الباحث القرآني

يقول: ﴿وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ [فاطر ٣١] الجملة هنا ﴿وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ﴾ جاءت بالصيغة الاسمية المحصورة، وطريق حصرها أمران: الأمر الأول: تعريف ركنيها، وهما المبتدأ والخبر، فـ(الذي) مبتدأ و(الحق) خبر. وقد قال أهل البلاغة: إن تعريف الركنين من الجملة الاسمية يفيد الحصر، الطريق الثاني من طرق الحصر: هو ضمير الفصل وهو قوله: ﴿هُوَ الْحَقُّ﴾، فضمير الفصل من فوائده الحصر، وله فائدة ثانية: التوكيد، وله فائدة ثالثة: الفصل بين الخبر والصفة. يقول: ﴿وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ﴾، ﴿أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾ الوحي إعلام الله سبحانه وتعالى أنبياءه ورسله بشريعة من شرائعه، هذا هو الوحي شرعًا، أما في اللغة فقالوا: إن الوحي هو الإعلام بسرعة وخفاء؛ يعني مثل الإشارة والهمس وما أشبهه يسمى وحيًا لكنه في الشرع.. ومنها ما ليس بوحي، أحيانًا يسأل النبي عليه الصلاة والسلام عن شيء ولا يجيب، فينزل عليه الوحي فيجيب بحديث نبوي؛ مثل «قصة يعلى بن أمية الذي كان أحرم بالعمرة وهو متضمِّخ بالخَلُوق، فسأل النبي ﷺ عن ذلك ولكنه لم يجبه حتى جاءه الوحي»[[متفق عليه؛ البخاري (١٥٣٦)، ومسلم (١١٨٠ / ٦) من حديث يعلى بن أمية.]]، وأحيانًا يسأل عن الشيء ثم ينزل به الوحي على أنه كلام الله قرآن، فيبلغه النبي ﷺ. يقول: ﴿الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾ [فاطر ٣١] والمراد به هنا القرآن قطعًا؛ بدليل قوله: ﴿مِنَ الْكِتَابِ﴾؛ لأن (من) بيانية، تبين الإبهام في الاسم الموصول (الذي)؛ لأن الاسم الموصول فيه إبهام فإذا جاءت (من) بعده بعد اسم الموصول فهي تبينية. ﴿وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ﴾ [فاطر ٣١] (القرآن) وهو كتاب بمعنى مكتوب؛ لأن هذه الصيغة (فعال) تأتي كثيرًا بمعنى مفعول، وأمثلتها غراس، بناء، فراش، بمعنى مغروس ومبني ومفروش، فالكتاب بمعنى مكتوب، مكتوب في أي شيء؟ مكتوب في اللوح المحفوظ، مكتوب في الصحف التي بأيدي الملائكة ﴿كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (١١) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (١٢) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥) كِرَامٍ بَرَرَةٍ﴾ [عبس ١١ - ١٦] مكتوب في المصاحف التي بأيدينا، إذن هو مكتوب على ثلاثة أوجه: اللوح المحفوظ، الصحف التي بأيدي الملائكة، الصحف التي بأيدينا. قال: ﴿هُوَ الْحَقُّ﴾ [فاطر ٣١] (هو) ضمير فصل، و(الحق) خبر (الذي)، فـالذي أوحى الله إلى رسوله ﷺ هو الحق، أكد الله ذلك بكم مؤكد؟ بمؤكدين: ضمير الفصل، وتعريف ركني الجملة ﴿الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ﴾ [فاطر ٣١]. وقوله: ﴿الْحَقُّ﴾ يعني الشيء الثابت صدقًا في الأخبار وعدلًا في الأحكام، فأحكام القرآن كلها عدل، وأخباره كلها صدق، ليس فيها كذب بوجه من الوجوه، وليس في أحكامه جور بوجه من الوجوه؛ لأنك إذا تأملت أحكامه وجدته قد أعطى كل ذي حق حقه؛ فلهذا كان عدلًا في الأحكام، وإذا تأملت أخباره وجدتها كلها صدقًا، وهذا هو الصدق في الأخبار، وقد قال الله تعالى: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [الأنعام ١١٥]. قال الله تبارك وتعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ﴾ [فاطر ٢٩] أخذنا المناقشة فيها؟ ﴿مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ [فاطر ٣١]، قوله: ﴿مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ قال المؤلف: (تقدمه من الكتب) يعني مصدقًا لما تقدمه من الكتب؛ لأن الكتب التي سبقته تكون بين يديه، ألا ترى إلى الرجل يكون أمامك فهو قد سبق، وتقول: إن الرجل بين يدي، وربما يقال: ما بين اليدين للشيء المستقبل؛ لأنه أمامك أيضًا؛ كما في قوله تعالى: ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ [البقرة ٢٥٥] أي: مستقبلهم وماضيهم. وقوله: ﴿مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ كيفية التصديق للكتب السابقة من وجهين: الوجه الأول: أنه صدقها، أي: أثبت أنها صادقة، فالقرآن يثبت صحة التوراة والإنجيل والزبور وغير ذلك من الكتب، ويبين أنها صدق. كذلك الوجه الثاني: ﴿مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ لأن الكتب السابقة أخبرت به، فنزوله يكون تصديقًا لها، فهو مصدق لما بين يديه من وجهين: الوجه الأول أنه صدق ما سبقه، أي: قال: إنها كتب صادقة ثابتة، وأوجب الإيمان بها. والوجه الثاني: أنه صدق ما أخبرت به، أي: نزل مطابقًا لما أخبرت به، كما قال الله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ﴾ [الشعراء ١٩٦] القرآن، ﴿زُبُرِ الْأَوَّلِينَ﴾ كتبهم، يعني أنه موجود في كتبهم، وأنه سوف ينزل كما أن محمدًا ﷺ كذلك قد أخذ العهد والميثاق على كل نبي أن يصدق به، قال الله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا﴾ [آل عمران ٨١]، المهم أن تصديقه لما بين يديه من وجهين. قال: ﴿مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾ [فاطر ٣١] (عالم بالبواطن والظواهر)، هذه الجملة تعلقها بما قبلها أنها تفيد تحذيرًا وإنذارًا وترغيبًا، فهي ترغيب وترهيب لأنه لما أخبر بأن هذا القرآن هو الحق فقد انقسم الناس في هذا الحق إلى قسمين؛ قسم صدق به وقسم كفر به، أليس كذلك؟ كل هؤلاء نقول لهم: إن الله تعالى بكم خبير بصير، فالذين صدقوا به لن يضيع تصديقهم وعملهم بما جاء به؛ لأن الله خبير به، وبصير به، وسوف يجازيهم عليه، والذين كذبوا به أيضًا لن تخفى حالهم على الله عز وجل، فسوف يعاقبهم بما يقتضيه تكذيبهم وإنكارهم واستكبارهم، فالجملة إذن هي باعتبار المصدقين بهذا القرآن للبشارة، وباعتبار المكذبين للإنذار والتحذير. وقوله: ﴿خَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾ (خبير) اسم فاعل على صيغة المبالغة، وإن شئت فقل: إنه صفة مشبهة، وهو أحسن بالنسبة لما يتعلق بالعلم، الأحسن في هذا أن نقول: إنه من باب الصفة المشبهة، لماذا؟ لأن الصفة المشبهة تدل على الثبوت، لكن صيغة المبالغة قد تدل على الحدوث، وحدوث الخبرة في جانب الله عز وجل مستحيل ولَّا لا؟ حدوث الخبرة مستحيل؛ لأنه لم يزل ولا يزال خبيرًا. إذن نعود فنقول: إنه يتعين أن نجعل (خبير) صفةً مشبهة؛ لأننا لو جعلناها صيغة مبالغة من خابر لكانت موهمة لتجدد الخبرة والعلم، وهذا شيء مستحيل في جانب الله عز وجل. وقوله: ﴿بَصِيرٌ﴾ كلمة (بصير) قد يراد بها العلم، وقد يراد بها الإدراك للرؤية، وكلا الأمرين لا يناقض بعضهما بعضًا. وقد مر علينا في قواعد التفسير أن الآية إذا احتملت معنيين لا يتناقضان فإنها تُحمَل عليهما؛ لأن ذلك أوسع في معناها وأبلغ، فالله عز وجل بصير بعباده من حيث النظر والرؤية ومن حيث العلم. في جانب المعمولات المفعولات الظاهرة تكون الرؤية والعلم أيضًا، وفي جانب المسموعات يكون العلم ﴿إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾. ثم قال الله تعالى: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا﴾ [فاطر ٣٢]، ﴿أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ﴾ أولًا كلمة (أورث) هنا نصبت مفعولين أصلهما المبتدأ والخبر أو لا؟ ليس أصلهما المبتدأ والخبر، وعلى هذا فهي من باب كسا وأعطى، أين المفعول الأول وأين المفعول الثاني؟ ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا﴾ (الذين) هي الأول، و(الكتاب) هو الثاني؛ لأن الوارث من؟ هل الكتاب وارث الذين ولَّا الذين ورثوا الكتاب؟ الذين هم الذين ورثوا الكتاب، يعني أورثنا الذين اصطفينا من عبادنا الكتاب، ويش معنى أورثناهم إياه؟ أي: جعلناهم يرثونه، فالذين اصطفاهم الله أورثهم الله الكتاب، أي: جعلهم يرثونه. وكلمة الكتاب قال المؤلف: (القرآن)، وينبغي أن نجعله أعم؛ لأننا لو قلنا: إن الكتاب هو القرآن وقلنا: إنه موروث عمن سبقنا لكان القرآن قد نزل على من سبقنا، وليس الأمر كذلك، فالمراد بالكتاب هنا الجنس، لا خصوص القرآن، يعني أن الكتب السابقة كل ما فيها من الخير موجود في القرآن، فنحن ورثنا عمن سبقنا كل ما أوتوه من خير، فالأصول التي تجب على كل مسلم في أي مكان وزمان موجودة في القرآن، والشرائع التي تختلف باختلاف الأمم وباختلاف الزمان والمكان هذه تختلف عمن سبق، قد يجب علينا ما لا يجب عليهم، وقد يحرم علينا ما لا يحرم عليهم ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ [المائدة ٤٨]، أما الأصول فقد ورثناها عنهم، فالأصول التي هي أم الدين قد ورثناها عمن سبقنا. قال: ﴿الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا﴾ [فاطر ٣٢]، ﴿الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا﴾ أي: اخترنا، وهو مأخوذ من الصفوة، وأصله اصتفينا، لكن لعلة تصريفية قُلبت التاء طاءً فقيل: ﴿اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا﴾ أي: اخترناهم. وقوله: ﴿مِنْ عِبَادِنَا﴾ هل المراد بذلك العبودية العامة أو الخاصة؟ * طالب: الخاصة. * الشيخ: يعني الذين اصطفيناهم من المؤمنين أو اصطفيناهم من جميع العباد؟ يظهر أنها من العبودية العامة، يعني الذين اختارهم الله تعالى من عباده الذين يخضعون له كونًا، والمراد بهم هذه الأمة، بدليل قوله تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران ١١٠]، فالذين اصطفاهم الله من عباده هم هذه الأمة؛ للآية التي سقناها وهي في آل عمران، ولدليل آخر من هذه الآية نفسها؛ لأن هذه الأمة آخر الأمم، إذن فلا يمكن أن يورث ما عندها من الكتاب، فهي وارثة غير موروثة، إذا كانت وارثة غير موروثة فهي التي اصطفيت. وقوله: ﴿فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ﴾ [فاطر ٣٢] (بالتقصير في العمل به) أي: بالكتاب (﴿وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ﴾ يعمل به أغلب الأوقات) ﴿وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ﴾ يضم إلى العمل التعليم والإرشاد إلى العمل ﴿بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [فاطر ٣٢]). قسم الله تعالى هذه الأمة التي أورثها الكتاب إلى ثلاثة أقسام، وبدأ بالأقل فالأقل، الأقل في المرتبة فالأقل، فقال: ﴿فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ﴾ [فاطر ٣٢] الظالم لنفسه هو الذي ترك شيئًا من الواجبات، أو فعل شيئًا من المحرمات، ترك صلاة الجماعة مع وجوبها عليه، ترك بعض الزكاة لم يخرجه، ترك الحج على الفور مع وجوبه عليه على الفور، هذا نقول: إنه ظالم لنفسه، فعل المحرمات: شرب الخمر، زنى، سرق، نظر نظرًا محرمًا، هذا نقول: إنه ظالم لنفسه. معنى الظالم في الأصل هو الناقص؛ لأن الظلم هو النقص، قال الله تعالى: ﴿كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا﴾ [الكهف ٣٣] يعني لم تنقص، وكل من أساء فقد نقص مما يجب عليه، ولهذا كل عمل سيئ يعتبر نقصًا فيما يجب عليه؛ لأن الواجب عليك لنفسك أن ترعاها حق رعايتها، فأنت مسؤول أول ما تسأل عن نفسك، قال النبي ﷺ: «إِنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا»[[متفق عليه؛ البخاري (١٩٧٥)، ومسلم (١١٥٩ / ١٨٢) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص.]] فبدأ بالنفس، فكما يجب عليك أن ترعى مصالح ولدك ومالك وأهلك يجب عليك أن ترعى مصلحة نفسك، بل هو الواجب الأول من حقوق المخلوقين بعد حق الله ورسوله. إذن من فعل محرمًا فقد ظلم نفسه، ليش؟ لأنه نقصها حقها في الأمانة، أنت مؤتمن عليها، يجب أن ترعاها حق رعايتها، من ترك واجبًا فقد ظلم نفسه؛ لأن الواجب عليه أن يفعل الواجب ليقوم بحق الأمانة فيما يتعلق في نفسه، هذا الظالم لنفسه، ومنهم مقتصد، المقتصد هو الذي لم يقع منه ظلم لنفسه ولا تقدم في الخير، أي: قائم بالواجبات، تارك للمحرمات، لكنه لا يكثر من النوافل، ولا يحرص على إكمال الواجبات على الوجه الأكمل، ولا يتجنب المكروهات، مقتصد لا نقص ولا زاد، يصلي مع الجماعة ويزكي بدون نقص، لكن لا يأتي بالنوافل ولا بصدقات التطوع، يؤدي فريضة الحج لكن لا يعود، يصوم رمضان لكن لا يصوم نفلًا، وهكذا يؤدي ما عليه من المعاملات بين الناس على الوجه الواجب فقط، لا يتسامح عن فقير، ولا ينزل من قيمة أو ثمن، لكنه ماش على ما يجب عليه، نقول: هذا مقتصد، هذا لا له ولا عليه، يعني ليس له ثواب إلا ثواب فعل الواجب فقط، الثالث: سابق بالخيرات، هذا يأتي بالواجبات ويزيد ما شاء الله تعالى من الخيرات، ويأتي بالواجبات أيضًا على الوجه الأكمل الأتم، فالصلاة مثلًا لا يقتصر فيها على تسبيحة واحدة، بل يزيد، لا يقتصر على الفاتحة بل يزيد، لا يقتصر على أن يضع يديه مثلًا مطلقة هكذا، بل يضعها في موضعها في حال القيام وفي حال الركوع وفي حال السجود وهكذا، نقول: هذا سابق بالخيرات، يؤدي الزكاة ويتصدق، يحج الواجب ويتطوع، يصوم رمضان ويتنفل بغيره من الصيام، هذا نقول: إنه سابق بالخيرات. أما قول المؤلف رحمه الله: إن معنى ﴿سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ﴾ (يضم إلى العمل التعليم والإرشاد إلى العمل) ففي هذا نظر ظاهر، لماذا؟ لأن التعليم قد يكون واجبًا، وإذا قام بالتعليم الواجب صار من السابق بالخيرات أو من المقتصد؟ من المقتصد، وإن تركه صار من الظالم لنفسه، وكذلك نقول في الإرشاد، الإرشاد الواجب إذا قام به صار مقتصدًا، وإن تركه صار ظالمـًا لنفسه، ولكن ما قلنا هو الصواب. ما تقولون في اختلاف المفسرين في هذه الآية؟ فمنهم من يقول: فمنهم ظالم لنفسه كالمانع للزكاة، ومنهم مقتصد كالمقتصر عليها، ومنهم سابق بالخيرات كالزائد عليها، وآخر يقول: فمنهم ظالم لنفسه مؤخر للصلاة عن وقتها، ومنهم مقتصد فاعل لها في وقتها، ومنهم سابق بالخيرات فاعل لها في أول وقتها، أي: في الوقت الذي يُستحب أن تقام فيه، هل بين القولين خلاف؟ لا، ليس بينهما خلاف، هذا يُسمى اختلاف تنوع، يعني أن كل واحد منهما -من القائلين- ذكر نوعًا، فيكون هذا على سبيل التمثيل، ولا يُعد هذا خلافًا في الواقع، ولكنه تمثيل، هذا مثل بالزكاة وهذا مثل بالصلاة. وقوله: ﴿وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [فاطر ٣٢] قال المؤلف: (بإرادته) الكونية أو الشرعية؟ الظاهر أننا نغلِّب هنا الكونية، يعني أن هؤلاء الأقسام الثلاثة -الظالم والمقتصد والسابق- كلهم يفعلون هذا بإذن الله، فالله تعالى هو الذي أذن للظالم نفسه أن يظلم نفسه، وللمقتصد أن يقتصر على ما يجب، وللسابق أن يزيد. وتقييد هذا بإذن الله لئلا يفتخر مفتخر بكونه سابقًا بالخيرات فيضيف الشيء إلى نفسه ويمن به على ربه؛ كما قال الله تعالى عن بعض بني آدم: ﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ﴾ [الحجرات ١٧]. فأنت إذا منَّ الله عليك بسبق في الخيرات لا تظن أن هذا من نفسك، لو وُكلت إلى نفسك لكنت ظالمـًا لنفسك؛ لقوله تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ [الأحزاب ٧٢]، هذه حقيقة الإنسان؛ الظلم والجهالة، لكن من منَّ الله عليه وهداه فهو من فضله سبحانه وتعالى (...). قال الله تعالى: ﴿ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ﴾ (﴿ذَلِكَ﴾ أي: إرثهم الكتاب ﴿هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ﴾ )، نعم صدق الله، الفضل الكبير الذي لا يدانيه فضل هو منة الله على عبده بالعلم بهذا الكتاب، هذا هو الفضل الكبير، ليس الفضل الكبير بأن يعطَى الإنسان قصورًا أو مراكب فخمة أو زوجات حسناوات أو أبناء كثيرين، لا، الفضل الكبير أن يورث هذا الكتاب، كل من ورث هذا الكتاب علمًا وعملًا ودعوة فهو الذي حاز الفضل الكبير، قال الله تعالى: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [يونس ٥٨]. وفي قوله: ﴿ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ﴾ فيها أداة حصر، وهو ضمير الفصل ﴿ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ﴾، وضمير الفصل نذكره هنا لمن فاته العلم به: ضمير الفصل هو ضمير يأتي مطابقًا للسياق، يأتي بصورة الغائب، كـ(هو)، وبصورة المخاطب، كـ(أنت)، وبصورة المتكلم، كـ(أنا)، قال الله تعالى: ﴿وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِين﴾ [الحجر ٨٩]، ﴿إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ﴾ هذا أتى بصيغة المتكلم، وتقول لمن تخاطبه: إنك أنت القائم، ﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ﴾ [الدخان ٤٩] هذا في صيغة المخاطب، وفي صيغة الغائب كثير، منه هذه الآية ﴿ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ﴾. إذن فضمير الفصل ضمير يؤتى به مطابقًا للسياق من حيث التكلم والخطاب والغيبة، وهو من حيث الإعراب لا محل له، ليس له محل من الإعراب، أما من حيث المعنى فيفيد ثلاثة أمور: يفيد التوكيد والحصر والتمييز بين الخبر والصفة، ثلاثة أمور، ما هي؟ تقول مثلًا: (زيد الفاضل) فيه ضمير فصل ولَّا لا؟ ما فيه ضمير فصل، هنا يحتمل أن تكون (الفاضل) خبرًا، ويحتمل أن تكون صفة والخبر لم يأتِ، ممكن أن نقول: تقدير الكلام: زيد الفاضل قائم، ما يمكن هذا؟ يمكن، فتكون (الفاضل) صفة، فإذا قلت: (زيد هو الفاضل) تعيَّن أن تكون (الفاضل) هنا خبرًا، ما يمكن تكون صفة. إذن فهو يميز بين الصفة والخبر، فيكون ما بعده خبرًا لا صفة، ولولاه لكان محتملًا أن يكون خبرًا أو صفة. هذا شرح قولنا: التمييز بين الخبر والصفة. يفيد الحصر: إذا قلت: (زيد فاضل) هل يمنع أن يكون غيره فاضلًا؟ لا يمنع، فإذا قلت: (زيد هو فاضل) أو (زيد هو الفاضل) تعيَّن أن يكون زيد وحده هو الفاضل. التوكيد: لا شك أن قولك: (زيد الفاضل) تريد المبتدأ والخبر، لا شك أنها جملة تامة ومعناها واضح، لكن إذا قلت: زيد هو الفاضل كأنك اتكأت عليها وزدتها توكيدًا. قال: ﴿ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ﴾، الفضل بمعنى العطاء، العطاء ممن؟ من الله، (الكبير) من حيث الحجم، فهو كبير في كيفيته، ونحن نعلم من جهة أخرى أنه كثير في كميته، فيجتمع في هذا العطاء يجتمع فيه الكمية والكيفية، فهو فضل كبير في ذاته وكيفيته وفضل كثير أيضًا في عدده وكميته ﴿ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ﴾ [فاطر ٣٢] قال الله تعالى: ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا﴾ [فاطر ٣٣] هذا بيان لثواب هؤلاء الأصناف الثلاثة (﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ﴾ إقامة ﴿يَدْخُلُونَهَا﴾ الثلاثة بالبناء للفاعل والمفعول خبر (جنات) المبتدأ) بالبناء للفاعل: ﴿يَدْخُلُونَهَا﴾، وبالبناء للمفعول: ﴿﴿يُدْخَلُونَهَا﴾ ﴾، وهم إذا أُدخلوا فقد دخلوا ولَّا لا؟ فكأن القراءتين واحد، لكن يُستفاد من كلمة ﴿﴿يُدْخَلُونَهَا﴾ ﴾ بيان أنهم يُعطَونَها كرامةً، فتُقدَّم إليهم حتى يدخلوها، لكن ﴿يَدْخُلُونَهَا﴾ بدون أن يقال: ﴿﴿يُدْخَلُونَهَا﴾ ﴾ فإن الداخل قد يدخل كرامة وقد يدخل من ذات نفسه، لكن إذا أُدخِلها كأنها قُدِّمت لهم على سبيل الكرامة حتى يدخلوها. وقوله: ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ﴾ جنات جمع جنة، قال العلماء: والجنة: البستان الكثير الأشجار، وسُمي بذلك لأنه يستر مَن كان داخله، والله أعلم. ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا﴾ عدن بمعنى إقامة، يعني أن هذه الجنات جنات إقامة لا ظعن فيها، بل هم خالدون فيها أبدًا، ومع ذلك ليس واحد منهم يتمنى أن يتحول عما هو فيه كما قال الله تعالى: ﴿لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا﴾ [الكهف ١٠٨] بخلاف الجنة؛ فإن الإنسان لو كان في أحسن ما يكون من البساتين لتمنى أن يتحول إلى ما هو أحسن منه وأفضل منه، لكن في الآخرة كل واحد منهم يرى أنه في مكان إقامة لا يريد أن يتحول عنه، وهذا لا شك أنه من كمال النعيم أن يستقر الإنسان وأن يرى أنه في أكمل ما يكون؛ حتى لا تتشوف نفسه إلى نعيم أعلى فيتنغص نعيمه؛ لأنه من المعلوم أن الإنسان إذا رأى أنه دون غيره، وإن كان في مقام أمين، وإن كان في مقام منعم فيه، لكن يتنغص عليه ذلك؛ لكونه يرى أن غيره أفضل منه. قال: ﴿يَدْخُلُونَهَا﴾ (بالبناء للفاعل وللمفعول خبر جنات) جنات مبتدأ، وجملة ﴿يَدْخُلُونَهَا﴾ أو ﴿﴿يُدْخَلُونَهَا﴾ ﴾ خبر، (﴿يُحَلَّوْنَ﴾ خبر ثانٍ) ولا تصح أن تكون حالًا من الفاعل؛ وذلك لأن تحليتهم بذلك بعد الدخول، ولو قلنا: يُدخلونها حال كونهم يحلون للزِم من ذلك أن يكون التحلية حين الدخول أو قبله. (﴿يُحَلَّوْنَ﴾ خبر ثانٍ)، وهل يجوز أن يتعدد الخبر؟ الجواب: نعم، وهذا في القرآن كثير، قال الله تعالى: ﴿وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (١٤) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ﴾ [البروج ١٤، ١٥]، الخبر العام كم؟ أربعة: الغفور، والودود، وذو العرش، والمجيد، فتعدد الأخبار جائز في اللغة العربية، ﴿يُحَلَّوْنَ فِيهَا﴾ أي: في هذه الجنات، ﴿مِنْ﴾ قال المؤلف: (بعض) فأفادنا أن (من) هنا ليست بيانية، بل هي تبعيضية، ولو قيل: إنها بيانية لكان له وجه جيد؛ لأن التحلية لا تتعين في الأساور؛ إذ قد يُحَلَّى الإنسانُ بالخروص مثلًا، أو بالقلائد، أو ما أشبه ذلك، فجعلها بيانية أولى من جعلها تبعيضية؛ لأنك إذا قلت: يُحَلَّون بعض أساور لم تكن التحلية بالأساور، وإنما يحلون بعضها، إلا إذا قلت: نعم أقول: إنها تبعيضية لأن الأساور المذكورة هنا نوعان فقط: ذهب ولؤلؤ، مع أن لهم حلية أخرى وهي الفضة؛ كما قال الله تعالى: ﴿وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا﴾ [الإنسان ٢١]، فإذا جعلتها تبعيضية باعتبار أن الأساور المذكورة من نوعين، وبقي نوع ثالث لم يُذكَر، صار القول بأنها للتبعيض له وجه، وقد ذكرنا مرارًا كثيرة أنه إذا احتمل اللفظ معنيين لا يتنافيان فإنه يُحمَل عليهما، فيمكن أن نجعل (من) هنا مشتركة بين كونها بيانية وبين كونها تبعيضية، بين كونها بيانية لأن التحلية تكون من الأساور وغيرها، فتكون (من) هنا مبيِّنةً ما يتحلون به، وتبعيضية لأنه ذكر من الأساور هنا نوعين وبقي نوع ثالث لم يذكر، ﴿يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا﴾ [فاطر ٣٣] ويش عندكم؟ (مرصع بالذهب). ﴿﴿من ذهب ولؤلؤٍ﴾ ﴾، أما ﴿مِنْ ذَهَبٍ﴾ فهي مجرورة لا شك فيها؛ لأنها دخلت عليها (من)، وأما (لؤلؤ) فهي عندي منصوبة، هي عندكم كذلك؟ ولكن قوله: (مرصع) يدل على أنها مجرورة كما هي القراءة الثانية، ولهذا ينبغي أن نصحح (لؤلؤًا) ونجعلها بالجر بناءً على تفسير الجلال. ﴿مِنْ ذَهَبٍ﴾ مجرورة عندكم ﴿﴿ولؤلؤ﴾ ﴾. طيب ﴿﴿ولؤلؤ﴾ ﴾ ما الدليل على أنه ﴿﴿ولؤلؤ﴾ ﴾؟ لأنه قال: (مرصع)، لو أنه أراد قراءة النصب لقال: مرصعًا، إذن نقول: (لؤلؤ) فيها قراءتان سبعيتان؛ إحداهما بالنصب ﴿وَلُؤْلُؤًا﴾ وعلى هذا تكون معطوفة على محل أساور، يعي يحلون فيها أساور ولؤلؤًا، أساور من ذهب، ويحلون لؤلؤًا أيضًا، وأما بالجر ﴿﴿ولؤلؤٍ﴾ ﴾ فهي معطوفة على ﴿مِنْ ذَهَبٍ﴾ يعني: يحلون فيها أساور من نوعين؛ من ذهب ولؤلؤ، أضف إليها حلوا أساور من فضة تكون أساورهم من ثلاثة أنواع: من الذهب واللؤلؤ والفضة، ولا نشك أن السوار من الذهب مجمَّل، وفيه جمال لذاته، وكذلك السوار من الفضة، وكذلك السوار من اللؤلؤ، فكل واحد منها على حدة فيه جمال وتجميل، فإذا اجتمعت الثلاثة وصُف بعضها إلى بعض تولَّد من ذلك تجميل أكبر، ولا أحد يتصور كيف تجمع هذه الثلاثة هل يكون اللؤلؤ بين الذهب والفضة، أو الذهب بين اللؤلؤ والفضة، أو اللؤلؤ بينهما، المهم أن ترتيبها هذا لا أحد يتصوره الآن، لكن الذي نؤمن به أن هذه الثلاثة تجمع، أما كيف تجمع فالله أعلم به، لكننا أيضًا نعلم بأن جمعها أي الثلاثة له زيادة في التجميل. واعلم أن الذهب الذي يُذكَر في نعيم الجنة والفضة واللؤلؤ ليس كالذهب الذي نشاهده الآن أو الفضة أو اللؤلؤ، بل هو ذهب أعظم ذهب يليق بنعيم الجنة، كما أن النخل والرمان والفاكهة والعسل واللبن والخمر وما أشبه ذلك ليس كالذي يوجد في الدنيا، لماذا؟ لأن النعيم يناسب الدار، فإذا كانت دار الدنيا لا تشابه دار الآخرة فالنعيم الذي في الآخرة لا يساويه النعيم الذي في الدنيا، هذا من حيث المعقول، أما من حيث المنقول فقد قال الله تعالى: ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ﴾ [السجدة ١٧]، وفي الحديث القدسي: «أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ»[[متفق عليه؛ البخاري (٣٢٤٤)، ومسلم (٢٨٢٤ / ٢) من حديث أبي هريرة.]]، واضح، وأنتم تشاهدون الآن أنه لو جاءكم رجل فقير وصنع لكم أعلى ما يمكنه من الطعام الذي هو أحسن شيء عنده، ودعاكم رجل غني وصنع لكم أعلى ما يجد من الطعام عنده، لعرفتم الفرق العظيم بين هذا وهذا، مع أن كل واحد منهم أتى بكل ما يستطيع، كذلك الفرق بين نعيم الآخرة ونعيم الدنيا، فالذهب إذن يوافق الذهب في الدنيا في الاسم ولا يوافقه في الحقيقة، قال ابن عباس رضي الله عنهما: «ليس في الآخرة مما في الدنيا إلا الأسماء»[[أخرجه البيهقي في البعث والنشور (٣٣٢)، والزهد لهناد (٣) من حديث ابن عباس.]] فقط، أما الحقائق فتختلف. يقول: (﴿﴿مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤٍ﴾ ﴾ [فاطر: ٣٣] مرصع بالذهب) وقوله: (مرصع بالذهب) قد يعارَض المؤلف في ذلك؛ إذ قد يقال: إن اللؤلؤ مستقل، حلية مستقلة، ويدل لذلك قراءة النصب: ﴿وَلُؤْلُؤًا﴾، يعني يحلَّون لؤلؤًا، أما على قراءة الجر فما ذهب إليه المؤلف محتمل غير متعين، أنتم معنا الآن؟ طيب هو يرى رحمه الله أن اللؤلؤ ليس مستقلًّا، بل هو مرصع بالذهب كما يوجد في حلي الدنيا، ولكننا لا نسلم ما قال، بل ظاهر الآية الكريمة أن اللؤلؤ سوار مستقل، ويبين هذا قراءة النصب ﴿يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا﴾ [فاطر ٣٣]، يعني يحلون لؤلؤًا، فجعل حلية اللؤلؤ حليةً مستقلة. ﴿وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ﴾ [فاطر ٣٣] لما ذكر ما يُلبَس في اليد ذكر اللباس العام على جميع البدن، فقال: ﴿حَرِيرٌ﴾ لباسهم في الجنة حرير، وحرير الجنة ليس كحرير الدنيا الذي تفرزه أو تصنعه دودة القز، هو قابل لكل آفة، بل حرير الآخرة حرير لا يماثل شيئًا من حرير الدنيا أبدًا. ﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ﴾ [فاطر ٣٤] (قالوا) يعني أهل الجنة، ومتى يقولون ذلك؟ يقولون ذلك بعد دخول الجنة ﴿الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ﴾ الكائن في النفوس، وهو الهم أو الغم لما مضى، والخوف الهم لما يُستقبل، فهنا هل نقول: إن الحزن يشمل الغم مما مضى والهم مما يستقبل؟ نعم، نقول: نعم، كذلك في الجنة جميع ما مضى عليهم من الأحزان والهموم وغيرها ينسونه؛ كما جاء في الحديث الصحيح؛ أن الإنسان يُغمَس في الجنة -يُصبَغ صبغةً واحدةً- يغمس فيها فيقال له: هل رأيت شرًّا قط؟ فيقول: لا[[أخرجه مسلم (٢٨٠٧/ ٥٥) من حديث أنس بن مالك.]]، كل ما مضى من الشرور والأحزان والهموم كلها (...). الأول: كمال المحمود، والسبب الثاني: إنعام المحمود، بخلاف الشكر، فلأنه ليس له إلا سبب واحد، وهو إنعام المشكور. ولعلنا نتطرق إلى الفرق بين الحمد والشكر: الحمد قلنا: له سببان، فهو أعم من الشكر من حيث السبب؛ إذ إن سببه كمال المحمود وإنعام المحمود، الشكر ليس له إلا سبب واحد، وهو إنعام المشكور، فأيهما أعم؟ الحمد أعم؛ لأنه يكون على هذا وهذا، الشكر يكون بالقلب واللسان والجوارح: بالقلب: أن يعترف الإنسان بقلبه بنعمة المـنعم، باللسان: أن يشكره بلسانه ويثني عليه بلسانه، بالجوارح: أن يقوم بطاعته فلا يخالفه، وعليه قول الشاعر: ؎أَفَادَتْكُــــــمُ النَّعْـــــمَاءُ مِنِّيثَلَاثَةً ∗∗∗ يَدِي وَلِسَانِي وَالضَّمِيرَالْمُحَجَّبَا أما الحمد فلا يكون إلا باللسان؛ لأن الحمد وصف المحمود بالكمال، فلا يكون إلا باللسان، فأيهما أعم من هذه الناحية؟ * طالب: الشكر. * الشيخ: إذن الشكر أعم متعلقًا لأنه تعلق بالقلب واللسان والجوارح. * طالب: الحمد يتعلق بالقلب؟ * الشيخ: ربما يتعلق بالقلب، لكنه ما يسمى حمدًا، يعني من أضمر في نفسه الثناء على الله عز وجل ما يقال: حمد الله؛ إذ إنه لم يظهر، وربما يقول قائل: إنه يكون بالقلب، لكنه ليس بظاهر. يقول: ﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ﴾ [فاطر ٣٤] قال المؤلف: (جميعه) يشير إلى أن (أل) هنا لاستغراق العموم، و(أل) تكون لاستغراق العموم إذا صح أن يحل محلها (كل)، كلْ ولا كلّ؟ * طالب: ما الفرق؟ * الشيخ: الفرق: كلْ يعنى من الطعام، كلّ بالتشديد من الكلية. إذا صح أن يحل محل (أل): (كل) –بالتشديد- فهي للاستغراق. ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾ [العصر ٢] هذه للاستغراق. ﴿خُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا﴾ [النساء ٢٨] للاستغراق. ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ﴾ [النساء ٣٤] لا، ما هي للاستغراق، ما كل رجل قوام، أحيانًا تكون المرأة قوامة على الرجل، فهذه لبيان الحقيقة فقط. المؤلف أفادنا بقوله: (جميعه) أن (أل) هنا للاستغراق. (﴿إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ﴾ للذنوب ﴿شَكُورٌ﴾ للطاعة) هذه الجملة كما تشاهدون مؤكَّدة بمؤكدين؛ بـ(إن) واللام، فهم أكدوا بالثناء هذا على الله أنه سبحانه وتعالى غفور للذنوب شكور لها. الغفور هنا صيغة مبالغة ولَّا صفة مشبهة؟ هي تشمل الأمرين جميعًا، هي صيغة مبالغة لكثرة غفران الله تعالى للذنوب وكثرة من يغفر لهم، فهو كثير المغفرة للذنوب؛ إذ إن الذنوب تتكرر من الإنسان عدة مرات فيغفرها الله. والذين يغفر الله لهم كثيرون أو قليلون؟ كثيرون. ومن جهة أخرى باعتبار أن الله تعالى لم يزل غفورًا نقول: هي صفة مشبهة. * طالب: غفور للذنوب شكور له؟ * الشيخ: للطاعة، شكور للطاعة. وقوله: ﴿شَكُورٌ﴾ نقول فيها كما قلنا في (غفور) بأنه عز وجل لم يزل شكورًا على طاعة عباده وامتثالهم أمره، ومن شكره أنه يعطي العامل الحسنة بعشر أمثالها إلى سبع مئة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وهو أيضًا شكور باعتباره صيغة مبالغة؛ لأنه كلما كثُر العمل كثر الشكر. في ذكر ثواب أهل الجنة ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا﴾ [فاطر ٣٣] (...). النصب أن يكون التحلي باللؤلؤ لا يتعين أن يكون أساور؛ لأن تقدير الكلام يكون: يحلون فيها أساور ويحلون فيها لؤلؤًا، ومعلوم أن الحلية تكون بالأساور وتكون بغير ذلك، معلوم الآن؟ فصارت على قراءة النصب يتعين أن تكون منفردة عن الذهب، ثم يحتمل أن تكون أساور ويحتمل أن تكون غير أساور، هذا على قراءة النصب، وعلى قراءة الجر يحتمل أن تكون مركبة مع الذهب ﴿﴿من أساور من ذهب ولؤلؤٍ﴾ ﴾ [فاطر: ٣٣]، فتكون اللؤلؤ مرصعًا كما اختاره المؤلف، ويحتمل أن تكون أساور مستقلة، ما هي متعينة. قوله: ﴿وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ﴾ [فاطر ٣٣] وأشباهها من الآيات الدالة على نعيم الجنة، هل (...). ﴿الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ﴾ [فاطر ٣٥]، قوله: ﴿الَّذِي﴾ هنا يجوز أن تكون صفةً لما سبق، وهو الله، ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ﴾ [فاطر ٣٤] ﴿الَّذِي أَحَلَّنَا﴾ [فاطر ٣٥]، ويحتمل أن تكون استئنافًا، يعني أنها في محل رفع على القطع؛ لأن المنعوت إذا علم وتعدد النعت له جاز في النعت الثاني القطع والإتباع، كما قال ابن مالك: ؎وَإِنْ نُعُوتٌ كَثُرَتْ وَقَدْ تَلَتْ ∗∗∗ مُفْتَـــــــــقِرًا لِذِكْــــــرِهِنَّأُتْبِعَـــــــتْ وإن لم يكن مفتقرًا جاز القطع ﴿الَّذِي أَحَلَّنَا﴾ أي: أنزلنا ﴿دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ﴾ [فاطر ٣٥] دار المـقامة، المقامة هنا بمعنى الإقامة، فهي إذن ظرف مكان، أو أنها مصدر ميمي دخلته التاء، ودار المقامة هي دار الجنة، ووُصفت بذلك لأن ساكنيها مقيمون فيها أبدًا، ولأنهم لا يريدون الإقامة بغيرها، كل واحد منهم لا يبغي حولًا عما هو فيه؛ لأنه يرى أنه أكمل أهل الجنة، نعم، بل إن الله أقنعهم بما هم عليه من النعيم حتى لا يتطلعوا إلى نعيم أكبر فيحتقروا ما هم فيه، بخلاف أهل النار؛ فإن أهل النار كل واحد منهم يرى أنه أشد أهل النار عذابًا؛ لأنه لو يرى أن غيره يماثله أو أن غيره أشد منه لهان عليه العذاب، ﴿الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ﴾ (من) سببية هنا، أي: بسبب فضله، أي: تفضله علينا؛ لأنه لولا فضل الله عليهم ما وصلوا إلى هذا المقام العظيم، فكل ما في الإنسان من خير ونعمة فمن الله سبحانه وتعالى؛ كما قال تعالى: ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ﴾ [النحل ٥٣]، فإحلالهم دار المقامة هو من فضل الله تعالى، وهذا من تمام شكرهم لله، حيث اعترفوا له بالفضل، بخلاف الذي إذا أصابته النعماء قال: هذا لي أو هذا من عندي أو ما أشبه ذلك. (﴿لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ﴾ تعب ﴿وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ﴾ [فاطر ٣٥] إعياء من التعب) لا يمسنا فيها نصب، أي: تعب، ومعنى يمسنا أي: يصيبنا؛ كما قال الله تعالى: ﴿إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ﴾ [التوبة ٥٠]، فالمس بمعنى الإصابة، وقوله: ﴿نَصَبٌ﴾ (تعب) ﴿لُغُوبٌ﴾ (إعياء)؛ لأن هناك تعبًا مباشرًا ينال الإنسان حين الفعل، وإعياءً يكون أثرًا للتعب، أليس كذلك؟ أنت إذا مارست عملًا شاقًّا فإنك حين ممارسته تتعب، ثم بعد انتهائه تعيى، يعني تضعف وتخلد إلى الراحة وإلى النوم، في الجنة ليس فيها نصب، يعني: تعب بدني حين مزاولة الأعمال، ولا لغوب أي: إعياء وهو الناتج عن التعب. قال: (إعياء من التعب لعدم التكليف فيها) هذا تعليل عليل؛ لأن التكليف حتى في الدنيا غالبه ليس فيه تعب، بل إن بعضه يكون راحةً للبدن وراحة للقلب وتنشيطًا للبدن وصحةً له، وليس هذا هو المقصود الأول في العبادات، لكنه يحصل من ممارسة العبادة يحصل من ذلك النشاط والصحة، كما هو موجود مثلًا في الصلاة، موجود في الصيام، موجود في الحج، فليس هناك تعب في الأعمال الصالحة، بل نقول: ﴿لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ﴾ هذا من باب الصفات السلبية المتضمنة لكمال ضدها، فلا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيه لغوب لكمال نعيمهم وراحتهم وأنسهم وفرحهم وما أشبه ذلك. يقول: (لعدم التكليف فيها، وذكر الثاني التابع للأول للتصريح بنفيه) ذكر الثاني وهو اللغوب التابع للأول وهو التعب؛ لأن اللغوب -كما قلنا قبل قليل- نتيجة التعب، فكأن المؤلف أجاب عن سؤال؛ كأنه قيل: إذا انتفى التعب انتفى اللغوب الذي هو نتيجته، فلماذا لم يقتصر على نفي التعب؟ وقيل: لا يمسنا فيها نصب، وإذا انتفى النصب انتفى اللغوب؟ واضح؟ أجاب عن ذلك بأنه ذكر من أجل التصريح بنفيه، هذا ما ذهب إليه المؤلف، ولا شك أنه وجه حسن، لكن ربما نقول: إن الإنسان أحيانًا يجد إعياءً وكسلًا وموتَ قوًى بدون عمل وبدون تعب، وهذا مشاهَد، وعليه فيكون نفي اللغوب أمرًا ليس تأكيدًا وإنما هو أمر أساسي، كيف أمر أساسي؟ لأن الإنسان قد يجد إعياءً أحيانا وهو ما اشتغل، ألم تجدوا ذلك؟ إذن نقول: إن ذكره أساسي وليس من باب التصريح بنفيه الذي لا يقصد منه إلا مجرد التوكيد، المهم أن أهل الجنة لكمال نعيمهم لا يمسهم فيها نصب ولا يمسهم فيها لغوب. ثم قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ﴾ [فاطر ٣٦] فثنَّى بذكر عقاب أهل النار؛ لأن القرآن مثانٍ، كلما ذكر فيه معنًى ذكر فيه ما يقابله. ولا تكاد تجد آيات في القرآن يُذكر فيها معنًى إلا وذُكر ما يقابله؛ لأن القرآن مثانٍ؛ لئلا تتمادى النفس في الرجاء إذا ذُكر النعيم وحدَه؛ فإن النفس تتمادى في الرجاء وحينئذ تأمن مكر الله، ولو ذُكر الوعيد وحده لتمادت النفس في الخوف فقنطت من رحمة الله، ولكن الله سبحانه وتعالى يذكر هذا تارة وهذا تارة حتى يكون الإنسان سائرًا من غير ميل إلى الرجاء، ومن غير ميل إلى الغلو. وهذه المسألة اختلف العباد فيها؛ هل الأولى أن يسير الإنسان إلى ربه بين الخوف والرجاء فيكون خائفًا راجيًا، أو الأولى أن يغلب الرجاء إحسانًا للظن بالله عز وجل، أو الأولى أن يغلب الخوف؟ نعم في هذا خلاف بين العلماء؛ الإمام أحمد رُوي عنه أنه قال: ينبغي أن يكون خوفه ورجاؤه واحدًا، فأيهما غلب هلك صاحبه؛ لأنه إن غلب الرجاء أمن الإنسان من مكر الله، وإن غلب الخوف قنط من رحمة الله، فيكون خوفه ورجاؤه واحدًا، قالوا: فالخوف والرجاء كالجناحين للطائر؛ إن هبط أحدهما مال الطائر إليه واختل توازنه، وإن تساويا استقام الطائر واعتدل توازنه. وقال بعض أهل العلم: بل هذا يختلف باختلاف الأحوال، فإذا فعل الإنسان الطاعة فليغلب الرجاء وأن الذي وفقه لها سوف يقبلها منه ويثيبه عليها؛ كما قال الله تعالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [غافر ٦٠]، إذا وُفقت للدعاء وُفقت للإجابة، إذا وُفقت للعمل وُفقت للقبول، وإذا عمل المعصية فليغلِّب جانب الخوف وليرجع إلى ربه؛ لأنه إن غلب جانب الرجاء بعد فعل المعصية فإنه لا يتوب منها، ويقول: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء ٤٨]، ويقول: الله غفور رحيم، وما أشبه ذلك. فيكون تغليب الرجاء في حال وتغليب الخوف في حال أخرى. وقال بعض العلماء: يغلِّب الخوف في حال، والرجاء في حال، لكن لا باعتبار العمل، بل باعتبار الحال، فإذا كان مريضًا فليغلب جانب الرجاء؛ لقول النبي ﷺ: «لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللهِ»[[أخرجه مسلم (٢٨٧٧ / ٨٢) من حديث جابر بن عبد الله الأنصاري.]]، وإن كان صحيحًا فليغلب جانب الخوف، والمناسبة قالوا: لأن المريض تضعف نفسه وتنكسر وليس يميل إلى الدنيا ولكنه يهتم بما أمامه، فليغلب جانب الرجاء، ليس هناك نفس تتطلع إلى الدنيا وتنغمس في الترف، بل نفسه قد رقت وآوت إلى الآخرة، وأما إذا كان صحيحًا فإن النفس الآن فيها شره وتطلع للدنيا وإسرافها، فيغلب جانب الخوف. على كل حال ممكن أن نقول: إذا وُجدت أسباب يخاف الإنسان على نفسه من تغليب جانب الرجاء فليقدم الخوف، وإن وجدت أسباب تقتضي أن يخاف الإنسان وييئس من رحمة الله فليغلب جانب الرجاء، يعني إذا فعل أسباب الرجاء فليغلب الرجاء، وإذا وُجدت أسباب الخوف فليغلب جانب الخوف. وقبل أن ندخل فيما أعد الله تعالى لأهل النار فيها نرجع لنأخذ الفوائد لأننا لم نأخذ الفوائد فيما سبق، أليس كذلك؟ من ﴿مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾ [فاطر ٣١]. * مِن فوائد هذه الآية الكريمة: إثبات أن القرآن كلام الله عز وجل؛ لقوله: ﴿وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾ [فاطر ٣١]، فالوحي إعلام الله سبحانه وتعالى أحد أنبيائه بشريعة من شرائعه، وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة؛ أن القرآن كلام الله تعالى، تكلم به حقيقة بحروفه وبصوت مسموع، لكنه لا يشبه أصوات المخلوقين. * ومن فوائدِها: فضيلة رسول الله صلى لله عليه وسلم، بماذا؟ بما أوحى الله إليه هذا القرآن العظيم ﴿وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾ [فاطر ٣١]. * ومن فوائدِها: اشتمال القرآن الكريم على الحق في أخباره وفي أحكامه، فأخباره كلها صدق، وأحكامه كلها عدل. * ومن فوائدها: أن ما خالف القرآن فهو باطل؛ لقوله: ﴿هُوَ الْحَقُّ﴾ فحصر الحق فيه، والحصر: إثبات الحكم في المذكور ونفيه عما سواه، وكل ما خالف القرآن فهو باطل بلا شك. * ومِن فوائد الآية الكريمة: إنذار المخالفين لهذا القرآن وبشارة الموافقين له، واستفاد هذه الفائدة من قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾ [فاطر ٣١]. * ومِن فوائدها: إثبات هذين الاسمين لله عز وجل وما تضمناه من صفة وحكم: خبير وبصير. * ومن فوائدها: عموم علم الله وشموله حتى لما يقوم به العباد؛ لقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾. * ومن فوائدها: علم الله تعالى بما تكنه الصدور، من أي الاسمين تؤخذ؟ من قوله: خبير، وربما نقول أيضًا: وبصير؛ لأن البصير بمعنى العليم والـمبصر. * ومِن فوائد الآية الكريمة: أن جميع الخلق عابدون لله، كل الخلق، كلهم عباد الله ﴿إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾ [فاطر ٣١]، فلا حق لأحد من المخلوقين في شيء من خصائص الرب، بل الكل عبد ذليل لله سبحانه وتعالى. * ومن فوائد الآية الكريمة: أن القرآن كتاب، أي: مكتوب، وهو مكتوب في اللوح المحفوظ، ومكتوب في الصحف التي بأيدي الملائكة، ومكتوب في الصحف التي بأيدينا. ثم قال تعالى: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ﴾ [فاطر ٣٢] * من فوائد الآية الكريمة: أن هذا القرآن مصدق لما سبقه من الكتب؛ لقوله: ﴿مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ [فاطر ٣١]. ويتفرع على هذه الفائدة أن الذي يؤمن بهذا القرآن مؤمن بالكتب السابقة؛ لأن هذا القرآن مصدق لها، فيكون الإيمان به إيمانًا بما سبق من الكتب. * ومِن فوائد الآية الكريمة: الاستشهاد بالأمر الواقع، حتى وإن كان من عند الله، بمعنى أن الله تعالى يستشهد بالأمر الواقع ليزداد إيمان المؤمنين، وجه ذلك ﴿مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ [فاطر ٣١] على أحد المعنيين، وهما أنه وقع مطابقًا لما أخبرت به، فإنه إذا أخبرت به ثم جاء فهذا دليل على صدقه؛ كما قال الله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ [الشعراء ١٩٧]، فاستشهد الله تعالى بعلم علماء بني إسرائيل زيادةً في التثبيت وإقامةً للحجة على المنكرين أهل الكتاب. * ومِن فوائد الآية الكريمة: رحمة الله تعالى بعباده، حيث لم يدعهم هملًا، بل أنزل إليهم الكتب التي يستنيرون بها في سيرهم إلى الله عز وجل؛ لقوله: ﴿لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾. * ومِن فوائد الآية الكريمة: سعة التعبير في اللغة العربية، وأن المقصود المعنى دون مجرد اللفظ؛ لقوله: ﴿لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ لأنه قد يقول قائل: وهل للقرآن يد؟ فالجواب أن هذا من باب التوسع في التعبير في اللغة العربية، عرفتم؟ وأن المقصود هو المعنى، والألفاظ قوالب تدل على المعنى، قوالب الشيء يعني معناه: أوانيه التي يجعل فيها، فأنت مثلًا إذا قدم إليك كرتون مزخرف مزين بالذهب تستدل بهذا على ما في باطنه وأنه شيء غال طيب، فالألفاظ في الواقع قوالب يستدل بها على ما تضمنته من المعاني، وليس لها -أي للألفاظ- معنى ذاتي حتى لا تتغير بأي تركيب كانت، بل هي تتغير بحسب التركيبات والسياق. ثم قال الله عز وجل: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا﴾ [فاطر ٣٢]. * يُستفاد مِن هذا الآية: فضل الله عز وجل على هذه الأمة، حيث أورثها هذا الكتاب العظيم الذي وصفه الله بأنه الحق وأنه مصدق لما بين يديه أورثه الله تعالى هذه الأمة، ففي ذلك بيان فضل الله علينا بهذا الإرث. * ومن فوائدها: أن هذه الأمة أفضل الأمم؛ لقوله: ﴿الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا﴾ وهم هذه الأمة، واستدللنا لذلك أيضًا بآية أخرى وهي ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران ١١٠]. * ومن فوائد الآية الكريمة: الإشارة إلى الفترة بين عيسى ومحمد ﷺ، من أين تؤخذ؟ من (ثم) الدالة على التراخي، وهو كذلك، ولا نعلم فترةً أطول منها بالنسبة لما بين الرسالات والكتب المنزلة، فقد قيل: إن أطول ما كان بين آدم ونوح، وهذا أمر قد يشك فيه الإنسان، لكن ما بين عيسى ومحمد عليه الصلاة والسلام حوالي ست مئة سنة، وإنما طالت الفترة لتشتد حال الناس إلى إرسال الرسل، فتأتي الرسالة المحمدية إلى قوم في غاية الضرورة إلى الرسالة والوحي، ويكون لرسالته مزية عظيمة، حيث جاءت كالمطر ينزل على أرض مجدبة، فتكون أشد قابلية له وأشد تأثرًا به (...). خلقت له، بل معناها يختلف بحسب السياق، وعلى هذا فلا مجال، ما دام أن المعنى مفهوم فلا مجال، ولهذا تجد أن الكلمة في معناها المفهوم بالسياق لو أنك أردت أن تحولها إلى المعنى الأصلي ما صح (...). في استخراج الفوائد من الآيات السابقة، من الآية (...). الكريم أيضًا تقسيم هذه الأمة إلى ثلاثة أقسام: ظالم لنفسه ومقتصد وسابق بالخيرات. * ومنها، أي من فوائدها: الرد على الخوارج والمعتزلة؛ لقوله: ﴿فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ﴾ [فاطر ٣٢] وجعلهم من الذين اصطفاهم الله تعالى من عباده، ولو خرجوا من الإسلام لم يكونوا من المصطفين، قد يقول قائل: يمكن أن يعارض الخوارج والمعتزلة هذا الاستدلال بأن يقولوا: إن المراد بالظلم هنا ما دون الكبائر، فيقال: إن ما دون الكبائر يقع مغفورًا بفعل الطاعات؛ كالصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان، وحينئذ ينتفي الظلم بمجرد فعل هذه الطاعات. ثم نقول قولًا آخر بأن الآية مطلقة تشمل الظلم الأصغر والظلم الأكبر، ففيها رد على الخوارج والمعتزلة الذين يكفرون أو يخرجون الإنسان بالكبيرة من الإسلام، وحينئذ لا يكون من العباد الذين اصطفوا. * ومن فوائد الآية الكريمة: أن كل عمل يقوم به الإنسان فهو بإذن الله عز وجل وإرادته؛ لقوله: ﴿بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [فاطر ٣٢]، وفيها الرد على القدرية الذين يقولون: إن الإنسان مستقل بعمله؛ يقول ويفعل ويترك بغير إذن الله، بل هو مستقل بمشيئته وفعله. * ومِن فوائدها أيضًا: كبح النفس عن الاستعلاء والفخر بالطاعة؛ لقوله: ﴿بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [فاطر ٣٢] حتى لا يقول الإنسان: فعلت ذلك من نفسي وأنا الذي فعلت وفعلت، وهذا خلافًا لما يسير عليه بعض الناس، إذا فعل المعصية كان جبريًّا، وإذا فعل الطاعة كان قدريًّا، إذا فعل الطاعة قال: هذا مني وأنا الذي فعلت وأنا الذي فعلت، وإذا فعل المعصية قال: هذا من الله وأنا مجبر عليه، فبعض الناس يسلك هذا المسلك، وهذا مسلك بعيد من العدل. * ومِن فوائد الآية الكريمة: إثبات عموم مشيئة الله عز وجل حتى في أفعال العبد؛ لقوله: ﴿بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [فاطر ٣٢]. * ومن فوائدها: تفاضل الناس في العمل، ويتفرع عليه تفاضلهم في الإيمان، أين الدليل على تفاضلهم في العمل؟ تقسيمهم إلى ثلاثة أقسام، ويلزم من تفاضلهم في العلم أن يتفاضلوا في الإيمان، فيكون في ذلك دليل لمذهب أهل السنة والجماعة القائلين بزيادة الإيمان ونقص الإيمان. * ومن فوائد الآية الكريمة: أن أكبر فضل يتفضل الله به على عبده أن يوفقه للقيام بطاعته؛ لقوله: ﴿ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ﴾ [فاطر ٣٢]، وقد أشار الله تعالى إلى هذا المعنى في قوله: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [يونس ٥٨]. * ومِن فوائدها أيضًا: أن إفضال الله على عباده يتفاضل؛ فمنه الكبير ومنه الصغير، وهذا أمر مشاهد؛ ففضل الله على الرسل أعلى من فضله على الأنبياء، وعلى الأنبياء أعلى من فضله على الصديقين، وعلى الصديقين أعلى من فضله على الشهداء، وعلى الشهداء أعلى من الصالحين، وهذا لا شك فيه. ثم قال الله تعالى: ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا﴾ [فاطر ٣٣] إلى آخره. * مِن فوائد الآية الكريمة: أن جزاء أولئك القوم الذين أورثوا الكتاب على اختلاف طبقاتهم الثلاث أن جزاءهم جنات عدن؛ لقوله: ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا﴾، أو ﴿يُدْخَلُونها﴾، على قراءتين، ومنها الإشارة إلى كمال نعيم الجنة؛ لكونها جنات بهيجة، وكونها محل إقامة لا ظعن منها أبدًا؛ لقوله: ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ﴾. * ومن فوائدِها أيضًا: ما ينعم الله به على عباده في هذه الجنات من أنواع الفواكه والمطاعم؛ لدخوله في كلمة ﴿جَنَّاتُ﴾، وكذلك من الملابس؛ لقوله: ﴿يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا﴾ [فاطر ٣٣]. * ومِن فوائدها: أن الجنة ليست دار تكليف، أي: دارًا يمنع منها العبد مما يتنعم به، بل يتنعم بكل ما شاء؛ لأننا نعلم جميعًا أن تحلي الرجال في الدنيا بالذهب ممنوع وحرام، لكنه في الجنة مباح وممنوح وليس بممنوع؛ لأن الجنة لهم فيها ما يشاءون، بل أكثر مما يشاءون ويريدون. ومنها ما يحصل من الجمال لتنويع الحلي؛ لكونه من ذهب ولؤلؤ، وفي الآية الأخرى فضة، وهنا لم يذكر الله تعالى تحديد هذه الحلية، لكن جاءت بها السنة، حيث قال النبي عليه الصلاة والسلام: «تَبْلُغُ الْحِلْيَةُ مِنَ الْمُؤْمِنِ حَيْثُ يَبْلُغُ الْوُضُوءَ»[[أخرجه مسلم (٢٥٠ / ٤٠) من حديث أبي هريرة.]]، ومنها نعومة لباسهم وأنه أنعم ما يكون من اللباس؛ لقوله: ﴿وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ﴾ [فاطر ٣٣] حرير لا يخلق ولا يتدنس، بل هو دائمًا على جدته ونظافته. ثم قال الله تعالى: ﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ﴾ [فاطر ٣٤]. * مِن فوائد الآية الكريمة: فضيلة أهل الجنة في ثنائهم على ربهم في قولهم: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ﴾. * ومن فوائدها أيضًا: أن حمد الله تعالى يكون على إنعامه وإفضاله وعلى كمال صفاته، فهنا قالوا: ﴿الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ﴾، فحمدوا الله على إنعامه عليهم وعلى كونه غفورًا شكورًا. * ومن فوائد الآية الكريمة: كمال الفرح والسرور لأهل الجنة؛ لقولهم: ﴿أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ﴾؛ فإن هذه الصفة السلبية تدل على كمال ضدها، فإذا كان الحزن منفيًّا عنهم كان ذلك دليلًا على كمال سرورهم وأنه سرور لا يشاب بحزن أبدًا، بخلاف سرور الدنيا؛ فإن سرور الدنيا مهما عظم مشوب بالكدر، ولهذا يقول الشاعر الحكيم: ؎لَا طِيبَ لِلْعَيْشِ مَا دَامَتْ مُنَغَّصَةً ∗∗∗ لَذَّاتُهُ بِادِّكَــــارِ الْمَــــــوْتِوَالْهَــــــــــرَمِ نعم، الإنسان مهما كان في الدنيا من النعيم فإنه إذا تذكر أن أمامه شيئين لا بد منهما، لا بد من أحدهما قطعًا، فإن طالت به الحياة فلا بد من الأمرين جميعًا، وهو الهرم والموت، وحينئذ تتنغص عليه حياته. ثم هو أيضًا يعرف أنه كل يوم يمضي عليه فإنه يبعده من الدنيا ويقربه من الآخرة، وهذا تنغيص آخر، ولهذا قال الشاعر: ؎وَالْمَـــــرْءُ يَفْـــــرَحُ بِالْأَيَّامِيَقْــطَعُهَا ∗∗∗ وَكُلُّ يَوْمٍ مَضَى يُدْنِي مِنَالْأَجَلِ نعم، على كل حال في الآخرة نعيم لا كدر فيه؛ لقوله: ﴿أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ﴾ [فاطر ٣٤]. * ومِن فوائدِها: أن نعيم الآخرة ينسي كل ما سبقه من حزن؛ لقوله: ﴿أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ﴾ [فاطر ٣٤]، وذهاب الحزن هنا ذهاب لما قد وُجد ولما يُتوقع وجوده، فلا يمكن أن يمسه فيها حزن. * ومِن فوائد الآية الكريمة: إثبات اسمين من أسماء الله، وهما الغفور والشكور، الغفور في جانب المعاصي والشكور في جانب الطاعات، أما في المعاصي فإنه عز وجل قال في الحديث القدسي: «يَا ابْنَ آدَمَ، لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ، ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَغَفَرْتُ لَكَ»[[أخرجه الترمذي (٣٥٤٠)، والطبراني في الأوسط (٤٣٠٥) من حديث أنس بن مالك.]]. أما في الطاعات فإن الله تعالى يقول: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا﴾ [الأنعام ١٦٠]، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: «إِنَّ فَاعِلَ الْحَسَنَةِ تُكْتَبُ لَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِ مِئَةِ ضِعْفٍ، إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ»[[متفق عليه؛ البخاري (٦٤٩١)، ومسلم (١٣١ / ٢٠٧) من حديث ابن عباس.]]. ثم قال تعالى: ﴿الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ﴾ [فاطر ٣٥] فيها فضيلة أهل الجنة بإضافتهم النعيم إلى المــنعم به، من أين؟ ﴿الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ﴾ [فاطر ٣٥]، فنسبوا الأمر إلى الله وإلى فضله ﴿الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ﴾ [فاطر ٣٥] وهذا غاية الثناء والحمد. * ومن فوائدها: أن دار الجنة دار إقامة، كل إنسان لا يتمنى أن يزول عن مكانه منها، حتى من كان في الدرجات غير العالية يرون أنهم في أكمل النعيم؛ لقوله: ﴿دَارَ الْمُقَامَةِ﴾، ومنها تأبيد الجنة لإطلاق قوله: ﴿الْمُقَامَةِ﴾ ولم تقيد بزمن. * ومِنها؛ من فوائد الآية: أن بلوغهم إلى هذه الدار ليس بحولهم وقوتهم، ولكن بفضل الله عز وجل؛ لقوله: ﴿مِنْ فَضْلِهِ﴾. * ومن فوائدها: إثبات الأسباب؛ لأن (من) هنا سببية، أي: بفضل الله، ففيها رد على من ينكرون الأسباب ويقولون: إن الأسباب لا تأثير لها، وإنما يحصل الشيء عندها، لا بها. * ومِن فوائدها: أن الإنسان لا يدخل الجنة بعمله؛ لقوله: ﴿مِنْ فَضْلِهِ﴾، ولكن قد يشكل على هذا قوله تعالى: ﴿جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [السجدة ١٧] ﴿ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [النحل ٣٢] وأشباههما من الآيات. وقد جمع العلماء بينهما بأن الباء في قوله: ﴿ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ الباء للسببية، وأن الباء في قول الرسول عليه الصلاة والسلام: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَحَدٌ بِعَمَلِهِ»[[متفق عليه؛ البخاري (٥٦٧٣)، ومسلم (٢٥٧٤) من حديث أبي هريرة.]] للعوض، يعني أن دخول الإنسان الجنة ليس بعمله؛ إذ لو أنه أريدت المعاوضة لهلك الإنسان، لو أن الإنسان نُوقش في عمله بالإضافة إلى نعمة الله عليه لكانت نعمة واحدة تقابل كل العمل، بل لكان العمل نفسه نعمة يحتاج إلى شكر، ولَّا لا؟ لأن توفيق الله عز وجل للعبد..
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب