حديث أنس بن مالك.]].
الرابع: إذا قصد بذلك التبسط بنعم الله فإن الله يحب من عبده أن يتبسط بنعمته؛ لأن الكريم يحب أن يتبسط الناس بكرمه، ومن أشرف وقت عند الكريم أن يطرق بابه الضيوف ليكرمهم، أليس كذلك؟ لكن البخيل بالعكس؛ إذا قرع الباب قال: ما هو بموجود، لكن الثاني يكون قد فتح بابه للناس، ويفرح إذا جاء الناس وتبسطوا بضيافته.
إذن قصد الإنسان التنعم بنعمة الله والتبسط بها، لا شك أن هذا قربة إلى الله عز وجل؛ لأن الله يحب إذا أنعم على عبده نعمة أن يرى أثر نعمته عليه.
* طالب: (...) ابن القيم قال في حادي الأرواح: إن النار ناران؛ نار الكفار ونار عصاة الموحدين، أما نار عصاة الموحدين فهي اللي تفنى، أما نار الكفار فلا تفنى، أليس تفصيل هذا يقضى على أن (...) ابن القيم لم يقل بفناء النار؟
* الشيخ: لا، هو ذكر في كتاب شفاء العليل الخلاف في نار جهنم التي هي للكافرين.
* طالب: أليس هذا تقييدًا ما أطلقه في شفاء العليل؟
* الشيخ: (...) قول ثان، الكلام على أن تعليق شيخنا على هذا الذي وجده أمامه.
* طالب: الذي بلغته الرسالة، ولكن هو يولد في بيئة عمت فيه الشرك، وعندهم (...) وهم قد غرسوا في قلبه عداوة بينه وبين الذين عندهم العقيدة الصحيحة ما حكمه؟
* الشيخ: الظاهر أنه قد قامت عليه الحجة؛ لأن الله تعالى أقام الحجة على المشركين، مع أن عامة المشركين أو عوام المشركين لا يفهمون.
* الطالب: هو مسلم، يعني ولكن..
* الشيخ: إي، لكنه مسلم مشرك، فمثلًا إذا قيل له: إن الذهاب إلى صاحب القبر ودعاءه شرك.
* طالب: هو ما يعرف..
* الشيخ: (...) لم يعرف هذا معناه أنه لم تقم عليه الحجة، إنما قولنا في رجل يعرف قيل له: إن هذا شرك، وقيل له: إن الله يقول: ﴿ادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ [غافر ١٤]، وقالوا له: إن الله يقول: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ [غافر ٦٠] وبين له الآيات، أما مجرد أن يأتيه رجل من الناس ويقول له: ترى إن هذا شرك فقد لا يكون في هذا إقامة حجة، عرفت؟
* طالب: في بعض الناس (...) لا يعرفون من الإسلام إلا اسمه فقط، لا يعرفون ما هو الإسلام، هل هذا كفاية لإقامة الحجة فقط، يعني يعرفون أنه في ..
* الشيخ: هذه المسألة تنبني على خلاف العلماء؛ هل العذر إقامة الحجة، أو فهم الحجة؟ فمن العلماء من يقول: إذا قامت الحجة سواء فهمها المدعو أم لم يفهم فلا عذر له، ومنهم من يقول: لا بد من أن يفهم الحجة تقام عليه ويفهمها، أما إذا لو بُعث رسول يدعو إلى الهدى ولكن ما فهم هذا الشيء، فإنه لا تقوم عليه الحجة؛ لأن الله تعالى قال: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [إبراهيم ٤] بعد أن يبين ويعرف ينقسم الناس بهؤلاء الرسل إلى ضال ومهتدٍ، والمسألة تحتاج إلى تأمل في الواقع: هل يُكتفى بمجرد قيام الحجة واذا قامت عليه الحجة عليه أن يبحث عن المعنى، فيقال: أنت فرطت، فيقال: لماذا لم تستفهم فأنت مقصر؟ أو يقال: إن الرجل إذا قامت عليه حجة وبلغته، لكن على وجه مشوش، فهذا معذور، لا سيما إذا مات في زمن لم يتمكن فيه من البحث والاستفسار.
على كل حال هي مسألة لها غور عظيم، وتحتاج إلى مراجعة كلام أهل العلم في هذه المسألة مراجعة تامة؛ لأنها في وقتنا الحاضر تدعو الحاجة إلى فهمها؛ إذ إن فيه كثير من المسلمين على هذا الوجه، يعني بين لهم الحق أو عرض لهم الحق عرضًا مشوشًا كما يوجد بين أهل البدع الآن، مثلًا فيه ناس مثل بدعة الرافضة، بدعة الخوارج، بدعة الأشعرية، بدعة المعتزلة، بدع كثيرة مشوش على الناس فيها ولبس فيها الحق بالباطل، فكثير من الناس يظنون أن الحق معهم، وهم على بدعة وضلالة، فالمسألة تحتاج الحقيقة إلى بحث تام في هذا الموضوع، ومراجعة كلام أهل العلم، لا سيما العلماء المتحررون في أفكارهم؛ كشيخ الإسلام ابن تيمية، والشيخ محمد بن عبد الوهاب ومن أشبههما (...).
* * *
* طالب: ﴿سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (٧٩) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٠) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (٨١) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٨٢) وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (٨٣) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٤) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (٨٥) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (٨٦) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (٨٧) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (٨٨) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ﴾ [الصافات ٧٩ - ٨٩].
* الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، سبق لنا بيان الفوائد، وأظن وصلنا إلى قوله تعالى: ﴿فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ﴾ [الصافات ٧٣]؟
قال الله عز وجل: ﴿وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ﴾ إلى آخره.
* في هذه الآية من الفوائد: بيان تأكيد الشيء بالقسم إذا دعت الحاجة إليه، وأن هذا من فصيح الكلام؛ لأن الله سبحانه وتعالى أكد هذا بالقسم واللام و(قد).
* ومن فوائده: حث النبي ﷺ وغيره على دعاء الله سبحانه وتعالى، وأن الله إذا ناداه عبده بالدعاء أجابه.
* ومن فوائدها: إثبات سمع الله؛ لقوله: ﴿وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ﴾، ولا إجابة إلا بعد السمع.
* ومن فوائدها: الثناء على نوح عليه الصلاة والسلام، وذلك بلجوئه إلى ربه عند حلول المضايق.
* ومن فوائد قوله: ﴿فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ﴾ الثناء على الله سبحانه وتعالى بكمال الإجابة؛ لأن الثناء على المجيب يستلزم الثناء على الإجابة، فإجابة الله عز وجل ليست كإجابة غيره، بل هي إجابة فضل وإحسان، قد يعطي الإنسان أكثر مما سأل.
* ومن فوائدها: بيان رحمة الله سبحانه وتعالى بإجابته دعوة الداعي، وبيان قدرته على إجابة الدعوة؛ لأن الإجابة تستلزم القدرة عليها؛ إذ إن العاجز لا يمكن أن يجيب.
* ومن فوائدها: بيان عظمة الله، وذلك بالإتيان بالواو في صفته، في قوله: ﴿الْمُجِيبُونَ﴾؛ فإن هذه قطعًا ليست للجمع؛ لأن الله واحد، ولكنها للتعظيم.
* ومن فوائد قوله: ﴿وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ﴾ [الصافات ٧٦] بيان أن قومه أُصيبوا بكرب عظيم، وهو الهلاك بالغرق، وأن الله سبحانه وتعالى نجَّى نوحًا وأهله.
* ومن فوائدها أيضًا: بيان قدرة الله، حيث حل العذاب بهذه الأمة، فنجا قوم وغرق قوم.
* ومنها، أي من الفوائد: كمال عدله سبحانه وتعالى، حيث جازى كل واحد بما يستحق، فمن استحق النجاة نجاه، ومن استحق الهلاك أهلكه.
* ومن فوائدها: جواز إطلاق العام وإن كان مخصوصًا؛ لأن قوله: ﴿أَهْلَهُ﴾ يشمل أيش؟ المؤمن والكافر منهم، وقد دلت آيات أخرى على أن من أهله من لم ينجُ.
* ومن فوائد قوله: ﴿وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ﴾ [الصافات ٧٧] أن نوحًا عليه الصلاة والسلام هو الذي بقي نسله من بني آدم، فكل من بعد نوح فهو من نسله، ولهذا يُسمَّى الأب الثاني للبشرية، وهنا سؤال، وهو أن يقال: إن النبي ﷺ ذكر أن الله خصه بأنه بعثه إلى الناس كافة، وكان النبي يُبعَث إلى قومه خاصة[[متفق عليه؛ البخاري (٤٣٨)، ومسلم (٥٢١/ ٣) من حديث جابر بن عبد الله.]]، وظاهر هذه الآية الكريمة أن نوحًا بُعث إلى البشر جميعًا؛ لقوله: ﴿وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ﴾، وذريته كانوا مباشرين له، لم يكونوا في مكان آخر.
والجواب على ذلك أن هذه الآية لا تستلزم ما ذكر، فقد يكون هناك أمم في أماكن بعيدة لكنها فنِيت ولم يبقَ إلى ذرية نوح، وتكون الأمم البعيدة التي لم تشملها دعوة نوح يكون لها رسل، ثم فنيت هذه الأمم والرسل الذين بُعثوا إليها، ولم يبقَ إلا ذرية نوح.
* ومن فوائد قوله: ﴿وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ﴾ [الصافات ٧٨] بيان فضل الله سبحانه وتعالى على العبد بثناء الآخرين عليه؛ لأن الميت إذا مات انقسم الناس فيه إلى قسمين: قسم يثني ثناء حسنًا، وقسم يثني ثناء سيئًا، وقلَّ مَن تتفق الأمة عليه بالثناء، وأعني بالأمة أمة الدعوة، أما أمة الإجابة فكثيرًا ما يتفقون على الثناء على شخص معين، لكن أمة الدعوة اللي فيهم الكافر والمؤمن والفاسق والعاصي لا يتفقون على الثناء على شخص؛ لأن كل من قوي إيمانه ودعوته إلى الله فسيجد مضادًّا من أعداء الله سبحانه وتعالى، لكن أهل الخير والإيمان يحبون الداعية إلى الله ويثنون عليه بما يستحق.
وفي قوله: ﴿سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ﴾ [الصافات ٧٩] دليل على أن نوح عليه الصلاة والسلام قد برأه الله سبحانه وتعالى في الآخرين، حيث يقولون القول الذي فيه سلامته من القدح، فيكون الله قد جمع له بين الثناء الحسن ودفع الثناء السيئ؛ لقوله: ﴿سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ﴾.
* ومن فوائدها أيضًا، من فوائد الآية: إطلاق العام وإرادة الخاص؛ لأن قوله: ﴿فِي الْعَالَمِينَ﴾ لا يتناول من قبل نوح، فإن الظاهر أنه لم يسبق له ذكر فيما سبق.
* ومن فوائد قصة نوح ككل، من فوائدها: إدخال البشارة على رسول الله ﷺ وأصحابه، حيث يكون لهم أسوة في نوح ومن نجا معه، وتهديد المكذبين له، حيث يكون لهم إنذار لما جرى للمكذبين لنوح عليه الصلاة والسلام.
ثم قال الله تعالى: ﴿وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ﴾ [الصافات ٨٣].
* ومن فوائد قوله: ﴿إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ أن المحسن يُجازَى بمثل ما جُوزي به نوح عليه الصلاة والسلام، وذلك بإنجائه من الهلاك وسلامة عرضه من الذكر السيئ، وكلما كان الإنسان أكثر إحسانًا كان أكثر ثوابًا وأسلم.
* ومن فوائد الآية: إثبات القياس لقوله: ﴿إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ يعني مثل هذا الجزاء نجزي كل محسن.
* ومن فوائدها: أن الله سبحانه وتعالى يرتب الجزاء والعقوبة والثناء والقدح على الأوصاف، لا على الأشخاص؛ لأنه هو علق الجزاء على الإحسان، ولهذا لم يأتِ شيء من أحكام الله سبحانه وتعالى مقيدًا بشخص لشخصه أبدًا، حتى خصائص الرسل، ليست من باب خصائص الأشخاص، لكن من باب خصائص الأوصاف؛ لأن فيهم وصفًا زائدًا على غيرهم، وهو وصف النبوة والرسالة، فخصوا ببعض الأحكام المناسبة لمقامهم، أما أن يُخص شخص بعينه لأنه فلان بن فلان مثلًا، فهذا لا يوجد في الشريعة؛ لأن الله سبحانه وتعالى يرتب الأحكام ويعلقها على الأوصاف، لا على الأشخاص.
* ومن فوائد الآية قوله: ﴿إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ﴾ الإشارة إلى كمال هذين الوصفين، وهما العبودية والإيمان، وأنهما أشرف وصف يتصف به الإنسان أن يكون عبدًا لله مؤمنًا به؛ لأن الله قال: إنه من عبادنا المؤمنين، يعني نوحًا، ونوح عليه الصلاة والسلام من أولي العزم من الرسل، فإذا كان من مناقبه وفضائله أن يكون من عباد الله المؤمنين دل ذلك على فضيلة العبودية والإيمان.
* ومن فوائد قوله: ﴿ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ﴾ بيان حكمة الله سبحانه وتعالى، حيث أغرق هؤلاء المكذبين لرسوله عليه الصلاة والسلام، بل المكذبين لرسله؛ لأن الله قال: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ﴾ [الشعراء ١٠٥]. وتكذيب قوم نوح ليس من أجل أنه نوح، ولكن من أجل ما جاء به، ولهذا كان تكذيب رسول واحد تكذيبًا لجميع الرسل؛ لأنه تكذيب لجنس الرسالة، وليس لشخص المرسل.
* ومن فوائدها أيضًا: إقامة العدل بإغراق هؤلاء المكذبين؛ لأن الله سبحانه وتعالى لم يغرقهم ظلمًا، بل هم الذين ظلموا أنفسهم.
{"ayahs_start":64,"ayahs":["إِنَّهَا شَجَرَةࣱ تَخۡرُجُ فِیۤ أَصۡلِ ٱلۡجَحِیمِ","طَلۡعُهَا كَأَنَّهُۥ رُءُوسُ ٱلشَّیَـٰطِینِ","فَإِنَّهُمۡ لَـَٔاكِلُونَ مِنۡهَا فَمَالِـُٔونَ مِنۡهَا ٱلۡبُطُونَ","ثُمَّ إِنَّ لَهُمۡ عَلَیۡهَا لَشَوۡبࣰا مِّنۡ حَمِیمࣲ","ثُمَّ إِنَّ مَرۡجِعَهُمۡ لَإِلَى ٱلۡجَحِیمِ","إِنَّهُمۡ أَلۡفَوۡا۟ ءَابَاۤءَهُمۡ ضَاۤلِّینَ","فَهُمۡ عَلَىٰۤ ءَاثَـٰرِهِمۡ یُهۡرَعُونَ","وَلَقَدۡ ضَلَّ قَبۡلَهُمۡ أَكۡثَرُ ٱلۡأَوَّلِینَ","وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا فِیهِم مُّنذِرِینَ","فَٱنظُرۡ كَیۡفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلۡمُنذَرِینَ","إِلَّا عِبَادَ ٱللَّهِ ٱلۡمُخۡلَصِینَ","وَلَقَدۡ نَادَىٰنَا نُوحࣱ فَلَنِعۡمَ ٱلۡمُجِیبُونَ","وَنَجَّیۡنَـٰهُ وَأَهۡلَهُۥ مِنَ ٱلۡكَرۡبِ ٱلۡعَظِیمِ","وَجَعَلۡنَا ذُرِّیَّتَهُۥ هُمُ ٱلۡبَاقِینَ","وَتَرَكۡنَا عَلَیۡهِ فِی ٱلۡـَٔاخِرِینَ","سَلَـٰمٌ عَلَىٰ نُوحࣲ فِی ٱلۡعَـٰلَمِینَ","إِنَّا كَذَ ٰلِكَ نَجۡزِی ٱلۡمُحۡسِنِینَ","إِنَّهُۥ مِنۡ عِبَادِنَا ٱلۡمُؤۡمِنِینَ","ثُمَّ أَغۡرَقۡنَا ٱلۡـَٔاخَرِینَ"],"ayah":"طَلۡعُهَا كَأَنَّهُۥ رُءُوسُ ٱلشَّیَـٰطِینِ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق