الباحث القرآني

ثم قال الله تعالى: ﴿أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ﴾. ﴿أَلَمْ يَرَوْا﴾ أي أهل مكة القائلون للنبي ﷺ: لست مرسلًا، والاستفهام للتقرير؛ أي: علموا. * الطالب: (...). * الشيخ: علموا، إي، اشطب على الهمزة. يقول الله عز وجل: ﴿أَلَمْ يَرَوْا﴾، الرؤية هنا فسرها المؤلف برؤية العلم، وذلك لأنهم لم يشاهدوا هذا بأعينهم، وإنما علموه بما بلغهم من الخبر. وقوله: أي أهل مكة، الصحيح أن هذا ليس خاصًّا بأهل مكة، بل هو عام لكل من كذب الرسول ﷺ، وكأن المؤلف جعله خاصًّا بأهل مكة؛ لأن الآية مكية، ولكن يقال: حتى وإن كانت الآية مكية فإن المكذبين للرسول عليه الصلاة والسلام من أهل مكة وغيرهم، فأهل الطائف كذبوا الرسول عليه الصلاة والسلام، وكذلك غيرهم كثير؛ لأن الناس لم يدخلوا في دين الله أفواجًا إلا بعد فتح مكة. ﴿أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا﴾ يقول: (كم) خبرية بمعنى كثيرًا، معمولة لما بعدها، مُعلِّقة لما قبلها عن العمل. ﴿يَرَوْا﴾ بمعنى العلم الرؤية بمعنى العلم، وإذا كانت الرؤية بمعنى العلم فإنها تنصب مفعولين. (كم) خبرية علقتها عن العمل؛ يعني أنها أبطلت عملها لفظًا ومحلًّا؛ لأن التعليق يبطل العمل لفظًا فقط لا محلًّا، والإلغاء يبطله لفظًا ومحلًّا، والأفعال القلبية إما أن تعمل في اللفظ والمحل، وإما أن تعمل في المحل دون اللفظ، وإما ألا تعمل لا في اللفظ ولا في المحل، الثالث يسمى إلغاءً، والثاني يسمى تعليقًا، والأول يسمى إعمالًا، فـ(كم) هنا علقت ﴿يَرَوْا﴾ عن العمل في اللفظ ولَّا في المحل؟ في اللفظ، أما المحل فالجملة في محل نصب سدت مسد مفعولي ﴿يَرَوْا﴾. ثم هي لها إعراب أيضًا باعتبار ما بعدها، فباعتبار ما بعدها يقول: إنها مفعول لما بعدها، وعليه فتُقدر كما قال المؤلف: أي كثيرًا. وقوله: (والمعنى أنا أهلكنا قبلهم كثيرًا من القرون، الأمم). وقوله سبحانه وتعالى: ﴿قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ﴾ (من) هذه لبيان (كم)، تبين الإبهام الواقع في (كم). و﴿الْقُرُونِ﴾ جمع (قرن)، وهم الأمة المشتركة في عصر من العصور، تسمى قرنًا، والعصر مئة سنة، وعلى هذا فالقرن يكون مئة سنة، ولكن قد يكون دون ذلك، قد تكون أمة تبقى أقل من القرن، يهلكها الله عز وجل قبل أن يتم لها هذا العدد من السنين، لكن الضابط أن نقول: القرن هم الأمة التي اشتركت في عصر. ﴿كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ﴾ أي المهلكين، ﴿إِلَيْهِمْ﴾ أي المكذبين، ﴿لَا يَرْجِعُونَ﴾ كيف؟ ﴿أَنَّهُمْ﴾ أي المهلكين ﴿إِلَيْهِمْ﴾ أي إلى المكذبين، عندكم مكيين؟ على كل حال المكيين هم -على كلام المؤلف- ما دام الخطاب لأهل مكة، أو الكلام عن أهل مكة فالمكذبون هم المكيون، والذي عندنا أعم، الذي عندنا (المكذبون) أعم، فهؤلاء الأمم التي أهلكت هل رجعت إلى الأمم التي بعدها؟ لا، بل هي ذهبت وزالت وكأنها لم تُوجد، ولم يبقَ إلا عملها فقط. قال: ﴿لَا يَرْجِعُونَ﴾ أفلا يعتبرون بهم و﴿أَنَّهُمْ﴾ إلى آخره بدل مما قبله برعاية المعنى المذكور. الذي قبله قوله: ﴿كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ﴾ كأنه قال: (ألم يروا أنهم لا يرجعون، فهي بدل مما قبلها من حيث المعنى). وقوله: (من حيث المعنى) يعني لا من حيث الإعراب؛ لأنها جملة مستقلة وليست تابعة لها في الإعراب، ولكنها تابعة لها في المعنى، الخلاصة أن الله بيَّن في هذه الآية بيانًا يُقرِّر به هؤلاء المكذبين بأنه أهلك كثيرًا من الأمم السابقة، وأن هؤلاء المهلكين لا يرجعون إلى هؤلاء المكذبين؛ لأنهم انتهوا من الدنيا ولم يبقَ لهم رجوع إليها حتى يستعتبوا فالواجب على هؤلاء المكذبين أن يعتبروا بهم. ثم قال: ﴿وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ﴾ قال: (﴿إِنْ﴾ نافية أو مخففة). قوله: (نافية)، واضح بمعنى (ما)، مخففة بمعنى (إن)، لكنها خُفِّفت، و(أو) هنا ليست للتخيير، بل هي للتنويع؛ لأنها على حسب القراءة الآتية لما. ﴿كُلٌّ﴾، أي كل الخلائق مبتدأ على التقديرين؛ يعني على أنها نافية وعلى أنها مخففة؛ لأن المخففة كما نعلم تعمل في الجملة واسمها ضمير الشأن محذوف، فـ﴿كُلٌّ﴾ مبتدأ على كلا الوجهين، أي على أن ﴿إِنْ﴾ نافية أو مخففة ﴿لَمَّا﴾ بالتشديد بمعنى (إلا) أو بالتخفيف فاللام فارقة و(ما) مزيدة. ﴿لَمَّا﴾ بالتشديد بمعنى (إلا)، وعلى هذا تكون (إن) نافية، والتقدير وما كل إلا جميع لدينا محضرون (...). النِّعم عونًا له على المعصية، فصار يستعين بنعم الله على معصيته، لم يكن شاكرًا؛ لأنه صرفها (...). (﴿لَمَّا﴾ بالتشديد بمعنى إلا)، وعلى هذا تكون (إن) نافية، والتقدير: وما كل إلا جميع لدينا محضرون، يقول: (وبالتخفيف)، و(إن كل لَمَا جميع)، فاللام فارقة بين (إن) النافية، و(إن) المخففة، و(ما) مزيدة، والتقدير على هذا: وإن كل لجميع لدينا محضرون، لجميع؛ لأن (ما) زائدة، فإذا أردنا أن نعرب هذه الآية نقول: (إنْ) نافية على قراءة التشديد، ولَمَّا بمعنى (إلا)، الإعراب الثاني: (إن مخففة) على قراءة التخفيف، واللام فارقة وهي للتوكيد كما هو معروف، و(ما) زائدة، والتقدير على هذا: وإن كل لجميع لدينا محضرون. إذن تكون (أو) في كلام المؤلف، تكون (أو) في قوله: (نافية أو مخففة) للتخيير ولَّا للتنويع؟ * طلبة: للتنويع. * الشيخ: للتنويع، تكون للتنويع، فهي على قراءة التشديد نافية، وعلى قراءة التخفيف مُخفَّفة. قال: (﴿جَمِيعٌ﴾ خبر المبتدأ؛ أي: مجموعون)، خبر المبتدأ، أين المبتدأ؟ (كُلٌّ جميع). فإن قال قائل: كيف يكون خبرًا لـ(كل)، وكل تدل على الشمول؟ فالجواب: أن (كلًّا) تدل على الشمول، لكن لا يلزم من دلالتها على الشمول الاجتماع، فتقول: أكرم كُلَّ القوم، وقد يكون القوم متشتتين كل واحد في جانب، لكن (جميع) تدل على الاجتماع، ففيها زيادة على الشمول وهي جمع الناس، فكل الناس يحضرون إلى الله عز وجل، ولكن هل حضورهم متفرِّق أو مجتمع؟ الجواب: حضورهم مُجتمِع، دليله؟ الآية ﴿جَمِيعٌ﴾. إذن فلا يقول قائل الآن: إن المبتدأ هو نفس الخبر؛ لأن كلمة (كل) تدل على الشمول و(جميع) يدل على الشمول؟ نقول: لا؛ لأن الفرق بينهما أن (كل) تدل على الشمول وإن كانوا متفرقين، و﴿جَمِيعٌ﴾ تدل على الشمول مع الاجتماع؛ أي مجموع. (﴿لَدَيْنَا﴾ عندنا في الموقف بعد بعثهم. ﴿مُحْضَرُونَ﴾ للحساب، خبر ثانٍ) ليش؟ (كل) فصار (كل) الآن لها خبران ﴿جَمِيعٌ﴾ والثانية ﴿مُحْضَرُونَ﴾. أظن المعنى واضح، يقول الله عز وجل في هذه الآية: ما كل أحد من هؤلاء إلا محضر لدينا يوم القيامة والناس جميع. * في هذه الآية الكريمة والتي قبلها: أولًا: تقرير المكذبين بما يقرون به من إهلاك من سبقهم؛ لقوله: ﴿أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ﴾. ثانيًا: أو من فوائد الآية: أنه يجب على الإنسان أن ينظر ويعتبر بحيث إذا نظر في عواقب الناس اتخذ من ذلك عِبرة؛ لأن الاستفهام هنا مع كونه للتقرير مفيد للتوبيخ؛ لأن الواجب على من نَظَر في عاقبة المكذبين أن يرتدع عن الكذب. * من فوائد الآية أيضًا: أنه لا بَعْث ولا رجوع قبل يوم القيامة؛ لقوله: ﴿أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾ فلا أحد يُبعث قبل يوم القيامة، اللهم إلا على سبيل الآية، كما ثبت في القرآن أن عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام يحيي الموتى بإذن الله، وكما في قصة الرجل الذي أماته الله مئة عام، ثم بعثه، وكما في قصة بني إسرائيل الذين أخذتهم الصاعقة، ثم بعثهم الله بعد موتهم، وكما في قصة الرجل الشاب الذي يقتله الدجال، ثم يكلمه، يخاطبه فيقوم حيًّا، وإلا فإن الأصل أن من مات لا يرجع أبدًا؛ لقوله: ﴿أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ﴾. * ومن فوائد الآية الثانية: إثبات البعث؛ لقوله: ﴿وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ﴾. * ومن فوائدها: كمال قدرة الله عز وجل، حيث يجمع هذه الخلائق جميعًا في مكان واحد؛ لقوله: ﴿لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا﴾. * ومن فوائد الآية الكريمة: وجوب الاستعداد لهذا اليوم؛ لأن الله تعالى لم يُخبرنا به لمجرد الاطلاع، ولكنه أخبرنا به من أجل أن نستعد له حتى نكون على أهبة لما سنُحاسَب عليه.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب