الباحث القرآني

طالب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ﴿وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٩) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١٤٠) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (١٤١) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (١٤٢) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (١٤٣) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤٤) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (١٤٥) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (١٤٦) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (١٤٧) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (١٤٨) فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ﴾ [الصافات ١٣٩ - ١٤٩]. * الشيخ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تعالى: ﴿وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ هذه الجملة مؤكدة بمؤكدين: الأول (إن) والثاني اللام، وسبب التأكيد أن إثبات الرسالة أمر ينكره كثير من الناس، والشيء الذي ينكر يجب أن يؤكد بما يدل على ثبوته، سواء كان ذلك عن طريق التأكيد اللفظي بأدوات المؤكدات، أو عن طريق التأكيد المعنوي بذكر الآيات والشواهد الدالة على ثبوته، والأنبياء عليهم الصلاة والسلام قد ثبتت رسالتهم بالنوعين؛ أي بالتوكيد اللفظي والتوكيد المعنوي، فأيدهم الله تعالى بالآيات الكونية والشرعية، وأيد الله رسالتهم بالمؤكدات اللفظية؛ كما في هذه الآية، قال: ﴿وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ يعني لمن القوم الذين أرسلهم الله تعالى إلى عباده، ولم يبين إلى من أرسل، لكن قد ذكر في آيات أخرى أنه أرسل إلى قومه، وكذلك صح عن رسول الله ﷺ «أن كل نبي يُبعَث إلى قومه خاصَّةً إلا النبي ﷺ فإنه بُعث إلى الناس عامة»[[متفق عليه؛ البخاري (٣٣٥)، ومسلم (٥٢١ / ٣) من حديث جابر بن عبد الله.]]، ويونس هو أحد أنبياء بني إسرائيل، أرسله الله تعالى إلى قومه، وسيأتي إن شاء الله بيان قصته هنا، ثم قال: ﴿إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ﴾. ﴿إِذْ أَبَقَ﴾ قال المؤلف: (هرب ﴿إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ﴾ السفينة المملوءة حين غاضبَ قومه) إلى آخره، قوله: ﴿إِذْ أَبَقَ﴾ يحتمل أن تكون (إذ) متعلقة بالمرسلين، أي: لمن المرسلين في هذه الحال، أي أن إباقه لم يسلبه الرسالة، ويحتمل أنها متعلقة بمحذوف وتقديره: اذكر إذ أبق إلى الفلك المشحون، وهذا أحسن أن تكون متعلقة بمحذوف؛ لأنه لما أثبت رسالته بين حالًا من حالاته، وهو إباقه عليه الصلاة والسلام، وعلى هذا فنقول: ﴿إِذْ أَبَقَ﴾ ليست متعلقة بالمرسلين؛ لأن رسالته كانت قبل أن يأبق، لكن متعلقة بمحذوف، التقدير: اذكر إذ أبق، والإباق هو الهرب، وكأنه عليه الصلاة السلام خرج مسرعًا لأنه خرج مغاضبًا لقومه حين لم يؤمنوا ولم ينزل بهم العذاب. قال: ﴿الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ﴾، الفلك يعني السفينة، وهي مراكب الماء، وقد أنعم الله على العباد بالفلك تجري في البحر بأمره تحمل الأرزاق من جهة إلى جهة، وامتن الله بها على العباد وعظمت منته في عصرنا الحاضر، فإن الفلك في عصرنا الحاضر ليس كالفلك فيما سبق، الفلك فيما سبق كان على الشراع والهواء، وكان له معوقات، وكان فيه مخاطر عظيمة، أما الفلك الآن فعلى العكس من ذلك، ومنَّ الله أيضًا بالفلك على عباده في عصرنا الحاضر بأن تنوعت هذه الفلك فصارت فلكًا مائيًّا وفلكًا بريًّا وفلكًا هوائيًّا، الفلك الهوائي الطائرات، والبري السيارات، والمائي السفن، وكل هذا داخل في قوله تعالى: ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (١٢) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ﴾ [الزخرف ١٢، ١٣]. وقوله: ﴿الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ﴾ قال المؤلف: (السفينة المملوءة) يعني ﴿الْمَشْحُونِ﴾ بمعنى المملوء من الركاب، فركب البحر (مغاضبًا لقومه لما لم ينزل بهم العذاب الذي وعدهم به، فركب السفينة فوقفت في لجة البحر، فقال الملاحون: هنا عبد أبق من سيده تظهره القرعة) هكذا قال المؤلف رحمه الله: إن السفينة وقفت في لجة البحر وإن وقوفها كان بسبب إباق يونس فقال الملاحون، وهم قواد السفينة: هنا عبد أبق من سيده تظهره القرعة، ولكن ما ذكره المؤلف ليس عليه دليل، وهو من الإسرائيليات البعيدة، بل إن هذه السفينة المشحونة لما كانت في عرض البحر وهي مشحونة مملوءة وصارت في لجة البحر ثقل الحمل، وإذا ثقل الحمل فلا بد من أحد أمرين؛ إما أن يخفف الحمل وإما أن يغرق الجميع، ولا شك أن تخفيف الحمل أولى من غرق الجميع؛ لأنه إذا خفف الحمل نجا من بقي، وإذا بقي الحمل على ما هو عليه غرق الجميع، وبقاء البعض أولى من هلاك الكل، وهذا أمر عقلي اقترعوا يعني ليس إلقاء بعضهم في البحر أولى من إلقاء الآخر، فلا سبيل حينئذ إلى التخلص من هذه المشكلة إلا بالقرعة فاقترعوا. ﴿فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ﴾ [الصافات ١٤١] اقترعوا أيهم الذي يلقى، ومن المعلوم أننا إذا علمنا من يلقى علمنا من يبقى، ولهذا قال الله عز وجل: ﴿فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ﴾ ساهم أي (قارع أهل السفينة) ﴿فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ﴾ (المغلوبين بالقرعة فألقوه في البحر)، وظاهر صنيع المؤلف رحمه الله أنه لم يلق أحد سوى يونس، ولكن الآية تدل على خلاف ما يدل عليه كلام المؤلف؛ لأن قوله: ﴿فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ﴾ (من) هنا للتبعيض، أي: بعضًا منهم، وهذا يدل على أن القرعة أصابته وأصابت غيره أيضًا، فالمسألة الآن واضحة، الفلك كان مملوءا، الفلك لا بد أن يغرق إلا أن يلقى بعض ركابه، إلقاء بعض الركاب أولى من هلاك الجميع، لا سبيل إلى إلقاء البعض على التعيين؛ لأننا لو عينا أحدًا دون أحد كان في ذلك ظلم، وامتنع من عيَّناه، وصار في هذا خصومة وربما غرقت السفينة في أثناء هذه الخصومة. إذن فما هو الطريق إلى تعيين من يلقى؟ هو القرعة. فاقترعوا فأصابت القرعة قومًا ونجا منها قوم، وكان يونس من جملة الذين أصابتهم القرعة ﴿فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ﴾ فألقي في البحر. قال الله تعالى: (﴿فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ﴾ ابتلعه ﴿وَهُوَ مُلِيمٌ﴾ أي: آتٍ بِمَا يُلام عليه من ذهابه إلَى البحر وركوبه السفينة بلا إذن من ربه) التقمه الحوت التقامًا، ولم يمضغه؛ لأنه لو مضغه لتكسر وهلك، لكن الله تعالى سخر له هذا الحوت فالتقمه التقامًا وابتلعه، حتى وصل إلى مقر بطنه دون أن يصيبه أذى، وقوله: ﴿وَهُوَ مُلِيم﴾ الجملة هنا في موضع نصب على الحال من الهاء في قوله: (التقمه)، لا من الفاعل في (التقمه)؛ لأن الفاعل من؟ الحوت، والحوت ليس بمليم، المليم: الملتقم. ﴿فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ﴾ أي: يونس، ومعنى ﴿مُلِيمٌ﴾ آتٍ بما يلام عليه، كما يقال: منجد لمن دخل نجدًا مثلًا، فمُفعِل قد تأتي بمعنى التلبس بالشيء، فالمليم هو الذي فعل ما يلام عليه، وما الذي يلام عليه؟ الذي يلام عليه أنه خرج من قومه مغاضبًا لهم قبل أن يأذن الله له، وكان الواجب أن يصبر، ولهذا قال الله لنبيه ﷺ: ﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (٤٨) لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (٤٩) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [القلم ٤٨ - ٥٠]، المهم أن يونس عليه الصلاة والسلام التقمه الحوت في حال يلام عليها، ووجه ذلك أنت أيش وجه ذلك؟ * طالب: أنه خرج مغاضبًا من قومه من غير إذن من ربه عز وجل. * الشيخ: قال الله تعالى: ﴿فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (١٤٢) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (١٤٣) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ [الصافات ١٤٢ - ١٤٤] (لولا) هذه ترد كثيرًا في القرآن وفي السنة وفي كلام الناس، فما هي؟ أقول: (لولا) تأتي لوجوه: الأول أن تكون حرف امتناع لوجود، يعني أنه امتنع جوابها لوجود شرطها: (لولا الله ما اهتدينا) انتفى عدم الهداية لوجود الله، وهذا كثير، يقال: حرف امتناع لوجود، لها عديلتان: (لو) و(لما)، فـ(لما) حرف وجود لوجود، و(لو) حرف امتناع لامتناع، فصار (لو) و(لما) و(لولا) كل واحدة منها تدل على شيء تشارك الأخرى، مثلًا (لو) حرف امتناع لامتناع، تقول: لو جاء زيد لأكرمته، ويش الممتنع؟ الإكرام لامتناع وجوده، وتقول: لما جاء زيد أكرمته، هذا حرف وجود لوجود، الذي وجد الإكرام لوجود المجيء، كذا؟ وتقول: لولا مجيء زيد لأكرمت فلانًا. حرف امتناع لوجود، ما الذي امتنع؟ إكرام فلان لوجود مجيء زيد. هنا ﴿فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (١٤٣) لَلَبِثَ﴾ ما الذي امتنع؟ اللبث لوجود التسبيح، لولا أنه أي يونس ﴿كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ﴾ (الذاكرين بقوله كثيرًا في بطن الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين) يعني لولا أنه كان من المسبحين بهذا اللفظ أو بغيره، وهذا أولى أن نقول بهذا اللفظ أو بغيره، يعني كان ممن يسبح الله إما قبل أن يلتقمه الحوت، أو في أثناء وجوده في بطن الحوت، لولا هذا ﴿لَلَبِثَ فِي بَطْنه﴾ أي في بطن الحوت ﴿إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ (لصار بطن الحوت قبرًا له إلى يوم القيامة) ولكن لوجود التسبيح السابق أنجاه الله سبحانه وتعالى. ثم قال: ﴿فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ﴾ [الصافات ١٤٥] النبذ بمعنى الطرح والإلقاء، هنا قال: ﴿فَنَبَذْنَاهُ﴾ بصيغة الجمع، مع أن النابذ؟ * طالب: النابذ هو (...). * الشيخ: واحد طيب ولكن أتى بصيغة الجمع من باب التعظيم، وذلك لكمال صفاته عز وجل وكثرة صفاته عظم نفسه. فقال: (﴿فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ﴾ أي: ألقيناه من بطن الحوت ﴿بِالْعَرَاءِ﴾ بوجه الأرض، أي: بالساحل من يومه أو بعد ثلاثة أو سبعة أيام أو عشرين أو أربعين يومًا) نبذناه بالعراء، العراء وجه الأرض، والمراد به وجه الأرض الذي ليس فيه ما يظل من شجر ولا بناء، وسُمي عراء لعروه عما يكسوه من الأشجار والبناء، فالحوت لفظه على الساحل، فبقي عليه الصلاة والسلام على الساحل ليس عنده بناء ولا أشجار تظله، عراء، ولكن الله سبحانه وتعالى لطف به؛ لأن رحمة الله سبقت غضبه ﴿رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا﴾ [غافر ٧]. قال: ﴿وَهُوَ سَقِيمٌ﴾. وأما قول المؤلف: إنه من يومه، أو بعد ثلاثة أيام، أو أربعة أيام أو سبعة أيام أو عشرين يومًا أو أربعين يومًا، فهذه أقاويل، وكلها ليس عليها دليل، لكن لا شك أن الله سبحانه وتعالى أبقاه في بطن الحوت ما شاء الله أن يبقى، وأما تعيين ذلك فلا بد فيه من دليل عمن قوله حجة، وهو الرسول ﷺ، وما عدا ذلك في مثل هذه الأمور فإنها لا تقبل. قال: (﴿وَهُوَ سَقِيمٌ﴾ عليل كالفرخ الممعط) قوله: (عليل) تفسير للسقيم، والسقم بمعنى المرض والعلة، وأما قوله: (كالفرخ الممعط) يعني المنتوف شعره، فهذا ليس في الآية ما يدل عليه، لكن لا شك أن المريض يكون ضعيف البدن ليس عنده قدرة على مقاومة الشمس والهواء، وقوله: ﴿وَهُوَ سَقِيمٌ﴾ يدل بظاهره على أن يونس بقي في بطن الحوت مدة أدت إلى سقمه. يقول: ﴿وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ﴾ [الصافات ١٤٦] (وهي القرع، تظله بساق، على خلاف العادة في القرع، معجزة له) أنبتنا عليه ولم يقل: أنبتنا له؛ لأنه الآن بحاجة إلى ظل، فأنبت الله عليه ظلًّا هذه الشجرة ﴿شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ﴾، (من) هذه لبيان الجنس، كما يقال: خاتم من حديد، واليقطين هو القرع، القرع أنواع في الواقع: منها قرع يسمى عندنا قرع نجد، هذا له شجر، وأشجاره لينة كالإبرسيم، ويقال: إنه لا يقع عليه الذباب، وأما النوع الثاني من القرع فهو قرع ورقه خشن حتى إن الإنسان إذا لمسه بيده يحس بالخشونة، والظاهر أن الذي أنبته الله عليه من النوع الأول اللين الذي يكون كالإبرسيم، وهو أيضًا بارد الظل، أنبت الله عليه هذه الشجرة، وأما قول المؤلف: إنها لها ساق على خلاف العادة فهذا يحتاج إلى دليل، لكن لا شك أن الله أنبت عليه شجرة تظله، ولا بد أن يكون لها نوع من الارتفاع. ﴿وَأَرْسَلْنَاهُ﴾ قال: (وكانت تأتيه وعلة صباحًا ومساء يشرب من لبنها حتى قوي) الوعلة الأنثى من الظباء، يعني أنثى الأوعال، فكانت تأتيه ويشرب من لبنها حتى قوي وهذا الخبر يحتاج إلى دليل عن معصوم، وليس فيه دليل عن رسول الله ﷺ، إذن فهو خبر إسرائيلي نتوقف فيه، لا نصدق ولا نكذب، إن كان الله تعالى قيض له ذلك فالله على كل شيء قدير، وهذا سبب حسي يحتاج الإنسان إليه، يحتاج إلى غذاء، وإن كان الله تعالى قواه على تحمل الجوع والعطش فهذا أيضًا ليس ببعيد، وحينئذ نجعل الآية فيه أن الله قواه على خلاف العادة، أما إذا جعلناها وعلة فهنا يكون بقاؤه وتغذيته على حسب العادة من وجه، ومعجزة من وجه آخر حسب العادة، حيث تغذى بأيش؟ باللبن كغيره من البشر، على خلاف العادة، حيث قيض الله له هذه الوعلة التي ليست من جنسه، تأتي حتى يشرب من لبنها، لكن إذا قلنا: إن الله قواه على تحمل الجوع والعطش صار هذا آية محضة، وليس هذا ببعيد؛ فإن النبي ﷺ لما نهى عن الوصال قالوا: يا رسول الله، إنك تواصل. الوصال يعني أن يقرن الصائم بين يومين لا يفطر بينهما، قالوا: إنك تواصل، قال: «إِنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ، إِنِّي أَبِيتُ عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي»[[متفق عليه؛ البخاري (١٩٦٥)، ومسلم (١١٠٣ / ٥٧) من حديث أبي هريرة.]] يعني بلا أكل ولا شرب، ومع ذلك يكتفي بما أودع الله في قلبه من محبة الله وذكره عن الغذاء الجسدي، يعني يكتفي بالغذاء الروحي عن الغذاء الجسدي، فالله على كل شيء قدير. نظير هذا من بعض الوجوه أن الله سبحانه وتعالى قال: ﴿إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾ [التوبة ٤٠] هنا لم يذكر الله سبحانه وتعالى كيف نصره على قريش وهو في الغار، فعلى أي شيء يُحمل؟ وردت أحاديث ضعيفة بأنه عششت عليه العنكبوت، وأنه صار على فم الغار حمامة، وأن الله أنبت شجرة تحجز رؤية المشركين للرسول ﷺ وصاحبه أبي بكر[[أخرجه البزار في مسنده (٤٣٤٤)، والطبراني في المعجم الكبير (١٠٨٢) من حديث زيد بن أرقم، والمغيرة بن شعبة، وأنس بن مالك.]] هذه الثلاثة أمور حسية تمنع من رؤية النبي ﷺ وصاحبه في الغار، أمور حسية عادية، لكن وجودها في هذا الوقت آية ولَّا لا؟ آية أن الله أنبت هذه الشجرة وسخر هذه الحمامة لتقف على باب الغار، وسخر العنكبوت لتنسج على بابه، هذه آية لا شك، ولكن هناك آية أعظم من هذا، آية محضة، وهي أن الله تعالى أعمى أبصارهم عن رؤية النبي ﷺ وصاحبه؛ لأنهم وقفوا على الغار وقوفًا على أقدامهم حتى قال أبو بكر: «لو نظر أحدهم الى قدمه لأبصرنا»[[متفق عليه؛ البخاري (٣٦٥٣)، ومسلم (٢٣٨١ / ١) من حديث أبي بكر الصديق.]] كما صح ذلك في البخاري ومسلم وغيرهما، وهذا مما يدل على ضعف قصة العنكبوت والحمامة والشجرة؛ لأن هذا الثاني أبلغ آية من الأول، وكلام أبي بكر يدل على أنه ليس هناك حاجز حسي يمنع من الرؤية؛ لا شجرة ولا عش عنكبوت، وليس هناك ما يبعد أن يوجد في الغار أحد من وقوع الحمامة على بابه، والحمامة قد تقع على باب الحجرة ولو كان فيها أحد كما هو مشاهد كثيرًا. فالحاصل أن بعض الناس يأتون بمثل هذه الآيات ولا يفكرون في أنها تضعف جانب الآية؛ لأن كون الآية أن الله أعمى أبصار قريش عن رؤية الرسول ﷺ وأبي بكر مع أنهم واقفون على الغار أبلغ بكثير من العنكبوت أو الشجرة أو الحمامة، على أنها كلها أحسنها نسج العنكبوت[[أخرجه أحمد (٣٢٥١) من حديث ابن عباس.]] من حيث السند، ومع ذلك فهو ضعيف، وإذا كان ضعيف السند وشاذ المتن لمخالفته لما جاء في الصحيحين فإنه لا يكون مقبولًا. نرجع الآن إلى قصة يونس، يونس ذكر المؤلف أن الوعلة تأتي إليه ويرضع منها حتى قوي، فماذا قلنا حول هذا الخبر؟ قلنا: هذا خبر ليس ثابتًا عن معصوم، فموقفنا منه أن نتوقف فيه ونقول: هذا لا يتعين، وربما يكون الله تعالى قد أعان يونس على تحمل الجوع والعطش. قال: (﴿وَأَرْسَلْنَاهُ﴾ بعد ذلك كقبله إلى قوم بنِينَوَى من أرض الموصل في العراق ﴿إلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ﴾ بل ﴿يَزِيدُونَ﴾ عشرين أو ثلاثين أو سبعين ألفًا ﴿فَآمَنُوا﴾ عند معاينة العذاب الموعودين به ﴿فَمَتَّعْنَاهُمْ﴾ أي أبقيناهم ممتعين ﴿إِلَى حِينٍ﴾ ) أرسله الله تعالى بعد ذلك إلى قومه، يعني أتم رسالته ﴿إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ﴾، ﴿إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ﴾ نص في العدد، وقوله: ﴿أَوْ يَزِيدُونَ﴾ اختلف العلماء في (أو) هنا فقيل: إنها بمعنى (بل) كما قاله المؤلف، يعني: بل أكثر من مئة ألف. وأما تعيين هذا بزيادة عشرين أو ثلاثين أو سبعين ألفًا فهذا لا دليل عليه، ولا يمكن أن تكون الزيادة سبعين ألفًا؛ لأنه لو كانت الزيادة سبعين ألفًا ما صح أن يقال: ﴿إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ﴾، بل يقال: إلى مئة وسبعين ألفًا؛ لأن الفارق بين العدد الأول والثاني كثير، فعلى كلام المؤلف يكون الله تعالى أرسله إلى أكثر من مئة ألف، وتكون (أو) هنا بمعنى (بل)، والمراد بها أي بـ(بل) التي كانت أو بمعناها؛ المراد بها الإضراب الانتقالي، وليس الإضراب الإبطالي؛ لأنهم يقولون: إن الإضراب إما أن يكون لإبطال ما سبق، أو الانتقال عنه إلى ما بعده. وذهب بعض العلماء إلى أن (أو) هنا للتحقيق وليست للإضراب، أي: إن لم يزيدوا على مئة ألف لم ينقصوا، فكأن ما بعد (أو) لتأكيد ما قبلها، وليس للزيادة عليه، كما لو سألك سائل عن قومك: كم عددهم؟ فقلت: مئة ألف أو أكثر، يعني أنهم إن لم يزيدوا لم ينقصوا، وليس المراد إثبات الأكثرية أو الزيادة على هذا العدد، بل المراد تأكيد هذا العدد. هناك احتمال لكنه لا يرد في هذا المقام؛ أن تكون (أو) للشك، وهذا الاحتمال غير وارد هنا، لماذا؟ لأنه لا يكون الشك في خبر الله أبدًا؛ لإحاطة علمه بكل شيء، وعلى هذا فتكون (أو) هنا إما بمعنى (بل)، وإما للتحقيق، أي تحقيق العدد السابق، فعلى القول الأول يكون المرسل إليهم زائدين على مئة ألف، وعلى الثاني يكون المرسل إليهم مئة ألف، لكن أكد ذلك بقوله: ﴿أَوْ يَزِيدُونَ﴾. إن شاء الله يأتي بقية الكلام على الآية وعلى الفوائد. * طالب: لما ذكر الله سبحانه وتعالى قصة يونس وأنه أبق من الفلك ذكر حال يونس ثم (...)؟ * الشيخ: إي نعم في سورة يونس أن الله عز وجل قال: ﴿فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا﴾ [يونس ٩٨] فهذا فيه شيء من الثناء عليهم، فهم في الحقيقة فيهم إساءة من جهة، ويدفع عنهم اللوم من جهة أخرى. * طالب: شيخ، بارك الله فيكم، عصمة الأنبياء (...) كيف تكون خبر يونس عليه السلام هنا؟ * الشيخ: كيف؟ * طالب: يعني لم يستأذن وخرج مغاضبًا.. * الشيخ: هذا نتكلم عليه في الفوائد. * طالب: قول المؤلف: إن وقوف السفينة كان بسبب يونس ما له يا شيخ وجه؛ لأن الله سبحانه وتعالى قدر وقوف السفينة لكي يوضح أن يونس في هذا البلاء، يعني بسبب يونس ما يصير له وجه من هذا.. * الشيخ: هو ينبغي أن نأخذ قاعدة، وهو أن الشيء الذي يخرج عن العادة لا بد فيه من دليل، وإلا فإن الأمور على مقتضى العادة. * * * * طالب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ﴿فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (١٤٩) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (١٥٠) أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (١٥١) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (١٥٢) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (١٥٣) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (١٥٤) أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ [الصافات ١٤٩ - ١٥٥]. * الشيخ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تعالى: ﴿وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ الأخ الجملة هذه مؤكدة بكم مؤكدًا؟ * طالب: اثنين. * الشيخ: ﴿وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ ما هما؟ * طالب: إن واللام. * الشيخ: إن واللام طيب، ما الحكمة من أنها تؤكد بمؤكدين؟ لماذا لم يقتصر فيها على مجرد الخبر؟ * طالب: لأن الرسالة قد تبلغ من يصدق ومن يكون في شك من هذا أو يكذب. * الشيخ: لأن من الناس من يكذب بالرسالة هذا واحد؟ * طالب: نعم. * الشيخ: والثاني؟ * طالب: لأن الرسل عليهم الصلاة والسلام أكدوا بأمور معنوية، فأكدوا أيضًا.. * الشيخ: لا، دعنا من طرق التوكيد، ولأهمية ذلك أهمية ثبوت رسالته من أجل أن نؤمن به، طيب قوله: ﴿إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ﴾ محمد ﴿إِذْ أَبَقَ﴾ (إذ) هذه ظرف متعلقة بأيش؟ * طالب: متعلقة بالمرسلين. * الشيخ: بالمرسلين. * طالب: متعلق بـ﴿اذْكُرْ﴾. * الشيخ: بمحذوف. * طالب: إي نعم. * الشيخ: تمام. * طالب: (...) يتعلق بـ﴿اذْكُرْ﴾. * الشيخ: أحسنت تمام؛ لأنه لا وجه للثناء عليه حين إباقه، قوله: ﴿فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ﴾ سلك المؤلف في هذا مسلكًا خلاف الظاهر، ما هو؟ * طالب: أن أهل السفينة لما.. * الشيخ: لا ﴿مِنَ الْمُدْحَضِينَ﴾ فقط. * طالب: يعني أنه عبد أبق من سيده (...). * الشيخ: نعم. * طالب: (من) هنا للتبعيض. * الشيخ: لا، ما الذي سلكه المؤلف ورددنا عليه نحن؟ * طالب: أنه قال: إن أهل السفينة قالوا: إن عبدًا أبق من سيده. * الشيخ: لا، نعم. * طالب: هو أنهم قالوا: إنه يعني ألقي في البحر يونس لحاله. * الشيخ: وحده. * طالب: وحده. * الشيخ: تمام. * طالب: و(من) للتبعيض، يعني معه أناس. * الشيخ: تمام، المؤلف سلك أن الذي ألقي يونس وحده، وهذا خلاف ظاهر الآية؛ لأن الآية تدل على أن معه غيره، طيب جملة ﴿وَهُوَ مُلِيمٌ﴾ محلها من الإعراب؟ * طالب: النصب على الحال. * الشيخ: محلها النصب على الحال من الفاعل في التقم أو من المفعول. * طالب: من الفعل يا شيخ. * الشيخ: كيف؟ * طالب: من المفعول. * الشيخ: من المفعول (...) الآية ما يصلح أن تكون للفاعل؟ من الملوم؟ الحوت الملتقم أو يونس الملتقم؟ * طالب: يونس. * الشيخ: يونس، إذن فيها حال من المفعول به، ما معنى ﴿مُلِيمٌ﴾؟ * طالب: أي: آتٍ بما يلام عليه. * الشيخ: آتٍ بما يلام عليه، تمام، قوله: ﴿فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ﴾ (لولا) هنا حرف. * طالب: امتناع لوجود. * الشيخ: امتناع لوجود، ما الممتنع وما الموجود؟ * طالب: الممتنع لبثه في بطن الحوت. * الشيخ: لبثه في بطن الحوت إلى يوم القيامة، والموجود؟ * طالب: التسبيح. * الشيخ: التسبيح، ما هو التسبيح الذي صار سببًا لخروجه من بطن الحوت؟ * طالب: قوله: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين. * الشيخ: قوله: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين. قوله تعالى: ﴿وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ﴾ (أو)؟ * طالب: اختلف العلماء؛ فمنهم من قال: إنها بمعنى (بل) ومنهم من قال. * الشيخ: تكون للإضراب. * طالب: (...) بل يزيدون أكثر من ذلك. * الشيخ: يعني وعلى هذا، فيكون الذي أرسل إليهم أكثر من مئة ألف، والقول الثاني. * طالب: والقول الثاني أنها للتحقيق، يعني إن لم يكن مئتين فلا ينقصون عن ذلك. * الشيخ: فلا ينقصون عن ذلك؛ كقوله تعالى: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾ [البقرة ٧٤]. قوله: ﴿فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ﴾ معنى متعناهم؟ * طالب: وقفنا عليه. * الشيخ: ما يخالف، إن شاء الله نأخذها الآن ﴿فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ﴾ يعني أبقيناهم إلى حين، وهذا الحين هو وقت آجالهم التي قدرها الله لهم، يعني أنهم لم يهلكوا بهذا العذاب الذي أصابهم كما قال تعالى: ﴿فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ﴾ [يونس ٩٨]. * في هذه الآيات فوائد: أولًا إثبات رسالة يونس عليه الصلاة والسلام، ويتفرع على هذه الفائدة وجوب الإيمان به رسولًا، يعني يجب علينا أن نؤمن بأن يونس رسول من عند الله. * ومن فوائدها: الثناء على يونس؛ لقوله: ﴿لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾؛ لأنه لا شك أن مقام الرسالة أعلى مقامات البشر؛ كما قال تعالى: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ﴾ [النساء ٦٩]، وهذا الذي عليه أمة الإسلام، أن مقام الرسالة أفضل من كل مقام هي أعلى مقامات البشر، خلافًا لمن زعم أن أعلى مقامات البشر الولاية، ثم النبوة، ثم الرسالة، وقال في ذلك قولًا منكرًا فقال: ؎مَقَـــــامُ النُّــــــبُوَّةِ في بَـــــــرْزَخٍ ∗∗∗ فُوَيْــقَ الرَّسُـولِ وَدُونَ الْوَلِي هؤلاء يقولونه طائفة من الصوفية، يقولون: مقام النبوة في برزخ فويق الرسول، ما هو بعيد، ودون الولي، يعني بعيدًا، فالولي إذن أعلى شيء، ولقد كذبوا في ذلك، فمقام الرسالة أعلى المقامات، وكل رسول فهو ولي، ولا عكس، ثم النبوة ثم الولاية. * ومن فوائد الآية الكريمة: أنه لا يجوز القدح في يونس من أجل ما حصل منه من عدم الصبر؛ فإن الله قال: ﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ﴾ لكنه لا يجوز أن نقدح فيه في ذلك؛ لأنه أحد الرسل، والقدح في الرسل كفر، بل إن النبي ﷺ قال: «لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى يُونُسَ بْنِ مَتَّى»[[لم أقف عليه بهذا اللفظ، وفي البخاري (٣٣٩٥) ومسلم (٢٣٧٧ / ١٦٧) من حديث ابن عباس بلفظ: «لا ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى» .]] فنهى أن نفضله عليه؛ تواضعًا منه ﷺ، ولئلا يؤدي التفضيل -أي تفضيل الرسول ﷺ- إلى احتقار يونس. * ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات جماعة الرسل؛ لقوله: ﴿لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾، ولكن كم عدد الرسل؟ يقول الله عز وجل: ﴿وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ﴾ [فاطر ٢٤] ما من أمة من الأمم إلا جاءها رسول تقوم عليها الحجة؛ كما قال تعالى: ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ [النساء ١٦٥]. * ومن فوائد الآيات الكريمة: أن مقام النبوة لا يمنع من فعل بعض ما لا يكون محبوبًا إلى الله، أي أن الرسول قد يفعل بعض المعاصي أو يقوم بشيء لم يُؤمر به، دليل ذلك قوله: ﴿إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ﴾، والإباق هو الهرب، أي هرب العبد من سيده، والعبد إذا أبق من سيده فهو قد هرب منه تمردًا عليه، ولكن لا شك أن هذا الوصف إنما ينطبق على العبد المملوك للبشر، لا على يونس عليه الصلاة والسلام، لكن الله عبر عن خروجه بالإباق لأنه خرج خروجًا لم يؤمر به. وهذه المسألة -أعني مسألة عصمة الرسل- محل خلاف طويل عريض بين العلماء، وقد سبق لنا بيان ذلك على وجه التفصيل، فذكرنا أنهم معصومون من كل ما يخدش الرسالة وينافي الرسالة، مثل الكذب والخيانة والشرك وما أشبه ذلك هذا معصومون منه قطعًا؛ لأنهم إنما جاءوا لهدم الشرك، ولا يمكن أن يصدر منهم الكذب أو الخيانة؛ لأن هذا يؤدي إلى الشك فيما جاءوا به. وثانيا: معصومون من أيش؟ * طالب: (...). * الشيخ: ذكرناها، معصومون أيضًا من كل ما يخل بالشرف؛ كالسرقة وشبهها مما يعد دناءة وخسة؛ وذلك لأن النبوة أعلى مقامات البشر، فلا ينبغي أن يتخلق من اتصفوا بها بأرذل أخلاق البشر. الثالث: أنهم معصومون من الاستمرار في المعصية، لا يمكن أن يقروا عليها، بل لا بد أن ينبهوا عليها ويحصل منهم التوبة، بخلاف غيرهم من الناس فإنهم قد يفعلون المعصية ويقرون عليها ولا يُوفَّقون للتوبة منها، وأما القول بأنه لا ذنوب لهم مطلقًا فهذا قول يخالف الكتاب والسنة، فإن الله تعالى قال في كتابه لأشرف الرسل ﴿وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ [محمد ١٩] وقال له: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (١) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا﴾ [الفتح ١، ٢]، وكان النبي ﷺ يقول: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي كُلَّهُ، دِقَّهُ وَجِلَّهُ، عَلَانِيَتَهُ وَسِرَّهُ، أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ»[[أخرجه مسلم (٤٨٣ / ٢١٦) من حديث أبي هريرة.]]، وكل هذا صريح في أن الرسول ﷺ قد يقع منه الذنب، ولكن الشأن كل الشأن أنه لا يقر عليه طيب. * ومن فوائد الآيات الكريمة: أن الله سبحانه وتعالى قد ييسر للعبد ما لا يكون له في الحسبان، وذلك من قوله: ﴿إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ﴾، حيث قدر له أن يركب هذا الفلك المملوء من أجل الغاية التي أرادها الله، وهي أن يلتقمه الحوت ويغيبه ويضيق عليه حتى يتبين له أنه لا مفر من قدر الله؛ كما قال تعالى: ﴿وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنبياء ٨٧]. * ومن فوائد الآية الكريمة: جواز المساهمة، يعني القرعة؛ لقوله: ﴿فَسَاهَمَ﴾. فإن قال قائل: هذا من شرع من قبلنا؟ فالجواب أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه، فكيف وقد ورد شرعنا بوفاقه؛ فإن النبي ﷺ «كَانَ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ، فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا»[[متفق عليه؛ البخاري (٢٥٩٣)، ومسلم (٢٤٤٥ / ٨٨) من حديث عائشة.]]. إذن يُستفاد منه: جواز المساهمة، يعني القرعة. فإن قال قائل: المساهمة فيها خطر، فهي ميسر؛ لأن الإنسان قد يكون غانمًا وقد يكون غارمًا؟ فالجواب على ذلك من أحد وجهين؛ إما المنع وإما التسليم، ولكن لأن الضرورة دعت إلى ذلك؛ إما المنع بأن نقول: إن الإنسان لا يمكن في القرعة أن يكون سالمًا غانمًا أو غارمًا، بل هو إما غانم وإما سالم، أما أن يغرم شيئًا فلا، أو نقول بأنها فيها غرر، لكن الضرورة دعت إليه؛ إذ لا يمكن التوصل إلى التمييز بين المشتركين في حق من الحقوق إلا بالقرعة، ولذلك إذا أمكن التمييز بينهما بغير القرعة فإنه يجب التمييز بينهما بدون القرعة، فمثلًا إقراع النبي ﷺ بين زوجاته إذا أراد السفر نقول: هو لا يمكن أن يذهب بهن جميعًا؛ لأنه لو أمكن لذهب بهن جميعًا، إذن لا بد أن نميز من الذي يستحق أن يخرج من؟ كيف نميز؟ نقول: الأخيرة منهن، الشابة منهن، الكبيرة منهن، ما ندري فهن متساويات في الحقوق، ولا سبيل إلى التعيين إلا بالقرعة، فإذا خرجت القرعة لواحدة فالباقيات لم يغرمن شيئًا، غاية ما هنالك أنه فاتهن ما يرغبن فقط، ولهذا إذا خرجت القرعة عن هذا إلى الميسر صارت حرامًا. مثال ذلك: أراد اثنان مشتركان في قمح أن يقتسما القمح بينهما، وهما شريكان بقدر النصف، كل واحد له النصف، فقسم القمح أثلاثًا، أي جُعل ثلثان في جهة وثلث في جهة أخرى، وأرادوا القرعة أيهما يأخذ الثلثين، فالقرعة هنا حرام؛ لأن أحدهما إما غانم وإما غارم؛ إما أن يأتيه أكثر من حقه وإما أن ينقص حقه، فهذه تكون حرامًا؛ لأنها صارت ميسرًا واضحًا، لكن قسمنا القمح نصفين وأردنا أن نميز كل واحد في حقه فما هو الطريق إذا لم يتنازل أحدهما للآخر ويخيره ويقول: اختر ما شئت؟ فلا طريق لنا إلى التمييز بينهما إلا بالقرعة. طيب هل ذكرت القرعة في القرآن في غير هذا الموضع؟ نعم في آل عمران ﴿وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ [آل عمران ٤٤]. * من فوائد الآية: أنه ليس للقرعة أو للمساهمة طريق معين، فيسلك فيها ما يحصل به التمييز؛ إما بكتب رقاع، أو بأحجار، أو بلفائف، خرق، أو بأي طريقة، المهم أن نميز من له الحق بأي وسيلة؛ لأن المساهمة وردت في النصوص، ولم تعين طريقًا خاصًّا لها، فأي طريق توصلنا به إليها جاز. * من فوائد الآية الكريمة: ارتكاب أدنى الضررين لدفع أعلاهما، وجه ذلك أن هذه القرعة سيكون فيها هلاك بعض الركاب، وهو أهون من هلاك الجميع. إذن فالواجب إذا كان لا بد من الضررين الواجب ارتكاب الأدنى؛ لأن ارتكاب الأدنى يسقط عنا ارتكاب المفسدة الزائدة، واجتناب المفسدة الزائدة واجب، لهذا نقول: يجب ارتكاب أدنى الضررين لدفع أعلاهما. وفي هذه الآيات دليل على العمل بمثل هذه القضية، يعني لو كان ناس في مركب، وكان المركب مشحونًا، وكان لا بد من إلقاء بعض الركاب أو هلاك الجميع، فإنه يجوز أن يلقى بعض الركاب، لكن عن طريق القرعة ليبقى البقية. فإن قال قائل: كيف يمكن كيف نلقي هذا الرجل في البحر في الهلاك، وهل هذا إلا قتل نفس؟ فما الجواب؟ يعني نأخذ الرجل نعرف أنه بيموت نأخذه ونلقيه في البحر، هل هذا إلا قتل نفس؟ ما الجواب؟ نقول: نعم هو قتل نفس لكن لإبقاء نفوس، وأيما أولى: أن يقتل الجميع أو أن ينجو البعض؟ الثاني بلا شك أولى، وهذا أمر لا بد منه؛ لأننا لو أبقينا الجميع لكنا تسببنا لهلاك الجميع، وكوننا نتسبب لهلاك البعض أهون من كوننا نتسبب لهلاك الجميع، لكن هذا بشرط ألا يكون هناك احتمال ولو ضعيفًا للنجاة. فإن كان هناك احتمال فإنه لا يجوز ارتكاب مثل هذا. طيب إذا كانت الفلك مشحونة بأمتعة وأطعمة وأغنام وآدمي، فمن نبدأ بالقائه؟ الأمتعة، الشيء الذي ليس فيه روح، فإن أمنا وإلا ألقينا الأطعمة، فإن أمنا ألقينا الحيوان، فإن أمنا وإلا أقرعنا بين البشر. * ومن فوائد الآية الكريمة: حصول آية من آيات الله عز وجل، وذلك بتسخير هذا الحوت ليونس حتى التقمه بدون مضغ، ولا شك أن هذا من آيات الله؛ لأن مثل هذا بعيد في العادة، العادة أنه يمضغ ثم يأكل، لكن هذا التقمه جميعًا لم يكسر له عظم ولم يهشم له شيء من أضلاعه أو غيره. * ومن فوائد الآية الكريمة: حب الإعذار من الله عز وجل، وأنه يحب الإعذار من خلقه، أي: إقامة العذر لما فعله عز وجل حتى لا ينسب فعله للظلم أو للسفه. تؤخذ من قوله: ﴿فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ﴾ يعني ليس في حال لا يلام عليها حتى يقال: إن في هذا ظلمًا له أو سفهًا في حقه، بل التقمه الحوت في حال هو مستحق فيها لذلك ولهذا قال: ﴿وَهُوَ مُلِيمٌ﴾. * ومن فوائد الآيات: أن الأنبياء قد يأتون ما يلامون عليه، ولكن ييسر لهم الخروج من ذلك؛ لقوله: ﴿وَهُوَ مُلِيمٌ﴾. * ومن فوائد الآية الكريمة: أن الطاعات السابقة تكون سببًا للنجاة من المهلكات اللاحقة؛ لقوله: ﴿فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (١٤٣) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ فيكون في هذا شاهد لقول النبي ﷺ: «تَعَرَّفَ إِلَى اللهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ»[[أخرجه الترمذي (٣٣٨٢) من حديث أبي هريرة، وأحمد (٢٨٠٣) من حديث ابن عباس.]]، وهذا كما أنه مقتضى النصوص القولية فهو مقتضى النصوص الحالية، فإن أصحاب الغار الثلاثة الذي انطبق عليهم الغار[[متفق عليه؛ البخاري (٢٢٧٢)، ومسلم (٢٧٤٣ / ٩٩) من حديث ابن عمر.]] نفعهم الله بماذا؟ بما سبق من أعمالهم الصالحة، فأنت إذا عملت عملًا صالحًا فإن هذا العمل قد يكون سببًا لنجاتك من مكاره عظيمة «تَعَرَّفَ إِلَى اللهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ»، طيب وهنا قال: ﴿فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (١٤٣) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ * ومن فوائد الآية الكريمة: أنه لو بقي في بطنه لكان في ذلك آية من آيات الله، أن يبقى هذا الحوت من ذلك الوقت إلى يوم القيامة؛ لأن هذا ظاهر اللفظ أنه يبقى في بطنه إلى البعث. * ومن فوائد الآية الكريمة: أن أفعال المخلوقات تُنسب إلى الله، لكنها تنسب إليه تقديرًا وقضاء، وتنسب إلى العامل مباشرة وكسبًا، تُؤخذ من قوله: ﴿فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ﴾؛ لأنه من المعلوم أن الذي لفظه هو الحوت، ومع ذلك لا نجزم بهذا؛ لأنه ربما أن الحوت لفظه ويسر الله له من الريح ما يحمله إلى أن يصل إلى الأرض اليابسة، ويحتمل أن الحوت لفظه في الأرض اليابسة، فالله أعلم، المهم أن الله يسر له من أسباب الوصول إلى الأرض اليابسة ما أوصله إليها. * ومن فوائد الآية الكريمة: أن الإنسان لا ينبغي له أن ييئس من الشفاء، ولو بلغ به من المرض ما بلغ؛ لقوله: ﴿وَهُوَ سَقِيمٌ﴾، إلى قوله: ﴿وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ﴾ [الصافات ١٤٧]، فهذا الرجل السقيم الذي بقي في بطن الحوت ما شاء الله وخرج سقيمًا عافاه الله وشفاه، فلا تيئس من رحمة الله سبحانه وتعالى بما يصيبك من المرض؛ فإن الله قد ييسر لك ما يكون سببًا لشفائك. * ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات تأثير الأسباب؛ لقوله: ﴿وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ﴾ [الصافات ١٤٦]؛ لأن هذه الشجرة تظله وتبرد عليه، وهي كما أسلفنا لينة الملمس، ويقال: إن الذباب لا يقع عليها، والله قادر على أن يظله بغمامة مثلًا، وقادر على أن يبقيه في الشمس في العراء ولا يتأثر، لكن الله عز وجل يبين لعباده أن الأشياء تكون بأسبابها، ومر علينا أمس في أصول الفقه بيان أن الأسباب مؤثرة لكن لا بنفسها ولكن بما أودع الله فيها من أسباب التأثير. * ومن فوائد الآية الكريمة: أن الله سبحانه وتعالى يرسل الرسل السابقين إلى قوم مخصوصين؛ لقوله: ﴿وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ﴾ واستدل بهذه الآية بعض المتأخرين على إثبات الإحصاء السكاني؛ لأنه قال: ﴿إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ﴾ فأحصاهم عددًا، مع أنه لو قال: أرسلناه إلى قومه كفى، لكن عدهم عدًّا، ولا نعلم لهذا فائدة إلا الإحصاء. ولا شك أن الإحصاء إذا كان فيه فائدة فإنه داخل في عمومات النصوص الدالة على وجود ما فيه فائدة، أما إذا لم يكن فيه فائدة وإنما يكون تطويلًا للمدة، وإضاعة للوقت، وإتلافًا للمال بما ينفق عليه فإنه كغيره مما لا فائدة منه لا يكون مطلوبًا. * ومن فوائد الآية الكريمة: أن الله سبحانه وتعالى أنجى قوم يونس بعد أن عاينوا العذاب؛ لقوله: ﴿فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ﴾. فإذا قال قائل: ما هي الحكمة في أن الله يخص قوم يونس بذلك؛ بأن تقبل منهم التوبة بعد نزول العذاب، فالجواب أن الحكمة من هذا أن نبيهم لم يصبر حتى تتم إقامة الحجة عليهم، بل خرج منهم مغاضبًا قبل أن يؤذَن له، فلم تتم إقامة الحجة، فكان لهم شبه عذر في تأخير العذاب عنهم. * ومن فوائد الآية الكريمة: أن الإنسان وإن نجا من الأسباب المهلكات فلن ينجو من الموت، بل لا بد منه؛ طال الزمن أم قصر؛ لقوله: ﴿فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ﴾. * ومن فوائدها: أن الإيمان سبب لطول الحياة؛ لقوله: ﴿فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ﴾، ولا شك أن الإيمان سبب لطول الحياة؛ لأن نوحًا قال لقومه: ﴿يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ [نوح ٤] فبين لهم أنه إذا حصل منهم الإيمان والتوبة غفر الله لهم، وأخرهم إلى أجل مسمى، وإن لم يفعلوا أهلكهم الله. * ومن فوائد الآيات كلها: إثبات عظمة الله سبحانه وتعالى؛ لكونه يضيف الأفعال إلى نفسه، بماذا؟ بضمير الجمع. ومن المعلوم أن الله واحد. وقد اشتبه هذا على النصارى عليهم لعنة الله، اشتبه عليهم فقالوا بتعدد الآلهة لجمع الضمير الذي يضاف إلى الله عز وجل، وهذا من اتباع المتشابه، فإنهم اتبعوا هذا المتشابه وأعرضوا عن الصريح في قوله: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ [البقرة ١٦٣] .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب