الباحث القرآني

ثم قال: ﴿تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ﴾ [الأحزاب ٥١] ﴿تُرْجِي﴾ يقول المؤلف: (بالهمزة والياء بدله تؤخر) ﴿﴿تُرْجِئُ﴾ ﴾ و﴿تُرْجِي﴾ بمعنى تؤخر. وقوله: ﴿مَنْ تَشَاءُ﴾ هذه مفعول ﴿تُرْجِي﴾. (﴿﴿مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ﴾ ﴾ أي: أزواجك عن نوبتها ﴿﴿وَتُؤْوِي﴾ ﴾ تضم ﴿﴿إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ﴾ ﴾ منهن فتأتيها ﴿﴿وَمَنِ ابْتَغَيْتَ﴾ ﴾ طلبت ﴿﴿مِمَّنْ عَزَلْتَ﴾ ﴾ من القسمة فلا جناح عليك في طلبها وضمها إليك، خُيِّر في ذلك بعد أن كان القَسْم واجبًا عليه). كلام المؤلف الآن يدل على أن قوله: ﴿تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ﴾ أن الضمير يعود على زوجات النبي ﷺ اللاتي في حباله، وأن معنى ﴿تُرْجِي﴾ تؤخرها فلا تَقْسِم لها ﴿وَتُؤْوِي﴾ تضمها فتَقْسِم لها فتكون الآية نازلة في قَسْم النبي ﷺ لزوجاته، وأن الله تعالى خَيَّره بين أن يُرْجِئ وبين أن يضم؛ يعني: خيره بين أن يقسم للزوجات وألا يقسم، فيكون في هذا توسعة للنبي ﷺ في القَسْم إن شاء قَسَم وإن شاء لم يَقْسِم، وهذا هو أحد القولين في تفسير الآية الكريمة، وربما يدل عليه السياق ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ﴾ إلى أن قال: ﴿تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ﴾ أي: من أزواجك ﴿وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ﴾، فيكون الإرجاء بمعنى تَرْكِ القسم، والإيواء بمعنى القَسْم. والقول الثاني في المسألة ﴿تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ﴾ أي: من الواهبات أنفسهَنَّ لك؛ يعني أنك إن شئت قَبِلْت وإن شئت رددت، ﴿وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ﴾ يعني: لو أنك رددتها أولًا ثم أردتها ثانيًا فلا جناح عليك، وقد سبق لنا قاعدة في التفسير أن الآية إذا كانت تحتمل معنيين لا يتنافيان فإن الواجب حملها على المعنيين؛ ولهذا اختار ابن جرير رحمه الله أن الآية شاملة للمعنيين جميعًا، وأن الرسول عليه الصلاة والسلام خُيِّرَ بين القَسْم وعدمه وخير بين قَبول الهبة وعدمه، وأنه أيضًا إذا لم يقسم ثم أراد أن يقسم فله ذلك، وإذا ردَّ الهبة ثم أراد أن يقبل فله ذلك، فليس للمرأة إذا لم يَقْسِم لها ثم أراد القسم ليس لها أن تمتنع؛ لأن الخيار بيد النبي ﷺ. * طالب: شيخ، (...) يحمل على النسخ (...) الرسول كان (...)فدلَّ على أنه كان يقسم؟ * الشيخ: إي، لكن يقسم من عنده، قَسْمٌ من عنده عليه الصلاة والسلام ما هو على سبيل الوجوب من الله؛ يعني هو من ذات نفسه يقسم مع أنه مُخَيَّر. * الطالب: ما الدليل على أنه مُخَيَّر؟ * الشيخ: هذه الآية. * الطالب: (...). * الشيخ: إي، لكن صالحة فسَّرها السلف بذلك فهي صالحة للوجهين. * طالب: (...) دليل على (...)؟ * الشيخ: إي، فيه دليل خاص؛ قال النبي عليه الصلاة والسلام: «مَنْ كَانَ لَهُ امْرَأَتَانِ فَمَالَ إِلَى إِحْدَاهُمَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَشِقُّهُ مَائِلٌ»[[أخرجه أبو داود (٢١٣٣) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.]]، هذا وعيد. * الطالب: (...)؟ * الشيخ: لا تركه بالكلية وإن شاء رَدَّ. (﴿﴿مِنْهُنَّ﴾ ﴾ أزواجك عن نوبتها ﴿﴿وَتُؤْوِي﴾ ﴾ تضم إليك ﴿﴿مَنْ تَشَاءُ﴾ ﴾ منهن فتأتيها). (﴿﴿وَمَنِ ابْتَغَيْتَ﴾ ﴾طلبت ﴿﴿مِمَّنْ عَزَلْتَ﴾ ﴾ من القسمة فلا جناح عليك في طلبها فتضمها إليك، خُيِّرَ في ذلك بعد أن كان القسم واجبًا عليه). أفادنا المؤلف رحمه الله أن الآية في حُكْم القَسْم بالنسبة للنبي ﷺ وأن الله تعالى خيَّره بين أن يقسم بين زوجاته وألا يقسم، وأن من لم يَقْسِم لها إذا بدا له أن يقسم لها فلا حرج عليه، وهذا هو أحد القولين في الآية. والقول الثاني أن المراد بقوله: ﴿تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ﴾ يعني: من الواهبات أنفسهَن فلك الخيار في أن تقبل وألا تقبل، ومن رددت منهن فلا حرج عليك فيما بعد أن تطلبها، واختار ابن جرير رحمه الله أن الآية عامة للمعنيين جميعًا، وهذا هو الذي مشينا عليه فيما سبق من أن الآية إذا كانت تحتمل معنيين لا يتنافيان فإن الواجب حملها على الجميع. قال الله تعالى: (﴿﴿ذَلِكَ﴾ ﴾ التخيير) المشار إليه: التخيير، ﴿تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ﴾ ﴿وَتُؤْوِي﴾ أي: ذلك التخيير المستفاد من الجملتين. (﴿﴿أَدْنَى﴾ ﴾ أقرب إلى ﴿﴿أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ﴾ ﴾ ما ذُكِرَ المُخَيَّر فيه ﴿﴿كُلُّهُنَّ﴾ ﴾). قوله: ﴿أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ﴾ كيف ذلك؟ يعني: ما وجه كون ذلك أقرب إلى أن تقرَّ أعينهن؟ لأنهن إذا عَلِمْنَ أن التخيير بين القسم وعدمه من الله عز وجل قَرَّت أعيُنهن؛ لأنهن يرضين بحكم الله عز وجل، لكن لو كان هذا من النبي ﷺ إن شاء قسم وإن شاء لم يقسم لكان في نفوسهن بعض الشيء؛ إذ تظن الواحدة منهنَّ أن ذلك من قِبَل النبي ﷺ وليس من شرع الله، فإذا علمت النساء بأن هذا من شرع الله فإن أعينهن تقر. وقوله: ﴿تَقَرَّ﴾ مأخوذة إما من القرار وإما من القَرِّ وهو البرد؛ وذلك أن العين إذا بَرَدَتْ فمعناها أنها غير حزينة، وإذا حَمِيَت فمعناها الحزن؛ ولهذا يقولون: دمع الحزن حار؛ لأنه يَخْرج من العين إذا حَمِيت من الحزن، أما إذا لم يكن هناك حزن فإنها تَبْرُد وتستقر. وقوله: ﴿أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ﴾ معطوفة على قوله: ﴿تَقَرَّ﴾، وهل هو منصوب ﴿وَلَا يَحْزَنَّ﴾؟ لأن ﴿تَقَرَّ﴾ منصوب بـ(أن) و﴿يَحْزَنَّ﴾ معطوف عليه، فهل هو منصوب؟ لا، مبني على السكون؛ لاتصاله بنون النسوة ونون الفعل مدغمة في نون النسوة؛ لأن (يحزن) هذا الفعل، والنون الثانية هي نون النسوة وهي فاعل. * طالب: واو العطف ماذا صنعت؟ ليس لهل وظيفة؟ * الشيخ: لا، لها وظيفة، لكن الفعل هنا مبني على السكون في محل نصب ﴿وَلَا يَحْزَنَّ﴾. وقوله: ﴿وَيَرْضَيْنَ﴾ الواو حرف عطف، ﴿وَيَرْضَيْنَ﴾ معطوفة على ﴿تَقَرَّ﴾، وليس على ﴿يَحْزَنَّ﴾؛ لأنه لو كان على ﴿يَحْزَنَّ﴾ لفَسَد المعنى؛ إذ لو كان معطوفًا على ﴿يَحْزَنَّ﴾ لكان المعنى ولا يحزن ولا يرضين، والمراد خلاف ذلك؛ فالمراد ذلك أدنى أن تقرَّ أعينهن ويرضين. فإن قلت: ما الفائدة من اعتراض الجملة الثانية ﴿وَلَا يَحْزَنَّ﴾؟ نقول: لأن صلتها بقوله: ﴿تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ﴾ أقوى، فإن قوله: ﴿وَلَا يَحْزَنَّ﴾ يُراد به كمال قرار العين؛ يعني أنها تقر أعينهن حتى لا يبقى فيهن حزن إطلاقًا؛ فلهذا اعترضت هذه الجملة بين المعطوف والمعطوف عليه. قوله: ﴿وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ﴾ ﴿آتَيْتَهُنَّ﴾ بالمد بمعنى أعطيتهن؛ لأن (آتى) تنصب مفعولين؛ مفعولها الأول الهاء، ومفعولها الثاني محذوف قدَّره المؤلف بقوله: (ما ذُكِرَ) وما الذي ذُكِر؟ قال: المُخَيَّر فيه يعني: أنهن يرضين بما أعطيتهن من التخيير من القَسْمِ وعدمه. وسبق أن بيَّنَّا العلة في كونهن يرضين بذلك؛ وهو أنه إذا جاء الحكم من الله سبحانه وتعالى رضين به بخلاف ما لو كان من النبي ﷺ ابتداء فقد لا يرضين بذلك تظن الواحدة منهن أن هذا هوى من النبي ﷺ. * طالب: ﴿وَلَا يَحْزَنَّ﴾ (...)؟ * الشيخ: إي نعم، معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه، وهي معطوفة، لكنها الآن معترضة بمعنى أنه لا يصح أن نعطف ما بعدها عليها، بل يُعْطَف على ما قبلها. قال: ﴿كُلُّهُنَّ﴾ تأكيد للفاعل في يرضين، وإنما قال ذلك لأنه لو كان تأكيدًا للهاء في قوله: ﴿بِمَا آتَيْتَهُنَّ﴾ لكانت منصوبة ﴿بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ﴾، ولكنها كما قال: تأكيد للفاعل في قوله: ﴿يَرْضَيْنَ﴾. ألا يصح أن تكون تأكيدًا للضمير في قوله: ﴿أَعْيُنُهُنَّ﴾؟ لا يصح؛ لأنه لو كانت توكيدًا له لكان مجرورًا كلِّهِن؛ فإذن يَتَعَيَّن أن يكون تأكيدًا لقوله: ﴿وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ﴾ (﴿﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ﴾ ﴾ من أَمْرِ النساء والميل إلى بعضهن) لمَّا بَيَّن الله عز وجل أن النبي ﷺ مُخَيَّر بَيَّن أنه عز وجل يعلم ما في القلوب من ميل الإنسان إلى بعض النساء دون بعض، وقد بَيَّن الله تعالى هذا المعلوم بقوله: ﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ﴾ [النساء ١٢٩]، وهذا أمر يؤيده الواقع ويشهد له؛ فإن الإنسان لا يمكن أن تكون مودة زوجتيه على حدٍّ سواء أبدًا، حتى لو فُرِضَ أن إحداهما كانت عنده أرجح من وجه والأخرى أرجح من وجه آخر فلا يمكن التساوي، وهذا هو ما يؤيده قوله تعالى: ﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ﴾. وقوله: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ﴾ هل يستفاد منها التهديد والوعيد أو يستفاد منها أن هذا أمر لا تملكونه؟ الظاهر الثاني وأن هذا أمر لا نملكه. عن عقابه، هذا كالتعليل لقوله: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ﴾ [الأحزاب ٥١] فهو سبحانه وتعالى عليم بكل شيء، ومنه ما في قلوبنا من الميل إلى بعض النساء دون بعض، وقوله: ﴿حَلِيمًا﴾ [الأحزاب ٥١] ما هو الحلم؟ الحلم هو عدم التعجل بالعقوبة، وليس هو ترك العقوبة، ولهذا قال ابن القيم: ؎وَهُوَ الْحَلِيمُ فَلَا يُعَاجِلُ عَبْدَهُ ∗∗∗ بِعُقُــــوبَةٍ لِيَتُوبَ مِــنْعِــصْيَانِ فالحلم إذن تأخير العقوبة وليس العفو عنه، يؤخر العقوبة لماذا؟ لعل هذا المذنب يتوب إلى الله عز وجل فترتفع العقوبة عنه. ثم قال تعالى: ﴿لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ﴾ [الأحزاب ٥٢]، قال: ﴿لَا يَحِلُّ﴾ بالتاء والياء: ﴿﴿لا تحل﴾ ﴾ و﴿لَا يَحِلُّ﴾، فأما على قراءة ﴿﴿لا تحل﴾ ﴾ فلا إشكال؛ لأن النساء جمع نسوة، والنسوة جمع امرأة؛ لأن امرأة ليس لها جمع من لفظها، وإنما لها جمع من معناها، كالإبل جمع بعير، ليس لها مُفْرد من لفظها، فقوله: ﴿﴿لا تحل لك النساء﴾ ﴾ لا إشكال فيه، لكن قوله: ﴿لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ﴾ كيف ذَكَّر الفعل مع أن الفاعل مؤنث، أجب؟ * طالب: شيخ، أعد السؤال. * الشيخ: ما نعيد السؤال. * طالب: (...). * الشيخ: فعل مضمر متصل، أو مكمل (لا تحل) لكن مع الاتصال، أما مع الفصل فيجوز ﴿لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ﴾، قال المؤلف: (بعد التسع التي اخترنك) كذا عندكم التي ولّا اللاتي؟ * طالب: التي. * الشيخ: التي اخترنك التسع كان مقتضى الكلام أن يقول: اللاتي اخترنك، والمعنى أن النبي ﷺ لما خير نسائه اخترن الله ورسوله، فلما اخترن الله ورسوله شكر الله لهن، فقال: ﴿لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ﴾ [الأحزاب ٥٢]، وعلى هذا فيكون هذا من باب الجزاء العاجل، ولهن الجزاء الآجل أيضًا؛ لأنهن لما اخترن الله ورسوله على الدنيا وزينتها شكر الله لهن، فمنع نبيه ﷺ من أن يتزوج بسواهن، أو أن يطلق واحدة ويتزوج سواها فقال: ﴿لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ﴾ وهذا أحد القولين في الآية. والقول الثاني: أن معنى الآية ﴿لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ﴾ أي: من بعد ما ذكرن لك، وهو قوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ﴾ [الأحزاب ٥٠]، والمعنى على هذا: لا يحل لك النساء من بعد ما ذكرنا لك، وعليه فلا يحل للنبي ﷺ أن يتزوج امرأة من العرب سوى بنات عمه وبنات عماته وبنات خاله وبنات خالاته اللاتي هاجرن معه، ولا يحل له أن يتزوج امرأة من أهل الكتاب؛ لأنها ليست من هؤلاء. واختار ابن جرير -رحمه الله- أن الآية شاملة للمعنيين جميعًا، فلا يحل له أن يتزوج على أمهات المؤمنين، ولا أن يتزوج سوى هؤلاء، فإن قلت: أفلا يمكن أن نقول: إن المعنى الأول الذي هو لا يحل لك النساء سوى هؤلاء النساء يدخل فيه المعنى الثاني فلا حاجة إلى القول الثاني، فاهمين هذا ولّا لا؟ إذا قلنا: لا يحل لك سوى هؤلاء اللاتي معك، فإن هذا يدخل فيه القول الثاني أنه لا يحل له سوى من ذكر ﴿إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ﴾ فما فائدة القول الثاني إذن؟ فالجواب على هذا أنه لو قدر أن هؤلاء النساء متْنَ في حياة الرسول عليه الصلاة والسلام فهل يحل له أن يتزوج سوى هؤلاء اللاتي أحل الله له؟ فحينئذ يكون للقول الثاني فائدة، وهذه الفائدة تظهر فيما لو قدر أن زوجات الرسول ﷺ اللاتي معه يتوفين قبله، فإنه لا يحل له من النساء إلا ما ذكر الله ﴿وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ﴾ [الأحزاب ٥٠]. قال الله تعالى: (﴿﴿وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ﴾ ﴾ [الأحزاب: ٥٢] بترك إحدى التاءين في الأصل) ﴿وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ﴾ يقول: (بترك إحدى التاءين في الأصل) وهي كلمة ﴿تَبَدَّلَ﴾ أصلها تتبدل، والدليل على أنها أصلها تتبدل وأنها ليست فعلًا ماضيًا، أن ﴿أن﴾ دخلت عليها ونصبتها، وأن لا تدخل وتنصب إلا المضارع، وإلا فإن كلمة ﴿تَبَدَّلَ﴾ تصح أن تكون فعلًا ماضيًا، لكنه لما دخلت عليها ﴿أن﴾ وعملت فيها النصب عُلِم أنه فعل مضارع حُذفت منه إحدى التاءين، وهل لهذا نظير؟ نعم له نظير، مثل: ﴿تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ﴾ [القدر ٤] أي: تتنزل، ﴿فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى﴾ [الليل ١٤] أي تتلظى، من اللي يسأل؟ * طالب: (...) الرسول ﷺ، هذا يعارض القول الأول؟ * الشيخ: اللي هو؟ * طالب: أن الرسول ﷺ في آخر أيامه أراد أن يطلِّق. * الشيخ: نعم، وطلَّق حفصة أيضًا، طلَّق حفصة ثم راجعها. * طالب: كيف يكون مع هذا المعنى؟ أنه ﴿لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ﴾.. * الشيخ: ما ينافي؛ يعني أنه ما يجوز يتزوج غيرهن ﴿لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ﴾، ولا يجوز أن يطلق واحدة ليتزوج أخرى غيرها؛ لأنه قال: ﴿وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ﴾، ما قال: ولا أن تطلق، قال: ﴿وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ﴾ بأن تطلق واحدة وتتزوج غيرها. (﴿﴿وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ﴾ ﴾ بأن تطلقهن أو بعضهن وتنكح بدل من طلقت) هذا أيضًا لا يحل له، ولم يفعل النبي ﷺ بعد أن نزلت هذه الآية، فإنه ما طلق واحدة ليتزوج أخرى، ولا تزوج عليهن سواهن، بل بقين معه إلى أن توفي، لكنه توفي له من زوجاته في حياته زوجتان، من هما؟ خديجة، من بعد؟ زينب بنت خزيمة هذه تزوجها بعد أنه استشهد زوجها في أحد، وبقيت عنده أشهرًا ثم توفيت، والبقية من نسائه توفي عنهن. ﴿وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ﴾ [الأحزاب ٥٢]، المراد الحُسن الظاهر أو الحُسن الباطن أو كلاهما، يشمل هذا وهذا، فالنبي عليه الصلاة والسلام كغيره من البشر قد يتزوج المرأة لجمالها لكن مع الدين، وقد يتزوجها لدينها أو لمعرفتها وفهمها، فقوله: ﴿وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ﴾ يشمل الحُسن الظاهر والحُسن الباطن، وقوله: ﴿أَعْجَبَكَ﴾ أي: بلغ الإعجاب منك، وذلك لكمال حسنها الظاهر والباطن. * طالب: (...). * الشيخ: قال: ﴿إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ﴾ من الإماء، فتحل لك.. إلى آخره؛ يعني استثنى الله عز وجل ما ملكت يمينه، وذلك لأن ما ملكت يمينه لا يحصل للزوجة غيرة منها، بخلاف الزوجة، وإنما لا يحصل للزوجة غيرة من ملك اليمين؛ لأنها لا تساميها ولا تساويها، ولأنها ليس لها قسم، فإن ملك اليمين لا يجب لهن القسم. ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا﴾ لما بَيَّن الله عز وجل ما أحل لرسوله وما حرم عليه ختم الآية بذكر رقابته تبارك وتعالى على كل شيء، بين الله تعالى رقابته على كل شيء لأجل الحذر من مخالفة أمره؛ لأنه إذا كان سبحانه وتعالى رقيبًا على كل شيء فإن الإنسان يحذر ويخاف من مخالفته. وقوله: ﴿وَكَانَ اللَّهُ﴾ سبق لنا نظيرها عدة مرات، وقلنا: إن الماضي هنا مسلوب الدلالة على الزمن، إذ ليس المعنى أن الله كان في زمنٍ مَضَى وتخلف الحكم عنه في هذا الزمن، وإنما هو لتحقيق اتصاف الله سبحانه وتعالى بالرقابة، وقوله: ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا﴾ على كل شيء يشمل ما كان خفيًّا، وما كان ظاهرًا، وما كان خاصًّا بالرسول ﷺ، وما كان عامًّا فيه وفي الأمة، ويشمل ما كان من أعمال الجوارح، وما كان من أعمال القلوب، كما قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ﴾ [ق ١٦] نرجع الآن إلى استنباط الفوائد من الآية الكريمة. قال الله تبارك وتعالى: ﴿تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ﴾ [الأحزاب ٥١] إلى آخره. * يستفاد من هذه الآية الكريمة: أن لله سبحانه وتعالى أن يختص بأحكامه من يشاء لقوله: ﴿تُرْجِي﴾ ﴿وَتُؤْوِي﴾ على القول بأن المراد بذلك القسم، فإن الله خيره بين التزام القسم وعدمه، وهذا من خصائص النبي ﷺ، أما الأمة فقد قال النبي ﷺ: «مَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ فَمَالَ إِلَى إِحْدَاهُمَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَشِقُّهُ مَائِلٌ»[[أخرجه أبو داود (٢١٣٣) واللفظ له، والترمذي (١١٤١) من حديث أبي هريرة.]] وهذا يدل على وجوب العدل بين الزوجات في الأمة. وعلى القول الثاني في قوله: ﴿تُرْجِي﴾ ﴿وَتُؤْوِي﴾ أن المراد به قبول من وهبت نفسها وردها، فيكون فيه أيضًا دليل على توسيع الله تعالى لنبيه محمد ﷺ فيما يتعلق بالنكاح أن له أن يقبل وله ألا يقبل. * ومن فوائد الآية الكريمة: أنه يجوز للإنسان أن يرجع في حقه بعد إسقاطه؛ لقوله: ﴿وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ﴾ [الأحزاب ٥١]، هذا إذا كان الحق متجددًا أما إذا كان الحق غير متجدد فإن الإنسان إذا أسقطه لا يملك الرجوع فيه، مثال ذلك: أسقطت المرأة نصيبها أو حقها من نفقة ماضية بأن يكون الزوج قد ترك الإنفاق عليها لمدة سنة فأسقطت الحق، فهل لها الرجوع؟ ليس لها الرجوع؛ لأن الحق هنا غير متجدد بل هو في شيء مضى، أسقطت المرأة حقها من القسم، فهل لها أن ترجع في المستقبل؟ نعم، لها أن ترجع؛ لأن حقها يتجدد اللهم إلا أن يكون ذلك مشروطًا في العقد؛ بأنْ شرط الزوج على زوجته الجديدة ألا يقسم لها، فقبلت، ففي هذه الحال لا تملك الرجوع؛ لأنه صار شرطًا في العقد، والشرط في العقد يجب الوفاء به لدخوله في عموم قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ [المائدة ١]، بخلاف ما لو أسقطته بعد العقد، فإن هذا إسقاط لها أن ترجع فيه؛ لأنها لا تملك إسقاط المستقبل. * ومن فوائد الآية الكريمة: أن النبي ﷺ داخل في التكليف لقوله: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ﴾؛ لأن نفي الوصف عن شيء ما يدل على إمكان اتصافها به إذ لو كان منتفيًا من الأصل ما احتيج إلى نفيه فدل هذا على أنه يمكن أن يكون على النبي ﷺ جناح وهذا دليل على تكليفه بأحكام الرسالة. * ومن فوائد الآية الكريمة: الرد على الجبرية من أين يؤخذ؟ ﴿وَمَنِ ابْتَغَيْتَ﴾ أي: طلبت وأردت، والجبرية يرون أن الإنسان ليس له إرادة، وإنما يُجبر ويُسخَّر على عمله بدون إرادة منه. * ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات العلل والحكم للأحكام، أن الأحكام مربوطة بعللها وحكمها من أين تؤخذ؟ ﴿ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ﴾ [الأحزاب ٥١]، وإثبات الحكم في أحكام الله سبحانه وتعالى الكونية والقدرية كثيرة جدًا، وكلها ترد أيضًا على الجبرية؛ لأن الجبرية يرون أن أفعال الله سبحانه وتعالى وأحكامه غير معللة، وأنه تعالى يفعل لا لعلة وحكمة بل لمجرد المشيئة، هل فيه ما يؤيد مذهب المعتزلة القائلين بوجوب الأصلح أو الصلاح في حق الله عز وجل ما أدري تعرفون هذا ولّا لا؟ هذا مر علينا في العقيدة السفارينية، حيث قال: ؎فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ فِعْلُ الْأَصْلَحِ ∗∗∗ وَلَا الصَّــــــلَاحِ وَيْحَ مَنْ لَمْيُفْلِـــــحِ والمعتزلة يقولون: إنه يجب عليه فعل الأصلح فيما إذا تعارض الصالح والأصلح، وفعل الصالح فيما إذا تعارض الصالح والفاسد، قال: يجب على الله أن يفعل الأصلح في تعارض الصالح والأصلح، والصالح في تعارض الصالح والفاسد، ولكن الصحيح أن في ذلك تفصيلًا إن قلنا بالوجوب؛ بمعنى أن عقولنا أوجبت على الله ذلك، فهذا باطل، إذ أن العقول لا توجب على الله شيئًا، فهي أدنى وأحقر من أن توجب على الله شيئًا، وإن قلنا: إن ذلك واجب بمقتضى حكمته، فهذا حق وصحيح، فإن الله عز وجل لا يفعل شيئًا إلا وهو أصلح، كما قال الله تعالى: ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾ [البقرة ٢٠٥]، ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ [المائدة ٦٤]، و﴿إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ﴾ [الأعراف ١٧٠]. فإذا كان الله عز وجل أثنى على المصلحين، ونفى أن يكون محبًّا للفساد أو للمفسدين دل ذلك على أنه لا يمكن أن يريد ذلك، أي أن يريد الفساد، وعلى هذا فنقول: المعتزلة أخطؤوا، حيث أوجبوا ذلك على الله بعقولهم؛ لأن العقل أدنى وأحقر من أن يوجب على الله شيئًا، وقد يرى العقل أن هذا الشيء واجب وهو في الحقيقة غير واجب؛ لأن العقول قاصرة، قد ترى أن هذا أصلح وليس بأصلح، وقد أشار الله إلى ذلك في قوله: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ﴾ [البقرة ٢١٦]، وأما أن نقول إنه واجب بمقتضى حكمته، فهذا حق، نعم، هنا نقول: إن إثبات العلل فيه رد على الجبرية، وهم الجهمية أيضًا في هذا الباب، وليس فيه تأييد لقول المعتزلة القائلين بوجوب الأصلح أو الصلاح. * ومن فوائد الآية الكريمة: مراعاة قلوب زوجات الرسول عليه الصلاة والسلام وإدخال السرور عليهن من أين تؤخذ؟ ﴿ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ﴾ [الأحزاب ٥١]، فإن في هذا مراعاة لقلوب هؤلاء النساء حتى تقر أعينهن. * ومن فوائدها أيضًا: أنه ينبغي مراعاة المؤمن بإدخال السرور عليه وانتفاء الحزن عنه لقوله: ﴿وَلَا يَحْزَنَّ﴾ [الأحزاب ٥١] أي: لا يدخلهن الحزن والغم مما مضى، وهذه الحال للمؤمن تنافي حال الشيطان، فإن الشيطان يسعى بكل ما يُحزن بني آدم كما قال تعالى: ﴿إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [المجادلة ١٠]، ولهذا كل من حاول إدخال الحزن على أخيه المسلم فإنه شبيه بالشيطان الذي يريد إدخال الأحزان على المؤمنين. * ومن فوائد الآية الكريمة: أن الله عز وجل يدافع عن نبيه ﷺ بأنواع من الأساليب الدفاعية، وجهه أن الله لما خيره بَيَّن أن هذا الحكم من أين هو؟ من الله؛ لأجل إذا علمت زوجات الرسول عليه الصلاة والسلام أن هذا الحكم من الله زال ما في نفوسهن من عدم الرضا أو من الحزن؛ لأنه بلا شك أن رضا الإنسان بما كان من الله أبلغ من رضاه بما كان من غير الله، هذا من جهة. وإن كان المؤمن يرضى من رسول الله ﷺ كما يرضى بالشيء الذي من الله، لكن لما كان النبي ﷺ زوجًا لهؤلاء النساء فإنه يمكن أن يرد في نفوسهن أن كون الرسول عليه الصلاة والسلام يقسم ولا يقسم، أو يقبل ويرد، أن ذلك لمجرد هوى في نفسه، وإذا اعتقدن أن ذلك لمجرد هوى في نفسه دخل عليهن الحزن، فإذا علمن أن ذلك من الله وأن الله هو الذي وسع له في هذا زال عنهن الحزن. فربما يتفرع على هذه الفائدة فائدة أخرى، وهي أنه ينبغي للإنسان أن يدفع عن نفسه ما يُلام عليه به كل شيء تخشى أن يلومك الناس فيه فادفع الشبهة عن نفسك ولهذا أصل، ما هو؟ * طالب: (...) قول الرسول (...)، قال: «عَلَى رِسْلِكُمَا، إِنَّهَا صَفِيَّةُ»[[متفق عليه؛ البخاري (٢٠٣٥)، ومسلم (٢١٧٥ / ٢٤) من حديث صفية بنت حيي.]]. * الشيخ: وأيش الثاني؟ * الطالب: (...). * ويُستفاد من الآية الكريمة: استعمال أدوات التوكيد فيما تدعو الحاجة إليه، لقوله: ﴿كُلُّهُنَّ﴾ [الأحزاب ٥١]، حتى لا يتوهم واهم أن رضا بعضهن وانتفاء الحزن عنهن كافٍ في ذلك، بل الرضا يكون للجميع. * ويُستفاد من الآية الكريمة: عموم علم الله سبحانه وتعالى بالظواهر والبواطن، لقوله: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ﴾ [الأحزاب ٥١]. * ويُستفاد من الآية الكريمة: أن ما في القلب مما لا يملكه الإنسان لا يُؤاخذ عليه؛ لأنه لما ذكر أن الرسول ﷺ مخير قال: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ﴾ يعني: من الشيء الذي لا تملكونه، ولهذا يجوز للإنسان -أو لا يحرم على الإنسان- أن يفضل إحدى نسائه على الأخرى في المحبة؛ لأن المحبة محلها القلب، ولا يمكن للإنسان أن يسلط قلبه ويسخره حتى يحب ويكره. * ويُستفاد من الآية الكريمة: أن محل الإرادات هو القلب؛ لقوله: ﴿مَا فِي قُلُوبِكُمْ﴾، وهل المراد بالقلب القلب الحسي أو القلب المعنوي الذي هو العقل؟ القلب الحسي؛ لأن الصحيح أن القلب الحسي هو الذي عليه المدار، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: «أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ»[[متفق عليه؛ البخاري (٥٢)، ومسلم (١٥٩٩ / ١٠٧) من حديث النعمان بن بشير.]]. وقد اختلف العلماء هل العقل في القلب أو العقل في الدماغ؟ وظاهر القرآن الكريم أن العقل في القلب كما قال تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ [الحج ٤٦] ويدل لهذا أيضًا من السنة قوله عليه الصلاة والسلام: «أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ»، فدل هذا على أن العقل في القلب، ولكن قال الإمام أحمد إن له اتصالًا في الدماغ؛ يعني: هو في القلب لكنْ له اتصال بالدماغ، ولهذا إذا فسد الدماغ فسد العقل، وذكر شيخ الإسلام رحمه الله في مواضع من كلامه أن الدماغ محل التصور وتكييف الأشياء، وأن القلب محل التدبير والتصريف، فكأن الدماغ سكرتير القلب، يهيئ الأمور له ويصورها ويكيفها ثم يرسلها إلى القلب، والقلب يأمر أو ينهى أو يقر أو ينكر. * ويُستفاد من الآية الكريمة: إثبات اسمين من أسماء الله وهما العليم والحليم، فالعليم هو الذي أحاط بكل شيء علمًا، والعلم عند أهل الفقه أو عند الأصوليين هو إدراك الشيء إدراكًا جازمًا مطابقًا، فقولهم: (جازمًا) خرج به الشك والظن والوهم، فهذا لا يسمى علمًا؛ لأنه غير جازم، وخرج بقولهم: (مطابقًا) الجهل المركب؛ لأن الجهل المركب يدرك الإنسان به الشيء إدراكًا غير مطابق، وخرج بقولهم: (إدراك الشيء) الجهل البسيط؛ لأن الجهل البسيط ليس فيه إدراك إطلاقًا، فهذا هو العلم. والله عز وجل لا يتجدد له العلم، وإنما الذي يتجدد المعلوم، وتعلق علم الله عز وجل بالمعلوم له حالان: تعلق به قبل وقوعه وتعلق به بعد وقوعه، فالتعلق به قبل وقوعه معناه أنه عالم بأنه سيقع، والتعلق به بعد الوقوع أنه عالم بأنه وقع، والذي يترتب عليه الجزاء هو التعلق الثاني، التعلق بالمعلوم بعد وقوعه، وعلى هذا يزول الإشكال الذي أورده بعض أهل العلم في مثل قوله تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ﴾ [محمد ٣١]، ﴿حَتَّى نَعْلَمَ﴾ هل ما علم المجاهدين؟ نقول: نعم هو عالم، لكن العلم الذي يترتب عليه الجزاء هو العلم بالشيء بعد الوقوع، فالتجدد إذن ليس للعلم، ولكن للمعلوم. هل علم الله يتعلق بالواجب والممكن والمستحيل أو بالواجب والممكن دون المستحيل، أو بالممكن فقط، ما تقولون؟ بالجميع، بالواجب والممكن والمستحيل، أما علم الله تعالى بالواجب فعلمه بما يستحق من الأسماء والصفات، فإن هذا علم بالواجب، فإن الله قد وجب له من الكمال ما هو أهله. وأما علم الله تعالى بالمستحيل ففي مثل قوله تعالى: ﴿مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ [المؤمنون ٩١]، وقوله: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾ [الأنبياء ٢٢]، فإن هذا من العلم بالمستحيل، وأما الممكن فمعروف علمه بما يفعل الإنسان وما لا يفعله، هذا من العلم بالممكن. * ويُستفاد من الآية الكريمة: إثبات اسم الحليم، والحليم هو الذي لا يعاجل بالعقوبة، وليس الذي لا يعاقب، الذي لا يعاقب هو العَفُوُّ، وهذا هو الفرق بين الحليم وبين العَفُو، فهو سبحانه وتعالى حليم لا يعاجل بالعقوبة، وعَفُو يعفو عن الذنب فلا يعاقب عليه. قال تعالى: ﴿لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ﴾ [الأحزاب ٥٢]. * يُستفاد من هذه الآية: أن النبي ﷺ مكلف كغيره من البشر؛ يعني: أنه يُحَلل له ويُحَرَّم عليه، ويتفرع على هذه الفائدة فائدة أخرى، وهي أن التكليف لا يمكن أن يسقط عن أحد مهما بلغت منزلته في الدين، فيكون في ذلك رد على أولئك الذين يزعمون أن الأولياء إذا بلغوا مرتبة من المراتب سقط عنهم التكليف؛ لأننا نعلم أن أعلى درجات الخلق عند الله هم الأنبياء والرسل، وأن أعلاهم محمد ﷺ، فإذا كان هو محلًّا للتكليف فمن دونه من باب أولى. * ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات شكر الله عز وجل لمن قام بطاعته واتبع مرضاته، وهذا من مقتضى اسمه الشكور، فإن الله تعالى سمى اسمه بالشكور في قوله: ﴿وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ﴾ [التغابن ١٧] فمن شكره أنه سبحانه وتعالى يُنْعِم على من قام بطاعته حسب ما تقتضيه تلك الطاعة، بناء على أن قوله: ﴿مِنْ بَعْدُ﴾ أي: من بعد التخيير. أما على الرأي الثاني أن المراد من بعد هؤلاء النساء؛ فلا تتأتى هذه الفائدة، ولكنا ذكرنا أن الآية إذا صلحت لمعنيين لا يتنافيان فإن الواجب حملها عليهما. * ويُستفاد من الآية الكريمة: أنه لا يجوز للنبي ﷺ أن يطلق أحدًا من نسائه ليتزوج غيرها لقوله: ﴿وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ﴾ [الأحزاب ٥٢] والله عز وجل لم يُحَرم الطلاق، وإنما حرم عليه أن يتبدل بهن من أزواج، وفرق بين الطلاق وبين أن يتبدل بهن من أزواج. * ومن فوائد الآية الكريمة: أن النبي ﷺ كغيره من البشر، يعجبه حسن النساء الظاهر والباطن، لقوله: ﴿وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ﴾ [الأحزاب ٥٢]. * ومن فوائد الآية الكريمة: جواز تزوج الرجل للمرأة لحسنها؛ لقوله: ﴿وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ﴾، ويؤيد هذا قول الرسول ﷺ: «تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ؛ لِمَالِهَا وَحَسَبِهَا وَجَمَالِهَا وَدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ»[[متفق عليه؛ البخاري (٥٠٩٠)، ومسلم (١٤٦٦ / ٥٣) من حديث أبي هريرة.]]. * ويُستفاد من الآية الكريمة: أن الوطء بملك اليمين أهون على المرأة من الوطء بالزواج لقوله: ﴿إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ﴾ [الأحزاب ٥٢]، ولهذا أباح الله عز وجل للإنسان ألا يعدل بين سراريه؛ لأن الغيرة بينهن ليست كالغيرة بين الزوجات، فلهذا قال أو ما ملكت يمينك. * ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات الرق لقوله: ﴿إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ﴾ والرق ثابت في الإسلام، ومن أنكر ثبوت الرق فقد كَذَّب القرآن والسنة وإجماع المسلمين، فيكون مرتدًا، حتى يتوب ويقر بثبوت الرق، والناس في هذا الباب طرفان ووسط، منهم: من يسترق الأحرار ومنهم من ينكر ثبوت الرق مطلقًا، ومنهم من يثبت الرق بأسبابه وشروطه، فنسمع عن بعض فئات من الناس أنهم يسترقون أولادهم ويبيعونهم على غيرهم، وهذا كثير في أفريقيا وفي شرق آسيا، حتى إن بعض الهمج والرعاع ظنوا أن ذلك يبيح الوطء بهذا الملك الفاسد، فصاروا يشترون من هؤلاء بناتهم ويطؤونهن بهذا الملك الفاسد، وهذا لا يثبت به الملك، وليس سببًا للرق. وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي عليه الصلاة والسلام أن الله قال: «ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِهِ أَجْرَهُ»[[أخرجه البخاري (٢٢٢٧) من حديث أبي هريرة.]]، هذا قسم من الناس. القسم الثاني: من ينكر الرقَّ مطلقًا حتى مع وجود أسبابه الشرعية، وهذا يقوله أولئك الأمم المتمدينة التي تزعم الحضارة والتقدم، لكن من العجب أنهم ينكرون الرق الذي له أسباب شرعية إلهية ولكنهم يسترقون عباد الله استرقاقًا أشد من الاسترقاق الإسلامي بغير سبب شرعي، وما مشكلة جنوب أفريقيا الحاضرة الآن إلا أنموذجًا من ذلك، فإنهم يسترقون السود استرقاقًا مشينًا ويحرمونهم من حقوقهم، وهذا أقبح بكثير من الاسترقاق الشرعي الإسلامي على أن الاسترقاق الشرعي الإسلامي ليس فيه قبح؛ لأنك إذا تأملت النصوص الواردة في أحكام الرقيق وجدت أن الشرع إنما أباح استرقاقهم لمصلحتهم؛ لأن سبب الرق واحد وأسباب الحرية متعددة، ولأن الرقيق يجب على مالكه أن يعامله بالمعروف، وعلى هذا فيكون الطريق الثالث الذي هو إثبات الرق بالأسباب الشرعية الإلهية هو الحق، وقد دل عليه الكتاب والسنة والإجماع، ولا ينكره إلا مكابر، ومن أنكره فهو كافر. * ومن فوائد الآية الكريمة: جواز التعبير بالبعض عن الكل لقوله: ﴿مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ﴾ [الأحزاب ٥٢]. * ومنه: تفضيل اليمين على الشمال، حيث نسب الملكية إليها دون الشمال، ولم يعبر باليد الشمال عن الذات أبدًا، لكن عبر بالأيدي عمومًا، وعبر باليمين، وأما التعبير بالشمال فلم يرد. * ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات اسم من أسماء الله وهو الرقيب في قوله: ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا﴾ [الأحزاب ٥٢]، والرقيب بمعنى الحفيظ، والإيمان برقابة الله سبحانه وتعالى يوجب للعبد كمال مراقبة الله والخوف منه، وأن لا يتجرأ على معصيته ولا يتخلف عن طاعته؛ لأنه لو كان أحد الملوك -ملوك الدنيا- قد جعل عليك رقيبًا، وهو ما يسمى برجال المخابرات والمباحث، فهل يمكنك أن تتكلم أو أن تفعل ما يكون سببًا لعقوبتك عند هذا الملك؟ الجواب: لا، حتى إنهم يتواصون، يقول: لا يكن عندكم أحد من رجال المباحث، لا يكن عندكم أحد من رجال المخابرات، وما أشبه ذلك، ويخشونه، هذا بالنسبة للمخلوق، فرقابة الخالق عز وجل أكمل وأعظم. * ويُستفاد من الآية الكريمة: بلاغة القرآن، حيث يختم الآيات بما يناسب الأحكام الموجودة فيها؛ لأنه لما كان المقام مقام تحليل وتحريم ختمها بقوله: ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا﴾ يعني: فهو يراقبك لو خالفت ما شرع لك.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب