الباحث القرآني

فيها أيضًا: ﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ [سبأ ٤]، محل هذه الآية مما قبلها في المعنى، أو اللام في قوله: ﴿لِيَجْزِيَ﴾ متعلِّقة بماذا؟ مَن؟ إحنا ما فَسَّرْنَاها؟ * طلبة: لا، اللي قبل يا شيخ، (بَيِّن هُوَ اللَّوْح الْمَحْفُوظ). * الشيخ: قال الله تعالى: ﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ قال: (﴿لِيَجْزِيَ﴾ فيها)، (فيها) الضمير يعود على الساعة. ﴿لِيَجْزِيَ﴾ اللام هنا للتعليل، وقد علمنا من قواعد اللغة العربية أن حروف الجر لا بد لها من متعلَّق، فأين متعلَّق اللام، متعلَّق هذه اللام قوله: ﴿لَتَأْتِيَنَّكُمْ﴾، أي: لتأتينكم ليجزي الذين، فهذه اللام للتعليل، وهي متعلقة بقوله: ﴿لَتَأْتِيَنَّكُمْ﴾. و﴿يَجْزِيَ﴾ بمعنى: يكافئ، أو يثيب، والفاعل هو الله سبحانه وتعالى. وقوله: (فيها) أشار المؤلف بقوله: (فيها) إلى أن الجارّ والمجرور متعلِّق بـ(تأتِينكم)؛ لأن الضمير في قوله: (فيها) يعود على الساعة، (﴿لِيَجْزِيَ﴾ فيها). ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾: آمنوا بالقلب، وعملوا الصالحات بالجوارح، والإيمان إذا أُطْلِق شمل الأعمال الظاهرة؛ أعمال الجوارح، وكذلك العمل إذا أُطْلِق يشمل الإيمان بالقلب؛ لأن الإيمان بالقلب من أعمال القلوب فإذا قُرِنَا جميعًا صار الإيمان في القلب، والعمل في الجوارح، الإيمان سر، والعمل علانية. وقوله: ﴿آمَنُوا﴾، الإيمان في اللغة: التصديق، وفي الشرع: التصديق المستلزِم للقبول والإذعان، ليس مجرد تصديق، بل هو التصديق المستلزِم للقبول والإذعان، القبول في الأخبار، والإذعان في الطلب، فيقبل -مثلًا- ما أخبر الله به ورسوله، ويقبل كَوْن هذا الحكم فرضًا، وكونه تطوعًا، وما أشبه ذلك، ويُذْعِن لذلك، بمعنى أنه يتعبَّد لله بمقتضى ما آمن به، وبمقتضى ما شَرَعَه الله سبحانه وتعالى. وفي قوله: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾، ﴿عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ يعني: عملوا الأعمال الصالحات، فتكون ﴿الصَّالِحَاتِ﴾ وصفًا لموصوف محذوف. وحَذْف المنعوت جائز إذا قامت القرينة عليه، قال ابن مالك: ؎وَمَا مِنَ الْمَنْعُوتِ وَالنَّعْتِ عُقِلْ ∗∗∗ يَجُوزُ حَذْفُهُ وَفِي النَّعْتِ يَقِلْ ومِن حذف المنعوت قوله تعالى: ﴿أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ﴾ [سبأ ١١] أي: دروعًا سابغات. فعلى هذا تكون ﴿الصَّالِحَاتِ﴾ صفة لموصوف محذوف، أي: الأعمال الصالحات، وما هي الأعمال الصالحات؟ العمل الصالح هو الذي جمع بين أمرين: الإخلاص لله سبحانه وتعالى، والمتابعة للرسول ﷺ، فإن فُقِدَ الأول لم يكن صالحًا، وكان مردودًا على العامل، وإن فُقِدَ الثاني لم يكن صالحًا، وكان مردودًا على العامل أيضًا. الدليل: في الأول قال الله تعالى في الحديث القدسي: «أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ»[[أخرجه مسلم (٢٩٨٥ / ٤٦) من حديث أبي هريرة.]]. وفي الثاني قال النبي ﷺ: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ»، أو «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ»[[متفق عليه؛ البخاري (٢٦٩٧)، ومسلم (١٧١٨ / ١٨)، من حديث عائشة.]]، فلا يمكن أن يكون العمل صالحًا إلا بهذين الشرطين: الإخلاص، والمتابعة للرسول ﷺ. لو أن رجلًا أحدث بِدْعًا من البدع يتدين بها لله سبحانه وتعالى، ويجد من قلبه الاطمئنان إليها والخشوع والبكاء، لكنها مُحْدَثَة في دين الله، هل تكون عملًا صالحًا؟ ما تكون، حتى وإن زُيِّنَ للإنسان هذا العمل واطمأن إليه فإنه ليس من العمل الصالح، فلا يكون مقبولًا ولا نافعًا، بل يأْثَم به الإنسان؛ لأنه مِن التقرُّب إلى الله تعالى بما يكرهه، والتقرب إلى الله تعالى بما يكرهه نوع من الاستهزاء بالله عز وجل. أرأيت لو أنك أتيت لشخص، ملك من الملوك، وأهديت إليه قارورة فيها ما تريد أن تذهب به إلى التحليل، هل تكون مُكْرِمًا له ولَّا لا؟ أجيبوا. * طلبة: لا. * الشيخ: لا؛ لأن هذا هو يكره هذا الشيء، كيف تقول: أهدي إليه طِيبًا، جَرَّة طِيب، لا بأس أما تهدي إليه هذا الشيء وتقول: أتقرب إليه بذلك، فهذا ضد ما تريد، وهو نوع من الاستهزاء بهذا الْمُكْرَم أو الْمُعَظَّم. إذن الصالحات ما هي؟ الأعمال الصالحات التي جمعت بين شرطين: الإخلاص لله سبحانه وتعالى، والمتابعة للرسول ﷺ. يوجَد بعض الأعمال مما يُكْرَه في الشرع، لكن الإنسان يطمئن إليه ويرتاح له، فنقول: لا تغترّ بهذا الراحة وهذه الطمأنينة؛ فإن ذلك من تزيين أيش؟ من تزيين الشيطان، عُبَّاد الأصنام الذين جعلوها شفعاء لهم عند الله يرتاحون لهذا، ويرون أنها واسطة بينهم وبين الله سبحانه وتعالى، ومع ذلك فهي من الشرك. مثال هذا: يوجد بعض الناس يغمض عينيه في الصلاة، ويقول: إن ذلك أدعى للخشوع، فهذا مِن تزيين الشيطان؛ لأن تغميض العين في الصلاة لغير سبب مكروه، وخلاف هَدْي النبي عليه الصلاة والسلام، النبي عليه الصلاة والسلام كان لا يغمض عينيه، ولكنه إما أن ينظر إلى موضع سجوده أو إلى تلقاء وجهه، أما أنه يغمض عينيه فهذا خلاف السنة، ولهذا كرهه الفقهاء رحمهم الله، نعم لو كان هناك سبب للتغميض، كما لو كان أمامك شيء يجهر عينيك، أو نقوش تشغلك، فهنا التغميض لسبب لا للتقرب به إلى الله، ولكن لدفع ما يشوش عليك ويُخِلّ .. قوله: ﴿عَالِمِ الْغَيْبِ﴾ [سبأ ٣] (...). ﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ﴾ [سبأ ٤]، قوله: ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ هذه الجملة استئنافية لبيان جزائهم؛ لأن قوله: ﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ مُبْهَم، فبيَّن هذا الجزاء بقوله: ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾. والإشارة في قوله: ﴿أُولَئِكَ﴾ تعود إلى ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾، وهي مبتدأ، و﴿لَهُمْ﴾ خبر مقدَّم، و﴿مَغْفِرَةٌ﴾ مبتدأ مؤخَّر، ﴿وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ معطوفٌ عليه، والجملةُ الثانيةُ من المبتدأِ والخبرِ خبرُ المبتدأ الأول. فعندنا الآن مبتدآن ﴿أُولَئِكَ﴾ و﴿مَغْفِرَةٌ﴾ كذا؟ ﴿أُولَئِكَ﴾ مبتدأ، و﴿لَهُمْ﴾ جار ومجرور خبرٌ مقدَّمٌ لأيش؟ لـ﴿مَغْفِرَةٌ﴾، و﴿مَغْفِرَةٌ﴾ مبتدأ مؤخَّر، و﴿رِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ معطوف عليها، والجملةُ من المبتدأ الثاني وخبره في محلِّ رفع خبر المبتدأ الأول. مفهوم هذا عندكم؟ أين الرابط؟ الرابط الضمير في ﴿لَهُمْ﴾؛ لأنه يعود على المشار إليه. قوله: ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ﴾ ﴿أُولَئِكَ﴾ أشار إليهم بإشارة البعيد تنبيهًا على عُلُوِّ مرتبتهم؛ لأن هذا الصنف من الناس هو أعلى طبقات الناس؛ ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾. وقوله: ﴿مَغْفِرَةٌ﴾ بها زوال المكروه، ﴿وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ به حصول المطلوب، فلهم مغفرةٌ لذنوبهم وخطاياهم، فيغفر الله لهم الخطايا والذُّنوب بأن يتجاوز عنهم ويسترها عليهم؛ لأن المغفرة هي سَتْر الذنبِ والتجاوزُ عنه؛ إذْ إنَّ اشتقاقها من الْمِغْفَر؛ وهو الذي يُلْبَس على الرأس عند الحرب، وفيه فائدتان: سَتْر الرأس، ووِقايتُه من السهام. فالمغفرة إذَنْ فيها سَتْر الذُّنوب، والتجاوزُ عنها وعدمُ العقوبة عليها. ﴿وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ الرزق بمعنى العطاء، ومنه قوله تعالى: ﴿وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ﴾ [النساء ٨] أي: أعطوهم. والكريم بمعنى الحسَن في كيفيَّته وفي كمِّيته، وقد أشار الله تعالى إلى أن حُسْن هذا الرزق لا تَبْلغه العقولُ في قوله تعالى: ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [السجدة ١٧]، فثوابُ هؤلاء المؤمنين اللي عملوا الصالحات ثوابُهم أنْ تُغْفَر سيِّئاتُهم وأنْ يُجازَوْا على عملهم الصالح بالرزق الكريم. قلت: ﴿كَرِيمٌ﴾ أنَّه حَسَنٌ في أيش؟ كمِّيته وكيفيَّته؛ فكمِّيته لا تُحصَى، ولا يفنى ولا يَبِيد، وكيفيَّته أيضًا لا يُدركها العقل أو القلب؛ ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾. ثم قال عز وجل: ﴿وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ﴾ إلى آخِره [سبأ: ٥] تكلَّمنا سابقًا وقُلنا: إن القرآن مثانٍ كما وَصَفَه الله به؛ فقال تعالى: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ﴾ [الزمر ٢٣]، و﴿مَثَانِيَ﴾ هذه غير المثاني في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ﴾ [الحجر ٨٧]؛ لأن المراد بـ﴿سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي﴾ المراد بها الفاتحة كما ثَبَتَ ذلك عن النبي ﷺ، فالمثاني معناه -﴿كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ﴾ - أنَّه تُثَنَّى فيه المعاني، فغالبًا إذا ذُكِر جزاءُ المتقين ذُكِر جزاءُ الكافرين، إذا ذُكِر وصْفُ الجنة ذُكِر وصْف النار، إذا ذُكِرت الأوصاف المحبوبة إلى الله ذُكِرت الأوصاف المكروهة إليه، لماذا؟ لأنه لو ذُكِر المطلوب فقط من أوصافٍ أو جزاءٍ أَخَذَ الإنسانَ الرجاءُ حتى أَمِنَ مَكْرَ الله، وإنْ ذُكِر المكروهُ من ذلك أَخَذَه القنوطُ واليأسُ، فكان الله عز وجل يذكر هذا ثم يذكر إلى جانبه الشيءَ الآخَرَ حتى يكون الإنسانُ سائرًا إلى ربِّه بين أيش؟ بين الخوف والرجاء؛ لأن هذا هو الاعتدالُ أنْ تكون خائفًا راجيًا في سَيْرك إلى ربِّك؛ لأنك إن غَلَّبْتَ الرجاءَ كنْتَ من الآمِنين مكْرَ الله؛ لأن من غَلَّبَ الرجاءَ صار يعمل الذَّنْب ويقول: أرجو أنَّ الله يغفر لي، ويتهاون بالواجب ويقول: أرجو الله يَغْفر لي، ومَنْ غَلَّبَ الخوفَ دَخَلَ في القنوط من رحمة الله. وذَكَرْنا أن بعضَ العلماء خالف في هذا وقال: إنه ينبغي لك عند فِعْل الطاعة أن تُغَلِّبَ الرجاءَ؛ لأنك قُمْتَ بما أُمِرْتَ فارْجُ اللَّهَ سبحانه وتعالى ثوابَه؛ لأن هذا من باب إحسانِ الظنِّ بالله، وإذا كُنتَ في مقام المعصية فغَلِّبْ جانبَ الخوف لِتَرْدَعَ نفسَك عمَّا تُريد أن تفعله من المعصية. وأنَّ بعضَ العلماء ذهبَ مذهبًا آخَر وقال: في حال المرضِ تُقَدِّم جانبَ الرجاء؛ لأنك الآن في مقام الضَّعف فتُغَلِّب جانبَ الرجاء وإحسان الظنِّ بالله عز وجل، فلا تموتَنَّ إلا وأنتَ تُحْسِن الظنَّ بربِّك سبحانه وتعالى، وإذا كنتَ في حال الصِّحَّة فغَلِّبْ جانبَ الخوف. والإمام أحمد -رحمه الله- قال: ينبغي أن يكون خوفُه ورجاؤه واحدًا، فأيُّهما غَلَبَ هلك صاحبُه. والإنسان طبيبُ نفسِه في الواقع؛ لا شكَّ أنك إنْ رأيتَ نفسَك تميل إلى الباطل فإنَّه يجب عليك أن تُخَوِّفها بالله عز وجل، لا تُرَجِّها؛ لأنك إن رجَّيْتَها في هذه الحال ماذا تصنع؟ تُقْدِم على المعاصي، إي نعم. يقول: ﴿وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ﴾. ﴿سَعَوْا فِي آيَاتِنَا﴾ قال المؤلف: (في إبْطالِ ﴿آيَاتِنَا﴾ القرآن). فجَعَلَ في الآية محذوفًا تقديره: في إبطالها. ومعنى ﴿سَعَوْا﴾ أي: مَشَوْا بشِدَّة، هذا في الأصل، ومنه السَّعي؛ أي: الرَّكْض، فالمراد أنَّ هؤلاء يُسابِقون ويتسارعون إلى إبطال آيات الله سبحانه وتعالى، إبطالها بالنسبة لهم لا يقومون بها، وإبطالها بالنسبة لغيرهم يَصُدُّون الناسَ عن دين الله؛ قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ [الحج ٢٥]، فهؤلاء سَعَوْا غايةَ السَّعْي في آيات الله عز وجل لإبطالها وإخفاقها. وقوله: ﴿سَعَوْا فِي آيَاتِنَا﴾ لم يبيِّن بماذا سَعَوْا؛ لأنَّ هؤلاء يَسْعَون في إبطال آيات الله أحيانًا بالصِّراع المسلَّح؛ يعني يهاجِمون الديار ويُقاتلونهم حتى يردُّوهم عن دينهم، وأحيانًا بالسلاح الفكري؛ فيبثُّون فيهم الشُّبُهات في دينهم، في نبيِّهم، في ربِّهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا، وأحيانًا يَسْعَون في ذلك بالشهوات فيبثُّون في الناس حُبًّا اللهو والشهوة، ومِنْ هذا ما تبثُّه وسائلُ الإعلامِ الخبيثةُ في الدُّول الكافرة ومَن تشبَّهتْ بها، فتجدهم يَدْعون إلى أسافلِ الأخلاق، يَدْعون بالقلم وبالصورة؛ فيُصَوِّرون النساءَ الفاتناتِ وعلى صِفَةٍ مُزْرية والعياذ بالله، ويكتبون أيضًا بالدعوة إلى ذلك، هذا الأمر هل تظنُّون أنه يَمَسُّ العقيدةَ أو للبدن فقط؟ * طلبة: (...). * الشيخ: يمسُّ العقيدةَ في الواقع؛ لأن الإنسان إذا أصبح بهيميًّا ليس له إلا إشباعُ بَطْنه وإشباعُ غريزته فإنَّه يبقى لا صِلَة له بالله عز وجل ولا يكون له صِلَةٌ، أهمُّ شيءٍ عنده هذا الذي انغمسَ فيه من الشهوات واللَّهوات، فتجده يُعرِض عن دين الله ولا يهتمُّ به، ولذلك من أَضَرِّ ما يكون على البلاد الإسلامية بعد بثِّ السموم الفكريَّة بثُّ السموم الشهوانيَّة؛ لأن الشهوانية هذه يميل إليها الإنسانُ بفِطْرته التي تُمْليها عليه نفسُه الأمَّارةُ بالسوء فيَدْخُل فيها مُكْرَهًا، فإذا انغمسَ -نسأل الله العافية- فيها فإنَّه يَقِلُّ أن يَنْتَشِل نفسَه منها. فالمهمُّ أنَّ الذين كفروا يَسْعَون سعيًا حثيثًا في إبطال آياتِ الله أن تُنْشَر، أو أن يُعْمَل بها، أو أنْ يَتَّجِهَ الناسُ إليها بكُلِّ ما يستطيعون مِن قوَّةٍ؛ إمَّا بالصراع المسلَّح، وإمَّا ببَثِّ الأفكار المشكِّكة المشبِّهة، وإمَّا ببَثِّ أيش؟ الشهوات حتى يُعرِض الناسُ عن دينهم. وقوله: ﴿آيَاتِنَا﴾ قال: (القرآن). الصواب أن ﴿آيَاتِنَا﴾ هُنا أعمُّ من القرآن؛ لأن الساعين في آيات الله ليسُوا من هذه الأُمَّة فقط، حتى في الأُمَم السابقة فإنَّ فيهم مَن يسعى في آيات الله، ألَيْسَ كذلك؟! مثلًا فِرْعون يهدد قومَه يقول: ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾ [القصص ٣٨]، ويحثُّهم على أن يكفروا بموسى عليه الصلاة والسلام، وغير ذلك أيضًا من الأُمَم الآخَرين، كلُّهم يَسْعَون في آياتِ الله؛ أي: في إبطالها وصَدِّ الناسِ عنها. وعلى هذا فنقول: إنَّ المراد بآيات الله هُنا أعمُّ من القرآن، يشمل الساعي في أيِّ آيةٍ من آيات الله. وقوله: (﴿مُعَجِّزِينَ﴾ [[قرأها الشيخ ﴿مُعْجِزِينَ﴾ من الإعجاز، والصواب من (التعجيز) كما أثبتنا.]] وفي قراءةٍ هُنا وفيما يأتي ﴿مُعَاجِزِينَ﴾ أي: مُقَدِّرين عَجْزَنا، أو مُسابِقِينَ لَنَا فيفوتُونا لظنِّهم أن لا بَعْثَ ولا عقابَ). نعم، فيها قراءتان سبعيَّتان أو إحداهما شاذَّة؟ * طلبة: سبعيَّتان. * الشيخ: سبعيَّتان، كذا؟ لأنَّ من اصطلاح المؤلف رحمه الله أنَّه إذا قال: (وفي قراءة) فهي سبعيَّة، أمَّا إذا قال: (وقُرِئَ) فهي شاذَّة، هذا اصطلاحٌ خاصٌّ للمؤلِّف؛ إذا وجدتَ في الكتاب -هذا التفسير- (وفي قراءة) فأعلمْ أنها قراءةٌ سبعيَّة، وإذا وجدتَ (وقُرِئَ) فهي قراءة شاذَّة، والفرق بينهما أن القراءة السبعيَّة يجوز أن يَقْرأ بها الإنسانُ في صلاته ويتعبَّد لله سبحانه وتعالى بها، وأمَّا الشاذَّة فهي على اسمها شاذَّةٌ، لكن هلْ يُحتَجُّ بها في الأحكام أو لا يُحتَجُّ؟ فيه خلافٌ بين العلماء. إذَنْ فيها قراءتان: ﴿مُعَجِّزِينَ﴾ أو ﴿مُعَاجِزِينَ﴾. المعجِّز معناه الذي يُريد أن يُعَجِّز غيره بدون أن يكون من الغير مقابلةٌ له، هذا المعجِّز، فيكون الإعجاز من طرفٍ واحدٍ؛ أي إنهم يريدون بهذا أن يعجِّزوا الله عز وجل في عدم مؤاخذتهم وعقابهم لأنهم آمنون من مَكْر الله سبحانه وتعالى. ﴿مُعَاجِزِينَ﴾ تكون من طرفين كلُّ واحدٍ منهما يُريد إعجاز الآخَر، فكأنَّهم لطُغيانهم وعُدوانهم جعلوا أنفسَهم في مقام الصِّراع مع الله عز وجل، وإنْ كان الله عز وجل يريد أن يُعجزهم فهم أيضًا يريدون أن يُعجزوا الله سبحانه وتعالى. وقد سبق أن القراءتين قد تدلُّ كلُّ واحدةٍ منهما على معنًى يُكمل القراءة الأخرى، فأيُّهما أبلغ: المعجِّز أو المعاجِز؟ * طلبة: المعاجِز. * الشيخ: المعاجِز أبلغُ في الطغيان؛ لأنه أراد أنْ يجعل نفسَه حربًا لله سبحانه وتعالى مقابِلًا له. ما جزاؤهم؟ قال: ﴿وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ﴾. قال: ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ﴾، الجملةُ هذه نقول في إعرابها كما قُلنا في قوله: ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ﴾، فهي مبتدأٌ وخبرُه الجملةُ بعده. ﴿لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ﴾ العذاب بمعنى العقاب، والرِّجز يقول المؤلف: (سيِّئ العَذَاب)، الرِّجْز هو السيِّئ من كلِّ شيءٍ، فإذا قيل: ﴿عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ﴾ فمعناه سيِّئُ العذاب، فعذابُهُم هذا -والعياذُ بالله- سيِّئُ العذاب، بلْ إنَّه أسوأُ العذاب؛ فإنَّ أعظم عذابٍ يُعذَّب به البَشَر هو عذابُ النار، نسأل الله العافية، فهو أسوأُ العذاب. وقوله: ﴿أَلِيمٌ﴾ أي: (مؤلِم، بالجرِّ والرفْع) يعني: قراءتان (صِفَةٌ لـ﴿رِجْزٍ﴾ أو ﴿عَذَابٌ﴾ ). يعني كلمة ﴿أَلِيمٌ﴾ فيها قراءتان: ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ﴾ أو ﴿عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٍ﴾ ؛ أمَّا كون ﴿أَلِيمٌ﴾ صفة لـ﴿عَذَابٌ﴾ فهي كثيرة في القرآن؛ ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [البقرة ١٠] كثيرًا ما يَصِف اللَّهُ العذابَ بالألم، وأمَّا ﴿رِجْزٍ﴾ فإنها كانت صفةً لها لأنها أقربُ من ﴿عَذَابٌ﴾. وعليه فإذا قلتَ: ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ﴾ قلنا: إنها صفةٌ لـ﴿عَذَابٌ﴾، وإذا قلتَ: ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٍ﴾ قلنا: إنها صفةٌ لـ﴿رِجْزٍ﴾، ويجوز أن تقرأ بهذا وبهذا بلْ يُستحبُّ لك أن تقرأ بالقراءتين جميعًا، وبالثلاث إذا كان فيها ثلاث قراءات؛ لأن اختلاف القراءات كاختلاف الصفات في العبادات، وقد مرَّ علينا أن الأفضل فيما جاء من العبادات على صفات متعدِّدة، الأفضل أن تعمل بهذا مرَّةً وبهذا مرَّةً حتى تحصل على السُّنَنِ كلِّها، وهكذا القراءات، ولكن إيَّاك أنْ تقرأ وأنت شاكٌّ في القراءة؛ لأنه لا يجوز أن نقرأ إلا ونحن متيقِّنون بأن هذه قراءة صحيحة. ثم قال عز وجل: ﴿وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ﴾ [سبأ ٦] ﴿يَرَى﴾ بمعنى يعلم؛ لأن الرؤية تكون بمعنى الرؤية بالعين، وتكون الرؤية بالقلب، والرؤيةُ بالقلب هي العلم. و(رأى) بمعنى عَلِمَ تأتي في القرآن كثيرًا؛ مثل قوله تعالى: ﴿إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (٦) وَنَرَاهُ قَرِيبًا﴾ [المعارج ٦، ٧] ﴿نَرَاهُ﴾ بمعنى نعلمه؛ لأنه ليس المعنى: نراه بأعيُننا، لأنه لم يَقَع، وليس المعنى: نظنُّ، لأنَّ الله مُنَزَّهٌ عن الظنِّ، وعلى هذا فيكون ﴿نَرَاهُ﴾ بمعنى نعلمه. هنا ﴿يَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ أي: يعلم، لكنه إذا جاءتْ (يرى) بمعنى يعلم دلَّتْ على أن العِلم في أعلى مقامات العِلم وأنَّه صار كالمشاهَد بالعين يُرَى رؤيةً بالغةً كالذي يشاهَد. وقوله: ﴿الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ أي: أُعْطُوه، وهل المراد بهم أهل الكتاب أو هو عام؟ يقول المؤلف: (﴿الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ مُؤمِنو أهلِ الكتاب كعبد الله بن سَلَامٍ وأصحابه). والصواب أنها أعمُّ من ذلك، وأن المراد بـ﴿الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ كلُّ مَن أعطاهم الله تعالى العلم، فيشمل أهلَ الكتاب من اليهود والنصارى، النجاشي -رحمه الله- من النصارى ورأى أنَّ الذي أُنْزِل إلى النبي ﷺ حقٌّ، وعبد الله بن سَلَام من أحبار اليهود رأي أنَّ الذي أُنْزِل على النبي ﷺ هو الحق، وكذلك أيضًا مَن آتاه اللَّهُ عِلْمًا من هذه الأُمَّة فإنه يرى أنَّ الذي أُنْزِل إلى النبي ﷺ هو الحق، بخلاف مَن كان جاهلًا فإن إيمانَه إيمانُ تقليدٍ، وهو وإن كان مُجْزِئًا عنه لكنه ليس كإيمانِ الذي آتاه اللَّهُ العلمَ. ويدلُّ على أن المراد بـ﴿الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ ما هو أعمُّ قوله تعالى: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ﴾ [آل عمران ١٨]، الذين أُوتوا العلمَ هم الذين يَرَوْن أن ما أُنْزِل إلى النبي ﷺ هو الحق، وذلك بما آتاهم الله تعالى من العلم الراسخ في قلوبهم، ولهذا تجد عبادةَ العامِّي يعبدُ اللَّهَ سبحانه وتعالى عبادةً أشبهَ ما تكون بالعادة، وإنْ كان يرى في قلبه الإنابةَ والخشوعَ والاستحضارَ، لكنه ليس كالذي يعبدُ اللَّهَ تعالى على بصيرةٍ وعلى علم؛ لأن في قلب هذا من اليقين ما ليس في قلب الأول، فيكون عامًّا. ﴿يَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ﴾ إذا كانت ﴿يَرَى﴾ عِلمية فإنها تنصب مفعولين، أين المفعول الأول؟ * طلبة: ﴿الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾. * الشيخ: لا. * طلبة: ﴿الَّذِي﴾. * الشيخ: ﴿الَّذِي﴾ وين الذي؟ ﴿الَّذِي أُنْزِلَ﴾ اسم موصول، و﴿هُوَ الْحَقَّ﴾ ﴿الْحَقَّ﴾ هو المفعول الثاني، واضح؟ أما ﴿الَّذِينَ﴾ الأولى فهي فاعل. طيب، قوله: ﴿الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾ يعني القرآنَ؛ فإن الله تعالى أنزله إلى النبي ﷺ بواسطة جبريل. وقوله: ﴿مِنْ رَبِّكَ﴾ هُنا أضافَ الربوبيَّةَ إلى النبي ﷺ لأنَّ الوحي ربوبيَّةٌ خاصَّة؛ إذ لا أحدَ يُشارك النبيَّ ﷺ من هذه الأُمَّة في ذلك، فلهذا أضاف الربوبيَّةَ إليه وحدَه فقال: ﴿الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾ للعناية بهذا المنَزَّلِ إليه والمنَزَّلِ أيضًا. وقوله: ﴿مِنْ رَبِّكَ﴾ تقدَّم أنَّ معنى الربوبيَّة هو الْخَلْق والْمُلْك والتدبير؛ فالله تعالى خالقُ النبيِّ ﷺ، ومالكُه ومدبِّرُه. قال المؤلف: (أي: القرآن ﴿هُوَ﴾ فَصْل ﴿الْحَقَّ﴾ ) ﴿الْحَقَّ﴾ هذا هو المفعول الثاني، و﴿هُوَ﴾ ضمير فَصْل، لَفْظه لَفْظ الضمير لكنَّه ليس ضميرًا، ولذلك لا نقول: إنَّه اسمٌ، وأيضًا لا نقول: له محلٌّ من الإعراب؛ يعني لا محلَّ له من الإعراب وليس باسْمٍ، لكنه جيء به للفصل. والدليل على أنَّه لا محلَّ له من الإعراب قوله تعالى: ﴿لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ﴾ [الشعراء ٤٠] ﴿الْغَالِبِينَ﴾ ولَّا (الغالبون)؟ * طلبة: ﴿الْغَالِبِينَ﴾. * الشيخ: ﴿الْغَالِبِينَ﴾ لو كان له محلٌّ من الإعراب لَقال: هم الغالبون، فلمَّا قال: ﴿هُمُ الْغَالِبِينَ﴾ وصارت ﴿الْغَالِبِينَ﴾ خبر (كان) دلَّ ذلك على أنَّ هذا الضمير ليس له محلٌّ من الإعراب، لكن ما فائدته؟ ذَكَر العلماءُ أنَّه له ثلاث فوائد: الفائدة الأولى؟ * طالب: الفَصْل بين الصفة والخبر. * الشيخ: الفَصْل بين الصفة والخبر. الفائدة الثانية؟ * الطالب: الحصر. * الشيخ: الحصر. الفائدة الثالثة؟ * الطالب: التوكيد. * الشيخ: التوكيد. فهو يفيد ثلاث فوائد: الحصر، والتوكيد، والتفريق أو الفصل بين الخبر والصفة. كذا؟ هات مثالًا اشرح به لنا هذا. * الطالب: (...). * الشيخ: (زيدٌ الفاضل)، كلمة (الفاضل) أيضًا هاهُنا يحتمل أنها صفة لـ(زيد) وأنَّ الخبر لم يأتِ، فيكون الإنسان الآن مترقِّبًا للخبر كأنْ يكون تقديره: زيدٌ الفاضلُ حاضِرٌ. أو لا؟ * الطلبة: إي نعم. * الشيخ: إذا قلتَ: زيدٌ الفاضلُ حاضرٌ، صارت (الفاضلُ) هُنا صفةً بلا شكٍّ و(حاضرٌ) خبرًا، فإذا قلت: زيدٌ الفاضلُ، بَسْ فقطْ يحتمل أنك تُريد أن تُخبر بأنَّ زيدًا فاضلٌ ويحتمل أنك تريد أن تَصِفَ زيدًا بأنَّه فاضلٌ والخبر لم يأتِ، أليس كذلك؟ فإذا قلتَ: زيدٌ هو الفاضلُ، تعيَّن أن تكون (الفاضل) الآن خبرًا، ولَّا لا؟ طيب، هذا وجْهُ كونه فاصلًا بين الصفة والخبر. طيب، هو مؤكِّد أيضًا؟ * طلبة: نعم. * الشيخ: مؤكِّد؛ لأنك إذا قلتَ: زيدٌ الفاضلُ، و: زيدٌ هو الفاضلُ، هذا أَوْكد بلا شك. كذلك أيضًا مفيدٌ للحصر؛ لأنك إذا قلتَ: زيدٌ هو الفاضل، معناه: لا غَيْره. فضمير الفَصْل إذَنْ يفيد ثلاث فوائد: الحصر، والتوكيد، والفصل بين الخبر والصفة. يقول عز وجل: ﴿هُوَ الْحَقَّ﴾. ﴿الْحَقَّ﴾ بمعنى الشيء الثابت، هذا الحق، فقولك: أُحِقُّ الشيءَ؛ أي: أُثْبِتُه؛ ﴿حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ﴾ [يونس ٩٦] أي: ثَبَتَتْ ووَجَبَتْ. فما هو الثبوت في القرآن؟ الصِّدق في الأخبار، والعدل في الأحكام؛ فالحقُّ إذا أُضِيف إلى الحكْم فمعناه العدل، أيْ إنَّه حكمٌ عادلٌ، ولهذا لو تنازعَ خصمانِ عند القاضي وحَكَمَ لأحدهما بما تقتضيه الشريعةُ قُلنا: هذا حقٌّ؛ لأنه عَدَلَ، ولو حَكَم للثاني بخلافه قُلنا: هذا ليس بحقٍّ، هذا باطلٌ؛ لأنه حَكَم بغير الحقِّ، فالحقُّ في الأحكام هو أيش؟ العدل، وفي الأخبارِ الصِّدقُ؛ فالذين آتاهم اللَّهُ العلمَ يعلمون أن هذا القرآنَ حقٌّ في أحكامه وحقٌّ في أخباره، فأحكامُه كلُّها عدلٌ لأنها وَضَعَت الشيءَ في نِصَابه وجعلت الحقَّ لمستحقِّيه، وأخبارُه أيضًا أيش؟ ثابتةٌ حقٌّ؛ يعني: ثابتة ما فيها كَذِب. إذَن الحق (...). فإذا قلتَ: هذا خبرٌ حقٌّ؛ أي: صِدْق، هذا حُكْمٌ حقٌّ؛ أي: عَدْل، ولهذا قال الله تعالى: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا﴾ [الأنعام ١١٥] قال العلماء: ﴿صِدْقًا﴾ في الأخبار، و﴿عَدْلًا﴾ في الأحكام. ﴿هُوَ الْحَقَّ﴾، ومع ذلك (﴿وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ﴾ طريق ﴿الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ أي: الله ذو العِزَّة المحمود)، ﴿يَهْدِي﴾ بمعنى يدلُّ، فالهداية هنا هدايةُ دلالةٍ وإرشاد. والهداية نوعان: هدايةُ توفيقٍ، وهدايةُ دلالةٍ. أمَّا هدايةُ التوفيق فلا يملكُها إلا الله عز وجل؛ قال الله تعالى لنبيِّه محمد ﷺ: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾ [القصص ٥٦]. وأمَّا هدايةُ الدلالة فثابتةٌ لكلِّ ما يكون به الإرشادُ والدلالة؛ فالقرآنُ يهدي إلى صراطٍ مستقيمٍ، والنبيُّ ﷺ يهدي إلى صراطٍ مستقيمٍ، عرفتم؟ طيب، هنا: ﴿وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ﴾ أي؟ * طالب: إلى طريق. * الشيخ: لا، ويش معنى ﴿يَهْدِي﴾؟ أي: يدل. وقوله: ﴿إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ يعني الله. وهُنا قال: ﴿صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ كما قال تعالى في سورة إبراهيم: ﴿لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ [إبراهيم ١] فأضافه إلى هذا الاسم العظيم، وهو الدالُّ على العِزَّة إشارة إلى أنَّ مَن تمسَّكَ بهذا الصراط كانت له العِزَّة. ﴿الْحَمِيدِ﴾ أيضًا إشارةٌ إلى أنَّ مَن لَزِم هذا الصراطَ كان في مقامٍ محمودٍ. أمَّا ﴿الْعَزِيزِ﴾ الذي هو اسمُ الله فإنَّ العزيز مَن له العِزَّة، والله تعالى له العِزَّة جميعًا؛ ﴿فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا﴾ [فاطر ١٠]. العِزَّة التي وُصِفَ الله بها تتضمَّن ثلاثة معانٍ: عِزَّة القَدْر، وعِزَّة القَهْر، وعِزَّة الامتناع. انتبِهْ! العِزَّة التي يتَّصف الله بها تتضمَّن ثلاثة معانٍ: عِزَّة القَدْر والقَهْر والامتناع. أمَّا عِزَّة القَدْر فمعناها أنَّ الله تعالى ذو قَدْرٍ عظيمٍ، وأمَّا عِزَّة القَهْر فمعناها أنَّ الله ذو قَهْرٍ عظيمٍ وغَلَبَةٍ لا يَغْلبه أحدٌ، وأمَّا عِزَّة الامتناع فمعناها أنَّ الله عز وجل يمتنع عليه النقصُ بوجْهٍ من الوجوه، لا يمكن أن يناله نقصٌ أبدًا. هذه العِزَّة المضافة إلى مَن؟ * طلبة: إلى الله عز وجل. * الشيخ: إلى الله عز وجل، عِزَّة القَدْر، ويش بَعْد؟ والقهر، والامتناع. طيب، يُقال مثلًا: هذا عزيزٌ عَلَيَّ؛ أي: ذو قَدْرٍ شريفٍ عندي. وقال تعالى: ﴿وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ﴾ [ص ٢٣] يعني: غَلَبَني، هذه عِزَّة القهر والغَلَبة. ويُقال: أرضٌ عَزَازٌ؛ أي: قويَّةٌ شديدةٌ ما يؤثِّر فيها وطْءُ الأقدام، وهذا عِزَّة الامتناع، فالله عز وجل موصوفٌ بالعِزَّة بمعانيها الثلاثة. وأمَّا ﴿الْحَمِيدِ﴾ فيقول المؤلف: إنه بمعنى المحمود، وصحيحٌ أن (فَعِيل) تأتي بمعنى مفعول، ومنه قولهم: (قَتِيل) بمعنى مقتول، و(جَرِيح) بمعنى مجروح. لكنَّها تأتي بمعنى الفاعل أيضًا مثل: (عليم) بمعنى عالِم، (عزيز) بمعنى عازٍّ، (حكيم) بمعنى مُحْكِم، وهكذا تأتي بهذا المعنى. فإذا كانت تأتي بالوجهين جميعًا؛ أي: بالفاعل والمفعول، فهل الأَوْلى أن نجعلها مقصورةً على المفعول ولَّا نجعلها شاملة؟ * طالب: شاملة. * الشيخ: شاملة؛ فهو سبحانه وتعالى حَمِيدٌ بمعنى حامد وبمعنى محمود؛ أمَّا كونه حامدًا فما أكثر ما يُثْني الله عز وجل على عباده المؤمنين! ولَّا لا؟ هل الله يُثْني على المؤمنين ولَّا ما يُثْني؟ إذَنْ هذا حَمْدٌ، فهو حامدٌ سبحانه وتعالى، وأمَّا كونه محمودًا فظاهرٌ؛ فإنَّ الله تعالى له الحمد على كلِّ حال. والحاصل أن تفسير المؤلف ﴿الْحَمِيدِ﴾ بالمحمود فيه قصورٌ، والصواب أنَّه بمعنى محمود وبمعنى حامد، وأنَّ له الحمد سبحانه وتعالى في الدنيا والآخرة. طيب، هل إضافة الصراط إلى اسم الله ﴿الْحَمِيدِ﴾ فيه دليل؛ قلتُ: إنَّه فائدتُه أنَّه يدلُّ على أنَّ مَن تمسَّك بهذا الصراط فإنَّه عزيزٌ ومحمودٌ أيضًا؛ محمودٌ على التزامه بهذا الصراط (...). * * * * طالب: في قوله تعالى: ﴿لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ قال المؤلف: (حَسَنٌ في الجنة)، فهل في هذا تخصيص الرزق في الجنة؟ * الشيخ: لا، هو قصده: ﴿لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ﴾ يعني: في الجنة. * الطالب: عامٌّ يعني، ما تكون في الدنيا والآخرة؟ * الشيخ: لا، هو لَمَّا ذَكَر المغفرة فإنَّ المغفرة ما تظهر آثارها إلا هناك، ولكنْ كما قلتَ: الأحسن العموم، الأحسن أن نقول: إنَّ هذا عامٌّ. فإنْ قلتَ: إننا نجد من المؤمنين العاملين الصالحات مَن هو فقيرٌ، فأين الكَرَم في الرزق؟ نقول كما قال النبيُّ عليه الصلاة والسلام: «لَيْسَ الْغِنَى بِكَثْرَةِ الْعَرَضِ، وَإِنَّمَا الْغِنَى غِنَى الْقَلْبِ»[[متفق عليه؛ البخاري (٦٤٤٦)، ومسلم (١٠٥١ / ١٢٠) ، من حديث أبي هريرة بلفظ: «لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ، وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ».]] ، فقد يكون الإنسانُ عنده مالٌ كثيرٌ لكن حاله حال الفقراء. * طالب: قوله تعالى: ﴿وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ إلى آخره، يُشْكِل على هذا أن بعض مَنْ أُوتي العلمَ (...) أنَّه لا يرى أن ما أُوتي النبيُّ هو الحق، (...) يقول: إنَّه غيرُ حقٍّ، وباطلٌ، وليس فيه (...) ولا يتناسب مع العصر (...). فما الجواب؟ * الشيخ: أسمعتم سؤال الأخ؟ يقول: إنَّ مِن أهل العلم مِمَّن أُوتوا العلم مَن لا يرى أنَّ ما أُنْزِل إليه من ربِّه الحق، فنقول: لا يمكن هذا، كلُّ مَن أُوتى علمًا فإنَّه يرى أن ما جاء به النبيُّ عليه الصلاة والسلام هو الحق، لكنْ يكون معاندًا مستكبرًا، مُشْكل هذا؛ يعني المكابَرة أمْرٌ ما فيه إلا السيف إذا استحقَّ القتل، وإلَّا كل إنسان يُؤتَى العلم لا بدَّ أنْ يشهد بالحقِّ لِمَا جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأنَّ ما جاء به الرسولُ مطابقًا للواقع، فلا بدَّ أن يعلم أنَّه الحقُّ، وقد قال الله تعالى عن آل فرعون: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا﴾ [النمل ١٤] فهم يستيقنون بها ويعلمونها أنها الحق، لكنَّهم يجحدون، وقال عز وجل: ﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ [الأنعام ٣٣]، إي نعم (...). * * * من الفوائد (...). * طالب: (...). * الشيخ: يشمل كلَّ مَن آتاهُ اللَّهُ العلمَ، حتى عبد الله بن سلام وغيره. * طالب: (...)؟ * الشيخ: (...) هذا ما هو بصحيح، مِن الجائز أن تَنزل الآية قبل أن يحدث الواقع. * من الفوائد من قوله تعالى .. أظنُّ .. الفوائد يا أخوان. * طالب: ﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾. * الشيخ: من هذا؟ * يستفاد من الآية الكريمة: أنَّ أفعال الله سبحانه وتعالى مُعَلَّلة؛ بمعنى أنَّ لها عِلَّة، فمن أين يؤخذ؟ * طلبة: ﴿لِيَجْزِيَ﴾. * الشيخ: من اللام ﴿لِيَجْزِيَ﴾؛ لأنَّ اللام للتعليل، وهذا يؤيِّد مذهبَ أهل السُّنة والجماعة الذين يقولون: إنَّ أفعال الله تعالى مقرونةٌ بالحكمة. وتعلمون أنَّ الجهمية وكذلك بعض الأشاعرة يُنكرون أنْ تكون أفعالُ الله تعالى لحِكمةٍ ويقولون: إنَّ أفعاله لمجرَّد المشيئة، قالوا: لأنَّ الحِكمة غَرَضٌ من الأغراض التي تحمل على الفِعْل، والله سبحانه وتعالى مُنَزَّهٌ عن الأغراض. ونقول لهم: إنَّ هذا مصادَمة للنصوص، ولو تأمَّلنا القرآنَ لوجدنا فيه آلاف الآيات تدلُّ على إثبات الحكمة لله عز وجل، ثم الغرض إنْ كان لمصلحة الغير فهو أيش؟ مدحٌ وثناءٌ، وإنْ كان لحاجة (...) ليس فيها نقصٌ بوجهٍ من الوجوه. وقد سَبَقَت لكم القاعدةُ الخبيثةُ؛ الذين يقولون: إن الله مُنَزَّهٌ عن الأعراض والأغراض والأبعاض. والكلام هذا إذا سمعتَه قلت: هذا كلام طيِّب. مُنَزَّه عن الأعراض والأغراض والأبعاض. (مُنَزَّه عن الأعراض) يعنون بذلك نَفْي أفعاله الاختياريَّة؛ يعني أنَّه لا ينزل، ولا يأتي، ولا يتكلَّم، وما إلى ذلك؛ لأنَّ هذه أعراضٌ تَحْدث وتزول. (عن الأبعاض) يعنون بذلك نَفْي الوجه واليدين والعينين وما أشبهَ ذلك؛ لأن هذه أبعاضٌ بالنسبة لنا. (والأغراض) يعنون بذلك نَفْي الحِكمة. والقرآن يَرُدُّ قولَهم هذا. * من فوائد الآية الكريمة: فَضْل الإيمانِ والعملِ الصالح، وجْهه مِن ترتُّب الثوابِ عليه؛ ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾، وما ترتَّبَ عليه الثوابُ فهو فاضلٌ ومحمودٌ ومطلوبٌ. * ومن فوائد الآية الكريمة: الفرق بين الإيمان والعمل الصالح عند الجمْع بينهما؛ لأن هُنا ما قال: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ فقط ولا ﴿عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ فقط، بلْ جَمَعَ بينهما، وقد سبق لنا أنَّه إذا جُمِعَ بينهما صار الإيمانُ في القلب، والعملُ الصالِحُ في الجوارح. * ومن فوائد الآية الكريمة: الإشارةُ إلى أنَّ الإيمانَ فقط -يعني: الذي في القلب فقط- لا يكفي عن العمل الصالح؛ لأنَّه رتَّبَ الجزاءَ على قيام الوصفين بالفاعل، وهما الإيمانُ والعملُ الصالح، لكني أقول: إنَّ الإيمانَ إذا كان صادقًا فلا بدَّ أنْ يكون العملُ الصالِحُ؛ لقول النبي ﷺ: «أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ»[[متفق عليه؛ البخاري (٥٢)، ومسلم (١٥٩٩ / ١٠٧)، من حديث النعمان بن بشير.]] . * ومن فوائد الآية الكريمة: أن العمل ليس مقبولًا ولا محمودًا ولا مُثَابًا عليه حتى يكون صالحًا؛ لقوله: ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾. ومتى يكون صالحًا؟ إذا جَمَعَ شرطين: الإخلاص لله، والثاني: المتابعة لرسول الله ﷺ؛ فإنْ فُقِدَ الإخلاصُ فليس بصالحٍ وهو مردودٌ على فاعله؛ قال الله تعالى: «أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ»[[أخرجه مسلم (٢٩٨٥ / ٤٦) من حديث أبي هريرة.]] ، وإن فَقَدَ المتابعةَ فهو أيضًا مردودٌ غير مقبول؛ لقول النبي ﷺ: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ»[[متفق عليه؛ البخاري (٢٦٩٧)، ومسلم (١٧١٨/ ١٨) واللفظ له، من حديث عائشة.]] ، ولا تتحقَّق المتابعةُ إلا بشروطٍ ستة: أنْ تكون العبادةُ أو أنْ يكون العملُ موافقًا للشرع في سببه وجنسه وقَدْره وكيفيَّته وزمانه ومكانه، لا تتحقَّق المتابعةُ حتى يكون العملُ موافقًا للشرع في الأمور الستة، ما هي؟ في سببه وجنسه وقَدْره وكيفيَّته وزمانه ومكانه، تمام. فلو أحدثَ الإنسانُ عبادةً لسببٍ غير شرعيٍّ فهي مردودة؛ لو قال: كلَّما سمعتُ نباح الكلاب صلَّيتُ ركعتين. تُجزئ ولا ما تُجزئ؟ * طلبة: لا تجزئ. * الشيخ: تُقبل منه ولَّا لا؟ * طلبة: لا تُقبل. * الشيخ: لماذا؟ لأنه علَّقها بسببٍ لم تكن مشروعةً من أجْله فلا تُقبل. لو أنَّ أحدًا من الناس ضحَّى بفرسٍ -أُنثى الخيل- قال: أنا عندي شاةٌ تساوى مئتَيْ ريال، وعندي فرسٌ تساوي عشرين ألف ريال، أبغي أضحِّي بالفرس. تُقبَل؟ * طالب: لا تُقبل. * الشيخ: ليش؟ * الطالب: جنس (...). * الشيخ: لأنه مخالفٌ للشرع في الجنس؛ الأضحية ما تكون إلا من بهيمة الأنعام. لو أنَّ أحدًا تعبَّد لله عز وجل بعبادةٍ محدَّدة بقَدْرٍ معيَّن فزادَ في قَدْرها؛ كما لو صلَّى ستَّ صلواتٍ، قال: إن المدة بين العشاء والفجر طويلةٌ تحتاج إلى زيادةِ صلاةٍ، والمدةُ بين الفجر والظُّهر طويلةٌ تحتاج إلى زيادةِ صلاةٍ، أبغي أصلِّي سبع مرَّات، ما تقولون؟ * طلبة: مردودة. * الشيخ: ليش؟ * طالب: للكيفيَّة. * طالب آخر: القَدْر. * الشيخ: قَدْرها، أو لو صلَّى خمسًا في الرباعية أو ثلاثًا في الثنائية فإنها لا تُقبل. لو قال قائل: إذا سبَّحَ الرجلُ دُبُرَ الصلاةِ مئتي مرَّة، فهلْ ترفضون هذا التسبيح كلَّه أو تقولون: ما وافقَ الشرعَ فهو مقبولٌ وما زاد عليه فهو مردود؟ * طلبة: الأخير. * الشيخ: نقول: إذا كانت العبادةُ التي حَصَلَ فيها الزيادةُ تتجزَّأ؛ بمعنى أنَّه يصح أوَّلُها دون آخِرها، فإنَّنا لا نُبطل أوَّلَها بما طرأَ عليها، أمَّا إذا كانت لا تتجزَّأ فإنها إذا بَطَلَ آخِرُها بَطَلَ أوَّلُها؛ فلو صلَّى الظُّهر خمسًا بطلتْ صلاتُه لأنها لا يمكن أن يصح أوَّلُها مع فساد آخِرها، لكنْ في زيادة العدد لا نُبطل العددَ الأول، لكنَّنا نقول لهذا الرجل: إنْ كنتَ تعتقد أن المئتين هي المشروعة فأنت ضالٌّ لأنك مبتدعٌ، وإنْ كنتَ تريد أن تقول: أنا أعترفُ أن المشروع مئة، ولكن زدتُ على أنه تطوُّعٌ، فهذا يُكتَب لك أجْر التسبيح المطلق لا المقيَّد. في كيفيتها؛ لو أنَّ أحدًا صلَّى وصار يسجد ثم يركع ثم يسجد، ما تقولون؟ * طلبة: ما تُجزئ. * الشيخ: ليش؟ * طلبة: الكيفيَّة. * الشيخ: لاختلاف الكيفيَّة. في الزمن؛ لو أنَّ أحدًا قال: أنا سوف أحجُّ في ذي القعدة، أخرج إلى مِنى في ليلة التاسع من ذي القعدة وأبِيتُ فيها، وفي التاسع أذهب إلى عرفة وأقف.. إلى آخِره، كمَّل أفعال الحج في ذي القعدة، لماذا؟ قال: لأنَّه ما عندي أحدٌ يُضايقني، أيش تقولون في هذا؟ * طلبة: لا يصح. * الشيخ: ليش؟ * طالب: لاختلاف الزمن. * الشيخ: لأنها لم تُوافق الشرعَ في الزمن. يُقال: إن رجلًا بدويًّا كان يبيع في المواشي؛ في الأضاحي، يأتي بها يجلبها إلى السوق، وهو ما أدَّى الفريضة، فقيل له: لماذا لم تؤدِّ الفريضة؟ قال: الفريضة تأتي في وقت الموسم، وأنا ما أحب، ولكنني سأذهبُ إلى الشيخ أسأله: هل يجوز أني أحجُّ في عيد رمضان؟ فذهب إلى الشيخ يستأذنه يقول: أستأذنك يا شيخ أنك تسمح لي أن أحجَّ في عيد رمضان بدل عيد الضحية؛ لأن عيد الضحية فيه موسم لنا. فقال له الشيخ: إن أذنتُ لك أن تحجَّ فإني آذنُ لك أن تضحِّي. وحينئذٍ يكون الموسم تابعًا لأيش؟ للحجِّ، ما يتخلَّص منه. فأقول: إن هذا الذي حجَّ في ذي القعدة حتى لو وافقَ التاسع والعاشر والحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر فإنها لا تُقبل، لماذا؟ لمخالفتها للزمن. رجلٌ في العَشْر الأواخر من رمضان قال: سأعتكفُ في بيتي، ما أنا برائح المسجد، أتعب في تحصيل الطعام والشراب، ويمكن يجي أحد يُلهيني عن ذِكْر الله فبأقعد في البيت، هل يُقبل اعتكافه؟ * طلبة: لا يُقبل. * الشيخ: ليش؟ * طلبة: المكان. * الشيخ: نعم؛ لأنَّه مخالفٌ للشرع في المكان. فتبيَّن الآن أن تحقيق المتابعة لا يكون إلا إذا وافقَ العملُ الشريعةَ في الأمور الستَّة. * ومن فوائد الآية الكريمة: عُلُوُّ مرتبةِ المؤمنين العاملين الصالحات؛ لقوله: ﴿أُولَئِكَ﴾؛ لأن الإشارة هُنا للبعيد، وذلك لعُلُوِّ مرتبتهم، مثل قوله تعالى: ﴿الم (١) ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾ [البقرة ١، ٢] مع أن الكتاب بين أيدينا، لكن أشار إليه إشارةَ البعيدِ لعُلُوِّ مرتبته. * ومن فوائد الآية الكريمة: أنَّ في الإيمانِ والعملِ الصالح حصولَ المطلوبِ وزوالَ المكروهِ؛ لقوله: ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ﴾ هذا زوالُ المكروه، ﴿وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ هذا حصولُ المطلوب. واعلمْ أنَّ الله تعالى إذا غَفَرَ لك فَتَحَ لك أبوابَ المعرفة وانشرحَ صدرُك بالإيمان؛ لأن الذي يُوجب ضيقَ الصَّدْر وتَشَتُّتَ الفِكْر هو المعاصي؛ ﴿إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾ [المطففين ١٣] شوف، ما يعرف قَدْر القرآن، إذا يُتلى عليه القرآن يقول: أساطير الأولين، فلا يعرف قَدْره، لماذا؟ ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [المطففين ١٤]، لَمَّا رانَ على قَلْبه عملُه صارَ -والعياذ بالله- لا يرى هذا القرآنَ العظيمَ إلا أيش؟ إلا أساطير الأولين. ولهذا قال بعض العلماء: ينبغي لِمَن نزلتْ به نازلةٌ وطلب حُكْمَها سواءٌ كانت هذه النازلةُ خاصَّةً به أمْ كان مسؤولًا عنها، ينبغي له أنْ يستغفر الله. واستدلَّ لذلك بقوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا﴾ [النساء ١٠٥] أيش بعده؟ ﴿وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [النساء ١٠٦] وهذا ليس ببعيد. إذَنْ من فوائد الإيمانِ والعملِ الصالح حصولُ المطلوب والنجاةُ من المكروه. * من فوائد الآية الكريمة أيضًا: أنَّ رِزْق الجنَّة رِزْقٌ كريمٌ؛ أي: واسعٌ كثيرٌ دائمٌ حَسَنٌ، ويدلُّ لذلك قولُه تعالى: ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [السجدة ١٧]، وقولُه تعالى: ﴿وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (٣٢) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ﴾ [الواقعة ٣٢، ٣٣]. ثم قال عز وجل: ﴿وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ﴾. * يُستفاد من هذه الآية: تحقُّق ما وَصَفَ الله به القرآنَ من أنَّه أيش؟ * طالب: حقٌّ. * الشيخ: لا، من أنَّه مَثَانٍ، إذا ذُكِر فيه المعنى ذُكِر ما يقابله، وإذا ذُكِر فيه العاملُ ذُكِر مَن يقابله. * ويُستفاد منها أيضًا: الحكمةُ في الخِطاب وأنَّه ينبغي في الخِطاب أن يكون جامعًا بين أسباب الخوف وأسباب الرجاء، لماذا؟ * طالب: (...). * الشيخ: يكون جامعًا، ولأنَّه إذا ذُكِر الخوفُ فقط فقد يستولي على القلب القُنوط من رحمة الله، أو الرجاءُ فقط فقد يستولي عليه الأمنُ من مَكْر الله سبحانه وتعالى. * ومن فوائد الآية الكريمة: أنَّ الكفَّار يَسْعَون جادِّين لإبطال آيات الله عز وجل؛ لقوله: ﴿وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا﴾، والسَّعْي كما نعلم نحن أنَّه هو الجرْيُ بشِدَّة، فهؤلاء يَسْعَون جادِّين لإبطال آيات الله سبحانه وتعالى. * ومن فوائدها أيضًا: أنَّ هؤلاء الكفَّار كأنما يُعاجزون اللَّهَ ويُغالبونه؛ لقوله: ﴿مُعَاجِزِينَ﴾. * ومن فوائدها أيضًا: أنَّ هؤلاء الذين سَعَوْا في آيات الله مُعاجزين يُعاقَبون بهذا العقاب الأليم؛ ﴿لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ﴾، وقوله: ﴿مِنْ رِجْزٍ﴾ أي: من عذابٍ سَيِّءٍ مؤلِمٍ كما مَرَّ علينا. * ومن فوائد الآية الكريمة: التحذيرُ من سَعْي الإنسانِ في إبطال آيات الله؛ فإذا قُلنا على القاعدة التي مَرَّت علينا في قواعد التفسير قبل البارحة: إنَّه إذا نُهِيَ عن شيءٍ فهو أَمْرٌ بضِدِّه، فتكون هذه الآية متضمِّنةً للحثِّ على السعي في آيات الله عز وجل لتقريرها وتَثْبيتها، وهو كذلك، فإنَّنا مأمورون بأنْ نسعى قَدْر استطاعتنا في تثبيت آيات الله عز وجل ونَشْرِها بين الأُمَّة حتى تقوم المِلَّة. * ومن فوائد الآية الكريمة: إثباتُ الجزاءِ والحكمةِ فيه؛ لأنَّ المؤمنين اللي عملوا الصالحات ﴿لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾، وهؤلاء ﴿لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ﴾. ثم قال تعالى: ﴿وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ﴾ إلى آخِره. * في هذه الآية: فضيلةُ العلم، من أين تؤخذ؟ * طلبة: ﴿أُوتُوا الْعِلْمَ﴾. * الشيخ: إي، لكن فضيلة العلم. * الطالب: (...). * الشيخ: لكن ما وجْهُ كون هذا يدلُّ على فضيلة العلم؟ * الطالب: (...). * الشيخ: لا. * طالب: أنَّهم يَرَوْن أنَّه الحق، لما آتاهم الله سبحانه وتعالى من العلم. * الشيخ: صحيح، أنَّ العالِمَ يعرف الحقائق على ما هي عليه، فيرى أنَّ الذي أُنْزِل على الرسول هو الحق، وهذا لا شكَّ أنَّه من فضائل العلم، عكْس الذي يتردَّد في كونه حقًّا أو يُنكر أن يكون حقًّا والعياذُ بالله، فالذين مَنَّ اللَّهُ عليهم بالعلم يَرَوْن أنَّه الحق. * ومن فوائد الآية الكريمة: الإشارةُ إلى أنَّه لا ينبغي للإنسان أن يُعْجَب بعِلْمه، من أين تؤخذ؟ * طالب: (...). * الشيخ: ﴿وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ﴾. * الطالب: (...). * الشيخ: لا. * طالب: ﴿وَيَرَى الَّذِينَ﴾؛ أي: هو يعلم.. * الشيخ: لا. * طالب: أنَّ هذا العلم أُنْزِل من عند الله سبحانه وتعالى. * الشيخ: لا. * طالب: ﴿الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾. * الشيخ: لا يا إخواني، فيه دليل على أنَّه ما ينبغي للإنسان أنْ يُعْجَب بعِلْمه؛ لقوله: ﴿أُوتُوا الْعِلْمَ﴾؛ يعني ما أدركوه بأنفسهم، ولكنَّ الله تعالى مَنَّ عليهم به، واضح؟ لا تَقُل: هذا من عندي. مثل المال أيضًا؛ بعضُ الناسِ يُعْجَب إذا حَصَّل مالًا، وهو الذي أعطاه المالَ هو الله عز وجل، وماذا صَنَعَ اللَّهُ بالذي قال: ﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾ [القصص ٧٨]؟ خَسَفَ به الأرض، فالآن ﴿أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ فيها دليلٌ على أنَّه لا ينبغي للإنسان أن يُعْجَب بنفسه ويقول: العلم حصَّلتُه أنا بفَهْمي وحِرصي ومُثابرتي. * ومن فوائد الآية الكريمة: أنَّه ينبغي للإنسان أن يَلْجأ إلى الله تعالى في تحصيل العلم، من أين نأخذها؟ * طالب: ﴿أُوتُوا الْعِلْمَ﴾. * الشيخ: من قوله: ﴿أُوتُوا الْعِلْمَ﴾؛ فإذا كُنَّا نُؤتَى العلمَ فلنسأل هذا العلمَ مِمَّن يؤتينا إيَّاه، أليس كذلك؟ * ومن فوائد الآية الكريمة: أنَّ القرآنَ كلامُ الله؛ ﴿أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾، ﴿مِنْ رَبِّكَ﴾، كيف كان في ذلك دليلٌ على أنَّه كلامُ الله؟ لأنَّه ليس كلُّ نازلٍ كلامًا، قد يَذْكر الله الإنزال للشيء وليس بكلام. * طالب: لأن ما نَزَلَ من الله إمَّا أنْ يكون قائمًا بذاته أو قائمًا بغيره، فالقائمُ بذاته مخلوقٌ كالمطر ونحوه، أمَّا القرآنُ فهو قائمٌ بغيره. * الشيخ: لأنَّه كلامٌ، فلا يمكن إلَّا مِن متكلِّم، فيكون كلامُ الله غير مخلوق، واضح يا جماعة؟ وإلَّا هناك أشياء يُنزلها الله ويقول: أنزلناها، وهي مخلوقة؛ ﴿أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً﴾ [الأنعام ٩٩]، ﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً﴾ [المؤمنون ١٨]، ﴿وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ﴾ [الزمر ٦]، ﴿وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ﴾ [الحديد ٢٥]، وكلُّ هذه الأشياء مخلوقة ولَّا لا؟ لأنها أعيانٌ قائمةٌ بذاتها، بخلاف القول، فإنَّ القول لا يكون إلَّا بقائلٍ؛ فإذا قال الله: ﴿أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ﴾ [آل عمران ٧] وهو قولٌ، صار هذا القول من كلام الله. * ومن فوائد الآية الكريمة: فضيلةُ النبيِّ ﷺ، من أين تؤخذ؟ * طلبة: ﴿مِنْ رَبِّكَ﴾. * الشيخ: من إضافة الربوبيَّة إليه، وهذه الربوبيَّة خاصَّةٌ كما مَرَّ علينا أيضًا في قواعد التفسير، فحينئذٍ نقول: في هذا فضيلةُ النبيِّ ﷺ. * وفيها من فوائدها: عنايةُ الله بالرسول عليه الصلاة والسلام؛ لقوله: ﴿مِنْ رَبِّكَ﴾، وفيه بيانُ فضلِ الله عليه حيثُ أنزلَ عليه الحقَّ. * ومن فوائد الآية الكريمة أيضًا: أنَّ هذا القرآن حقٌّ في أخباره وفي أحكامه، والحقِّيَّة في الأخبار هي الصدق، وفي الأحكامِ العدلُ، وقد جَمَعَ اللَّهُ ذلك في قوله: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا﴾ [الأنعام ١١٥]. * ومن فوائد الآية الكريمة: أنَّ القرآنَ منارٌ وهُدًى .. ومن فوائد الآية الكريمة: أن القرآن منار وهدى يهتدي به الناس ويستضيؤون به؛ لقوله: ﴿وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ [سبأ ٦]. * ومن فوائد الآية الكريمة: أن من ابتغى الهدى من غيره ضلَّ؛ لأنه إذا كان هو الذي يهدي إلى صراط العزيز الحميد فإذا ابتغيت الهدى من غيره المخالف له فإنك لا تُهْدى إلى صراط العزيز الحميد؛ ولهذا لما طلب أهل البدع الوصول إلى الخالق عن طريق غير القرآن ماذا حصل لهم؟ ضلوا وتاهوا وبقوا متحيرين مضطربين. * ومن فوائد الآية الكريمة: أن من تمسَّك بهذا القرآن نال العزة والحمد أي: صار عزيزًا محمودًا؛ لقوله: ﴿إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾، ولم يقل: إلى صراط الله، بل قال: ﴿إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ إشارة إلى من تمسَّك بهذا القرآن فله العزة وله الحمد يُحْمَد على فعله وقوله وتركه. * ومن فوائدها: إثبات هذين الاسمين لله عز وجل وهما العزيز الحميد، وقلنا: إن العزة التي اتصف الله بها سبحانه وتعالى لها ثلاثة أنواع.. * طالب: عزة القهر، وعزة القدر، وعزة الامتناع. * الشيخ: عزة الامتناع، صح؟ عزة القدر، وعزة القهر، وعزة الامتناع، كذا؟ طيب، شرحها؟ * طالب: عزة القدر أن تكون إنسانًا.. هذا إنسان عزيز (...)، وأما عزة القهر يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ﴾ [ص ٢٣] أي: غلبني، وأما الامتناع أن تقول: هذه أرض عَزاز أي: قوية صلبة ممتنعة. * الشيخ: طيب، أحسنت. الحميد من أسماء الله أيضًا وهو مشتق من الحمد، فهل هو بمعنى اسم الفاعل أو بمعنى اسم المفعول؟ (...) العزة وإثبات الحمد لله، فيه عبارة عند الناس يقول: الحمد لله الذي لا يُحْمَد على مكروه سواه، ويش تقولون في العبارة هذه؟ * طلبة: غير صحيحة. * الشيخ: ما هي بمناسبة؛ لأنك تُعْلِن إعلانًا تامًا بأنك تكره ما قضى الله، «الرسول عليه الصلاة والسلام إذا أصابه أَمْرٌ يُسَرُّ به قال: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي بِنِعْمَتِهِ تَتِمُّ الصَّالِحَاتُ»، وإذا أصابه ما يكره قال: «الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ»[[أخرجه ابن ماجه (٣٨٠٣) من حديث عائشة رضي الله عنها. ]] ولا يذكر شيئًا مكروهًا؛ ولهذا ينبغي لنا أن نُنَبِّه من تكلم بهذه العبارة نقول: يا أخي، لا تقل هكذا، هذا يشعر بأنك لم ترض بقضاء الله، قل: «الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ». الآن نحن نعلم أن الله رب كل شيء ويدخل في ضمن ذلك الكلاب والخنازير والحشرات وما أشبه ذلك أو لا؟ لكن هل من اللائق أن تقول: إن الله رب الكلاب ورب الخنازير ورب الحشرات، هذا ليس من الأدب أن تُخَصِّص كما نصَّ على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره، فهنا فرق بين التعميم وبين التخصيص؛ ولهذا قال الرسول: «الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ».
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب