الباحث القرآني

ثم قال تعالى: (﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً﴾ [فاطر ٢٩] زكاةً وغيرها ﴿يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ﴾ تهلك) الإعراب في هذه الآية واضح، ما فيه إشكال إلا أن قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ﴾ تحتاج إلى خبر، فما هو الخبر؟ الخبر جملة ﴿يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ﴾ فهذا هو الصحيح من أقوال المعربين؛ يعني: إن هؤلاء فعلوا ذلك يرجون تجارةً لن تبور، فجملة ﴿يَرْجُونَ﴾ هي خبر ﴿إِنَّ﴾. قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ﴾ قال المؤلف: (يقرؤون). والصواب أن التلاوة أعم من القراءة، فالتلاوة نوعان تلاوة لفظية وهي القراءة، وتلاوة عملية وهي اتباع القرآن تصديقًا للخبر وامتثالًا للأمر؛ ولهذا يقال: تلاه بمعنى تبعه؛ أي: جاء بعده، فالتلاوة أعم من القراءة، وهو التلاوة نوعان؛ تلاوة لفظية، وتلاوة عملية: تلاوة لفظية أن يقرأ الإنسان القرآن، والتلاوة العملية أن يتَّبعه بامتثال أوامره وتصديق أخباره أو بموافقته، وتصديق أخباره، التلاوة العملية تستلزم فهم المعنى ولَّا لا؟ نعم؛ لأنه لا يمكن أن يعمل إلا بما يفهم، وعلى هذا يكون فعل الصحابة رضي الله عنهم تطبيقًا لهذه الآية تمامًا؛ لأنهم لا يتجاوزون عشر آيات حتى يتعلموها وما فيها من العلم والعمل قالوا: «فَتَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ وَالْعِلْمَ وَالْعَمَلَ جَمِيعًا»[[أخرجه الطحاوي في مشكل الآثار (١٤٥٢) والفريابي في فضائل القرآن (١٦٩) من حديث أبي عبد الرحمن السلمي.]]. يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ﴾ فعل مضارع يدل على الاستمرار بخلاف ما لو قال: إن الذين تلوا في الماضي فإنه لا يفيد المعنى الذي يفيده المضارع ﴿يَتْلُونَ﴾. وقوله: ﴿كِتَابَ اللَّهِ﴾ هل هو القرآن أو هو أعم من ذلك؟ الجواب: أعم من ذلك. ﴿كِتَابَ اللَّهِ﴾ الكتب التي أنزلها الله تعالى على الرسل، فيشمل جميع الكتب؛ لأن هذا الحكم يشمل المؤمنين من هذه الأمة والمؤمنين ممن سبقهم، فيكون المراد بالكتاب هنا ﴿كِتَابَ اللَّهِ﴾ المراد به كل كتاب أنزله الله تعالى على رسله. ﴿يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ﴾ معطوفة على ﴿يَتْلُونَ﴾. قال المؤلف: (أداموها)، والصواب خلاف ما قاله المؤلف؛ يعني معناه أننا نختار كلمةً أشد مطابقةً للفظ، أقاموا الصلاة أي أتوا بها مستقيمة، فيشمل فِعْل الصلاة تامةً بشروطها وأركانها وواجباتها ومستحباتها، ويشمل الإدامة ولَّا لا؟ يشمل الإدامة أيضًا؛ لأن الإدامة من الإقامة، وعلى هذا نقول: (أقاموا الصلاة)؛ أي: فعلوها قائمةً أي مستقيمة على الوجه المطلوب منهم، لو أن الإنسان أدام الصلاة لكن يُخِل بأركانها أو واجباتها، فهل يُقال: إنه أقام الصلاة؟ لا، فالرجل الذي جاء يصلي ولا يطمئن كان يصلي هذه الصلاة منذ أسلم والرسول عليه الصلاة والسلام قال له: «صَلِّ؛ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ»[[متفق عليه؛ البخاري (٧٥٧)، ومسلم (٣٩٧ / ٤٥) من حديث أبي هريرة.]]. مع أنه يُديم الصلاة ويصلي لكنه لم يُصَلِّ حيث إنه لم يأتِ بها قائمةً على الوجه المطلوب، فالصواب أن الإقامة هنا بمعنى أن يفعلها على الوجه المطلوب منه، والصلاة معروفة للجميع لا تحتاج إلى تعريف؛ لأنها عبادة ذات أقوال وأفعال معلومة مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسليم. قال: ﴿وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً﴾ أنفقوا بمعنى بذلوا وأخرجوا. ﴿مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ﴾ مما أعطيناهم؛ لأن الرزق بمعنى العطاء. وقوله: ﴿مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ﴾ هل (مِن) لبيان الجنس أو هي للتبعيض؟ الأَوْلى أن نجعلها لبيان الجنس؛ لتشمل ما لو أنفقوا جميع أموالهم على الوجه الذي يرضاه الله ورسوله فإنهم يدخلون في هذا الوصف. وقوله: ﴿سِرًّا وَعَلَانِيَةً﴾ ﴿سِرًّا﴾ مصدر، ولكنها في موضع الحال؛ أي: مُسِرِّين ومعلنين؛ الإسرار أن يخفوا الإنفاق فلا يعلم به إلا الْمُنفَق عليه، والإعلان أن يُظهِروه للناس إما إظهارًا كاملًا شاملًا، وإما أن يكون إظهارًا نسبيًّا يعلم به من حولهم، كل ذلك يمدحون عليه، وسيأتي إن شاء الله في ذكر الفوائد أن هذا يكون بحسب الحال. قال: (زكاةً وغيرها)، غير الزكاة كالإنفاق الواجب على الأقارب وكصدقات التطوع، فالإنفاق هنا شامل. قال: ﴿يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ﴾ ﴿يَرْجُونَ﴾ يعني يُؤَمِّلون، ويطلبون منه هذه التجارة. ﴿تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ﴾ أي: لن تهلك كما قال المؤلف، ما هذه التجارة؟ التجارة ذكرها الله عز وجل في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (١٠) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ [الصف ١٠ - ١٢]، فهنا عِوَض ومُعَوَّض؛ العِوَض الإيمان بالله والجهاد في سبيله، الْمُعَوَّض ﴿يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً﴾ [الصف ١٢]، هذه التجارة لا شك أنها أربح التجارات، وأنها أبقى التجارات، أربح التجارات؛ لأن الربح فيها العشر مئة ولَّا لا؟ الحسنة بعشر أمثالها إلى سبع مئة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وأبقى كذلك هي أبقى التجارات بلا شك؛ لأنها في جنات عدن؛ أي: في جنات إقامة لا ظعن فيها، والله أعلم. ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ﴾ إلى آخره، ما المراد بتلاوة (...). * يستفاد من هذه الآية فوائد، منها: فضل تلاوة كتاب الله عز وجل؛ لقوله: ﴿يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ﴾. * ومنها: أن الرجاء ينبغي أن يكون في محله، بحيث يكون الإنسان قد عمل عملًا يرجو الثواب عليه، أما الرجاء بدون عمل فهو من التمني الذي لا ينفع العبد، وفي الحديث: «الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ الْأَمَانِيَّ»[[أخرجه الترمذي (٢٤٥٩) وابن ماجه (٤٢٦٠) من حديث شداد بن أوس.]]. فلا رجاء إلا بعمل، وفي الحديث الصحيح أيضًا: «لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللَّهِ»[[أخرجه مسلم (٢٨٧٧ / ٨٢) من حديث جابر بن عبد الله.]]، وفي الحديث الصحيح: «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي»[[متفق عليه؛ البخاري (٧٤٠٥)، ومسلم (٢٦٧٥ / ٢) من حديث أبي هريرة.]]. وكل هذه النصوص وما أشبهها إنما تكون فيمن يعمل ما يمكن أن يرجو به ذلك، وأن يُحسِن به الظن، لو أن أحدًا أساء واستكبر عن عبادة الله وقال: أنا أُحسِن الظن بالله، لكان هذا ظن وهم لا بد من شيء يبني عليه هذا الظن، لو قال: أنا أرجو رحمة الله. قلنا: هذا وَهْم حتى تعمل؛ ولهذا قال تعالى في سورة البقرة: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ﴾ [البقرة ٢١٨] هؤلاء هم الذين يرجون، وهنا أيضًا مثلها. * من فوائد الآية الكريمة: أن الثواب في الآخرة لا ينقطع؛ لقوله: ﴿لَنْ تَبُورَ﴾ بل ربما نقول: إن هذا أعم بحيث يُثاب الإنسان في الدنيا ثوابًا مستمرًّا إلى الآخرة؛ لأن الحسنات قد يرى الإنسان ثوابها في الدنيا، وثوابها في الدنيا يستمر إلى الثواب في الآخرة كما قال الله تعالى: ﴿كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (٣١) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ﴾ [النحل ٣١، ٣٢]. * ومن فوائد الآية الكريمة: فضْل إقامة الصلاة؛ لقوله: ﴿وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ﴾، وهو شامل -كما قلنا في التفسير- شامل لفرض الصلاة ونفلها، فما تُقام به الفريضة تُقام به النافلة، وما تقام به النافلة تُقام به الفريضة إلا بدليل يدل على الفرق بينهما، وأظننا قد جمعنا الفروق بين فرْض الصلاة ونفلها فبلغت ثمانيةً وعشرين فرْقًا؛ منها ما هو واضح دلت عليه السنة، ومنها ما هو دون ذلك، المهم أن الأصل أن إقامة الفريضة إقامة للنافلة، وإقامة النافلة إقامة للفريضة، هذا الأصل، فما ثبت في إحداهما ثبت في الثاني إلا بدليل. * ومن فوائد الآية الكريمة أيضًا: فضيلة الإنفاق؛ لأنه أعقب الصلاة به، ﴿وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا﴾، وهو يدل على أن هذا الإنفاق يشمل الزكاة وغير الزكاة؛ لأن الله تعالى يقرن دائمًا في الذكر بين الصلاة والزكاة. * ومن فوائد الآية الكريمة: أن المنفِق ليس مانًّا على الله عز وجل؛ لأنه إنما ينفق مما رزقه الله، فمهما بلغت بك نفسك من الإعجاب والكبرياء على إنفاقك فاذكر قوله: ﴿مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ﴾ كل شيء تنفقه فليس لك فيه مِنَّة على الله عز وجل، بل لله المنة عليك به في إيجاده وفي إنفاقه؛ في إيجاده؛ لأنه لولا أن الله رزقك ما حصل لك، وفي إنفاقه؛ لأن كثيرًا من الناس يبخلون بما آتاهم الله من فَضْلِه ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ﴾ [آل عمران ١٨٠]، فمن نِعمة الله عليك أن يَمُنَّ عليك بالإنفاق بعد أن من عليك بالرزق والعطاء. * ومن فوائد الآية الكريمة أيضًا: أن الإنفاق، لا نقول: إن الإسرار فيه أفضل ولا إن الإعلان فيه أفضل بل هو بحسب الحال، فتارةً يكون الإنفاق سرًّا أفضل وتارة يكون الإنفاق علنًا أفضل، حسب ما تقتضيه الحال بخلاف الصَّدَقة؛ فالأصل فيها السر، قال الله تعالى: ﴿إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ [البقرة ٢٧١]؛ لأن الصدقة فيها نوع مِنَّة على الْمُعْطَى، فربما ينكسر أمام الناس إذا أُعْلِنت الصدقة له، فصار إخفاؤها أفضل، وفي الحديث الصحيح في الذين يظلهم الله في ظله: «رَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا»[[متفق عليه؛ البخاري (١٤٢٣)، ومسلم (١٠٣١ / ٩١) من حديث أبي هريرة.]]. أما الأشياء العامة والْمُعلَنة كما لو أردنا أن ننفق في مشروع خيري عام، لا يظهر فيه المِنَّة على شخص معين فهنا قد يكون الإعلان فيه أفضل، وكذلك لو أن شخصًا جاء إلينا وقال: أرجو أن تجمعوا لي من الناس، فهنا ربما يكون الإعلان أفضل من أجل أن يقتدي بك غيرك، وهذا الرجل الذي طلب منا أن نجمع له، لا يهمه أن يعلم الناس بأنه يُتصدق عليه أو لا يتصدق. المهم أن نقول: إن السر والإعلان في الإنفاق كله خير لكن الصدقة الأفضل فيها السر لما في إظهارها من كسر قلب الْمُعْطَى، وأما الأشياء العامة أو الصدقة على شخص معين هو الذي طلب منا أن نجمع له مثلًا فهذا قد يكون الإعلان فيه أفضل. * ومن فوائد الآية الكريمة: التنبيه على الإخلاص؛ لقوله: ﴿يَرْجُونَ تِجَارَةً﴾ لا يريدون تجارةً تبور وتهلك؛ يعني لا يريدونها سُمْعة؛ لأن السمعة والجاه بين الناس لا شك أنه كسب للمرء، ويُعتبر تجارة، لكن هذه تجارة هالكة تزول بزوال الشخص، أو تزول بزوال ما اشتهر به؛ لأن من حُمِدَ على شيء ذُمَّ على فقده، لكن الذي يرجو ثواب الله ويُحسِن النية والقصد هذا هو الذي حصل على تجارة لن تبور، ففيه التنبيه على الإخلاص، وأنه ينبغي للإنسان أن يكون مخلصًا لله تعالى في عمله اللازم أو القاصر والمتعدي، القاصر كالصلاة، والمتعدي كالصدقة.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب