الباحث القرآني

ثم قال الله تعالى: ﴿وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ﴾ أي: أهل مكة، هذا تفسير للواو في قوله: ﴿وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ [فاطر ٢٥]؛ يعني فليس ببدع أن يكذبك قومك؛ لأن الذين من قبلهم كذبوا الرسل كقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا﴾ [الأنعام ٣٤]؛ يعني ليس الأمر مقتصرًا على أنه التكذيب فقط بل تكذيب وأذية بالقول وأذية بالفعل، بل أعظم من ذلك القتل، فإن كثيرًا ممن أرسل الله إليهم الرسل قتلوهم. يقول: (﴿وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ﴾ أي أهل مكة)، لماذا نخصهم بأهل مكة؟ الصحيح أنه ليس خاصًّا بأهل مكة، بل أهل مكة وغيرهم، الرسول كذبه أهل مكة، وكذبه أهل الطائف، وغيرهم من المشركين، فالصواب العموم ﴿وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾، ﴿الَّذِينَ﴾ ويش تعربونه؟ * طلبة: فاعل. * الشيخ: فاعل، وأين المفعول؟ محذوف؛ أي: فقد كذب الذين من قبلهم رسلهم، قال: ﴿جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ﴾ [فاطر ٢٥] ومع ذلك كفروا. ﴿جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ﴾ (الباء) هذه للمصاحبة، ويحتمل أنها للتعدية يعني: أتوا بالبينة التي تبين صدقهم، وقول المؤلف: (المعجزات)، هذا هو تعبير كثير من المتأخرين، ولكن الصواب أن يقال: بالآيات، وأن (البينات) هذه صفة لموصوف محذوف تقديره: بالآيات البينات؛ أي الظاهرة. والآيات التي جاءت بها الرسل حسية ومعنوية، فمن الآيات الحسية ما جاء به موسى عليه الصلاة والسلام من العصا واليد وغير ذلك، ومن الآيات المعنوية ما جاء به من التوراة، وكذلك عيسى وغيرهما من الرسل، كل رسول لم يأتِ إلا ببينة، وقد ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه «مَا مِنْ رَسُولٍ أَرْسَلَهُ اللَّهُ إِلَّا آتَاهُ مِنَ الْآيَاتِ مَا يُؤْمِنُ عَلَى مِثْلِهِ الْبَشَرُ»[[متفق عليه؛ البخاري (٤٩٨١)، ومسلم (١٥٢ / ٢٣٩) من حديث أبي هريرة.]]، وإنما كان كذلك؛ لأنه ليس من الحكمة، ولا من الحجة، ولا من الرحمة أن يُرسل رسول إلى الخلق يستبيح دماء المخالفين له وأموالهم ونساءهم بدون بينة، حتى لو فُرِض أن أحدًا كذبه وهو لم يأتِ ببينة لكان المكذِّب معذورًا؛ لأن البينة على المدَّعِي فكان من حكمة الله ورحمته وإقامة حُجَّته أن يجعل مع الرسل آيات تشهد بصدق ما جاؤوا به. وقد ذكر أهل العلم رحمهم الله أن الآيات التي جاءت بها الرسل ولا سيما الآيات الحسية تكون مناسبةً لما كان في عصرهم، أو لأبرز الأمور في عصرهم، وضربوا لذلك مثلًا بأن موسى عليه الصلاة والسلام جاء بالعصا واليد؛ لأنه اشتهر في عصره وبرز في عصره صناعة السحر، فجاء بأمر فوق ما تجيء به السحرة، السحرة إنما يموهِّون ويخيلون وهو جاء بالحقيقة، وألقوا حبالهم وعصيهم، فإذا هو يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى، يخيل إليه ولكنه ليس بحقيقة، هو ألقى عصاه فصارت حقيقةً فعلية تلقف ما يأفكون. قالوا: وعيسى عليه الصلاة والسلام أتى في وقت ترقَّت فيه صناعة الطب، فجاء بأمر يعجز عنه الأطباء ولا يستطيعونه، جاء بإبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى، وخلق صورة من الطين ينفخ فيها فتطير، تكون طيرًا حقيقيًّا، وهذا يعجز عنه الطب، لا يمكن لأي طبيب يكون أمامه رجل ميت فيقول: قم فيقوم أبدًا، لا يمكن لأي طبيب يأتي إلى المقابر ويقف على القبر ويقول: اخرج؛ فيخرج، وعيسى يفعل ذلك، كما قال الله تعالى: ﴿وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي﴾ [المائدة ١١٠] تخرجهم من مدافنهم، ولا يمكن لأي إنسان من الأطباء أو غيرهم أن يخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيطير، أبدًا، الأكمه والأبرص لا يمكن لأحد أن يبرئه من المرض الذي أصابه بمثل ما يبرئه عيسى عليه الصلاة والسلام، يُؤتَى إليه بذوي العاهات ويمسح بيده عليه ويبرأ يزول؛ يعني هذا البرص الذي قد ملأ الجلد أو أكثره يُمِر يده عليه فلا تتعدى يده مكانًا إلا عاد على طبيعته، هذا لا يستطيع أحد من الأطباء مهما بلغ في الطب أن يصل إلى هذا الحال. قالوا: ومحمد ﷺ أتى إلى قوم قد بلغوا في البلاغة ذروتها، فجاء بكلام لا يستطيعون مباراته أبدًا وهو كلام الله، وتحداهم الله تعالى في عدة آيات أن يأتوا بسورة مثله، أو بعشر سور مثله، أو بحديث مثله فلم يستطيعوا، المهم أن جميع ما جاءت به الرسل آيات بينات. يقول: ﴿﴿وَبِالزُّبُرِ﴾ ﴾ قال: (كصحف إبراهيم) (الزُّبُر) جمع (زَبُور) وهو ما يُزْبَر ويُؤْثَر؛ يعني الكتاب، ولو أن المؤلف قال: كزبور داود لكان أنسب للآية؛ لأن صحف إبراهيم ما ذكر الله أنها زبر، ولكن ذكر ﴿وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا﴾ [النساء ١٦٣]. (﴿وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ﴾ هو التوراة والإنجيل) الكتاب المنير الصواب أنه ليس التوراة والإنجيل بل كل كتاب بعث الله به الرسول ينير الطريق لأمته، فيشمل التوراة، والإنجيل، والزبور، وصحف إبراهيم، وغير ذلك، ما من رسول أرسله الله إلا معه كتاب ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ﴾ [الحديد ٢٥]، وقال تعالى: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ﴾ [البقرة ٢١٣]، فلا يمكن أن نقول: إن نوحًا عليه الصلاة والسلام أُرسل بدون كتاب أبدًا، لا بد أنه أُرسل بكتاب لكن لا يلزم من كونه أُرسل به أن يُذكر لنا هذا الكتاب. قال: ﴿وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ﴾ يقول المؤلف: (فاصبر كما صبروا) هذه الواو حرف عطف، و(الزُّبُر) معطوفة على البينات بإعادة حرف الجر. * طالب: الباء. * الشيخ: مثلما قلنا إما أنها للمصاحبة؛ يعني: جاؤوا مصطحبين هذه الأشياء، أو أنها للتعدية كما تقول: أتيته بدرهم، أتيته بطعامه، أتيته بشرابه وما أشبه ذلك. يقول: (فاصبر كما صبروا) وهل صبر الرسول؟ نعم، صبر صبرًا لا يصبره إلا أولو العزم. قال الله تعالى: (﴿ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بتكذيبهم) الباء للسببية في كلام المؤلف ﴿أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ لماذا أخذهم؟ للعقاب، فقوم نوح أغرقهم، وقوم هود أتلفهم بالريح، كذا؟ وقوم صالح بالرجفة والصيحة، وقوم لوط جعل عالي قُراهم سافلها، كل المكذبين أخذهم الله عز وجل؛ ولهذا قال: (﴿فَكَيْفَ كَانَ نَكِير﴾ أي إنكاري عليهم بالعقوبة والإهلاك؛ أي: هو واقع موقعه)؛ يعني أن الاستفهام هنا للتقرير؛ يعني فكان نكيري؛ أي: إنكاري عليهم بالعقوبة كان واقعًا موقعه؛ ولهذا لو سئلت: كيف كان إنكار الله لهم؟ الجواب أن نقول: كان شديدًا، وكان واقعًا موقعه، فهو مطابق للحكمة تمامًا، وهو عقاب شديد لم يُبقِ منهم أحدًا. * في الآية الكريمة هذه فوائِد، منها: أن تكذيب الرسول عليه الصلاة والسلام ليس ببدع من البشر، فقد كذبت الأمم قبله ﴿وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾. * ومنها: عناية الله تعالى بالرسول ﷺ بذِكْر ما يسليه ويُهَوِّن عليه الأمر ولَّا لا؟ وذكر المصيبة المماثلة تقتضي تسلية الإنسان وتهوين الأمر عليه؛ ولهذا لو جئت إلى مريض وقلت: والله أنت اليوم طَيِّب، ومرضك أهون من مرض فلان، فلان أُصيب بمرض فيه كذا وكذا. يتسلَّى ولَّا لا؟ يتسلى بلا شك، وكذلك لو أُصِيب بحادث وقلت: إن فلانًا أصيب بحادث أعظم يتسلَّى، إذن ففيه عناية الله تعالى برسوله ﷺ، حيث يذكر له ما يُهَوِّن عليه المصائب ويُسَلِّيه. * ومن فوائد الآية: إنذار المكذبين لرسول الله ﷺ؛ لأن الله ذكر كيف كان عاقبة الذين من قبلهم، وكان عاقبتهم الدمار والهلاك، وقد أشار الله إلى هذا في قوله: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا﴾ [محمد ١٠]؛ يعني: لا تظنوا أن الدمار الذي لحق المكذبين السابقين، لا تظنوا أنه خاص بهم بل إذا كذبتم أصابكم ما أصابهم. * ومن فوائد الآية الكريمة: أن الله عز وجل لم يترك الرسل هملًا بل آتاهم من البينات ما يؤمن على مثله البشر؛ لقوله: ﴿جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ﴾. * ومنها أيضًا: تمام حكمة الله عز وجل ورحمته وإقامة حجته، لماذا؟ تؤخذ من قوله: ﴿جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ﴾ لأنه إنما أعطى هؤلاء الرسل البينات لتمام إقامة الحجة والرحمة والحكمة. * ومن فوائد الآية الكريمة: أن من أعظم البينات ما جاءت به الرسل من الشرائع التي تضمنتها الكتب، وجه ذلك التنصيص عليها مع أنها من البينات، انتبه، أيضًا هو تنصيص أُعِيد معه العامل ﴿بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ﴾ فكأنها مستقلة. * ومن فوائد الآية الكريمة: أن الكتب السماوية متضمنة للنور، وأن كل من أخذ بها فقد أخذ بنور يمشي به في الظلمات؛ لقوله: ﴿وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ﴾. * ومنها: أن المفرد إذا أُريد به الجنس صار عامًّا؛ لأن قوله: ﴿بِالْكِتَابِ﴾ هذا مفرد، ولكن هل الكتب التي جاءت الرسل كتاب واحد؟ لا، بل هي كتب كثيرة بحسب الرسل.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب