الباحث القرآني

ثم قال الله عز وجل: ﴿فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ﴾ [يس ٥٠]؛ يعني إذا أخذتهم لم يتجاوزوا مكانهم، بل ولا يستطيعون الكلامَ لشدَّة ما هم فيه من الفزع. ﴿فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً﴾ يعني: لا يستطيعون أن يُوصوا إلى أهليهم وإلى صغارهم وإلى سُفَهائهم؛ لأن الأمر عظيمٌ لا يتكلمون فيه. ﴿وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ﴾ لأنهم لا يتجاوزون مكانَهم، فلا هم الذين وصلوا إلى أهليهم وشاهدوهم، ولا هم الذين استطاعوا أن يُوصوا فيهم أحدًا، وهذا يدلُّ على أن الأمر الذي يأخذهم أمرٌ عظيمٌ، وهو كذلك؛ لأن الله تعالى يقول: ﴿وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ﴾ [النمل ٨٧]. قال: (﴿وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ﴾ من أسواقهم وأشغالهم، بل يموتون فيها). (﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ﴾ [يس ٥١] هو قرنُ النفخة الثانية للبعث، وبين النفختين أربعون سنة). ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ﴾ النفخ في الصور يذكره الله عز وجل دائمًا بالبناء لمجهول ﴿نُفِخَ﴾؛ لأن الإبهام أبلغ في التهويل والتعظيم مِمَّا إذا ذُكر الفاعل، ولهذا تجدون قول الله تعالى: ﴿فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ﴾ [طه ٧٨] أَبْلغ مِمَّا لو بُيِّن هذا الذي غَشِيهم، فالإبهام أحيانًا يفيد التهويل والتعظيم. هنا أبهمَ النافخَ، وفي كل الآيات مُبْهَم، النافخ مُبْهَم؛ لبيان عِظَم هذا الأمر، وقد ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أن الذي وُكِّل بنفخ الصور هو إسرافيل أحد حملة العرش[[أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (٣٤٨) من حديث عبد الله بن عباس.]]. قال المؤلف: (النفخة الثانية للبعث، وبين النفختين أربعون سنة ﴿فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ﴾ ) إلى آخره. ﴿نُفِخَ فِي الصُّورِ﴾ للبعث، وقد ذكر الله تعالى النفخ في الصُّور في هذه الآية وفي سورة الزمر، وفي سورة النمل، وكذلك في سورة الأنعام وغيرها. المهم أنَّ العلماء اختلفوا في النفخات هل هنَّ ثلاث أو هما اثنتان؛ منهم مَن قال: إنهما اثنتان، ومنهم مَن قال: إنها ثلاث. والظاهر أنهما اثنتان فقط، لكن الأولى منهما فيها فزع وصَعْق، والثانية فيها بَعْث، وهذا ظاهر ما ذهب إليه المؤلف حيث قال: (النفخة الثانية للبعث)، فتكون نفختان، لكن الأولى منهما يحصل فيها فزعٌ عظيمٌ ثم موت. وقال بعض العلماء: إنها ثلاث: النفخة الأولى فزع، والنفخة الثانية صَعْق وموت، والنفخة الثالثة بعث. في سورة الزمر قال تعالى: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ﴾ [الزمر ٦٨]، فذكر اثنتين. في سورة النمل: ﴿وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ﴾ [النمل ٨٧]، ثم ذكر يوم القيامة وطوى ذكر الثانية، فيكون هذا الفزع قبل الموت، ثم الموت، ثم البعث. قال: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ﴾ والصُّور: قرنٌ عظيمٌ واسعٌ، ورد في الحديث أنَّ سعته كما بين السماء والأرض[[أخرجه البيهقي في البعث والنشور (٦٠٩) من حديث أبي هريرة.]]، يُنفخ فيه للبعث، فتخرج الأرواح منه، وتأوي كلُّ روحٍ إلى جسدها الذي تعمره في الدنيا لا تُخطئه، على كثرة الأرواح الخارجة من هذا الصور لا تخطئ روحٌ جسدَها الذي كانت تعمره في الدنيا، حتى لو قُدِّر أن عشرات الناس دُفنوا في مكانٍ واحدٍ فإن روح كلِّ واحدٍ لا تأوي إلا إلى جسدها، تقدير العزيز العليم جل وعلا. قال الله تعالى: (﴿فَإِذَا هُمْ﴾ أي: المقبورون ﴿مِنَ الْأَجْدَاثِ﴾ القبور ﴿إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ﴾ يخرجون بسرعة). قوله ﴿فَإِذَا هُمْ﴾ الفاء عاطفة و(إذا) حرف دالٌّ على المفاجأة، و﴿هُمْ﴾ مبتدأ، وجملة ﴿يَنْسِلُونَ﴾ خبره، و﴿إِلَى رَبِّهِمْ﴾ متعلقة بـ﴿يَنْسِلُونَ﴾. يقول الله تعالى: ﴿فَإِذَا هُمْ﴾ يعني بمجرد ما يحصل النفخ لا يحصل وقتٌ بينهما؛ أي: بين النفخ في الصور والخروج من القبور. ﴿فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ﴾ من القبور، يخرجون إلى الله تعالى مسرعين. وقوله: ﴿فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ﴾ الضمير في ﴿هُمْ﴾ قال المؤلف: (أي: المقبورون)، من أين عَلِمْنا أنَّ المراد المقبورون؟ لقوله: ﴿مِنَ الْأَجْدَاثِ﴾؛ لأن الأجداث هي القبور. وقوله: ﴿فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ﴾ هذا بناء على الأغلب الكثير؛ لأن من الناس من لا يكون في جدثٍ، بل يُلقى في اليمِّ أو يُلقى في الأرض على ظاهرها، أو تأكله السِّباع، أو يحترق وتَذْروه الرياح، لكن الغالب والأكثر أنهم في القبور. وقوله: ﴿إِلَى رَبِّهِمْ﴾ فيه تقديم المعمول لإفادة الحصر؛ يعني لا ينسلون إلى دنيا أو إلى قريبٍ أو إلى صديقٍ، وإنما ينسلون إلى الله عز وجل. والنَّسَلان معناه السير بسرعة؛ كما قال الله تعالى: ﴿وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ﴾ [الأنبياء ٩٦] أي: يخرجون بسرعة. * من فوائد الآية الكريمة التي قبل هذه وهذه أيضًا: أن النفخ في الصور إذا وقع (...).
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب