الباحث القرآني
ثم قال الله عز وجل -في الدرس الجديد-: ﴿وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ﴾ [فاطر ١٩]؛ يعني لا يستويان في إدراك المبصرات، ليس المعنى نفي التساوي مطلقًا؛ لأن الأعمى قد يفضل البصير في أمور أخرى، لكن لا يستويان في إدراك المرئيات أو المبصرات اللي تطابق الآية ﴿وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ﴾ [فاطر ١٩]، وهذا ظاهر.
الأعمى إذا قام يمشي وأمامه حُفْرة، أو حَجَر وَقَع في الحفرة وعثر بالحجر.
والبصير بالعكس، فلا يستوي هذا وهذا.
أيهما أكمل؟ البصير، وهذا مَثَل حِسِّي يجب أن ننتقل منه إلى الْمَثَل المعنوي.
وأما قول المؤلف: (المؤمن والكافر) ففيه نظر؛ يعني كأنه يريد أن يقول: إن الأعمى هو الكافر والبصير هو المؤمن.
ولكننا نقول: لا، الآية يُراد بها نفي المساواة في الأمور الحسية الظاهرة التي لا ينكرها أحد؛ إذ إن الكافر والزنديق والمعانِد والمستكبِر لا يمكن أن يدعي تساوي الأعمى والبصير، لكن قد يدَّعي تساوي المؤمن والكافر.
قال: ﴿وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ﴾ [فاطر ٢٠].
قال: (﴿وَلَا الظُّلُمَاتُ﴾ الكُفر ﴿وَلَا النُّورُ﴾ الإيمان). وهذا أيضًا فيه نظر، والظاهر أن الله سبحانه وتعالى أراد الظلمات الحسية والنور الحسي؛ لأن نفي الاستواء بين هذين أمر لا يمكن إنكاره؛ لأنه مُدْرَك بالحس.
الظلمات لا تستوي والنور، ولكن لا شك أن المراد بذلك ظلمات الكفر ونور الإيمان؛ يعني أنها إشارة إلى هذا، ولذلك جمع الظلمات وأفرد النور؛ لأن سُبل الكفر كثيرة.
وأما الإيمان فسبيله واحد، قال الله تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ [الأنعام ١٥٣]، وقال تعالى: ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ [البقرة ٢٥٧].
وإنما كان الكفر ظلمات؛ لأن فيه الجهل بالله عز وجل وبما يجب له.
* وفيه أيضًا: أن الإنسان يسير على غير هُدًى، ويسير في اتجاهات متعددة منحرفة، قلبه متشعب في كل وادٍ؛ ولهذا تجد الكافرين أشد الناس قلقًا وأبعدهم عن الثبات على خط مستقيم، بخلاف المؤمن؛ المؤمن مؤمن على خط مستقيم وعارف أنه يريد الوصول إلى مَنْ؟ إلى الله، فتجده يُحَوِّل جميع الأفعال إلى طريق واحد وهو الوصول إلى الله حتى أنه إذا لبس ثوبه يشعر بأنه ينال بذلك مرضاة الله، إذا أكل، أو شرب، أو نام، أو سافر، أو سكت، أو تكلم، أو أحجم، كل ذلك يرى أنه في سبيل الله، في الطريق إلى الله.
لكن الكافر مُتشعِّب؛ ولهذا كان منهجه ظلمات؛ لأنه متشعب، ما هناك هدف واحد يسعى إليه؛ أهدافه كثيرة؛ مغرور في الدنيا، مغرور في رؤسائه، مغرور في الناس، لا يهتم إلا برضاهم نسأل الله السلامة والعافية، ولا يهمه أن يرضى الله عز وجل؛ فلهذا كان مستحقًّا أن تُجعل طريق الكافر على سبيل الجمع لتشتتها وتفرقها، كذا؟
ثالثًا: قال: ﴿وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ﴾ [فاطر ٢١]، قال المؤلف: (الجنة والنار) يعني المراد بالظل عند المؤلف الجنة، والمراد بالحرور النار، ولكن -كما قلت- الظاهر أن هذا مَثَلٌ بأمر حسي لا يمكن إنكاره، لكن يُنتقل منه إلى أمر معنوي.
الظل والحرور لا يستويان، أيهما أحسن؟
* طلبة: الظل.
* الشيخ: ما فيه شك، الظل، فالظل معروف؛ هو الفيء الذي تقلَّصت عنه الشمس، هذا ظل، وإن شئت فقل: الظل هو المكان الذي ليس فيه أشعة للشمس، وإنما نقول ذلك؛ لأن الجنة ما فيها شمس، وقد قال الله تعالى فيها: ﴿وَظِلٍّ مَمْدُودٍ﴾ [الواقعة ٣٠] مع أنه ليس فيها شمس.
وأما الحرور فالحرُور على وزن (فَعُول)، وهو الهواء الحار، وبعضهم يقول: إنه الهواء الحار في النهار، والسَّمُوم الهواء الحار في الليل.
وبعضهم يقول: كلاهما بمعنى واحد، فالحرُور والسَّمُوم هما الهواء الحار، وهذا معروف، يكون في أيام الصيف، وإذا كان معه شمس ازداد شدةً في الحرارة.
الآن عندنا الأعمى والبصير، والظلمات والنور، والظل والحرور، على كلام المؤلف نقول: هذه المنفيات الثلاثة، أو هذا النفي في المواضع الثلاثة؛ الأول يعود إلى ذات المؤمن والكافر، والثاني يعود إلى عمل المؤمن والكافر، والثالث يعود إلى مستقر المؤمن والكافر، ولَّا لا؟ فالأول نفي للذوات، والثاني نفي في الأفعال والمنهج، والثالث للمستقر والمأوى.
﴿وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (١٩) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (٢٠) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ﴾ [فاطر ١٩ - ٢١].
الرابع: ﴿وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ﴾ [فاطر ٢٢] (المؤمنون والكافرون). فعلى كلام المؤلف يكون في الآية تكرار؛ لأنه فسر بالأول الأعمى والبصير بالمؤمن والكافر، وهنا قال: ﴿الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ﴾ [فاطر ٢٢] (المؤمنون والكافرون).
ولو أردت أن أسلك مسلكه لقلت: ﴿الْأَحْيَاءُ﴾ ذوو العلم، و﴿الْأَمْوَاتُ﴾ ذوو الجهل؛ لقوله تعالى: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا﴾ [الأنعام ١٢٢]، ولأن الله تعالى جعل الوحي روحًا تحيا به القلوب والنفوس، ولكنني لا أسلك مسلكه إنما لو أردت أن أسلك مسلكه لقلت: العلماء والجهال.
﴿الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ﴾ [فاطر ٢٢] العلماء والجهال، واضح؟ لأنني إذا سلكت هذا المسلك فعندي على ذلك برهان وهو قوله: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا﴾ إلى آخره [الأنعام: ١٢٢]. إذا سلكت هذا المسلك سلمت الآية من التكرار، ونحن نعلم جميعًا أن من القواعد المعروفة في الكلام أنه إذا دار الأمر بين حَمْل الكلام على التأسيس أو على التوكيد وَجَب حمله على التأسيس؛ لأنه هو الأصل، الأصل في الكلام أن يكون مستقلًّا مُؤَسِّسًا لا مُؤَكِّدًا.
* طالب: (...).
* الشيخ: التأسيس يعني الأصل أساس؛ يعني هذا معنى جديد غير المعنى الأول.
فإذا قال قائل مثلًا: هذه الجملة مؤكِّدة للأولى، وقال الثاني: هذه الجملة مستقلة بنفسها فإنه يُحمل على أنها مستقلة بنفسها.
* طالب: قال في الأول: الكافر والمؤمن، بعدين: الكفار والمؤمنون يعني ما يصير..؟
* الشيخ: لا، ما هو بظاهر جمع ومفرد.
قال المؤلف رحمه الله تعالى.. أنا أقول: إن الأحياء والأموات يُراد به الحياة الحسية والموت الحسي، كل يعرف الفرق بين الحي والميت ولَّا لا؟ حتى الكفار يعرفون الفرق بين الحي والميت، ما يشابِه هذه المعاني المحسوسة الأربعة من المعاني المعقولة فهو مثلها ولَّا مخالف لها؟ فهو مثلها، فالذي يماثل هذه الأشياء المحسوسة من الأمور المعقولة هو مثلها.
يقول: (وزيادة (لا) في الثلاثة تأكيد) هذه الجملة أفادت أن لدينا زيادة، وأن الفائدة من هذه الزيادة التوكيد، وين الزيادة؟ ﴿وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ﴾ [فاطر ١٩]، ما فيها شيء ﴿وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ﴾ [فاطر ٢٠] (...) ﴿وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (٢١) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ﴾ [فاطر ٢١، ٢٢] كم دول؟
* طالب: خمسة.
* الشيخ: طيب ﴿وَلَا الظُّلُمَاتُ﴾، هذه واحدة ﴿وَلَا النُّورُ (٢٠) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ﴾ ﴿وَلَا الْأَمْوَاتُ﴾، خمسة لكن جعلها المؤلف ثلاثة؛ لأن المتقابل فيها ثلاثة، شوف (الظلمات والنور) هذه (...) أن تكون واحدة، و(الظل والحرور) واحدة، و(الأحياء والأموات) واحدة.
المهم أن زيادة (لا) في المواضع كلها سواء قلنا: ثلاثة أو خمسة هي للتوكيد؛ إذ لو قيل: وما يستوي الأعمى والبصير والظلمات والنور والظل والحرور والأحياء والأموات؛ استقام الكلام، لكن يؤتى بـ(لا) الزائدة للتوكيد.
* وفيها أيضًا فائدة ثانية: وهي عدم السآمة والملل؛ لأنها لو حُذِفت لطالت المعطوفات بعضها مع بعض، فكُرِّر فيها عامل النفي ليكون أبعد عن السآمة.
فإن قلت: هل لذلك نظير في كتاب الله؟
قلنا: نعم؛ لهذا نظير في مواضع كثيرة منها ما نقرؤه في كل صلاة، وهي: ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ [الفاتحة ٧]؛ إذ لو قال: غير المغضوب عليهم والضالين؛ استقام لكن زيدت (لا) للتوكيد.
قال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ﴾ [فاطر ٢٢].
﴿إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ﴾، قال المؤلف: (هدايته فيجيبه -أي المسمع- بالإيمان)؛ يعني أن الله تعالى يدعو إلى دار السلام كما قال في آية أخرى: ﴿وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ﴾ [يونس ٢٥]، دعاء الله تعالى إلى دار السلام هل يسمعه كل أحد؟ أما من حيث الإدراك الحسي فإن كل أحد يسمعه، أما من حيث الإجابة فلا؛ من الناس من يُجيب ومنهم من لا يجيب؛ ولهذا قال: ﴿وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [يونس ٢٥] فالله تعالى يُسمِع من يشاء يعني بمعنى (...) لاتباع هؤلاء الرسل.
﴿وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ﴾ [فاطر ٢٢] ﴿مَا﴾ هذه في الإعراب نقول: إنها؟
* طالب: (...).
* الشيخ: لا، لها اسم أخص.
* طالب: حجازية.
* الشيخ: حجازية، واسمها الضمير ﴿أَنْتَ﴾، والباء في ﴿بِمُسْمِعٍ﴾ زائدة للتوكيد. ﴿بِمُسْمِعٍ﴾ خبرها منصوب بهذه الفتحة، مُقدَّرة على آخره منع من ظهورها حركة حرف الجر الزائد.
﴿مَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ﴾. وقوله: ﴿مَنْ فِي الْقُبُورِ﴾ ﴿مَنْ﴾ هذه مفعول لـ﴿مُسْمِعٍ﴾؛ لأن ﴿مُسْمِعٍ﴾ اسم فاعل.
﴿بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ﴾. قال المؤلف: (أي الكفار شبههم بالموتى فيجيبون) يعني ما أنت بمسمعهم.
* طالب: (فلا يجيبون).
* الشيخ: لا، عندي (فيجيبون).
* طالب آخر: عندي (فيجيبون).
* الشيخ: إي، الصواب عندي، الصحيح عندي، نعم، اللي عندي خطأ؛ لأنها إذا كانت (فيجيبون) فيجب أن تحذف النون؛ لأنه جواب النفي في قوله: ﴿وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ﴾ [فاطر ٢٢]، أما النسخة اللي عند الأخ وإخوانه فإنها منفصلة عما قبلها؛ أي: فهم في عدم إسماعهم لا يجيبون.
على كل حال المؤلف رحمه الله يقول: ﴿مَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ﴾ [فاطر ٢٢] قال: (أي الكفار)، والذي يظهر لي أن المراد به الموت حقيقة، الرسول عليه الصلاة والسلام لا يُسمع الموتى حقيقة كما قال تعالى: ﴿إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى﴾ [النمل ٨٠]، فلو أن الرسول عليه الصلاة والسلام ذهب إلى المقبرة مقبرة الكفار وقال: يا أيها الناس، اتقوا الله واعبدوه وما أشبه ذلك، هل يسمعون هذه الموعظة فينتفعون بها؟ لا، ما يسمعونها فينتفعون بها، ولكننا نقول: ننتقل من هذا إلى أن الرسول عليه الصلاة والسلام لا يُسْمِع الموتى، لا يُسمِع الكفار لموت قلوبهم؛ لأن قلوبهم ميتة، ومن قلبه ميت -والعياذ بالله- فإنه لا ينتفع بما يسمع من المواعظ فكأنه لا يسمع.
ثم قال: ﴿إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ﴾ [فاطر ٢٣]، فسر المؤلف ﴿إِنْ﴾ بـ(ما)، وهذا يدل على أن ﴿إِنْ﴾ نافية، وقد ذكرنا فيما مضى أن من علامات (إن) النافية الاستثناء بعدها، أن تتبع بـ(إلا)، يعني ما أنت إلا نذير.
قال: (منذر لهم) والنذير -كما سبق- هو الْمُعلِم إعلامًا يتضمن التخويف، فالإعلام المتضمن التخويف يسمى إنذارًا.
وقوله: ﴿إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ﴾ [فاطر ٢٣] هل هذا الحصر حقيقي أو إضافي؟ إضافي؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام نذير وبشير ولَّا لا؟ لكن المقام هنا يقتضي أن يُذكر الإنذار فقط؛ لأنه في مقارعة الكفار، ومقارعة الكفار تحتاج إلى الإنذار أكثر مما تحتاج إلى التبشير.
وقوله: ﴿إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ﴾ [فاطر ٢٣]، كيف يكون مقابلة بينها وبين الجملة اللي قبلها؟
كأنه يقول: أنت لا تستطيع أن تُوصل الهداية إلى قلوب الكافرين، ولكن تستطيع أن تنذرهم؛ لأن هذا هو المقام؛ مقامك إنذار، أما أن تُوصل الهداية إلى قلوب هؤلاء الكفار الذين يُشبِهون الموتى فهذا ليس إليك.
وصدق الله عز وجل فإن النبي عليه الصلاة والسلام ما استطاع أن يهدي أقرب الناس إليه، وأشفق الناس إليه، وهو عمه أبو طالب ولَّا لا؟ وشاء الله عز وجل أن يهدي أقوامًا من فارس والروم من أبعد الناس عن الرسول عليه الصلاة والسلام نسبًا ومكانًا؛ لأن الأمر بيد الله عز وجل ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (٢١) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ﴾ [الغاشية ٢١، ٢٢]. ﴿إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ﴾ [فاطر ٢٣].
﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا﴾ [فاطر ٢٤].
﴿أَرْسَلْنَاكَ﴾ الإرسال بمعنى الأمر بالتبليغ، أو في قضاء الحاجة، فمثلًا تقول: أرسلتُ غلامي يُخبِر فلانًا بكذا وكذا؛ يعني أمرته بالتبليغ، أرسلت غلامي يشتري كذا وكذا، أمرته أن يشتري الحاجة لكنها منفعة؛ يعني الدفع.
وقوله: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ﴾ [فاطر ٢٤]، هذه يحتمل أن تكون الباء للتعدية؛ أي: أننا أعطيناك حقًّا وأرسلناك به.
ويحتمل أن تكون وصفًا للرسالة؛ يعني أرسلناك رسالة حق؛ والمعنى يختلف، فعلى المعنى الثاني يكون معنى الآية أن رسالة النبي ﷺ حق، وعلى المعنى الأول يكون معناها أن الرسول ﷺ جاء بالحق، وإن كان المعنيان متلازمين لكنهما مختلفان من حيث المورد، فعلى الأول يكون مورد الوصف نفس الرسالة، وعلى الثاني يكون مورد ذلك -مورد الوصف- الْمُرْسَل به، أفهمتم الآن ولَّا لا؟
﴿أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ﴾ أي: أعطيناك حقًّا تبلغه للناس.
﴿أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ﴾ يعني أن رسالتنا إليك حق فيكون الوصف للرسالة نفسها؛ يعني: لست بكاذب بل أنت صادق هذا على جعلنا الوصف عائدًا إلى الرسالة، أما إذا جعلناه عائدًا إلى الْمُرْسَل به فالمعنى أن ما جئت به ليس بباطل بل هو صِدْق في الأخبار وعَدْل في الأحكام.
﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا﴾ [فاطر ٢٤]، قال المؤلف: (بالهدى) (﴿بَشِيرًا﴾ من أجاب إليه ﴿وَنَذِيرًا﴾ من لم يُجِب إليه).
﴿بَشِيرًا وَنَذِيرًا﴾ يعني أنك تُبَشِّر وتنذر، لكن تُبَشِّر بالخير من أجاب، وتُنذِر بالعقوبة من لم يُجِب وعصى؛ وذلك لأن الشرع يتضمن أوامر ونواهي، فمن ارتكب النواهي أو ترك الأوامر واجهناه بماذا؟ بالإنذار، ومن فَعَلَ الأوامر واجتنب النواهي واجهناه بماذا؟ بالبشارة.
﴿بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ﴾ [فاطر ٢٤] ﴿إِنْ﴾ (ما) يعني نافية ﴿مِنْ أُمَّةٍ﴾ ﴿مِنْ﴾ حرف جر زائد زائد، أو زائد زائدًا؟ يجوز، على أن تكون (زائدًا) حالًا من الضمير المستتر في (زائد) الأولى. المهم أنه زائد لفظًا زائد معنى.
و﴿أُمَّةٍ﴾ مبتدأ، وجملة ﴿خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ﴾ خبر.
ما من أمة، ما هي الأمة؟ هي الطائفة من الناس التي على منهج واحد طائفة على منهج واحد، ودين واحد، أو قومية واحدة، أو ما أشبه ذلك، هذه الأمة، ليست كل طائفة نسميها أمة، فمثلًا أنتم الآن ما نسميكم أمة إلا لأنكم على طريق واحد، لكن لو اجتمعت جماعة في مكان متشتتين، كل واحد له منهج؛ ما نقول: هؤلاء أمة، إلا إذا كانوا من قبيلة واحدة أو ما أشبه ذلك.
(﴿وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا﴾ سلف ﴿فِيهَا نَذِيرٌ﴾ نبي ينذرها)؛ يعني كل الأمم أرسل الله إليهم نذيرهم، لماذا؟ لتقوم عليهم الحجة؛ لأنه إذا لم يكن للناس نذير فإن لهم حجة على ربهم، يقولون: يا ربنا، ما أرسلت إلينا رسولًا.
كما قال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى﴾ [طه ١٣٤]، وقال تعالى: ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ [النساء ١٦٥]. وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام على ما في قوله: ﴿وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ﴾ [فاطر ٢٤] من الإشكال والجواب عنها (...)
قال تعالى: ﴿وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ﴾ [فاطر ١٩].
* في هذه الآية فوائد، منها: بلاغة القرآن، حيث ينتقل بسامعه وقارئه من الأمثال الحسية إلى الأمثال المعنوية؛ ذلك لأن الأمثال الحسية لا يمتري فيها أحد، ولا يمكن لأحد أن يجادل فيها؛ لأنك إذا قلت مثلًا: هذه لمبة وهذا نور؛ ما أحد ينازع فيها، فانتقل من المحسوس إلى المعقول؛ المعنى.
* ومن فوائد الآية الكريمة: فضيلة البصر؛ لأن نفي الاستواء بين الأعمى والبصير معناه تفضيل مَن؟ تفضيل البصير؛ ولهذا أكثروا من دعاء الله عز وجل: اللهم مَتِّعْنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أبقيتنا.
وكذلك أيضًا نقول في ﴿وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ﴾ [فاطر ٢٠]، فإن فيها من بلاغة القرآن ما في قوله: ﴿وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ﴾ [فاطر ١٩]، وفيها الانتقال من المثل الحسي إلى المثل المعنوي.
* فيها أيضًا: تفضيل النور على الظلمة؛ لأن نفي الاستواء فيهما معناه: تفضيل النور على الظلمة.
* ومنها أيضًا: إذا انتقلنا من المثل الحسي إلى المعنوي أن طريق الهدى واحد، وطرق الضلال متفرقة؛ لقوله: ﴿الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ﴾ [فاطر ٢٠].
وذكرنا شاهدًا من القرآن على هذا وهو قوله تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ [الأنعام ١٥٣]، وقال تعالى: ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ﴾ [البقرة ٢٥٧] فيه طاغوت يجرهم إلى نوع من الكفر والفسق، نسأل الله العافية.
* ومنها أيضًا: أنه لا يستوي الظل والحرور، وهذا مَثَل حسي انتقل منه إلى المثل المعنوي وهو ظل الجنة وحر النار لا يستويان، أيهما أفضل؟ ظل الجنة، اللهم اجعلنا منهم وإياكم.
* ومن فوائد الآية الكريمة أيضًا: التحذير من عمل أهل النار؛ لأن نفي الاستواء بين الظل والحرور أمر معلوم، وتأذي الإنسان بالحرور أيضًا أمر معلوم، ففيه التحذير من عمل أهل النار.
هل يؤخذ من الآية الكريمة أنه لا حرج على الإنسان أن يطلب الظل، وأن يطلب النور؟
* طالب: نعم.
* الشيخ: كذا؟ معلوم؛ لأننا ما دمنا ذكرنا أن هذا النفي معناه تفضيل النور على الظلمات وتفضيل الظل على الحرور فلا حرج على الإنسان أن يطلب الأفضل بل قد يجب أحيانًا؛ ولهذا لما رأى النبي عليه الصلاة والسلام زحامًا ورجلًا قد ظُلِّل عليه بصيام رمضان في السفر ما قال: لا تُظلِّلوا عليه ولكن قال: «لَيْسَ مِنَ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ»[[متفق عليه؛ البخاري (١٩٤٦)، ومسلم (١١١٥ / ٩٢) من حديث جابر بن عبد الله.]].
وقوله: ﴿وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ﴾ [فاطر ٢٢] فيها أيضًا ما سبق في نظائرها. وفيها فضيلة العلم وهو كذلك، وقد قال الله تعالى: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الزمر ٩].
والعلم جهاد في سبيل الله، وإن شئت فقل على الأصح: العلم سلاح للجهاد في سبيل الله؛ لأنه قد يحمل العلم من لا ينتفع به ولا ينفع غيره، فهو سلاح لكن إذا نفعت نفسك وغيرك صرت مجاهدًا به، قال الله تعالى: ﴿فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا﴾ [الفرقان ٥٢]، فالعلم سلاح يتوصل به الإنسان إلى الجهاد في سبيل الله.
* ومن فوائدها أيضًا؛ من فوائد قوله: ﴿الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ﴾ [فاطر ٢٢]: أن فيها الحث على طلب العلم، وأنه حياة الأمة كما أنه حياة الفرد، فلا يمكن أن تحيا الأمة حياة، لا أقول: حياة بهيمية، يمكن أن تحيا حياة بهيمية بدون علم لكن لا يمكن أن تحيا حياة طيبة إلا بالعلم، وكل الناس ينشدون الحياة الطيبة لكن ما طَيِّبها؟ العلم إذا أثمر ثمرته؛ وهو الإيمان والعمل الصالح، قال الله تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ [النحل ٩٧].
يقول: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ﴾ [فاطر ٢٢].
* من فوائدها: أن الله عز وجل هو الذي بيده مقاليد الأمور حتى أنت يا محمد لا تستطيع أن تُسمِع أحدًا بل الْمُسمِع هو الله.
وفيه: إثبات المشيئة لله؛ لقوله: ﴿مَنْ يَشَاءُ﴾.
* وفيه: رد على القدَرِية الذين ينكرون أن يكون لأفعال العباد مشيئة لله عز وجل؛ لقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ﴾ [فاطر ٢٢] ولكن هذه المشيئة الْمُطلقة هنا -وفي كل موضع جاءت مطلقة- مُقيَّدة بماذا؟ بالحكمة؛ لقوله تعالى: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ [الإنسان ٣٠].
* ومن فوائدها: أنه ينبغي للإنسان، بل يجب على الإنسان أن يلجأ إلى الله عز وجل وحده في جلب المنافع ودفع المضار؛ لقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ﴾ [فاطر ٢٢]، فإذا كان الإسماع من الله فلا تسأله من غيره، لا تسأله إلا من الله؛ ولهذا ينبغي لنا دائمًا أن نكون داعين لله عز وجل ونحن نشعر بأننا مفتقرون إلى الله، وأن الله سبحانه وتعالى قادر على أن يُحقِّق لنا ما نرجوه وما ندعوه به، لا تعتمد على نفسك وتنسى الله، افزع إلى الله دائمًا في الدعاء، في السجود، وبين الأذان والإقامة، وفي كل مواطن الإجابة الزمنية والمكانية والحالية؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾ [البقرة ١٨٦].
ثم اعلم أيضًا أن الدعاء مع كونك تطلب الحاجة من الله هو نفسه أيضًا عبادة تتقرب به أيضًا، فتكسب بهذا الدعاء تكسب فيه ثمرتين:
الثمرة الأولى: الثواب على هذه العبادة.
والثمرة الثانية: حصول المطلوب أو دفع المكروه.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن رسول الله ﷺ لا يستطيع أن يُسمِع مَنْ في القبور؛ لقوله: ﴿وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ﴾ [فاطر ٢٢]، فلو أن الرسول ﷺ ذهب إلى أهل المقبرة ودعاهم وقال: يا أهل القبور، آمنوا بالله ورسوله، يا أهل القبور، اعملوا صالحًا. يسمعون؟ لا يسمعون.
فإن قلت: ما الجواب عما ثبت في الصحيح من أن الرسول عليه الصلاة والسلام وقف على قتلى المشركين في قليب بدر، وجعل يدعوهم بأسمائهم وأسماء آبائهم: «يَا فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ، هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ فَإِنِّي قَدْ وَجَدْتُ مَا وَعَدَ رَبِّي حَقًّا». فقال له عمر: يا رسول الله، ما تكلم من أناس جيفوا، أو كلام من هذا المعنى، فقال: «مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ»[[متفق عليه؛ البخاري (٣٩٧٦)، ومسلم (٢٨٧٥ / ٧٨) من حديث أبي طلحة الأنصاري.]]. يعني أنهم يسمعون، فما هو الجواب؟
* طالب: لقول قتادة رحمه الله: «إن الله أحياهم فأسمعهم كلام النبي ﷺ تنكيلًا وتخزية لهم ثم أماتهم»[[ أخرجه البخاري (٣٩٧٦).]]، وتقول عائشة: «إن أهل القليب لا يسمعون الرسول ﷺ ولكن يخاطبهم الرسول لما يجدون من العذاب في القبر»[[أخرجه أحمد في المسند (٢٦٣٦١).]].
* الشيخ: أما ما ذكرت عن عائشة فلا شك أن كلام الرسول عليه الصلاة والسلام ينتقده؛ لأنه قال: «مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ»، وأما ما ذُكر عن قتادة فمعنى كلامه أنه خاص بهؤلاء.
فإن قلت: ما الجواب عما ثبت في الحديث الصحيح أيضًا من «أن الميت إذا دُفِن وتولَّى عنه أصحابه حتى إنه ليسمع قرع نعالهم وهم ينصرفون عنه»[[متفق عليه؛ البخاري (١٣٣٨)، ومسلم (٢٨٧٠ / ٧٠) من حديث أنس بن مالك.]]؟
* طالب: (...).
* الشيخ: هذا عند الدفن وأيضًا لا يلزم من سماع قرْع النعال أن يسمع الكلام والدعوة.
فلو قلت: ما الجواب عما رواه أبو داود وغيره، وصححه ابن عبد البر ووافقه أو لم يخالفه ابن القيم من أنه «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُسَلِّمُ عَلَى قَبْرٍ كَانَ يَعْرِفُهُ فِي الدُّنْيَا إِلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ رُوحَهُ فَرَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ»[[ أخرجه البيهقي في الشعب (٨٨٥٧) من حديث أبي هريرة، وابن عبد البر في الاستذكار (١ / ١٨٥) من حديث ابن عباس، ولم نقف عليه عند أبي داود.]]؟
فالجواب أن يقال: هذا في حال مخصوصة دل عليها الحديث، ولا يلزم من هذا إذا سمع السلام عليه وهو دعاء له أن يرد السلام على من سَلَّم أن يسمع كل من تكلم عنده.
فإن قلت: ما الجواب عما قاله الفقهاء من أن الميت يتأذى بقول المنكر عند قبره أو فِعْل المنكر عند قبره؟
فالجواب: أن قول الواحد من الناس غير الرسول عليه الصلاة والسلام ليس بحجة وإنما يحتج له لا به.
ثم على رأيهم رحمهم الله، يحملون معنى قوله: ﴿وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ﴾ [فاطر ٢٢] أي: بِمُسْمع من تدعوهم إلى الإيمان والعمل الصالح فإنك لا تسمعهم سماعًا يستجيبون له، لكنه سماع يحتاج إلى (...).
وهذا هو الجواب الأخير عن قول من يقول: إن الموتى يسمعون ما يقال عندهم، وما يخاطبون به. نقول: ﴿وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ﴾ [فاطر ٢٢] أي: سماعًا ينتفعون به ويستجيبون له، والله أعلم.
والواجب على المؤمن نحو هذه الأمور الغيبية أن يؤمن بما جاء به النص فقط والباقي يسأل، بل يجب عليه أن يقول: العِلْم عند الله، فلا يجزم بالنفي، ولا يجزم بالإثبات، نعم، له أن يجزم بالنفي ويجعل ما ثبت فيه الحديث من السماء مخصصًا؛ لأنه قال: ﴿وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ﴾ [فاطر ٢٢]، وفي الآية الأخرى: ﴿إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ﴾ [النمل ٨٠].
ثم قال تعالى: ﴿إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ﴾ [فاطر ٢٣]
* من فوائد هذه الآية الكريمة: أن محمدًا رسول الله ﷺ ليس إلا مُبلِّغًا ومنذرًا فليس في يده جلب الهداية لأحد ولا دفْع الضرر عنه؛ لأنه قال: ﴿إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ﴾ [فاطر ٢٣] يعني ما أنت هاديًا للناس؛ أي: هداية توفيق ورشاد، ولكنك منذر فأنت هادٍ هداية دلالة فقط.
يقول: ﴿إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ﴾ [فاطر ٢٣].
ثم قال: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ﴾ [فاطر ٢٤].
﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ﴾ في هذا دليل على أن رسالة النبي ﷺ حق، وأنه ليس بكاذب؛ لأنه قال: ﴿أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ﴾.
* ومن فوائدها أيضًا: أن الرسول عليه الصلاة والسلام أهْل للرسالة إذا جعلنا ﴿بِالْحَقِّ﴾ حالًا من ﴿نَا﴾ الفاعل أي: إنا أرسلناك محقين بذلك فيكون فيه دليل على أن الرسول ﷺ أهل للرسالة، وهذا معلوم من أدلة أخرى كقوله: ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ [الأنعام ١٢٤] لكن نريد أن نأخذها من هذه الآية.
* ومنها أيضا: أن ما جاء به النبي عليه الصلاة والسلام فهو حق ليس بباطل، فإذا نظرت إلى أخباره وجدتها صدقًا، وإذا نظرت إلى أحكامه وجدتها عدلًا، وهذا هو الحق؛ لأن الحق بالنسبة للخبر هو الصدق، والحق بالنسبة للحكم هو العدل.
* ومن فوائدها: أن رسالة النبي عليه الصلاة والسلام جمعت بين البشارة والإنذار؛ لقوله: ﴿بَشِيرًا وَنَذِيرًا﴾ [فاطر ٢٤].
* ومن فوائدها أيضًا: أن الإنسان يجتمع فيه خصلتان متضادتان في المعنى وإن كانتا متفقتين في المراد، بشير ونذير؛ لأن المبشر هو الذي يعد الناس بالخير ويفتح لهم باب الرجاء، والمنذر هو الذي يخوفهم من (...) فبينهما من حيث المعنى تفاضل، وهما يجتمعا في عين واحدة، هل ننتقل من هذه الفائدة إلى أن الإنسان قد يجتمع فيه خصال إيمان وخصال كفر؟
* طالب: ينذر ويبشر.
* الشيخ: لا، ما هم متلازمان، ما هو متلازم إذا رأيت جيشًا مقبلًا على البلد فأنا أنذرهم ولا أبشرهم، لكن إذا رأيت أن الجيش قد انصرف فأنا أبشرهم.
وعلى كل حال المعلوم من مذهب أهل السنة والجماعة -وهو الحق- أن الإنسان قد يجتمع فيه خصال إيمان وخصال كفر فيكون مؤمنًا من وجه وكافرًا من وجه كقوله عليه الصلاة والسلام: «اثْنَتَاَن ِفي النَّاسِ هُمَا بِهِمْ كُفْرٌ؛ الطَّعْنُ فِي النَّسَبِ، والنِّيَاحَةُ عَلَى الْمَيِّتِ»[[أخرجه مسلم (٦٧ / ١٢١) من حديث أبي هريرة.]]. وقال النبي عليه الصلاة والسلام أيضًا: «سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ»[[متفق عليه؛ البخاري (٤٨)، ومسلم (٦٤ / ١١٦) من حديث عبد الله بن مسعود.]]. مع أن قتاله لا يخرج من الإيمان؛ لقوله: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا﴾ [الحجرات ٩] إلى قوله: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ﴾ [الحجرات ١٠].
* فيها أيضًا من الفوائد: أن الأمر كله لله، ليس لأحد مشاركة فيه حتى أعظم الناس منزلةً لا يُشارك الله تعالى فيما يختص به؛ لقوله: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ﴾ [فاطر ٢٤] ومعلوم أن مقام الْمُرسِل أعلى من مقام الْمُرسَل. والله أعلم (...).
وتعالى: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا﴾ [فاطر ٢٤].
الخطاب في قوله: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ﴾ للنبي ﷺ.
والإرسال هو تحميل المرسَل شيئًا يُبَلِّغه إلى الْمُرْسَل إليهم.
والجملة كما نشاهد مُؤكَّدة بـ(إن)، وتوكيد الجملة يدل على الاهتمام بها من أجل أن يؤمن بها الإنسان إيمانًا كاملًا.
يقول الله تعالى: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ﴾ [فاطر ٢٤] الباء هنا إما أن تكون للتعدية، تقول: أرسلته بكذا لبيان المرسَل به، وإما أن تكون للمصاحبة.
والمؤلف رحمه الله يقول: (﴿بِالْحَقِّ﴾ بالْهُدى)، وكأنه أخذ هذا التفسير من قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ﴾ [التوبة ٣٣]، ولكن الصحيح في الآية أن المراد ﴿بِالْحَقِّ﴾ ضد الباطل، فيشمل الصِّدْق في الخبر والعَدْل في الأحكام؛ أي: بالصدق في الأخبار والعدل في الأحكام، وليس الْهُدى فقط بل الْهُدى والصلاح والإصلاح وغير ذلك.
أما في قوله تعالى: ﴿بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ﴾ [التوبة ٣٣] فنعم ممكن أن نقول: المراد بالهدى هناك أن نقول: المراد به العلم النافع؛ لأنه ذكر الهدى وذكر الدين، فذكر العِلْم والعَمَل.
أما هنا فلا ينبغي أن نقتصر على قولنا: الحق أي الْهُدى، بل نجعله أعم من ذلك ليشمل الهدى الذي هو العلم، ويشمل دين الحق الذي هو الرشد والصلاح والإصلاح، فالرسول عليه الصلاة والسلام قد تضمنت رسالته العلوم النافعة كلها والصلاح للخلق في معاشهم ومعادهم، وما جاء به فقد تضمن الصِّدْق في الأخبار والعَدْل في الأحكام.قال تعالى: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا﴾ [فاطر ٢٤].
﴿بَشِيرًا﴾ هذه حال بمعنى مُبَشِّر، حال من الكاف في ﴿أَرْسَلْنَاكَ﴾.
قال المؤلف: (﴿بَشِيرًا﴾ من أجاب إليه ﴿وَنَذِيرًا﴾ من لم يجب إليه).
والبشارة هي الإخبار بما يَسُر، وقد تستعمل في الإخبار بما يسوء كما في قوله تعالى: ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [آل عمران ٢١].
وأما الإنذار فهو التخويف؛ أي: الإعلام بما يُخوِّف، والنبي عليه الصلاة والسلام كانت رسالته بشارة وإنذار؛ لأنها إما أمر يُبشَّر فاعله بما يقتضيه ذلك الأمر، وإما نهي يُخَوَّف صاحبه من ارتكابه، فالشريعة كلها بشارة ونذارة.
وقول المؤلف رحمه الله: (﴿بَشِيرًا﴾ من أجاب إليه ﴿وَنَذِيرًا﴾ من لم يُجِبْ) قد يقال: إن الأولى إبقاء الآية على عمومها؛ أي: بشيرًا لمن أجاب إليه، ونذيرًا له في نفس الوقت؛ لأن من أجاب أيضًا يحتاج إلى إنذار، فيكون البشارة والإنذار شاملة لمن أجاب ومن لم يُجِب حتى من لم يُجِب يُبَشَّر إن أجاب ﴿بَشِيرًا وَنَذِيرًا﴾.
ثم قال: ﴿وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ﴾ [فاطر ٢٤] ﴿إِنْ﴾ بمعنى (ما) فهي نافية، وقد ذكرنا لها ضابطًا فيما سبق، أي ذكرنا لـ(إن) النافية ضابطًا لكنه لا يحيط بجميع مواردها وهو أنه إذا أتت بعدها (إلا) فهي نافية، مثل: ﴿إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ﴾ [فاطر ٢٣]، ﴿إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ [المائدة ١١٠]، ﴿إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ﴾ [ص ٧] ﴿إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ﴾ [الشعراء ١٣٧]، ومنها أيضًا هذه الآية: ﴿إِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ﴾ [فاطر ٢٤].
وقوله: ﴿مِنْ﴾ زائدة زائدة، زائدة إعرابًا، زائدة معنى.
فإن قلت: كيف تكون زائدة زائدة؟
قلنا: لأن (زاد) يستعمل لازمًا ومتعديًا فيُقال: زاد الطين بلة هذا متعدٍّ. ﴿فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا﴾ [التوبة ١٢٤] هذا متعدٍّ أيضًا.
وتقول: زاد المال. هذه لازمة.
فمعنى زائدة زائدة؛ يعني زائدة هذا من الناقص الذي هو الزيادة أي..، من الناقص الذي لا يتعدى، وزائدة الثانية من المتعدي.
و﴿أُمَّةٍ﴾ مبتدأ مرفوع بضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد.
﴿إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ﴾ [فاطر ٢٤]، قال المؤلف رحمه الله: (﴿خَلَا﴾ بمعنى سلف، ﴿فِيهَا نَذِيرٌ﴾ أي: نبي ينذرها).
والأمة هنا بمعنى الطائفة، وتأتي في القرآن على أربعة أوجه:
تكون بمعنى الطائفة كما هنا، وتكون بمعنى الزمن، مثالها: ﴿وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ﴾ [يوسف ٤٥]، وتكون بمعنى الدِّين والْمِلَّة ﴿وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ [المؤمنون ٥٢]، وتكون بمعنى الإمام في ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا﴾ [النحل ١٢٠].
ما من أمة ﴿إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ﴾ [فاطر ٢٤] أي سلف ومضى نذير ينذرها، وذلك لتقوم الحجة على العباد؛ لأن العقول مهما بلغت لا يمكن أن تعرف ما يجب لله عز وجل من الحقوق كما لا يمكن أن تعرف ما يجب له من الأسماء والصفات على سبيل التفصيل، وإن كان العقل يدرك أن الإنسان لا بد أن يعبد خالقه، ويدرك أن الخالق لا بد أن يكون متصفًا بصفات الكمال، لكن على سبيل الإجمال لا على سبيل التفصيل، فمن أجل ذلك أرسل الله الرسل لتقوم الحجة على العباد، فما من أمة إلا خلا فيها نذير.
قد تكون الأنبياء في وقتٍ واحد في أمكنة متعددة، وقد يكون الأنبياء في وقت واحد في مكان واحد، أما أن يُوجَد مكان واحد لم يكن فيه نبي فهذا لا يمكن، لا بد أن تكون جميع الأمم قد بعث إليها الرسل، ونظير هذا قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ [النحل ٣٦] بعثنا في كل أمة.
* يستفاد من هذه الآية الكريمة عدة فوائد:
* منها: ثبوت رسالة النبي ﷺ على وجه مؤكد لا مِرية فيه من قوله: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ﴾ [فاطر ٢٤].
* ومنها: فضيلة النبي ﷺ لكونه رسول رب العالمين فإن الرسالة مقام عظيم لا ينالها إلا من هو أهل لها، كما قال الله تبارك وتعالى: ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ [الأنعام ١٢٤]، ويقول الله عز وجل: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ﴾ [البقرة ٢٥٣]، وهم -أي الرسل- مفضلون على من سواهم من الخلق، ففي الآية فضيلة ومنقبة لرسول الله ﷺ.
* ومنها: بيان ما يشتمل عليه دين الرسول عليه الصلاة والسلام من الحق الذي ضده الباطل، والباطل إن كان في الأخبار فهو الكذب، وإن كان في الأحكام فهو الجور والظلم، وعليه فرسالة النبي ﷺ متضمنة للحق في الأخبار وبالأحكام.
ففيه بيان أيضًا فضيلة هذه الشريعة الإسلامية التي جاء بها النبي ﷺ.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن كل ما كان حقًّا فإن الشريعة جاءت به، سواء نصَّت عليه بمعناه الخاص أو بالمعنى العام، ومن ثم أثبت بعض الفقهاء، أو بعض الأصوليين ما يُسمَّى بالمصالح المرسَلة، وجعلوها دليلًا مستقلًّا، والصواب أنها ليست دليلًا مستقلًّا؛ لأن هذه المصالح إن شهد الشرع لها فهي من الشرع، ولا حاجة إلى أن نجعلها دليلًا مستقلًّا، وإن لم يشهد لها فليست بمصلحة، وصاحبها الذي زعمها مصلحة يعتبر واهمًا.
فكوننا نثبت دليلًا خامسًا نسميه المصالح المرسلة؛ هذا خطأ، لماذا؟ لما قلت لكم الآن؛ وهو أن هذه المصلحة إن شهد لها الشرع فهي من الشرع دَلَّ عليها الكتاب والسنة، وإن لم يشهد لها فليست بمصلحة، فلا تُعتبر.
ولذلك أيضًا زعم بعضهم إحداث دليل سادس وهو استصحاب الحال بمعنى أن الأمر يبقى على ما كان عليه حتى يتبين ارتفاعه وانتفاؤه، هذا أيضًا ليس بصواب؛ يعني لا يصح أن نجعله دليلًا مستقلًّا، لماذا؟ لأنه قد دلَّت عليه السُّنَّة فقد شُكِي إلى الرسول عليه الصلاة والسلام الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة، فقال: «لَا يَنْصَرِفْ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا»[[متفق عليه؛ البخاري (١٣٧)، ومسلم (٣٦١ / ٩٨) من حديث عبد الله بن زيد.]].
إذن نبني على بقاء الأصل، واستصحاب الحال، وحينئذٍ لا يحتاج أن نجعل هذا دليلًا مستقلًّا، وإنما جعل بعض العلماء هذين الدليلين مستقلين؛ لأن الإنسان ينقدح في ذهنه أن هذا شيء منفصل عن دلالة الكتاب والسنة فيذهب ويجعله دليلًا مُستقلًّا، وإلا فلو تأمل لوجد أن ذلك موجود في الكتاب والسُّنَّة، وأنه لا حاجة إلى أن نثبته دليلًا مستقلًّا.
ولقد تجرأ بعض المتأخرين على الدليل الأول وهو المصالح المرسَلة حتى أدخل فيه ما شهد الشرع ببطلانه.
ومن ذلك: قولهم بإجازة الربا البنكي، وأنه يجوز بِناءً على ما توهموه من المصالح المرسَلة.
وقالوا: إن اقتصاديات العالم في العصر الحاضر لا تتم إلا باستعمال هذه الطريقة، فالألفاظ والأساليب إذا جاءت على غير ما جاء في الكتاب والسُّنة يحصل بها مفسدة فهنا أدخلوا شيئًا شهد الشرع ببطلانه، وإذا شهد الشرع ببطلانه فإننا نشهد أنه ليس فيه مصلحة، وأن المصلحة الموهومة منه يخلفها مفاسد كثيرة.
فلهذا نحن نرى ألا..
فلنجعل دليلًا مستقلًّا وإلا فليس من الشرع، وليس فيه مصلحة، والمصالح الموهومة فيه إذا كانت مخالفة للشرع لا بد أن يخلفها مفاسد كثيرة.
* من فوائد الآية الكريمة: أن رسالة النبي عليه الصلاة والسلام تتضمن من حيث الجزاء أمرين: هما البشارة والإنذار، البشارة لمن أطاع، والإنذار لمن خالف سواء كانت تلك الطاعة عامة أو في بعض الأشياء، وكذلك نقول في المخالفة.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن مآل الناس إما إلى جنة، وإما إلى نار وليس ثمة دار ثالثة؛ لأن البشارة بالجنة، والإنذار بالنار، وليس هناك دار ثالثة يصل الناس إليها.
* ومن فوائد الآية الكريمة: الترغيب في طاعة الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لقوله: ﴿بَشِيرًا وَنَذِيرًا﴾ [فاطر ٢٤]، والتخويف من مخالفته؛ لقوله: ﴿بَشِيرًا وَنَذِيرًا﴾.
* ومن فوائد الآية الكريمة: لطف الله تعالى بعباده بإرسال الرسل إلى جميع الخلق ﴿وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ﴾ [فاطر ٢٤]، وقد بَيَّن الله سبحانه وتعالى ذلك في قوله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء ١٠٧]؛ يعني إلا لنرحم بك العالمين، وليس الرسول نفسه هو الرحمة، ولكنه أرسل لرحمة الخلق؛ ليرحم الله الخلق برسالته.
* ومن فوائد الآية الكريمة أيضًا: بطلان الاحتجاج بالقدَر على معصية الله؛ لقوله: ﴿وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ﴾. ولو كان الاحتجاج بالقدَر على المعاصي والمخالفات، لو كان ثابتًا لم يرتفع بإرسال الرسل؛ لأن القدَر لا يرتفع بإرسال الرسل، فالرسل أرسلهم الله تعالى إقامةً للحجة على الخلق ورحمةً بهم أيضًا، لهذا ولهذا.
* ومن فوائد الآية الكريمة: بيان أن النبي ﷺ ليس ببِدْع من الرسل حتى تُنكَر رسالته، ويقال: كيف جاء هذا الرجل برسالة من عند الله؟ ﴿وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ﴾، ويشهد لهذا قوله تعالى: ﴿قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ﴾ [الأحقاف ٩].
* ومن فوائد الآية الكريمة: قصور العقول عن معرفة ما يجب لله تعالى؛ لأنها لو استقلت بذلك ما احتاجت إلى إرسال الرسل.
* ومنها أيضًا: بطلان ما ذهب إليه المتكلمون من أهل البدع الذين بنوا عقيدتهم على ما يقتضيه العقل وقالوا: ما اقتضى العقل إثباته لله أثبتناه سواء كان مذكورًا في الكتاب والسنة أم لم يُذكر، وما نفاه العقل وجب علينا نفيه، وإن ذُكِر في الكتاب والسنة، وما لم يدل العقل على نفيه وإثباته فإننا نتوقف فيه، وأكثرهم قالوا: ننفيه؛ لأنه لا بد من دلالة العقل على إثباته، فإذا لم يدل على إثباته وجب نفيه؛ لعدم وجود الدليل، ويش تقول في هذه الفائدة؟
* طالب: (...).
* الشيخ: وإثباته، وما لا يقتضي إثباته ولا نفيه؟
* الطالب: يتوقفون وأكثرهم (...).
* الشيخ: تؤخذ من قوله: ﴿وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ﴾. ووجه ذلك أنه لو كانت العقول هي المرجع ما احتيج إلى إرسال الرسل.
{"ayahs_start":19,"ayahs":["وَمَا یَسۡتَوِی ٱلۡأَعۡمَىٰ وَٱلۡبَصِیرُ","وَلَا ٱلظُّلُمَـٰتُ وَلَا ٱلنُّورُ","وَلَا ٱلظِّلُّ وَلَا ٱلۡحَرُورُ","وَمَا یَسۡتَوِی ٱلۡأَحۡیَاۤءُ وَلَا ٱلۡأَمۡوَ ٰتُۚ إِنَّ ٱللَّهَ یُسۡمِعُ مَن یَشَاۤءُۖ وَمَاۤ أَنتَ بِمُسۡمِعࣲ مَّن فِی ٱلۡقُبُورِ","إِنۡ أَنتَ إِلَّا نَذِیرٌ","إِنَّاۤ أَرۡسَلۡنَـٰكَ بِٱلۡحَقِّ بَشِیرࣰا وَنَذِیرࣰاۚ وَإِن مِّنۡ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِیهَا نَذِیرࣱ"],"ayah":"وَمَا یَسۡتَوِی ٱلۡأَحۡیَاۤءُ وَلَا ٱلۡأَمۡوَ ٰتُۚ إِنَّ ٱللَّهَ یُسۡمِعُ مَن یَشَاۤءُۖ وَمَاۤ أَنتَ بِمُسۡمِعࣲ مَّن فِی ٱلۡقُبُورِ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق