الباحث القرآني

﴿قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا﴾ [الأحزاب: ١٣]، ﴿وَإِذْ قَالَتْ﴾ هذه معطوفة على ما سبق، ﴿وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ﴾ يعني: واذكر هذه القولة المنكَرَة، ﴿إِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ﴾ الطائفة: الجماعة من الناس، و﴿مِنْهُمْ﴾ الضمير يعود على المنافقين كما قال المؤلف: (﴿وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ﴾ أي: من المنافقين). ﴿يَا أَهْلَ يَثْرِبَ﴾ يثرب يقول: هي أرض المدينة، وقيل: هي المدينة نفسها، فأهل العلم بالتاريخ اختلفوا هل يثرب اسم للمكان والمنطقة التي فيها المدينة، أو أن يثرب هي نفس المدينة؟ وظاهر الحديث أن يثرب هي المدينة. وقوله: (﴿يَا أَهْلَ يَثْرِبَ﴾: هي أرض المدينة، ولم تُصْرَف للعَلَمِيَّة ووزن الفعل)، يعني: ممنوعة من الصرف لهاتين العِلَّتَيْن العلمية ووزن الفعل، ويدل على أنها ممنوعة من الصرف أنها جُرَّت بالفتحة؛ لأنه مضاف إليها، وحق المضاف إليه أن يكون مجرورًا، وهنا الكلمة مفتوحة؛ لأنها تُجَرّ بالفتحة كسائر الأسماء التي لا تنصرف. وقول المؤلف: (للعَلَمِيَّة ووزن الفعل)؛ لأن يثرب التي هي اسم على وزن يثرب الذي هو فعل، ولها علة أخرى غير وزن الفعل، وهي التأنيث، العَلَمِيَّة والتأنيث؛ لأنها اسم لبقعة، وكأن المؤلف رحمه الله قال: (للعلمية ووزن الفعل) ليشير إلى أن هذه الكلمة (يثرب) مأخوذة من التثريب، وهو اللوم والتوبيخ، وما أشبه ذلك من الكلمات التي فيها عَتْب، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: «أُمِرْتُ بِقَرْيَةٍ تَأْكُلُ الْقُرَى، يَقُولُونَ: يَثْرِبُ، وَهِيَ الْمَدِينَةُ»[[متفق عليه؛ البخاري (١٨٧١)، ومسلم (١٣٨٢ / ٤٨٨) عن أبي هريرة رضي الله عنه.]]، وهذا دليل على أن الرسول عليه الصلاة والسلام كَرِهَ أن تسمى يثرب، وهو أحد القولين في المسألة. وأما الحديث الذي رُوِيَ: «مَنْ قَالَ لِلْمَدِينَةِ: يَثْرِبُ، فَلْيَسْتَغْفِرِ اللهَ»[[أخرجه أبو يعلى في مسنده (١٦٨٨) عن البراء بن عازب رضي الله عنه. ]]، فهو ضعيف، لكن يكفي عنه هذا الحديث الذي في الصحيحين، «يَقُولُونَ: يَثْرِبُ، وَهِيَ الْمَدِينَةُ، تَنْفِي النَّاسَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ»[[متفق عليه؛ البخاري (١٨٧١)، ومسلم (١٣٨٢ / ٤٨٨)، عن أبي هريرة رضي الله عنه. ]]. الحاصل أن قوله: ﴿يَا أَهْلَ يَثْرِبَ﴾ كأن المؤلف رحمه الله اختار أن يقول أنه لم يؤخَذ من فعل لهذا السبب. (﴿يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ﴾ بضم الميم وفتحها، أي: لا إقامة ولا مكانة)، (مُقام) بضم الميم وفتحها، أيش معنى كلام المؤلف؟ هي قراءتان ﴿لَا مُقَامَ﴾ و﴿لَا مَقَامَ﴾ قال: (لا إقامة ولا مكانة)؛ (لا إقامة) تفسير للضم ﴿مُقَامَ﴾؛ لأنه من الرباعي، والرباعي يقال في مصدره الميمي: (مُقام)، و﴿مَقام﴾ : لا مكانة، على أنها اسم مكان، واسم المكان بفتح الميم، المعنى: لا موضع للإقامة، على كونها اسم مكان، أو لا إقامة لكم، لماذا يقولون: لا مُقَام لكم؟ لأنهم يريدون الفرار، ولا يريدون البقاء مع النبي ﷺ في القتال؛ إذ إنهم منافقون، والمنافق ليس صبورًا على القتال، بل لا يريد القتال، ولو ظهر الأمر في يده لقاتل مَن؟ المسلمين. وفي قوله: ﴿يَا أَهْلَ يَثْرِبَ﴾ إشارة واضحة إلى القومية والعصبية؛ لأنه دعاهم باسم الوطن، ما قال: يا إخوتنا، ولا قال: يا أيها المسلمون، إنما قال: يا أهل يثرب؛ لأنه ليس عنده دين يقاتل من أجله، وإنما هو قوميّ يريد الحمية فقط. ﴿لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا﴾، إلى أين؟ يقول المؤلف: (إلى منازلكم من المدينة، وكانوا خرجوا مع النبي ﷺ إلى سلع -جبل خارج المدينة- للقتال). وقوله: ﴿لَا مُقَامَ لَكُمْ﴾ حسب ما يُعْرَف في اللغة العربية إنه نفي عامّ؛ لأن (لا) النافية للجنس تفيد العموم، يعني: ما فيها أي مقام على أي حال من الأحوال فارجعوا، ومثل هذا التعبير إذا قيل لقوم ليس في قلوبهم إيمان لا يُبْقِي منهم أحدًا، لا بد أن يرجعوا. ثم قال الله عز وجل بناء على هذا الأمر وأنه لا مقام لهم، قال: ﴿وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ﴾، هؤلاء أهون من الأولين؛ لأن الأولين دَعَوْا إلى الفرار بدون استئذان، قالوا: ﴿لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا﴾، أما هؤلاء فإنهم يستأذنون النبي ﷺ، ولكن استئذانهم للرسول عليه الصلاة والسلام ليس كاستئذان المؤمنين الذين إذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه، لكنهم يستأذنون خداعًا وتمويهًا، ولهذا يقول: ﴿يَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ﴾، أي: من المنافقين، النبي ﷺ إلى الرجوع ﴿يَقُولُونَ﴾. ﴿يَسْتَأْذِنُ﴾ بمعنى: يطلب الإذن؛ لأن استفعل تأتي كثيرًا بمعنى: طلب الشيء، ومنه: اسْتَغْفَرَ؛ طلب المغفرة، واستعتب؛ طلب العتب والعظة. وقوله: ﴿يَقُولُونَ﴾ الجملة إما أنها حال من ﴿فَرِيقٌ﴾، يعني: حال كونهم يقولون، وإما أن تكون عطف بيان أو بدلًا من قوله: ﴿يَسْتَأْذِنُ﴾، وكلاهما له وجه؛ أما على قولنا: إنها حال، فلأن النكرة هنا وُصِفَت، والنكرة إذا وُصِفَت تخصصت، فجاز وقوع الحال منها، أليس هذا؟ وأما على قولنا بأنها بدل أو عطف بيان فعلى حد قول ابن مالك رحمه الله، ماذا قال؟ ؎وَيُبْدَلُ الْفِعْلُ مِنَ الْفِعْلِ كَمَنْ ∗∗∗ يَصِلْ إِلَيْنَا يَسْتَعِنْ بِنَا يُعَنْ إذن يجوز فيها وجهان؛ أن تكون بدلًا من قوله: ﴿يَسْتَأْذِنُ﴾، وأن تكون عطف بيان مثل البدل، وأن تكون حالًا من فاعل ﴿يَسْتَأْذِنُ﴾. ﴿يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ﴾ قال: (غير حصينة يُخْشَى عليها)، يقولون للرسول عليه الصلاة والسلام في مبرر الاستئذان: ﴿إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ﴾ ونخشى عليها من العدو، والعورة هنا يعني غيرة حصينة؛ لأن الحصن يحميها ويسترها، كما يستر الثوب عورة الرجل، فهذا معنى قولهم: إنها عورة، يعني: مكشوفة لا يمكن أن نأمن من هجوم العدو عليها. وفي قراءة لكنها غير سبعية (عَوِرَةٌ) بكسر الواو، أي: معيبة. قال الله تعالى مبطلًا دعواهم: (﴿وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ﴾: ما ﴿يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا﴾ )، هنا ينبغي الوقوف على قوله: ﴿إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ﴾؛ لأنك لو وصلت لأَوْهَم أن قوله: ﴿وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ﴾ من قول المنافقين، فيكون في ذلك تناقض وفساد للمعنى، فتقف ﴿يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ﴾، ثم تستأنف القراءة وتقول: ﴿وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ﴾. وقوله: ﴿وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ﴾ أحب أن نسمع إعرابها من واحد منكم يا نحاة البصرة. * طالب: (...). * الشيخ: مبنية على الكسر؟ * الطالب: (...). * الشيخ: على السكون. * الطالب: الفتح. * الشيخ: الفتح؟ صح. * طالب: (...). * الشيخ: زائد إعرابًا. * الطالب: (...). * الشيخ: لو قال قائل: مَن الذي يقول: إنها حجازية؛ لأن النص ليس بظاهر على الخبر، أفلا يجوز أن تكون ﴿بِعَوْرَةٍ﴾ خبر المبتدأ مرفوع بضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل؟ فبماذا نجيبه؟ * الطالب: (...). * الشيخ: ما الدليل؟ نريد شاهدًا من القرآن يؤيد قولك. * الطالب: (...). * الشيخ: ﴿مَا هَذَا بَشَرًا﴾ فنصب، فدلّ ذلك على أن القرآن نزل بمقتضى لغة الحجازيين. قال الله تعالى: ﴿وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا﴾، ﴿إِنْ﴾ قال المؤلف: ما، (ما) هذه أيش معناها؟ * الطالب: (...). * الشيخ: تفسير لـ﴿إِنْ﴾؟ إذن (إن) هنا أيش؟ * الطالب: (...). * الشيخ: نافية؛ لأنها فُسِّرَت بـ(ما)، و(ما) نافية، ويدل لذلك إتيان ﴿إِلَّا﴾ بعدها، ولَّا لا؟ ﴿إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا﴾، فهذا دليل على أنها نافية، و(إن) تأتي نافية كما هنا، وتأتي شرطية، ويش مثاله؟ ﴿وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ﴾ [الأنفال ١٩]، وتأتي مخففة من الثقيلة، مثل؟ * الطالب: (...). * الشيخ: هذه (أَنْ). * الطالب: (...). * الشيخ: لا، هذه شرطية. * الطالب: (...). * الشيخ: (أنْ). * الطالب: (...). * الشيخ: ﴿إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ﴾ [طه ٦٣] هذه مخففة من الثقيلة، هذه ثلاث، وتأتي زائدة؟ * الطالب: (...). * الشيخ: هذه (أنْ)، ما يخالف، لو ما فيه غير القرآن، ائتوا لنا بشيء من كلام العرب ولّا من غير القرآن. * الطالب: (...). * الشيخ: ؎.... مَا إِنْ أَنْتُمُ ذَهَبٌ ∗∗∗ وَلَا صَرِيفٌ وَلَكِنْ أَنْتُمُ الْخَزَفُ هذه زائدة، أو لا؟ يعني: ما إن أنتم، أي: ما أنتم، ما الذي يُعَيِّن هذه المعاني؟ الذي يُعَيِّنُه السياق، وهذا باتفاق العلماء، أي: أن وجود الألفاظ المشتركة التي تتعين بالسياق ثابت في اللغة العربية. لكنهم اختلفوا في مسألة الحقيقة والمجاز؛ فمنهم من أثبت ذلك، ومنهم من نفى، وقالوا: إن المجاز والحقيقة كالاشتراك في المعنى، والاشتراك أنتم تقولون به، وهذا هو القول الراجح كما سبق عدة مرات بأن الصحيح أنه لا مجاز في اللغة العربية. يقول: ﴿إِنْ يُرِيدُونَ﴾ هذا كلام الله عز وجل، ﴿وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا﴾، يعني: ما ﴿يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا﴾، وهذه الجملة كما تشاهدون جملة حصرية، يعني: تفيد الحصر، أي أن هؤلاء ما لهم إرادة أبدًا سوى الفرار من القتال، فالبيوت مُحَصَّنَة، ولا يُخْشَى عليها أكثر مما يُخْشَى على المدينة، وليس لهم أي عذر إلا عذرًا واحدًا، وهو الفرار من القتال؛ لأنهم لا يريدون مواجهة العدو، بل هم العدو، كما قال الله عنهم. قال الله تعالى: ﴿وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا﴾ [الأحزاب ١٤]، ﴿وَلَوْ دُخِلَتْ﴾، ﴿لَوْ﴾ هذه شرطية، وفعل الشرط فيها ﴿دُخِلَتْ﴾، وجواب الشرط ﴿لَآتَوْهَا﴾. ﴿لَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا﴾ الفاعل فَسَّرَه المؤلف بالمدينة، يعني: لو دُخِلَت المدينة عليهم من أقطارها، وتفسيره إياها بالمدينة يؤيده قوله في أول الآية: ﴿يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ﴾، وفَسَّرَه بعضهم بالبيوت، أي: ولو دُخِلَتْ عليهم البيوت من أقطارها. ويؤيد هذا التفسير قولهم: ﴿إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ﴾، لكن يرجِّح الأول؛ أنها المدينة، قوله: ﴿مِنْ أَقْطَارِهَا﴾؛ لأن الغالب أن كلمة ﴿مِنْ أَقْطَارِهَا﴾ ما تأتي للبيوت؛ لأن البيوت صغيرة، فجهاتها لا يُطْلَق عليها قطر، وإنما الأقطار إنما تكون للشيء الكبير. ولهذا قال: (﴿مِنْ أَقْطَارِهَا﴾، أي: نواحيها)، يعني لو دَخَلَ العدو المدينة من نواحيها كلها، أو من أي ناحية منها، (﴿ثُمَّ سُئِلُوا﴾ أي: سألهم الداخلون ﴿الْفِتْنَةَ﴾، ﴿لَآتَوْهَا﴾ بالمد والقصر، أي: أَعْطَوْهَا وفعلوها). ﴿ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ﴾ الفاعل مَن؟ نائب الفاعل المنافقون، لكن مَن السائل الفاعل في المعنى الداخل للمدينة من أقطارها، لو سألهم هذا الداخل الفتنة، الفتنة يقول المؤلف: (الشرك)، والدليل على أن الفتنة بمعنى الشرك قوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ [البقرة ١٩٣]، أي: لا يكون شرك. وقال الإمام أحمد رحمه الله في قوله تعالى: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ﴾ [النور ٦٣]، قال: أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشِّرْك، هؤلاء لو دُخِلَت عليهم المدينة لم يكن عندهم إخلاص في الإسلام وبقاء عليه، بمجرد ما يسألهم الداخلون الكفرَ يوافقون عليه؛ لأنهم قوم لا يريدون إلا الدنيا فقط، يريدون أن يعيشوا في الدنيا ولو عيشة الحمار، أما أن يعيشوا عيشة المؤمنين فإنهم لا يريدون هذا، ولذلك يقول: ﴿لَوْ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ﴾، (...). قصر، و(آتوها) هذا المد، والفرق بينهما أن (أتى) بمعنى: جاء، و(آتى) بمعنى: أعطى، وتفسير القراءتين أو مجموع التفسير يدل على أنهم يُعْطُون ما سُئِلُوا، ويأتون إليه بانقياد، يعني أتى الشيء يعني: جاءهم باختياره، وآتاه بمعنى أعطاه ولو عن كُرْه، ولكن مع ذلك هؤلاء قوم يُعْطُون ما سُئِلُوا أيش؟ عن اختيار، ولهذا في القراءة الثانية ﴿لَأَتَوْهَا﴾ لجاؤوها. فصار هؤلاء القوم الذين يَعْتَذِرُون، أو الذين يستأذنون النبي ﷺ بحجة أن بيوتهم عورة، صار الأمر خلاف ما قالوا؛ لأن الله أَخْبَرَ عنهم، وهو سبحانه وتعالى أعلم بما في قلوبهم، وهذا من اطِّلَاع الله تعالى على ما في القلوب، أخبر عن أمر مستقبل لم يقع يصدر ممن؟ من قوم لا نعلم نحن ما في قلوبهم، ولكن الله يعلم، والله عز وجل يعلم ماذا يحدث من عبده لو حصل لهم ما يحصل به هذا القصد. بل إنه سبحانه وتعالى يعلم أبلغ من ذلك، قال عن الذين يقولون: إنهم لو رُدُّوا إلى الدنيا لعملوا صالحًا، قال تعالى: ﴿وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ﴾ [الأنعام ٢٨]؛ لأنه سبحانه وتعالى يعلم ما في قلب الإنسان، قال: ﴿وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا﴾، ﴿لَأَتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا﴾ ، تلبثوا بمعنى: تَرَيَّثُوا، يعني: لا يتريثون في إعطاء الفتنة وقبولها إلا يسيرًا. قوله: ﴿إِلَّا يَسِيرًا﴾ قيل: إن هذا بمعنى إلا عدمًا؛ لأن اليسير والقليل قد يراد به العدم. وقال بعضهم: ﴿إِلَّا يَسِيرًا﴾ أي: إلا قليلًا على وجه الحقيقة، وهذا الزمن اليسير هو ما بين السؤال والجواب، يعني: ما بين أن يُسْأَلُوا ثم يُجِيبُوا، هذه المسافة من المدة طويلة ولَّا لا؟ قصيرة جدًّا، هي كالمسافة التي بين قول القائل: بعتك هذا الشيء، فيقول المشتري: قبلت، يعني أنهم -والعياذ بالله- لا يتلبثون ولا يتريثون أبدًا، بل يقبلون فورًا، ليس بين قبولهم وسؤال الفتنة إلا ما بين مُدَّتَيِ السؤال والجواب. وفي الحقيقة أن هذه المدة القصيرة كالعدم، ولهذا فُسِّرَ قوله: ﴿إِلَّا يَسِيرًا﴾ يعني: إلا عدمًا. ﴿وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا﴾ [الأحزاب ١٥]، ﴿وَلَقَدْ كَانُوا﴾ الجملة هذه مُؤَكَّدَة بكم من مؤكد؟ * الطالب: (...). * الشيخ: الواو ما هي مؤكدة. * الطالب: (...). * الشيخ: باللام وقد، أيش بعد؟ نحن قلنا: ثلاثة. * الطالب: (...). * الشيخ: قسم مُقَدَّر، كلما جاء مثل هذا التعبير في القرآن فإنه مُؤَكَّد بالمؤكدات الثلاثة، يعني: والله لقد كانوا عاهدوا الله من قبل، القَسَم تقدَّم لنا أن الله تعالى يُقْسِم عن الشيء لا في جانب الإنكار، ولكن في جانب الأهمية، وقد يقسم عليه في جانب الإنكار مثل: ﴿زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ﴾ [التغابن ٧]. هنا أَكَّدَ الله تعالى هذا العهد منهم أنهم عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار، وهذا العهد بينهم وبين الرسول عليه الصلاة والسلام، والمعاهدة مع الرسول ﷺ معاهدة مع الله، كما قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ﴾ [الفتح ١٠]، فهم عاهَدُوا الرسول عليه الصلاة والسلام ألَّا يَفِرُّوا ولا يُوَلُّون الأدبار، ولكنهم نقضوا العهد؛ لأن نقض العهد والخيانة والكذب من خصال مَن؟ مِن خصال المنافقين، تلك سجية فيهم، نسأل الله العافية. ﴿عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ﴾، ما محل قوله: ﴿لَا يُوَلُّونَ﴾ من الإعراب؟ قال بعضهم: إنه لا محل لها من الإعراب؛ لأنها جواب لقوله: (عاهد)، وقال بعضهم: إنها بيان للمعاهدة، يعني: إن المعاهدة اللي وقعت أنهم لا يُوَلُّون الأدبار. كلمة ﴿لَا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ﴾ تحتاج إلى مفعولين؛ المفعول الأول الأدبار، والمفعول الثاني محذوف، والتقدير: لا يولون عَدُوَّهم أدبارَهم، تولية الدُّبُر معناه: الانصراف والانحراف، فبدلًا من أن تكون وجوههم نحو العدو تكون أدبارهم نحو العدو، فهم أقسموا بالأول وعاهدوا أنهم لا يولون الأدبار عند ملاقاة الأعداء، ولكنهم نقضوا العهد، قال الله تعالى: ﴿وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا﴾ قال المؤلف: (﴿وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا﴾ عن الوفاء به). فعلى هذا تكون المسؤولية ما هي عن العهد نفسه، بل عن الوفاء به، فالعهد مسؤول، يعني مسؤول عن الوفاء به، والسؤال عن الوفاء به سؤال عن وقوعه أيضًا، فيقال –مثلًا-: أليس بيني وبينك عهد؟ ألم تنقض العهد؟ فيكون السؤال عن نفس العهد وعن الوفاء به، هذه المسؤولية متى تكون؟ في الدنيا أو في الآخرة؟ أما المسؤولية التي بين الإنسان وبين ربه فإنها في الآخرة، وأما المسؤولية التي تكون بينه وبين الناس فهي في الدنيا يطالَب بالوفاء بالعهد، ﴿وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا﴾. ثم قال تعالى: ﴿قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ﴾ [الأحزاب ١٦]، ﴿لَنْ﴾ تفيد ثلاثة أشياء، يذكرها لنا الأخ. * طالب: (...). * الشيخ: النفي، والنصب. * الطالب: (...). * الشيخ: أيش؟ * الطالب: (...). * الشيخ: لا. * الطالب: (...). * الشيخ: والاستقبال، يعني أن الفعل المضارع محتمل لأن يكون للحال أو للاستقبال، فإذا دخلت عليه (لن) تَعَيَّنَ أن يكون للاستقبال، وهل (لن) للنفي المؤبَّد؟ يعني تستلزم وتقتضي النفي المؤبد؟ ولَّا تكون للتأبيد ولغير التأبيد؟ * الطالب: (...). * الشيخ: دائمًا لغير التأبيد؟ * الطالب: (...). * الشيخ: وتكون للتأبيد؟ * الطالب: (...). * الشيخ: يعني تكون لهذا ولهذا؟ هات مثالًا على التأبيد؟ * طالب: ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا﴾ [البقرة ٢٤]؟ * الشيخ: ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا﴾، والآية اللي معنا للتأبيد، ﴿لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ﴾، وتأتي لغير التأبيد؟ * الطالب: (...). * الشيخ: الظاهر أنها للتأبيد هنا، أو ربما يضرونهم بأكثر من الأذى، أيش تقولون في هذه الآية، هل هي للتأبيد ولَّا لغير التأبيد؟ ﴿لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى﴾ [آل عمران ١١١] هل إنهم قد يَضُرُّون المؤمنين بغير الأذى، أو لا يضرونهم إلا أذى؟ * طالب: (...). * الشيخ: قال الله تعالى: ﴿وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ [البقرة ٩٥] هذه للتأبيد؟ * الطالب: (...). * الشيخ: ما هو قد يتمنون الموت؟ في عذاب النار يتمنون الموت. * الطالب: (...). * الشيخ: لا، في الدنيا ما يتمنون الموت، ولكن حتى في الدنيا مؤكَّدة بقوله: أبدًا، الصحيح أن (لن) لا تقتضي التأبيد، كما قال ابن مالك: ؎وَمَنْ رَأَى النَّفْيَ بِلَنْ مُؤَبَّدَا ∗∗∗ فَقَوْلَهُ ارْدُدْ وَسِوَاهُ فَاعْضُدَا ما يمكن أن تأتي للتأبيد أبدًا، يعنى معناه لا تستلزم التأبيد، وإلا قد تفيده، ولهذا قال أهل السنة: إن قول الله تعالى لموسى: ﴿لَنْ تَرَانِي﴾ لا يستلزم أنه لا يرى الله لا في الدنيا ولا في الآخرة، وأما المعتزلة ومُنْكِرُو رؤية الله سبحانه وتعالى فإنهم يقولون: (لَنْ) تفيد التأبيد، فتدل على أن الله لا يُرَى أبدًا، إي نعم. ﴿قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ﴾ يعني: فإن لم تَفِرُّوا من الموت أو القتل نفعكم الفرار؟ هذا القيد لبيان الواقع؛ لأنه لا فرار إلا إذا فَرُّوا، فهو لا ينفعهم أي شيء من الموت أو القتل. قال: ﴿وَإِذًا﴾ يعني: لو فُرِضَ أنكم فررتم من الموت أو القتل، (﴿وَإِذًا﴾ إن فررتم ﴿لَا تُمَتَّعُونَ﴾ فِي الدنيا بعد فراركم، ﴿إِلَّا قَلِيلًا﴾ بقية آجالكم). يعني: على فَرْض أنكم فررتم من الموت أو من القتل، فهل ستبقون في الحياة؟ لا، ما يبقون، إن فَرُّوا لا يُمَتَّعُون إلا قليلًا، وهو بقية آجالهم، هذا على تقدير فرارهم، وحينئذ ما الفائدة من أن يَدَعَ الإنسان القتال المفروض عليه ويُوَلِّي الدُّبُر لأمر قد ينفعه وقد لا ينفعه، قد يموت في حال التولي، وقد يبقى ويُعَمَّر، لكن لو بقي وعُمِّرَ سيبقى أبدًا؟ لا، لا يُمَتَّع إلا قليلًا، مهما طال الأمد به فإنه قليل، ولهذا الدنيا كلها بالنسبة للآخرة ليست بشيء، قال الله تعالى: ﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (١٦) وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ [الأعلى١٦ ١٧]. وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن موضع سَوْط الإنسان في الجنة خيرٌ من الدنيا وما فيها، فمتاع الدنيا في الحقيقة ليس بشيء بالنسبة لوقت الآخرة، ولهذا قال: ﴿وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾. ثم هناك شيء آخر لو قُتِلُوا في سبيل الله فإنهم قُتِلُوا ولكنهم أحياء، قال الله تعالى: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ﴾ [البقرة ١٥٤]، هذا القول باللسان نُهِينَا عنه، وحتى الظن بالقلب نُهِينَا عنه، ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ [آل عمران ١٦٩]. فلا يجوز القول ولا الحسبان بأن مَن قُتِلَ في سبيل يكون ميتًا، بل هو ميت البدن، لكنه حَيّ الروح حياة برزخية، وليست كحياة الدنيا، ولو كانت كحياة الدنيا ما جاز أن يُدْفَن هؤلاء؛ لأننا لو دَفَنَّاهم وهم أحياء حياة دنيوية لكنا قد قتلناهم وأهلكناهم، وبهذا نعرف ضلال مَن قالوا: إنهم أحياء يَسْأَلُون لك إذا سألتهم أن يدعوا الله لك، ويجيبونك، ويتوصَّلُون بهذا الشيء إلى الإشراك بهم، وبالأنبياء، وبمن يدعونهم أولياء. * طالب: (...). * الشيخ: لأجل تعميم الأحوال، كما قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ﴾ [الجمعة ٨]، أو يقال أيضًا: هؤلاء الذين جاؤوا للقتال قد يموتون بدون قتل. * الطالب: (...). * الشيخ: خاص بالشهداء ومَن هو أفضل منهم، هذا هو الظاهر، ويحتمل أن يكون هذا خاصًّا بالشهداء؛ لأن الشهداء تعرَّضُوا للموت ابتغاء وجه الله، وبعض أهل العلم يقول: إذا ثبت هذا للشهداء في الحياة البرزخية، فلمن هو أفضل منهم أثبت، مثل الصديقين والأنبياء. ولكن عندي أن فيه احتمالًا بأن هذا خاص بالشهداء، وذلك لأن الشهيد ليس كغيره، الشهيد عَرَّض نفسه للموت، وباع نفسه، فيجازَى بأن يكون حيًّا، لكن المشهور أنّ مَن هو أعلى من الشهداء له ذلك الحكم، والأنبياء لهم خصيصة أخرى أيضًا ما هي بغيرهم، وهي أن الأرض لا تأكل أجسادهم. * طالب: (...). * الشيخ: ما يحصل لهم هذا (...)، هم عَرَّضُوا أنفسهم لكنهم ما قُتِلُوا. * الطالب: (...). * الشيخ: ما نجزم بهذا الشيء، والمسألة فيها كما قلت، رأي أكثر أهل العلم الذين اطلعت عليهم أنهم يقولون: إن مَن كان أعلى منهم مرتبة فهو أولى منهم بذلك. (...) ﴿فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ﴾ [البقرة ٨٨]، ﴿فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [النساء ٤٦]، ومثل هذا التعبير ذَكَرَ المفسرون أنه يراد به العدم، يعني: لا يؤمنون أبدًا. ﴿وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ﴾، انتهينا من التي قبلها؟ * في هذه الآية الكريمة: بيان إرجاف المنافقين بالمؤمنين، والإرجاف هو أن يذكر الإنسان ما يكون به الخوف والقلق، هذا الإرجاف، وفيه في باب القتال مُرْجِف ومُخَذِّل، والفرق بينهما أن الْمُرْجِف مَن يُخَوِّف، والْمُخَذِّل مَن يُقَلِّل الرغبة في الخير، هذا الفرق بينهما، فالمرجف يُرْهِبهم، وأما الْمُخَذِّل فهو يثبط عزيمتهم، يقول: مال هي مآل؟ أيش الفائدة وأيش كذا وكذا؟ فبينهما فرق، هؤلاء مُرْجِفُون ولَّا مُخَذِّلُون ؟ مُرْجِفُون، ما فيه مقام هنا؛ لأنه خطر عليكم، ولهذا قالوا: ﴿فَارْجِعُوا﴾، فيستفاد منه أن المنافقين من شأنهم الإرجاف بالمؤمنين. * ومن فوائد الآية الكريمة: أن الاعتزاز بالوطن من صفات المنافقين؛ لقول لقولهم: ﴿يَا أَهْلَ يَثْرِبَ﴾، وقصدهم بذلك إِحْمَاءُ حَمِيَّتهم الوطنية، وأما الحديث الذي يُرْوَى: «حُبُّ الْوَطَنِ مِنَ الْإِيمَانِ»[[انظر كشف الخفاء (١ / ٣٩٨). ]] فإنه كذب على الرسول عليه الصلاة والسلام، ما هو صحيح. * ومن فوائد الآية الكريمة: جواز تسمية المدينة بيثرب، هكذا استدل به بعضهم. * الطالب: (...). * الشيخ: ما يستفاد؟ وجه قول هذا القائل: إن الله تعالى حكاه عنهم وأقَرَّه، ولكن بعض أهل العلم قال: لا يدل على ذلك، بل إنما يدل على العكس، وأما تسميتها بيثرب إنما يكون من المنافقين؛ لأن الله تعالى يحكي الكفر عن الكافرين، يحكي كل ما يقوله هؤلاء الكفار من المنافقين وغيرهم، وهل ما حكاه عنهم من الكفر إقرار له؟ لا. إذن يستفاد من الآية أن تسمية المدينة بيثرب من شأن المنافقين، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: «يَقُولُونَ: يَثْرِبُ، وَهِيَ الْمَدِينَةُ»[[متفق عليه؛ البخاري (١٨٧١)، ومسلم (١٣٨٢ / ٤٨٨) عن أبي هريرة رضي الله عنه.]]، وهذا واضح بأن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يَرْتَضِ هذه التسمية. * ويتفرع على هذا الفائدة: بيان ما كان عليه من أولئك المؤرِّخِين، لا نقول: العرب، نقول: الإسلاميين الذين هم إمَّعَة، جاء المستشرقون فكانوا يتحدثون عن الرسول عليه الصلاة والسلام باسم محمد فقط، قالوا: محمد، كما قال الكفار في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، ويتحدثون عن المدينة بأنها يثرب، فجاء هؤلاء المساكين يُقَلِّدُون أولئك المستشرقين، فصاروا يُعَبِّرُون عن الرسول بكلمة محمد، ويعبرون عن المدينة بكلمة يثرب، وكأن هذا هو الفخر والرقي. * ومن فوائد الآية الكريمة: أن أولئك الْمُرْجِفِين لم يقتصروا على الإرجاف، بل ضَلَّلُوا الناس بقولهم: ﴿فَارْجِعُوا﴾. * ويتفرع على هذا: أن كل مَن دعا إلى الرجوع عن الحق ففيه شبه بمن؟ بالمنافقين؛ لقوله: ﴿فَارْجِعُوا﴾، هؤلاء أَرْجَفُوا أولًا، ثم دَعَوْا إلى الترك، ﴿فَارْجِعُوا﴾. * ومن فوائد الآية الكريمة ﴿وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ﴾ إلى آخره: بيان مَكْر المنافقين، حيث جاؤوا يستأذنون الرسول ﷺ تمويهًا، وإلا ليس في نيتهم البقاء، لكن يُمَوِّهُون، ﴿يَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ﴾، ففيه دليل على تمويه المنافق، وإظهار حاله بحال المؤمن المنقاد الذي لا ينصرف إلا بعد الاستئذان، مع أن الاستئذان في مثل هذا الأمر، أو في مثل هذا الحال من شأن مَن؟ الاستئذان بالحق من شأن المؤمنين، أو لا؟ كما قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ﴾ [النور ٦٢]. * ومن فوائد الآية الكريمة: أن من شأن المنافقين الكذب؛ لقوله: ﴿يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ﴾، وهم كاذبون. * ومن فوائدها: بيان إحاطة علم الله تعالى بما في القلوب؛ لقوله: ﴿إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا﴾، أما قوله: ﴿وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ﴾، فهذا قد يُعْلَم؛ لأنه ظاهر أن البيوت حصينة، ولا عليها من العدو، لكن ﴿إِنْ يُرِيدُونَ﴾، الإرادة في القلب لا يعلمها إلا الله عز وجل، أو صاحبها، أو مَن أطلعه الله تعالى عليها. * ومن فوائد الآية الكريمة: وجوب تكذيب الناطق بالباطل، شوف الآن هل يصح التعبير بكلمة وجوب، أو نقول: مشروعية؟ هو إن نظرنا إلى أن الباطل يجب إبطاله قلنا: يجب، لكن الكلام على هل يؤخذ من الآية؟ الآية فيها مشروعية ذلك، إبطال قول الناطق بالباطل؛ لأن الله تعالى أبطله في قوله: ﴿وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ﴾. ثم قال تعالى: ﴿وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا﴾ إلى آخره. * يستفاد من الآية الكريمة: أن المنافقين أشد الناس ذعرًا؛ لقوله: ﴿وَلَوْ دُخِلَتْ﴾، ﴿ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا﴾؛ لأن عندهم ذعرًا من هؤلاء الذين دخلوا من أقطارها. * ويستفاد من الآية أيضًا: قرب المنافقين من الكفر والشرك؛ لقوله: ﴿سُئِلُوا﴾ ﴿لَآتَوْهَا﴾ مُبَادِرِين، ما يتلبثون ويقولون: ننظر في الأمر، لا. وهل يستفاد من هذه الآية أنه لا حكم للإكراه، وأن الإنسان إذا كَفَرَ مُكْرَهًا فإنه يترتب على كفره حكم الكافر، ولَّا لا؟ أقول: هل يستفاد من الآية أنه لا حكم للإكراه، وأن مَن كفر مُكْرَهًا فعليه الإثم؟ ما يستفاد، لماذا؟ لأنه هؤلاء سُئِلُوا ما أُكْرِهُوا، بمجرد السؤال وافقوا، فليس فيه معارضة لقوله تعالى: ﴿مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ﴾ [النحل ١٠٦] لا يعارض هذه الآية. * ومن فوائد الآية الكريمة: بيان أن المنافق حياته حياة مادية، يريد أن يعيش سواء كان كافرًا أو غير كافر. وجهه من الآية: لأن هؤلاء إذا سُئِلُوا الفتنة أَتَوْها، إذن فإيمانهم ليس إيمانًا حقيقيًّا، وإلا المؤمن الحقيقي لو سُئِلَ الشرك ما أشرك. ثم قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا﴾ [الأحزاب ١٥]. * يستفاد من الآية الكريمة: أن المنافقين أصحاب غدر وخيانة؛ لقوله: ﴿وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ﴾، وهم الآن يحاولون الإدبار، لكنهم يُمَوِّهُون بسؤال النبي ﷺ واستئذانه. * إذن يتفرع على هذه الفائدة: أن كل مَن نقض العهد ففيه شبه من المنافقين، واليهود أيضًا، ولهذا« جاء الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام: «آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ»، » وَمِنْهَا: «إِذَا عَاهَدَ غَدَرَ»[[أخرجه أحمد (٦٨٧٩) عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما. ]]. * يتفرع على ذلك: أنه إذا كان الغدر من صفات المنافقين فالواجب على المؤمن البعد عنه، لو لم يكن من الغدر إلا أنه من صفات المنافقين لكان ذلك كافيًا في وجوب البعد والحذر منه. * ومن فوائد الآية الكريمة: استهانة المنافق بحق الله عز وجل؛ لقوله: ﴿عَاهَدُوا اللَّهَ﴾، يعني: نَقْضُ العهد مع الإنسان مثلك قد يكون أهون، لكن نقض العهد مع الله عز وجل أشد وأعظم. * ومن فوائد الآية الكريمة: تحريم تولية الأدبار عند ملاقاة العدو. وجه ذلك أن الله تعالى ذَكَرَ هذا عن المنافقين تحذيرًا منه، وقد دَلَّت الآية الكريمة في سورة الأنفال على أنه من كبائر الذنوب؛ لقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ (١٥) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ [الأنفال١٥ ١٦]، وجاء في الأحاديث في عَدِّ ذلك من الموبقات، يعني: المهلكات؛ لأنه من الكبائر. * ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات الحساب؛ لقوله: ﴿وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا﴾، فكل ما بينك وبين الله عز وجل من الحقوق فإنك مسؤول عنه يوم القيامة، قال الله تبارك وتعالى: ﴿فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (٦) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ﴾ [الأعراف٦ ٧]. ثم قال تعالى: ﴿قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾. * في الآية هذه: دليل على أنه لا فرار من قدر الله؛ لقوله: ﴿قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ﴾. قوله: ﴿مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ﴾ متعلِّق بـ﴿فَرَرْتُمْ﴾ وإلا بـ﴿الْفِرَارُ﴾؟ هذه جملة معترضة في الواقع ما من الفوائد، ﴿قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ﴾ متعلقة بـ﴿فَرَرْتُمْ﴾ وإلا بـ﴿الْفِرَارُ﴾؟ قل لن ينفعكم الفرار من الموت أو القتل إن فررتم، وتكون الجملة الشرطية ﴿إِنْ فَرَرْتُمْ﴾ جملة معترضة، وهذا أوضح في المعنى. * يستفاد منها: أنه لا فرار من قدر الله. هل يستفاد من الآية الكريمة إبطال الأسباب؟ يعني الإنسان لو رأى نارًا تلتهم الشجر مُقْبِلَة عنه هل يهرب ولَّا لا؟ يهرب، إذن يهرب وربما ينجو، هي غير هذه، لكن ما هو الْمَخْلَص؟ يعني لو قال قائل: هذه الآية تنفي العمل بالسبب؟ فالجواب على ذلك أن نقول: إذا كان العمل بالسبب مُبْطِلًا لحكم شرعي فإنه لا يجوز، كهذه الآية، أو كهذه الحال، فإبطال الأسباب القدرية بانتهاك الأحكام الشرعية هذا لا يجوز، يعني كون أن الإنسان يترك الحكم الشرعي الواجب خوفًا من آثاره جائز له؟ ليس بجائز. لكن سبب حقيقي مأذون فيه شرعًا يُفْعَل ولَّا لا؟ إذا كان سببًا حقيقيًّا مأذونًا فيه شرعًا فلتفعله، ما نقول للرجل: إذا رأيت النار مقبلة عليك قِف لا تَفِر لا ينفعك الفرار، هذا ما هو صحيح، بل نقول: في هذه الحال فرّ؛ لأن هذا سبب مباح مأذون فيه شرعي، وسبب حقيقي، لكن نبغي نجعل الأسباب مُعَطِّلة للأحكام الشرعية هذا لا يجوز. * ويستفاد من الآية الكريمة: بيان نفوذ حكم الله عز وجل الشرعي والقدري؛ أما القدري فلا إرادة لك فيه، وأما الشرعي فلك فيه إرادة، ولهذا نقول بالنسبة للشرعي: وجوب تنفيذ حكم الله الشرعي؛ لأن الله تعالى عاب هؤلاء الفارِّين لكون فرارهم يتضمن إسقاط حكم شرعي، إي نعم. * ومن فوائد الآية الكريمة: أن البقاء في الدنيا وإن طال فهو قليل؛ لقوله: ﴿وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾، وقد قال الله تعالى في آية أخرى: ﴿قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا﴾ [النساء ٧٧]. * ومن فوائد الآية الكريمة: توبيخ هؤلاء الذين فَرُّوا للإبقاء على حياتهم، يؤخَذ من أمر الله نبيَّه أن يقول لهم: ﴿لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ﴾، وهذا لا شك أنه على سبيل التوبيخ لهم، ولهذا قال: ﴿وَإِذًا﴾، يعني: لو فررتم ونجوتم من هذه الحادثة ما تنجون من الموت، ﴿لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾، نعم من جبن المنافقين أنهم أهل جبن وذل وخوف ورعب. وهذا أيضًا يترتب عليه مشكلة، وهي أن الخوف من الموت أمر طبيعي، قال الله تعالى عن موسى عليه الصلاة والسلام: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ﴾ [القصص ٣٣]، وهذه فيها إشكال. * طالب: (...). * الشيخ: كلمة (...) يقول: ويش الفرق بين إنه يقول: هذا غير هذا، ما يكفي. * الطالب: (...). * الشيخ: وجه المعارضة أنه خاف من القتل، وهؤلاء خافوا من القتل، القتل -كما أشرنا إليه قبل قليل- الخوف من القتل الذي يستلزم إبطال حكم شرعي هذا ما يجوز، أما هذا خافَ من القتل؛ لأنه تسبب له وهو ممكن أن يُقْتَل، ولَّا لا؟ موسى، إي نعم، ممكن أن يُقْتَل؛ لأنه فعل ما يستلزم القتل عند هؤلاء. (...) فنقول: ﴿قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً﴾ [الأحزاب ١٧]. قال المؤلف في معنى ﴿يَعْصِمُكُمْ﴾: (يجيركم)، ولكن الصواب أن المراد بها: يمنعكم؛ لأن العصمة هي المنع، ومنه المعصوم، يعني: الممنوع من الخطأ، فالصواب أن ﴿يَعْصِمُكُمْ﴾ أي: يمنعكم من الله. وقوله: ﴿قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي﴾، هذا إعراب ﴿مَنْ ذَا الَّذِي﴾ مَن يعربها لنا؟ * طالب: (...). * الشيخ: هو مستتر وجوبًا، وإن ابتُدِئَ بالياء فمستتر جوازًا، وإن افتُتِح بالتاء فعلى حسب الحال؛ قد يكون وجوبًا مثل: تشكر أنت، وقد يكون جوازًا مثل: تشكر هي، ﴿ذَا﴾ الآن اختلف الرجلان في إعرابها؛ أحدهما قال: إنها اسم إشارة، والثاني قال: إنها ملغاة، أيهما الصواب؟ الصواب أنها ملغاة؛ لأنها إذا جاء بعدها اسم موصول فإنها تكون ملغاة، مثل: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ﴾ [البقرة ٢٥٥]، ومثل: ﴿قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ﴾. وقوله: ﴿قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ﴾ الاستفهام هنا يراد به النفي، يعني: لا أحد يعصمكم، وإذا جاء النفي بصيغة الاستفهام فإنه أبلغ من النفي المجرد؛ لأنه يكون نفيًا مُشْرَبًا بالتحدي، كأنه يقول: أَخْبِرُونِي أيعصمكم أحد من الله إن أراد بكم سوءًا، عرفتم؟ هذه قاعدة في كل ما يكون فيه الاستفهام بمعنى النفي، أن نقول: عُدِلَ عن النفي المحض إلى الاستفهام؛ ليكون مُشْرَبًا معنى التحدي. ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ﴾ أي: يمنعكم منه، ﴿إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا﴾، أيش الجواب؟ لا أحد، يقول: (﴿إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا﴾: هلاكًا أو هزيمة)؛ (هلاكًا) إذا لم يكن هناك قتال، أو كان قتال فقُتِلْتُم، (أو هزيمة) إذا غُلِبْتُم وبقيتم، وكل ذلك سوء، لكنه سوء بالنسبة للمكلَّف، أما بالنسبة لفعل الله عز وجل فإنه خير؛ لأنه لحكمة. ﴿أَوْ أَرَادَ﴾ قال المؤلف: (أو يصيبكم بسوء إن أراد الله بكم رحمة)، المؤلف رحمه الله قَدَّر هذه الجملة؛ لأنه رحمه الله ذكي جدًّا، قال: (أو يصيبكم بسوء)، (يصيبكم) معطوفة على (يعصمكم)، يعني: أو مَن ذا الذي يصيبكم بسوء إن أراد الله بكم رحمة خيرًا، والجواب أيضًا كالسابق: لا أحد، وإنما قَدَّرَ المؤلف: أو يصيبكم بسوء، على خلاف ظاهر السياق؛ لأن الرحمة لا تُعَدّ مصيبة حتى تحتاج إلى العصمة، فإنه إذا أراد الله بالإنسان رحمة ما يقال: مَن ذا الذي يعصمه منها، ليش؟ لأن الرحمة مطلوبة، لا يتطلب الإنسان فيها أحدًا يعصمه منها، فلهذا قَدَّرَ قوله: (أو يصيبكم بسوء) يعني: لا يصيبكم أحد بسوء إن أراد الله بكم رحمة. ولكن الصحيح أنه لا حاجة إلى هذا التقدير، إذا جعلنا العصمة بمعنى المنع، فالمعنى: مَن الذي يمنعكم من الله إن أراد بكم سوءًا، ومن الذي يمنعكم من رحمته إن أراد بكم رحمة، فالفرار لا يمنعكم من السوء الذي أراده الله بكم، والبقاء لا يجلب لكم الرحمة التي أراد الله بكم، فالكل بيد الله عز وجل، لا ينفعكم الفرار ولا البقاء. وقوله: ﴿أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً﴾ قال المؤلف: (خيرًا)، وإذا كنا فَسَّرْنَا الأول بالهلاك والهزيمة فالمراد بالخير هنا النصر والبقاء. قال الله تعالى: (﴿وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ أي: غيره، ﴿وَلِيًّا﴾ ينفعهم، ﴿وَلَا نَصِيرًا﴾ يدفع الضر عنهم). ﴿لَا يَجِدُونَ لَهُمْ﴾ أي: هؤلاء الذين فَرُّوا من القتال لن يجدوا أحدًا ينفعهم أو يجلب لهم الخير، أو يدفع عنهم الضرر، ﴿لَا يَجِدُونَ﴾ ﴿وَلِيًّا﴾، والولي هو مَن يتولى أمرك ويعتني بك، فهؤلاء لا يجدون أحدًا سوى الله. وقوله: ﴿وَلِيًّا﴾ يعني: بالولاية العامة؛ لأن ولاية الله سبحانه وتعالى تنقسم إلى قسمين: ولاية عامة تشمل كل أحد، وولاية خاصة للمؤمنين فقط، قال الله تعالى: ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ [البقرة ٢٥٧]، وقال تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ﴾ [محمد ١١]. أما بمعنى العامّ فمثل قوله تعالى: ﴿ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ﴾ [الأنعام ٦٢]، فإن هذه الولاية العامة؛ لأن الله تعالى وَلِيّ على كل أحد في المعنى العامّ الذي هو التدبير والملك والسلطان. وقوله: ﴿وَلَا نَصِيرًا﴾.. .. ﴿مِنْ نَصِيرٍ﴾ [الحج ٧١]: هو الذي ينصرك عند ملاقاة الأعداء فيمنعك منهم، فهؤلاء ليس لهم أحد يتولاهم بِجَلْب الخير لهم، ولا ينصرهم بدفع الضرر عنهم؛ لأن الأمر كله لله. ثم قال تعالى: (﴿قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ﴾ [الأحزاب ١٨]: المثبطين ﴿مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا﴾ ) [الأحزاب: ١٨]، ﴿قَدْ﴾ هنا للتحقيق، والأصل أنها إذا دخلت على المضارع تكون لأيش؟ للتحقيق ﴿قَدْ يَعْلَمُ﴾، والأصل أنها إذا دخلت على المضارع تكون للتقليل، كما يقال: قد يجود البخيل، لكن هنا للتحقيق؛ لأن علم الله عز وجل مُحَقَّق، وليس للتقليل، وإنما جاءت ﴿قَدْ يَعْلَمُ﴾ دون (قد علم)؛ ليفيد أن علم الله عز وجل مستمر بهم من ذلك الوقت إلى يوم القيامة؛ فإن الله تعالى عالم بهم وبأحوالهم وتقلباتهم. وقوله: ﴿الْمُعَوِّقِينَ﴾ قال المؤلف: (الْمُثَبِّطِين)؛ لأن الْمُثَبِّط يُعَوِّق الإنسان الْمُثَبَّط، أي: يَحُول دونه ودون مراده، وهو ما يسمى عند الفقهاء بأيش؟ بالْمُخَذِّل، الفقهاء يقولون في باب الجهاد: يجب على الإمام أن يَمْنَع الْمُخَذِّل والْمُرْجِف، فالمخذِّل الذي يُثَبِّط العزائم، يقول: ما له داعٍ الجهاد، وليس عندنا استعداد، وما أشبه ذلك، والْمُرْجِف هو الذي يُرْهِب من الأعداء ويُخَوِّف منهم، يقول: أعداؤكم كثيرون، وأسلحتهم قوية، وما أشبه ذلك. * طالب: (...). * الشيخ: الْمُعَوِّق يعني؟ ما فيه مانع، هذا التعبير بالمعنى. * الطالب: (...). * الشيخ: ماه في شك أنه أحسن، لكن لأجل التفصيل؛ لأن الْمُعَوِّق قد لا يفهمه كل أحد. * الطالب: (...). * الشيخ: لا، هنا المعوّق يختص بالمثبِّط، ﴿الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ﴾. * طالب: (...). * الشيخ: لا. * الطالب: (...). * الشيخ: لعلك تريد أن (هل) تأتي للتحقيق، هذا صحيح. يقول تعالى: ﴿الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ﴾، الخطاب لمن؟ للنبي عليه الصلاة والسلام والصحابة، فهذا موجود في الصحابة مَن يُعَوِّق. (﴿وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ﴾: تعالوا ﴿إِلَيْنَا﴾ ﴿وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ﴾: القتال، ﴿إِلَّا قَلِيلًا﴾ رياءً وسمعة). ﴿وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ﴾، ﴿الْقَائِلِينَ﴾ معطوف على ﴿الْمُعَوِّقِينَ﴾، يعني: ويعلم القائلين لإخوانهم: هَلُمَّ إلينا، وهذا غير التعويق؛ لأن المعوِّق هو الذي يعرف الشيء الذي يُعَوِّق الإنسان، لكن لا يدعوه، ولكن هؤلاء يقولون لإخوانهم، فهو أبلغ من التعويق. وقوله: ﴿وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ﴾ هذه غير المعوِّقين، فليس عطف صفة، ولكنه عطف ذات، والأصل في التعاطف أن يكون لتغير الذوات، وقد يكون لتغير الصفات، وقد يكون لتغير؟ * طالب: (...). * الشيخ: لا ، ما أسرع ما تنسون، العطف للتغاير؛ إما في الذات أو في الصفات. * الطالب: (...). * الشيخ: لا. * الطالب: (...). * الشيخ: لا، أو اللفظ يا إخواني، كل يوم يَقْرَع أسماعكم: ؎................... ∗∗∗ أَلْفَى قَوْلَهَا كَذِبًا وَمَيْنَا هذا ما هو تغيُّر معنى، المعنى واحد، لكن تغير لفظ. وقوله: ﴿وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا﴾، هذا في المنافقين، وسُمُّوا إخوانهم في النسب، وليسوا إخوانهم في الدين، اللهم إلا أن يُرَادَ الأخوة الظاهرة، فإن هؤلاء يتظاهرون بأنهم مؤمنون. ﴿هَلُمَّ﴾: تعالوا إلينا، ﴿هَلُمَّ﴾ هل هي فعل أمر، أو اسم فعل أمر؟ اسم فعل أمر، نعم؛ لأنه ليس كل ما دَلَّ على الطلب فهو فعل أمر، المصدر قد يدل على الطلب كما لو قلت: ضربًا زيدًا، لكن ما دلَّ على الطلب بذاته، يعني بغير أداة خارجية فإما أن يَقْبَل علامة فعل الأمر أو لا، فإن قَبِلَها فهو فعل أمر، وإن لم يَقْبَل فهو اسم فعل أمر، أو قد يكون مصدرًا نائبًا عن الأمر، عرفتم؟ وقولنا: بغير أداة خارجية، احترازًا من المضارع المقرون بلام الأمر، المضارع المقرون بلام الأمر يدل على الأمر، لكن لا بذاته، بل بأداة أخرى خارجية، وهي اللام؛ لام الأمر. ﴿هَلُمَّ﴾ هنا اسم فعل أمر؛ لأن عيسى نقول له: هلم إلينا، هلم إلى الدرس، وأحمد وعيسى جميعًا نقول لهما: هلم إلينا، جميعًا، ونضم إليهما الأخ، ونقول: هلم إلى الدرس، ما تَغَيَّر، مفرد مثنى وجمع، ولم يتغير، ولَّا لا؟ أمّا لو كنا نخاطب واحدًا فنقول: هلم إلينا، ونخاطب اثنين فنقول: هَلُمَّا إلينا، ونخاطب ثلاثة فنقول: هَلُمُّوا إلينا، لكان فعل أمر، ولهذا نقول: قم، وقومَا، وقوموا، فهي إذن اسم فعل أمر تخاطب بها الواحد والاثنين والجماعة ولا تتغير، هذا على لغة أهل الحجاز. أما بنو تميم فإنها عندهم فعل أمر، ولهذا يقولون للواحد: هلم إلينا، وللاثنين: هَلُمَّا إلينا، وللجماعة: هَلُمُّوا إلينا، فهي فعل أمر. هنا يدلنا على أنها اسم فعل أمر؛ لأنها لو كانت فعل أمر لقال: هَلُمُّوا إلينا، يعني: تعالوا، هذا بالنسبة لغيرهم، يَدْعُون غيرهم إلى ترك القتال: تعالوا، هم.. قال: ﴿وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا﴾، ﴿لَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ﴾ يعني: القتال، ﴿إِلَّا قَلِيلًا﴾، والقليل هنا قد يكون المراد به العدم، وقد يكون المراد به الشيء اليسير، القِلَّة، ويمكن أن يراد به العدم بالنسبة لقوم، والقلة بالنسبة لآخرين من المنافقين؛ لأن من المنافقين مَن لا يحضر القتال أصلًا، ومنهم مَن يحضر قليلًا للرياء والسمعة. ومعلوم أن مَن يلاحظ الرياء والسمعة فإنه إذا كان في محل يجد الرياء والسمعة حضر، وإذا كان في محل لا يجد رياء ولا سمعة لم يحضر. ما الفرق بين الرياء والسمعة؟ الرياء يعود إلى الأفعال، والسمعة يعود إلى الأقوال؛ لأن الأفعال تُرَى، والأقوال تُسْمَع، ولهذا جاء في الحديث: «مَنْ رَاءَى رَاءَى اللهُ بِهِ، وَمَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللهُ بِهِ»[[أخرجه مسلم (٢٩٨٦ / ٤٧) من حديث عن ابن عباس رضي الله عنهما، ولفظه: «من سَمَّع سَمَّع الله به، ومن راءى راءى الله به».]]، فإذا تكلم شخص بِذِكْر ورفع صوته ليُسْمَع فيُثْنَى عليه به، فبماذا نصف فعله؟ سمعة، وإذا قام يصلي ليراه الناس فهو رياء. وقد يطلق الرياء عليهما جميعًا، لكن عندما يجتمعان يكون الرياء يتعلق بالأفعال والسمعة بالأقوال، يقول: (رياءً وسمعة). (﴿أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ﴾ [الأحزاب ١٩] بالمعاونة، جمع شحيح، وهو حال من ضميرِ ﴿يَأْتُونَ﴾ )، ﴿وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا﴾. ﴿أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ﴾، أشحة هذه جمع شحيح، والشحيح هو المانع مع الحرص، والبخيل هو المانع بدون حرص، فإذا كان الإنسان مَنُوعًا جَمُوعًا، يعني مع الحرص، يسمى ذلك شحيحًا، وإذا كان بخيلًا لكنه ليس ذلك الرجل الذي يكون حريصًا على جمع المال –مثلًا- فإنه يسمى بخيلًا، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام مُحَذِّرًا من الشح: «اتَّقُوا الشُّحَّ فَإِنَّهُ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ»[[أخرجه مسلم (٢٥٧٨ / ٥٦) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، ولفظه: «...واتقوا الشح، فإن الشح أهلك من كان قبلكم». ]]. يقول: ﴿أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ﴾، ما الذي نصبها؟ * طالب: حال. * الشيخ: حال منين؟ نُصِبَت على الحال من فاعل ﴿يَأْتُونَ﴾، يعني: لا يأتون إلا قليلًا، ومع ذلك يأتون أشحةً عليكم، يعني: وهم أَشِحَّاء عليكم لا يريدون أن تَصِلُوا إلى خير، بل يحبون أن يمنعوا كل خير عنكم. ﴿فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ﴾ [الأحزاب ١٩]، ﴿جَاءَ الْخَوْفُ﴾ الخوف ليست ذاتًا تأتي، لكنه معنى يأتي، والمجيء يكون للمعاني ويكون للذوات، فتقول: جاءه المرض، وتقول: جاء زيد، المجيء هنا أُسْنِدَ إلى معنى، جاء الخوف ممن؟ هو عامّ، إذا جاء الخوف، سواء كان من الأعداء الذين حضروا إلى المدينة، أو الخوف من الرسول عليه الصلاة والسلام فيما يَطَّلِع على أحوالهم، يخافون من أن يفضحهم الله تعالى بأفعالهم، أو يسلِّط عليهم رسوله. يقول: ﴿فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ﴾، الخطاب هنا هل هو للرسول ﷺ، أو لكل مَن يتوجه إليه الخطاب؟ يحتمل أن يكون للرسول عليه الصلاة والسلام، وهو الأقرب، ويحتمل أن يكون لكل مَن يوجه إليه الخطاب. وقوله: ﴿رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ﴾، الرؤية هنا بصرية، وعلى هذا فلا تنصب إلا مفعولًا واحدًا وهو الهاء، ويكون جملة ﴿يَنْظُرُونَ﴾ حالًا من الهاء، رأيتهم حال كونهم ينظرون إليك، ﴿تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ﴾؛ لأن الخائف غالبًا يركز على مَن؟ على جهة الخوف، سواء كان شخصًا أو أشخاصًا، ينظر إلى الجهة التي هي مصدر الخوف، وتدور عينه على غير نظر سليم، يعني كأنها تدور بغير اختيارها من شدة الخوف، ثم شَبَّهَ حالهم بعد أن شَبَّه أبصارهم، قال: ﴿كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ﴾، قال المؤلف: ( كنظر أو كدوران). فإن كانت ﴿كَالَّذِي﴾ عائدة على ﴿يَنْظُرُونَ﴾ قَدَّرْنا: نظر، وإن كانت عائدة على ﴿تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ﴾ قَدَّرْنَا: كدوران، ولكن الذي يناسب القرآن الأول؛ نظر، كما قال تعالى في سورة القتال: ﴿يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ﴾ [محمد ٢٠]، وربما نقول: ﴿يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ﴾ ليس عائدًا على النظر، وإنما هو عائد على حالهم، يعني: كالإنسان الْمَغْشِيّ عليه من الموت لا يستطيعون أن يتكلموا؛ لأن أرياقهم يبست، ودماءهم غارت بسبب الخوف، إذا جاء الخوف فإنها تتغير أبصارهم، وتتغير أحوالهم أيضًا، كالذي يُغْشَى عليه من الموت، والذي يُغْشَى عليه من الموت لا شك أنه يصفر وجهه، وأنه لا يدري ما يفعل، ولا يستطيع أن ينطق في الغالب، ﴿كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ﴾، ﴿مِنَ الْمَوْتِ﴾ قال المؤلف: من سكراته، (أي: سكراته)، ﴿يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ﴾، ﴿مِنَ﴾ هنا للسببية، وهل تأتي (مِن) للسببية؟ الجواب: نعم، تأتي في مواضع كثيرة، والأصل فيها أنها للابتداء، حتى زعم بعض النحويين أنها في كل مكان تكون للابتداء، حتى فيما إذا كانت سببية قال: لأنها لابتداء السبب، لكن الصحيح ما ذهب إليه ابن مالك وغيره من النحويين أنها تأتي لمعانٍ كثيرة، قال: ؎بَعِّضْ وَبَيِّنْ وَابْتَدِئْ فِي الْأَمْكِنَه ∗∗∗ فِي (مِنْ) وَقَدْ تَأْتِي لِبَدْءِ الْأَزْمِنَه؎وَزِيدَ فِي نَفْــيٍ وَشِبْهِهِفَجَـــــــــــــــــــــرّ ∗∗∗ نَكِرَةً كَمَــــا لِبَاغٍ مِـــــــــــــنْمَــــــــــــــفَرّ قال: (﴿فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ﴾ وحِيزَت الغنائم، ﴿سَلَقُوكُمْ﴾: آذَوْكُم أو ضربوكم، ﴿بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ﴾ أي: الغنيمة يطلبونها، ﴿أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا﴾ حقيقةً، ﴿فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ﴾ ). ﴿إِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ﴾ صار هؤلاء الذين كانوا حين الخوف كالمغشيّ عليه من الموت صاروا ينطقون بطلاقة، ﴿سَلَقُوكُمْ﴾ يعني: أصابوكم بشدة، ﴿بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ﴾ أي: شديدة قوية، والمراد بالألسنة هنا الكلام؛ لأن الكلام يُعَبَّر عنه باللسان، المعنى أنهم يجادِلُون ويناظرون، ويقولون: نحن معكم، نحن نساعد، نحن خرجنا، وما أشبه ذلك، كما قال الله تعالى في سورة النساء: ﴿فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ﴾ [النساء ١٤١]، وأَبْدَوْا وأعادوا في غَلَبَتِهم للمسلمين؛ لأنه لا شك أن الإنسان قد يغلب خصمه بالكلام، كما قال الله تعالى في قصة داود: ﴿فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ﴾ [ص ٢٣]: غلبني، والإنسان اللَّسِن الذي عنده بيان وعنده فصاحة قد يغلب ولو كان على باطل، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: «إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِيَ لَهُ بِنَحْوٍ مِمَّا أَسْمَعُ»[[متفق عليه؛ البخاري (٢٦٨٠)، ومسلم (١٧١٣ / ٤) من حديث أم سلمة رضي الله عنها. ]]، وإن كان على باطل، فالإنسان قد يغلب ببيانه الحقَّ، ولهذا كما تعلمون جاء في الحديث الصحيح: «إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا»[[أخرجه البخاري (٥٧٦٧) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. ]]. هؤلاء المنافقون الذين في حال الخوف على الصورة التي صَوَّرَها الله عز وجل، ﴿يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ﴾، لكن إذا ذهب الخوف واطمأنوا ﴿سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ﴾، يعني: أصابوكم بشدة بهذه الألسنة الحِدَاد، ﴿أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ﴾، هذه حال من الواو في قوله: ﴿سَلَقُوكُمْ﴾. ﴿أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ﴾، ما المراد بالخير هنا؟ يقول المؤلف: الغنائم التي أصابها المسلمون بانتصارهم، قال: ﴿أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا﴾ حقيقة، ولو آمنوا ما فعلوا هذا الفعل، ما كانوا يخافون من البعث، ولا كانوا يَدَّعُون ما لا يستحقون فيما إذا انتهت المعركة. ﴿أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ﴾ أيش معنى أحبطها؟ يعني: أبطلها حتى لا ينتفعوا بها. (﴿وَكَانَ ذَلِكَ﴾ الإحباطُ ﴿عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا﴾ بإرادته)، نعم هو يسير على الله عز وجل؛ لأنه سبحانه وتعالى لا يخشى من أحد، كما قال تعالى في قوم صالح: ﴿فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (١٤) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا﴾ [الشمس ١٤، ١٥]، ما يخاف سبحانه وتعالى من عاقبتها، بخلاف غيره، بخلاف المخلوق، المخلوق قد يُنَكِّل بشخص ويعاقبه، لكنه يخشى من عاقبته، يخشى من قبيلته، يخشى من الغدر به، وما أشبه ذلك، أما الرب عز وجل فإنّ كل أمر يسير عليه، ولا يخاف من أحد حين ينتقم منه. (...) لها معنيان، تارة تكون بمعنى احْضُر، وتارة تكون بمعنى أَحْضِرْ، في هذه الآية بمعنى (...). هذا مبتدأ الفوائد؟ متأكدون؟ قال تعالى: ﴿قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ﴾ [الأحزاب ١٧] إلى آخره. * يستفاد من هذه الآية الكريمة: نفاذ حكم الله، أن حكم الله نافذ في الخلق، لا يمنعه أحد. وجه ذلك: ﴿قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ﴾، والاستفهام هنا -كما سبق- بمعنى النفي. * ومن فوائدها: إثبات الإرادة لله سبحانه وتعالى؛ لقوله: ﴿إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا﴾. * ومن فوائدها: الرد على بعض طوائف القَدَرِيَّة الذين يقولون: إن الله لا يريد السوء، يريد الخير، لكن لا يريد السوء؛ لقوله: ﴿إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا﴾. وفي الآية إشكال، وهو أن ظاهرها أن الله يريد السوء، مع أن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: «وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ» »[[أخرجه مسلم (٧٧١ / ٢٠١) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه. ]]، فما هو الجواب؟ * طالب: (...). * الشيخ: لا. * طالب: هذا سوء بالنسبة للمخلوق، أما بالنسبة للخالق (...). * الشيخ: نعم، نقول: السوء بالنسبة للمفعولات، أما بالنسبة لفعل الله نفسه الذي هو فِعْلُه فليس بسوءٍ، المرض –مثلًا- سوء بالنسبة للعبد، يسوؤه ولا يَسُرُّه، لكنه بالنسبة لتقدير الله له خير وحكمة، كما أشرنا إلى هذا كثيرًا. إذن فنقول في الجواب على هذا الإشكال: إن السوء عائدٌ إلى المفعول لا إلى الفعل الذي هو تقدير الله، ونظير ذلك لو أن أبًا شفيقًا رحيمًا أُصِيبَ ولده بداء، فكواه بالحديدة الْمُحْمَاة على النار لكان هذا لا شك يسوء الولد؛ لأنه يؤلمه ويوجعه، لكنه إساءة إليه ولَّا لا؟ لا، هو بالنسبة لفعل الأب ليس إساءة، بل هو خير، وإن كان يؤلم الولد. * طالب: شيخ، هل يؤخذ من قوله تعالى: ﴿وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ﴾ [الروم ٢٧]؟ * الشيخ: لا، بل من قبيل أن هذا.. هذا منفصل عن هذا. * الطالب: (...) يكون الخطاب بالنسبة لحال المخاطب. * الشيخ: لا، بل ما هو (...) حقيقة الأمر، فإن السوء ليس إلى الله، يعني معناه أن أفعال الله ليست هي نفسها السوء، السوء يكون في المفعولات فقط . * ومن فوائد الآية الكريمة: أن الله عز وجل لا مانع لما أعطى ولما مُعْطِيَ لما منع؛ لقوله: ﴿ِإنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً﴾، فلا أحد يمنع ما أعطاه الله، ولا أحد يعطي ما منعه الله، وعلى هذا قوله عليه الصلاة والسلام: «اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ»[[متفق عليه؛ البخاري (٨٤٤)، ومسلم (٥٩٣ / ١٣٧) من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه. ]]. * ومن فوائدها: أن فيها حثًّا على تعلق الإنسان بالله سبحانه وتعالى دون غيره؛ لقوله: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً﴾، فإذا كان الأمر كله بيد الله فإن الإنسان يتعلق بربه دون غيره. * ومن فوائد الآية الكريمة: أن أولئك الكفار لن يجدوا أحدًا ينصرهم أو يتولاهم دون الله؛ لقوله: ﴿وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾، فيترتب على ذلك قَطْع كل عُلْقَة تكون بين المشركين وبين أصنامهم، وأن أصنامهم لا تنفعهم مهما كان الأمر. ولكنه يَرِدُ على هذا إشكال، وهو أن هؤلاء الذين يدعون الأصنام قد يحصل لهم ما دَعَوْا به هذه الأصنام، فكيف نقول: إنها لا تنفعهم؟ فالجواب أن هذا قد يقع ابتلاءً وامتحانًا من الله عز وجل، ونحن نعلم أن هذا لم يحصل بهذه الأصنام، أو بدعاء هذه الأصنام، وإنما حصل عنده، وما حصل عند الشيء ليس كالذي حصل بالشيء، واضح؟ فإن قلت: نحن لا نقبل منك هذا؛ أنه حصل لا بدعائهم، ما دام الرجل دَعَا ثم حصل مراده، كيف تقول: إنه من أمر خارج ليس من دعائهم؟ فما هو الجواب؟ * طالب: مُقَدَّر. * الشيخ: ما يخالف، ما.. نعلم يكون مُقَدَّرًا، هذا رجل دعا هذا القبر وحصل ما أراد. * طالب: ما يعرف أن هذا الدعاء عند القبر مُحَرَّم شرعًا؟ * الشيخ: لا، دعا القبر لا عند القبر، دعا صاحب القبر. * الطالب: محرَّم شرعًا ولا يحصل منه هذا. * الشيخ: هو يقول لك: حصل، قال: يا سيدي يا مولاي يا فلان يا فلان أنا فقير أرجو أن تعطيني مالًا، في اليوم نفسه مات قريبُه الذي خلَّف ملايين، ولا يعصبه إلا هو، حصل. * الطالب: من تقدير الله. * الشيخ: أنت تقول: من تقدير الله، وهو يقول: هذا من الولي. * الطالب: ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [القلم ٤٤]. * الشيخ: يقول: مين قال لكم: إنه استدراج. * الطالب: من باب البلوى. * الشيخ: إي نعم، هو ابتلاء يا إخواني، ولكن (...). * طالب: (...) يعتبر فتنة لهؤلاء. * الشيخ: هو فتنة وامتحان، وإحنا قلنا له: هذه فتنة، ودعاؤك لم تُحَصِّل منه شيئًا، لكن هذا حصل عند دعائك لا بدعائك، فقال: تبًّا لكم، ما تعرفون قَدْر الأولياء، وأنا دعوت وحصل لي مرادي. * الطالب: تجيئه مرة واحدة ما تيجيئه .. * الشيخ: يقول: ما لي حاجة، وربما نتحداه ونقول: ادع مرة أخرى، فيأتي القدر موافقًا (...). * الطالب: كل هذا ليس بيده لا حول ولا قوة، لو كان لَمَنَعَ الموت عن نفسه. * الشيخ: كل هذه عللٌ عليلة، يا إخواني، إحنا قلنا لكم: الله عز وجل قَطَعَ كل تعلق بغيره، ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ [الأحقاف ٥]، إحنا نعلم بالآية الكريمة أن هذا ما يستجيب لك إلى يوم القيامة، وقال: ﴿إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ﴾ [فاطر ١٤]، وقال تعالى: ﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (٢٢) وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ﴾ [سبأ٢٢ ٢٣]، هذه آيات واضحة جدًّا أنه ما يمكن يستجيب، إذا لم يمكن أن يستجيب له فنعلم علم اليقين أن هذا الذي حصل ليس بدعاء هذا الولي؛ لأن الله نفى أن يستجيب له. * طالب: هو بعينه. * الشيخ: عنده في وقت الدعاء فقط، وليس بالدعاء، فعند الشيء يعني أنه قريب منه، وهذا مَرَّ علينا أظن مذهب مَن؟ * طالب: الأشاعرة. * الشيخ: الأشاعرة، يقولون: إن الأسباب لا تُؤَثِّر بنفسها، وإنما يحصل التأثير عندها لا بها، إي نعم، فلما ضربت الزجاجة بالحجر وانكسرت قالوا: ما انكسر هذا من ارتطام الزجاجة بالحجر، حصل عنده، عند ارتطامها به ولكن ليس به، على كل حال ما هذا .. ثم قال تعالى: ﴿قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ﴾ [الأحزاب ١٨] إلى آخره. * يستفاد من هذه الآية الكريمة: إحاطة علم الله سبحانه وتعالى بكل شيء؛ لأن هذه مسألة جزئية من العالم، قول هؤلاء: ﴿هَلُمَّ إِلَيْنَا﴾ وتعويقهم فَرْد من أفراد العالم، جزء بسيط لا يُنْسَب إلى العالم، ومع ذلك يعلمه الله، والعالِم بالدقيق عالِم بالجليل من باب أولى، نعم، ففيها اثبات إحاطة علم الله بكل شيء جملة وتفصيلًا. * ومن فوائدها: ثبوت علم الله في المستقبل؛ لأنها جاءت بصيغة المضارع. * ومنها: التهديد والتحذير من التعويق عن القتال. وجهه؟ * طالب: ﴿قَدْ يَعْلَمُ﴾. * الشيخ: ﴿قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ﴾، وهذا من أجل تهديدهم حتى لا يفعلوا ذلك. * ومن فوائد الآية الكريمة: تعاون المنافقين بعضهم مع بعض؛ لقوله: ﴿وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ﴾، وإذا كان كذلك فإن ﴿الْقَائِلِينَ﴾ تكون عطفًا على ﴿الْمُعَوِّقِينَ﴾ من باب عطف الصفات، وذكرنا في التفسير أنها محتملة أن تكون عطف الصفات أو عطف الذوات، فإن كانت عطف الصفات صار الْمُعَوِّقُون هم القائلين، وإن كان عطف ذوات صاروا قسمين؛ مُعَوِّق وقائل، فالْمُعَوِّق قد يدعو ويقول: ارْمِ، اترك، وقد لا يدعو، ولكن على كل حال هي في المنافقين؛ لأن آخر الآية يُبْطِل الاحتمال الذي ذكرناه أمس بأن تكون في أحد من المؤمنين. * ويستفاد من الآية الكريمة: أن أولئك المعوِّقين لغيرهم هم بأنفسهم جبناء؛ لقوله: ﴿وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا﴾، فهم جبناء ومُخَذِّلُون مُرْجِفُون. * ومن فوائد الآية الكريمة أيضًا: أن كل إنسان يصاحب غيرَه ويمتزج به؛ لقوله: ﴿وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ﴾، فإن هذه أخوة في الشر والنفاق، وليست في الإيمان. ثم قال تعالى: ﴿أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ﴾ [الأحزاب ١٩] إلى آخره. * في هذه الآية: دليل على بُخْل المنافقين بما ينفع المؤمنين، وأنهم لا يأتونهم إلا عن كراهية كالشحيح في بذل المال؛ لقوله: ﴿أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ﴾. * ومنها: جبن المنافقين، وأنهم في غاية الجبن؛ لقوله: ﴿فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ﴾، إلى آخره. وبهذا نعرف أنهم أحق الناس بما وصفوا به النبي ﷺ وأصحابه، حيث قالوا: ما رأينا مثل قُرَّائِنَا هؤلاء أرغب بطونًا ولا أكذب أَلْسُنًا ولا أجبن عند اللقاء. فنقول: إن هذه الأوصاف أنتم أحق الناس بها. * ومن فوائد الآية الكريمة: شدة فزع المنافقين عند الخوف؛ لأن تصويرهم بهذه الصورة يدل على الفزع العظيم الذي ينالهم عند الخوف. * ومن فوائد الآية الكريمة أيضًا: شدة محبة المنافقين للحياة؛ لأنهم إنما بلغوا هذا المبلغ بالخوف حرصًا على الحياة وخوفًا من الموت بالقتال. * ومن فوائد الآية الكريمة: قوة تصوير القرآن للأحوال الواقعة؛ لأن هذه الصورة التي ذكر الله صورة مدهشة، تجعل الإنسان يتخيل شدة فزعهم كأنها رأي عين. * ومن فوائد الآية الكريمة: أن للموت سكرات؛ لقوله: ﴿كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ﴾، وهذا بالنسبة للموت العادي، أما الموت المباغِت قد لا يكون فيه سكرات، قد يموت الإنسان بغتة، كالذي يحصل بالحوادث وسكتات القلوب وما أشبهها. * ومن فوائد الآية الكريمة: أن هؤلاء الجبناء المنافقين إذا ذهب الخوف على أنهم حين الخوف كالأموات، أو كالذي يغشى عليه من الموت، إذا ذهب صاروا أبطال الكلام، وأمراء الفصاحة والتسلط؛ لقوله: ﴿فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ﴾، تو ما يجيء كلامهمن إذا راح الخوف بدؤوا يتكلمون. * ومن فوائدها: شدة المنافقين على المؤمنين، وأنهم عليهم أشداء غلاظ؛ لقوله: ﴿سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ﴾. * ومن فوائدها: أن المنافقين كما قال الشاعر: ؎أَسَدٌ عَلَيَّ وَفِي الْحُرُوبِ نَعَامَةٌ ∗∗∗ ........................ على المؤمنين أسود، بالباطل طبعًا ما هو بالحق، وعند الكفار نعام، تعرفون النعامة مِن جُبْنِها إذا رأت الصيَّاد قالت: هذا بيقتلني، ولكن أدخل رأسي بالتراب علشان ما أشوفه، إي نعم. * ومن فوائد الآية الكريمة: عِلْم الله سبحانه وتعالى بما في القلوب، ﴿أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا﴾؛ لأن الظاهر لنا أنهم مؤمنون، لكنهم في الواقع غير مؤمنين. * ومن فوائد الآية الكريمة: التحذير من هذه الصفات التي يتصف بها المنافق حتى وإن كان الإنسان مؤمنًا، لماذا؟ لأنها صفات غير المؤمنين؛ لقوله: ﴿أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا﴾، والمؤمن مَنْهِيٌّ عن الاتصاف بصفات غير المؤمنين. * ومن فوائد الآية الكريمة: أن الكُفْر مُحْبِط للعمل، سواء كان ظاهرًا أم باطنًا؛ لقوله: ﴿فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ﴾. وفي الجملة من هذه الآية إشكال؛ لأن الإحباط فَرْع عن قيام الشيء، وهم منافقون أعمالهم باطلة من الأصل، فكيف نجيب عن هذا؟ الجواب أن يقال: إن الإحباط نوعان: إحباط ما تم، وإحباط ما لم يتم، فإحباط ما تَمّ ظاهر، إذا تَمّ الشيء فأُلْغِي، وإحباط ما لم يتم أن يكون من الأصل حابطًا، ومنه قول بعض الفقهاء: إذا لم يُكَبِّر تكبيرة الإحرام بطلت صلاته، فنحن نقول هنا: ما صَلَّى حتى تبطل، لكن هذا بطلان ما لم يَتِمّ ولم يكن. أو جواب ثانٍ؛ أن نقول: أحبط الله أعمالهم، إن أعمالهم ظاهرها الصحة، أو لا؟ لأنها من قوم يَدَّعُون الإسلام، ويفعلونها على ظاهر الشرع، لكنها في الواقع باطلة لعدم الأساس. * ومن فوائد الآية الكريمة: أهمية الإخلاص لله عز وجل؛ لقوله: ﴿أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ﴾، فجعل الإحباط فرعًا عن عدم الإيمان، وهذا يدل على أن الركيزة الأصلية للأعمال هي الإيمان. هل يؤخذ من الآية الكريمة أن الأعمال تزداد قوة بقوة الإيمان وفضلًا؟ * طالب: إي نعم. * الشيخ: كيف ذلك؟ لأنه لما حَبِط العمل لعدم الإيمان دَلَّ هذا على أنه يقوى بقوة الإيمان، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام في الصحابة: «لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ»[[متفق عليه؛ البخاري (٣٦٧٣)، ومسلم (٢٥٤١ / ٢٢٢) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. ]]، ما هو العمل واحد الآن، لكن العامل مختلف، فرقٌ بين مَن يعمل بإيمان راسخ قوي كأنما يشاهد الثواب له بعينه، وبين شخص ليس على هذه الحال. فإذن تفاضُل الأعمال يكون مبنيًّا على تفاضل ما في القلوب، «ويُذْكَر عن الحسن البصري رحمه الله أنه قال: والله ما سبقهم أبو بكر بكثرة صيام ولا صلاة، ولكنه سبقهم بما وَقَرَ في قلبه رضي الله عنه»[[أخرجه الحكيم الترمذي (٣ / ٥٥) عن أبي بكر بن عبد الله المزني.]] من الإيمان العظيم الراسخ. ولا يقال: إن هذا فتح باب للعصاة الذي إذا قال له قائل: اتق الله اترك المعصية، اتق الله أَقِم الواجب، قال: التقوى هاهنا، ثم ضرب على صدره ضربة ينخرق، التقوى هاهنا، ماذا نقول له؟ نقول: التقوى هاهنا صحيح، لكن هذه كلمة حق أريد بها باطل، ونقول له: لو اتقى ما هاهنا لاتقى ما هاهنا؛ لقول الرسول عليه الصلاة والسلام: «إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ» »[[متفق عليه؛ البخاري (٥٢)، ومسلم (١٥٩٩ / ١٠٧) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما. ]]، لو صلح ما هاهنا لصلح الظاهر. فالحاصل أن هذه الآية واضحة، الدليل فيها دليل واضح على أن الأعمال تتفاضل بحسب ما في القلوب من الإيمان ولَّا لا؟ وأتيت لكم بشاهد من الحديث، وهو قوله عليه الصلاة والسلام في الصحابة: «لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ»[[متفق عليه؛ البخاري (٣٦٧٣)، ومسلم (٢٥٤١ / ٢٢٢) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.]]، مُدَّ أحدهم من الذهب، ولَّا مُدَّ أحدهم من الطعام؟ يحتمل. بعضهم يقول: مُدَّ أحدهم من الطعام؛ لأنه هو اللي جرت العادة أن يُكَالَ، يعني لو أنفق أحدكم مثل أُحُدٍ ذهبًا ما بلغ مُدَّ واحد منهم من التمر؛ لأنه هو الذي يكال عادة. وبعضهم يقول: ما بلغ مُدَّ أحدهم من الذهب؛ لأن التفاضل بين الطعام والذهب بعيد، لكن التفاضل بين الذهب القليل والذهب الكثير. (...)
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب