الباحث القرآني

قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [يس ٤٨] يقول مَن؟ يقول الكفارُ المكذِّبون بوعد الله عز وجل، ومنه القيامة. و﴿مَتَى﴾ هنا استفهامُ استبعادٍ وتَحَدٍّ؛ يعني: يقولون مستبعدين هذا الأمرَ مُتَحَدِّين مَن يقوله، يقولون: ﴿مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾. و﴿مَتَى﴾ هذه خبر مقدَّم، و﴿هَذَا﴾ مبتدأ مؤخَّر؛ وذلك لأن ﴿مَتَى﴾ واقعة موقع النكرة، و﴿هَذَا الْوَعْدُ﴾ معرفة، والمعروف أن المعرفة هو المبتدأ، والخبر يكون نكرةً وقد يكون معرفةً، لكن إذا وُجد نكرة ومعرفة وأمكن أن تكون المعرفة هي المبتدأ فهي المبتدأ، لماذا؟ لأن المبتدأ محكومٌ عليه، فلا بدَّ أن يكون معرفة، والمعرفة كما تعلمون تعيِّن المدلول وتخصِّصه، فلا بدَّ أن يكون المحكوم عليه معلومًا، ولهذا قال العلماء في هذه القاعدة: إذا وُجد كلمتان إحداهما معرفة والأخرى نَكِرة وأمكنَ أن تكون المعرفة هي المبتدأ فلتكنْ هي المبتدأ، وتعليل ذلك أن المبتدأ محكومٌ عليه، فلا بدَّ أن يكون معلومًا متعيِّنًا. يقول: ﴿مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾، قال: (﴿الْوَعْدُ﴾ بالبعث ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ ). يقولون هذا أيش؟ استبعادًا وتحدِّيًا، ولهذا قال: ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾؛ إن كنتم صادقين بأننا نُبعث فمتى يكون؟! ولا شك أن هذا شُبهةٌ داحضةٌ؛ لأن الذين قالوا بالبعث لم يُعَيِّنوه بيومٍ معيَّن حتى يقول: يالَّا، أعطونا البعث. وانظر إلى حُجَّتهم في آيةٍ أخرى تكون أَبْين: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [الجاثية ٢٥]، وهل الذين قالوا: إنهم يُبعثون، قالوا: إنكم تُبعثون في الدنيا، حتى يقولوا: ائتوا بآبائنا؟ أبدًا، ما قالوا هكذا، إنما قالوا: ستُبعثون يوم القيامة، فقولهم: ﴿ائْتُوا بِآبَائِنَا﴾ يعني: ابعثوهم لنا، هذا تَحَدٍّ في غير محلِّه؛ لأنهم ما قيل لهم: إنكم ستُبعثون في الدنيا، بل في يوم القيامة. هم يقولون: ﴿مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ أيش الجواب؟ ذكر الله هذا في القرآن: ﴿قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ [الجاثية ٢٦]، فالوعد لم يَحِنْ وقتُه بعد، انتظروا وسوف يأتي هذا الوعد. قال الله تعالى: ﴿مَا يَنْظُرُونَ﴾ [يس ٤٩] هذا الجواب، أيضًا في هذه الآية أجاب، قال: (﴿مَا يَنْظُرُونَ﴾ أي: ينتظرون ﴿إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً﴾ [يس ٤٩] وهي نفخة إسرافيل). (نَظَر) تُستعمل متعدِّيةً في نفسها، وإذا كانت متعدِّيةً بنفسها فهي بمعنى الانتظار؛ مثل: ﴿مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً﴾ [يس ٤٩]، ﴿فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ﴾ [فاطر ٤٣]، ولها أمثلةٌ. وإنْ تعدَّتْ بـ(في) صار المراد بها نَظَر الفِكْر؛ تقول: نَظَرَ في كذا؛ أي: فكَّر فيه وتأمَّلَه. وإذا تعدَّتْ بـ(إلى) فهي النظر بالعين؛ تقول: نظرتُ إليه، ومنه قوله تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (٢٢) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ [القيامة ٢٢، ٢٣]. ما ينتظر هؤلاء (﴿إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً﴾ وهي نفخة إسرافيل الأُولى). ﴿صَيْحَةً﴾ يعني: يُصاح بهم، وذلك في النفخة الأُولى في الصُّور؛ لأن هذه النفخة يكون لها صوتٌ عظيمٌ مزعجٌ، يفزع الخلائق؛ قال الله تعالى: ﴿وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ﴾ [النمل ٨٧]، كل الخلائق تفزع إلا مَن شاء الله عز وجل، فيفزعون فزعًا شديدًا يؤدي إلى الصَّعْق، إلى الموت، وحينئذٍ تكون نفخة واحدة فيها فزعٌ وفيها صَعْقٌ. قال الله تعالى: ﴿مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ﴾ تأخذهم كما يأخذ العدوُّ عدوَّه بحيث لا تُمهلهم ولا تُنظِرهم. (﴿وَهُمْ يَخَصِّمُونَ﴾ بالتشديد، أصلُه (يختصمون)، نُقِلت حركةُ التاء إلى الخاء وأُدغِمت في الصاد؛ أي: وهم في غفلةٍ عنها بتخاصُمٍ وتَبايُعٍ وأكْلٍ وشُربٍ وغير ذلك). أصل ﴿يَخَصِّمُونَ﴾ أصله (يختصمون) يقول المؤلف: (نُقِلت حركةُ التاء إلى الخاء)، والخاء في الأصل ساكنة، فصارت ﴿يَخَصِّمُونَ﴾ ، نعم، وهذا إحدى القراءات. بالفتح ﴿يَخَصِّمُونَ﴾ ؛ لأنه قال: (نُقِلت حركةُ التاء إلى الخاء)، والتاء مفتوحة، ولم يذكر شيئًا آخَر. والقراءة التي في المصحف: ﴿يَخِصِّمُونَ﴾، وكأنها كُسرت الخاءُ مراعاةً لكسر الصاد؛ ﴿يَخِصِّمُونَ﴾. فيها القراءة الثالثة: ﴿يَخْصِمُونَ﴾ كـ(يَضْرِبون)، فتكون القراءات الآن ثلاثًا. * طالب: (...). * الشيخ: ذكر ﴿يَخْصِمُونَ﴾ . * طلبة: (...). * الشيخ: إي، لكن الله يهديكم هذه ﴿يَخْصِمُونَ﴾ ، عندنا ثلاث قراءات الآن، هو ذكر قراءتين فقط. * طالب: (...). * الشيخ: سبحان الله العظيم! ليتكم ما تستعجلون بس، فيه قراءتان فقط عندي، ومعكم الجمل، أيش يقول؟ * طالب: قوله: ﴿يَخَصِّمُونَ﴾ بفتح الياء، مضارع (خَصَّم) -كعَلَّمَ- وأصله (اخْتَصمَ) فنُقلت حركة التاء إلى الخاء، ثم قُلبت –أي التاءُ- صادًا وأُدغمت في الصاد، وحُذفت همزة الوصل للاستغناء عنها بتحريك الخاء، فوقع الإعلال في الماضي كما وقع في مضارعه الذي أشار له بقوله: (أصلُه يختصمون). وقوله: (نُقلت حركة التاء) أي: بتمامها أو بعضها، فُتحت، هذا قراءتان: فَتْح الخاء فتحةً تامَّةً، واختلاسُها؛ أي: النطقُ ببعض فَتْحتها. وقوله: (وأُدغمت) أي: بعد قَلْبها صادًا. وقوله: (وفي قراءة ...) إلى آخره، تلخَّص من كلامه أن القراءات هنا ثلاث، وبقي رابعةٌ وهي فَتْح الياء وكَسْر الخاء وكَسْر الصاد المشدَّدة، وعلى هذه القراءة فحركةُ الخاء ليست حركةَ نَقْل، وإنما هو لَمَّا حُذفت حركةُ التاء صارت ساكنة، فالتقت ساكنةً مع الخاء، فحُرِّكت -أي الخاء- بالكسر على أصل التخلُّص من التقاء الساكنين، فتلخَّص أن القراءات أربعة، وكلُّها سبعية، وكلُّها مع فتح الياء، وليس لنا قراءة سبعية بضمها. * الشيخ: زين إذَنْ -بعد- زاد على ثالثة، وأنتم تحاولون أن تكون قراءتان فقط، نعم، ولهذا أنا أنصحكم بعدم التسرع، الكتاب معي الآن، وأنا أرى كما ترون، اللي معنا الآن القراءات التي ذكر المؤلف قراءتان فقط؛ يقول -وانتبهوا لها عشان تعرفون (...) المؤلف- قال: (بالتشديد، أصله (يختصمون) نُقلت حركة التاء إلى الخاء) وحركة التاء هي الفتحة (وأُدغمت في الصاد) ما هي اللي أُدغمت؟ التاء، فصارت على هذه القراءة ﴿يَخَصِّمُونَ﴾ ، القراءة اللي في المصحف ﴿يَخِصِّمُونَ﴾ بكسر الخاء، هذه قراءتان، القراءة الثالثة: ﴿يَخْصِمُونَ﴾ كـ(يضربون)، القراءة الرابعة التي أشار إليها المحشِّي هو أن نجعل الخاء لا مفتوحةً خالصةً ولا مكسورةً خالصةً، نختلس الفتحة، هذه قراءة رابعة ما أشار إليها المفسر. القراءة الثالثة أيضًا ما أشار إليها، وهي القراءة الموجودة في المصحف: ﴿يَخِصِّمُونَ﴾، والقراءة الموجودة في المصحف وجَّهها المحشِّي بأن الحركة أُزيلت من التاء فصارت ساكنة، فلمَّا صارت ساكنة حُرِّكت الخاء بالكسر لالتقاء الساكنين على الأصح. فالمهم اللي عندنا المؤلف يقول رحمه الله، يقول: (أي: وهم في غفلةٍ عنها بتخاصُمٍ وتَبايُعٍ وأكْلٍ وشُربٍ وغير ذلك)، فالصيحة إذَن أخذتهم على غِرَّة وهم غافلون عنها، لاهون بأمورهم ودُنياهم، يتخاصم بعضهم مع بعض، وهذا يدلُّ على عدم ائتلاف قلوبهم في تلك الساعة، وأنهم من جنس البهائم، ولهذا لا تقوم الساعة إلا على شِرار الخلْق. ولم يذكر الله عز وجل سوى التخاصم، كأنَّ أكثر ما هم عليه في ذلك الوقت هو التخاصم والتباغض والتدابر؛ لأنهم ما عندهم إيمان، هم شِرار الخلق في معاملة الله، وشِرار الخلق في التعامل فيما بينهم. (وفي قراءةٍ: ﴿يَخْصِمُونَ﴾ كـ(يَضرِبون) أي: يخصم بعضهم بعضًا)، فيكون الظهور للغالب في الخصومة لا للحق؛ لأنهم في هَرْج ومَرْج، وليس عندهم إيمانٌ ولا مروءةٌ ولا خُلُق، هم شِرار الخلْق، فكانت هذه -والعياذ بالله- حالهم عند قيام الساعة، ويأتي إن شاء الله بقية الكلام. (...) تعنُّت هؤلاء ومكابرتهم؛ ﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ﴾ [يس ٤٨]. * فيُستفاد من ذلك: أن بني آدم يَصِلون إلى حدِّ التحدي لرب العالمين ولمن بلَّغ رسالته في قولهم: ﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ﴾. * ومن فوائدها: أن الرُّسُل بلَّغوا البلاغ المبين، وبيَّنوا للناس أنهم سيُبعثون ويجازَون وأنهم وُعدوا بذلك؛ لقولهم: ﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ﴾. * ومن فوائدها: أن هؤلاء الذين قالوا هذا القول تَحَدِّيًا واستبعادًا لم يُصَدِّقوا الرسل، بل كذَّبوهم، ولَيْتَهم نظروا في الأمر وفكَّروا؛ لقوله هنا: ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾. * ومن فوائد الآية التي بعدها: ﴿مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً﴾ [يس ٤٩]: إثبات عِلْم الله عز وجل وسَمْعه؛ لأن قوله: ﴿مَا يَنْظُرُونَ﴾ جواب قولهم: ﴿مَتَى هَذَا الْوَعْدُ﴾. * ومن فوائدها: تهديد هؤلاء المكذِّبين بهذه الصيحة التي تأخذهم. * ومن فوائدها: بيان قدرة الله عز وجل حيث يُؤخذ هؤلاء كلُّهم بصيحةٍ واحدةٍ؛ لقوله: ﴿إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً﴾، وهنا أكَّد الصيحة بـ﴿وَاحِدَةً﴾ ليبيِّن أنه لا يعيدها مرَّة ثانية، بل بأول مرَّة يؤخذون. * ومن فوائد الآية الكريمة: أن هذه الصيحة تأتيهم بغتةً؛ لقوله: ﴿وَهُمْ يَخِصِّمُونَ﴾، غافلين عنها. * ومن فوائد الآية الكريمة أيضًا: بيان حال هؤلاء الذين تقوم عليهم القيامة وتأخذهم الصيحة، وهي الخصوم والتنازع، مما يدلُّ على سوء أحوالهم، وسوء أخلاقهم، وأنهم لا همَّ لهم إلا هذا الأمر؛ إلا المخاصمة والمنازعة شُحًّا وطمعًا في الدنيا وغفلةً عن الآخرة، ولهذا جاء في الحديث الصحيح أنَّ الساعة لا تقوم إلا على شِرار الخلْق[[أخرجه مسلم (١٩٢٤ / ١٧٦) من حديث عبد الله بن عمرو.]]، وهؤلاء من المعلوم أنهم يأكلون ويشربون، لكن لم يذكر الله إلا هذا التخاصم لبيان سوء حالهم في ذلك الزمن.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب