﴿وَإِن جَـٰهَدَاكَ عَلَىٰۤ أَن تُشۡرِكَ بِی مَا لَیۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمࣱ فَلَا تُطِعۡهُمَاۖ وَصَاحِبۡهُمَا فِی ٱلدُّنۡیَا مَعۡرُوفࣰاۖ وَٱتَّبِعۡ سَبِیلَ مَنۡ أَنَابَ إِلَیَّۚ ثُمَّ إِلَیَّ مَرۡجِعُكُمۡ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ١٥ یَـٰبُنَیَّ إِنَّهَاۤ إِن تَكُ مِثۡقَالَ حَبَّةࣲ مِّنۡ خَرۡدَلࣲ فَتَكُن فِی صَخۡرَةٍ أَوۡ فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ أَوۡ فِی ٱلۡأَرۡضِ یَأۡتِ بِهَا ٱللَّهُۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَطِیفٌ خَبِیرࣱ ١٦ یَـٰبُنَیَّ أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ وَأۡمُرۡ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَٱنۡهَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَٱصۡبِرۡ عَلَىٰ مَاۤ أَصَابَكَۖ إِنَّ ذَ ٰلِكَ مِنۡ عَزۡمِ ٱلۡأُمُورِ ١٧ وَلَا تُصَعِّرۡ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمۡشِ فِی ٱلۡأَرۡضِ مَرَحًاۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یُحِبُّ كُلَّ مُخۡتَالࣲ فَخُورࣲ ١٨ وَٱقۡصِدۡ فِی مَشۡیِكَ وَٱغۡضُضۡ مِن صَوۡتِكَۚ إِنَّ أَنكَرَ ٱلۡأَصۡوَ ٰتِ لَصَوۡتُ ٱلۡحَمِیرِ ١٩ أَلَمۡ تَرَوۡا۟ أَنَّ ٱللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَمَا فِی ٱلۡأَرۡضِ وَأَسۡبَغَ عَلَیۡكُمۡ نِعَمَهُۥ ظَـٰهِرَةࣰ وَبَاطِنَةࣰۗ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن یُجَـٰدِلُ فِی ٱللَّهِ بِغَیۡرِ عِلۡمࣲ وَلَا هُدࣰى وَلَا كِتَـٰبࣲ مُّنِیرࣲ ٢٠ وَإِذَا قِیلَ لَهُمُ ٱتَّبِعُوا۟ مَاۤ أَنزَلَ ٱللَّهُ قَالُوا۟ بَلۡ نَتَّبِعُ مَا وَجَدۡنَا عَلَیۡهِ ءَابَاۤءَنَاۤۚ أَوَلَوۡ كَانَ ٱلشَّیۡطَـٰنُ یَدۡعُوهُمۡ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلسَّعِیرِ ٢١ ۞ وَمَن یُسۡلِمۡ وَجۡهَهُۥۤ إِلَى ٱللَّهِ وَهُوَ مُحۡسِنࣱ فَقَدِ ٱسۡتَمۡسَكَ بِٱلۡعُرۡوَةِ ٱلۡوُثۡقَىٰۗ وَإِلَى ٱللَّهِ عَـٰقِبَةُ ٱلۡأُمُورِ ٢٢ وَمَن كَفَرَ فَلَا یَحۡزُنكَ كُفۡرُهُۥۤۚ إِلَیۡنَا مَرۡجِعُهُمۡ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوۤا۟ۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِیمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ ٢٣ نُمَتِّعُهُمۡ قَلِیلࣰا ثُمَّ نَضۡطَرُّهُمۡ إِلَىٰ عَذَابٍ غَلِیظࣲ ٢٤ وَلَىِٕن سَأَلۡتَهُم مَّنۡ خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ لَیَقُولُنَّ ٱللَّهُۚ قُلِ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِۚ بَلۡ أَكۡثَرُهُمۡ لَا یَعۡلَمُونَ ٢٥﴾ [لقمان ١٥-٢٥]
ثم قال الله تعالى:
﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا﴾ [لقمان١٥]
﴿إِنْ جَاهَدَاكَ﴾ الضمير في قوله:
﴿جَاهَدَاكَ﴾ ضمير فاعل يعود على الوالدين، ومعنى
﴿جَاهَدَاكَ﴾ نقول: ما ذكر المؤلف معناها لكن معناها: بذلا الجهد معك، على أي شيء؟
﴿عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ يعني على أن تجعل معي شريكًا لا علم لك به.
وقوله:
﴿مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ هو قيد لبيان الواقع، وليس قيدًا احترازيًّا؛ لأنه لا يمكن أن يوجد علم بأن لله تعالى شريكًا، وهذا كقوله تعالى:
﴿وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ﴾ [المؤمنون ١١٧].
فإن قال قائل: ما فائدة هذا القيد وقد عُلِم أنه لن يوجد؟
قلنا: الفائدة فيه تحقير هذا الأمر حتى لا يحاول أحد أن يجحد ويطلب علمًا أو برهانًا بأن الله تعالى له شريك، فكأنه يقول: هذا هو حقيقة الواقع، وما كان حقيقة واقعًا لا يمكن أن يتخلف، فهذا هو فائدة قوله:
﴿مَا لَيْسَ لَكَ به عِلْمٌ﴾.
وقوله:
﴿مَا لَيْسَ﴾ ﴿مَا﴾ هذه يحتمل أن تكون اسمًا موصولًا؛ أي الذي ليس لك به علم، ويحتمل أن تكون نكرةً موصوفةً أي: أن تشرك بي شريكًا ليس لك به علم.
وقوله:
﴿فَلَا تُطِعْهُمَا﴾ جواب الشرط وهو
﴿إِن جَاهَدَاكَ﴾، إن جاهداك فلا تطعهما.
وتأمل قوله:
﴿فَلَا تُطِعْهُمَا﴾، ولم يقل: فلا تبرهما، ما قال: فلا تبرهما، ولم يقل أيضًا: فاعصهما؛ لأن كلمة (لا تطعهما) أهون في النفس من كلمة (فاعصهما)؛ ولهذا كان قول إبراهيم عليه الصلاة والسلام لأبيه:
﴿يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ﴾ [مريم ٤٣] أهون من قوله: (يا أبتِ إنك جاهل بما عندي)؛ لذا قال:
﴿قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ﴾؛ لأن نفي الكمال أهون من إثبات النقص على النفوس.
ويذكر أن أحد الملوك رأى في المنام أن أسنانه قد سقطت فقال: ادعوا لي معبرًا يعبر هذه الرؤيا، فجاؤوا برجل ليعبرها، فقص عليه الرؤيا فقال: يموت أهلك. لما قال: يموت أهلك؛ فزع الملك، فزع وهلع وقال: اجلدوه، فجلدوه وانصرف. قال: أعطوني غيره فجاؤوا برجل آخر فقص عليه الرؤيا، فقال: الملك يكون أطول أهله عمرًا، فأكرمه وأسبغ عليه النعم، ومعنى ذلك معناه متقارب إذا كان أطولهم عمرًا معناه يموتون قبله.
الحاصل أن التعبير له أثر على النفس، كلمة (لا تطعهما) أهون من كلمة (اعصهما).
ثم قوله: (لا تطعهما)، ما قال: لا تبرهما أو لا تقم بحقهما، حقهما واجب ولو أمراك بالشرك، إذا كان الوالدان لهما حق واجب ولو أمراك بالشرك فكيف إذا أمراك بما دون الشرك؟! ولهذا حق الوالدين ليس بالأمر الهين،
﴿فَلَا تُطِعْهُمَا﴾ لماذا لا تطعهما؟ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فإن حق الله أوجب من حق الوالدين، هو الذي أوجب لهما الحق فكيف نضيع حقه من أجل حقهما؟
قال المؤلف رحمه الله: (
﴿﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ ﴾
[لقمان: ١٥]). يقول: (موافقةً للواقع) هذا تفسير لقوله:
﴿﴿مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ ﴾ أن هذا هو الأمر الواقع أنه ليس لك بذلك علم
﴿فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾؛ أي بالمعروف البر والصلة.
﴿صَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا﴾ كلمة
﴿فِي الدُّنْيَا﴾،
﴿فِي﴾ ظرفية لا شك فيها، ولكن ما المراد في الدنيا، المراد في زمن الدنيا أو المراد في شؤون الدنيا؟ يحتمل أن يكون المراد الشؤون؛ يعني في أمور الدنيا صاحبهما معروفًا، أما في أمور الدين فلا تتعدى ما أمرك الله به، ويحتمل أن يكون
﴿فِي الدُّنْيَا﴾؛ أي في هذه الدنيا، لكن المعنى الأول أبلغ؛ لأنه من المعلوم أن المصاحبة بين الوالدين والولد إنما تكون في الدنيا فلا حاجة إلى التقييد، فالظاهر أن المعنى
﴿وصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا﴾ أي فيما يتعلق بأمور الدنيا، صاحبهما
﴿مَعْرُوفًا﴾، قال المؤلف: (بالمعروف).
ومعنى هذا التفسير أن
﴿مَعْرُوفًا﴾ منصوب بنزع الخافض، والنصب بنزع الخافض مع غير (أن) و(أن) ليس بمطرد بل هو شاذ، وإذا كان كذلك فإنه لا ينبغي أن يُحال القرآن عليه، ولو قيل: إن
﴿مَعْرُوفًا﴾ صفة لمصدر محذوف التقدير: صاحبهما صِحابًا معروفًا؛ يعني صحبةً معروفة ليس فيها عنف وليس فيها توبيخ ولا لوم وليس فيها نقص مما يجب لهما فكان هذا أولى.
قال المؤلف: (بالبر والصلة) البر كثرة الخير، والصلة عدم القطيعة؛ فالمعنى صِلْهما وبَرَّهْما بما يستحقان منك، لكن في أمور الدنيا فقط.
﴿وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ﴾ ﴿اتَّبِعْ سَبِيلَ﴾ طريق،
﴿مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ﴾ رجع إليَّ بالطاعة.
قوله:
﴿وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ﴾ ﴿مَنْ﴾ هذه اسم موصول، واسم الموصول يفيد العموم فهل هو على عمومه؛ أي: اتبع سبيل من أناب إليَّ منهما أو من غيرهما؟ أو هو عام أُرِيد به الخصوص؟ أي من أناب إليَّ منهما؟ الأولى أن نقول: بالعموم،
﴿وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ﴾ من كل الناس.
وعليه فمن أناب من الوالدين إلى الله عز وجل يكون اتباع سبيله من باب أولى. وقوله:
﴿وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ﴾ ﴿أَنَابَ﴾ بمعنى رجع، رجع من أين؟ من المعصية إلى الطاعة، ومن الشرك إلى التوحيد، ومن الفسوق إلى الاستقامة والتقوى.
يقال: إن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لما أسلم قالت له أمه: ما هذا الدين الذي أتيت به؟ فقال: هذا هو الحق، فقالت له: لتتركنه أو لأدعن الطعام والشراب حتى أموت فتُعَيَّر بي، فقال: هذا حق لا أدعه، فأمسكت عن الطعام والشراب يومًا كاملًا، فلما أصبحت إذا هي مجهودة؛ يعني تعبانة من الجوع والعطش، فطلب منها ولدُها أن تأكل وتشرب وقال: أنا لن أرجع عن هذا الدِّين، ولكنها أبت، في اليوم الثاني أصبحت أكثر جهدًا فقال لها كما قال في الأول: إني لن أدع هذا الدين، فبقيت على عنادها، فلما كان في اليوم الثالث وإذا هي قد أصبحت مجهودةً جهدًا شديدًا، فقال لها: يا أمي، تعلمين أن هذا هو الحق، والله لو كانت نفسك مئة نفس وماتت كل نفس -يعني وحدها- والله ما أدع هذا الدين، (...)، فلما رأت أن الرجل عازم أَكَلَتْ.
مثل هذه الحال هل يجوز للإنسان إذا رأى أن أمه تبغي تموت أو أبوه يبغي يموت يجوز له أن يشرك؟
* طالب: لا.
* الشيخ: لو قال قائل: لو أراد أن يقول: إنه مشرك بلسانه متأولًا؟
* الطالب: إذا كان تتوقف (...) على هذا إلا لضرورة.
* طالب آخر: يجوز أظن، إلا من أكره وقلبه (...).
* الشيخ: ما يخالف، لكن هذا من أكره نفسه على شيء، أما هذا ما أُكرِه على شيء.
* طالب: بس هذا فيه إنقاذ روح.
* الشيخ: هذا إنقاذ نفس كافرة تأمر بالكفر، فالتأويل ما يجوز أن يوافق ولو بالتأويل.
* طالب: نفس شيطانية هذه.
* الشيخ: نعم، ما يجوز ولا بالتأويل، فليصبر ويقول: أنا ما ضررتكِ شيئًا، أي شيء تريدين من أمور الدنيا فأنا مستعد له يعني ما ضررتك، فإن شئتِ (...) إن شئت فكلي وإن شئتِ فلا تأكلي.
* طالب: وقد يكون التأويل هذا إعانة على الكفر.
* الشيخ: إي نعم، فيه مفاسد لا شك، فالمهم أنه لا يجوز أن يقول ولو متأولًا، نعم، لو خاف على نفسه هو، وهذا فرق بين من يخاف على نفس غيره أو على نفسه، لو خاف على نفسه هو أن يقتل فله أن يقول ذلك متأولًا؛ لقوله: ﴿إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ﴾ [النحل ١٠٦] على أنه -أي المسألة الأخيرة- ما يجوز فيما إذا كان فيه نصرة للإسلام فإنه إذا كان في ثبوته نُصرة للإسلام وفي موافقته ظاهرًا خذلان للإسلام حرم عليه ذلك؛ لأنه حينئذٍ يدخل في باب الجهاد مثلما حصل للإمام أحمد رحمه الله، دُعِي إلى القول بخلق القرآن ودُعِي غيره أيضًا إلى القول بخلق القرآن، فمن العلماء من تأوَّل وأجاب ظاهرًا بما يُدعى إليه، ومنهم من أصر فقتل، ومنهم من أصر فحماه الله من القتل كالإمام أحمد، الإمام أحمد ما أجابهم ولا بالتأويل؛ لأن الناس ينظرون ماذا يقول الإمام أحمد، فلو قال: إن القرآن مخلوق ولو بالتأويل، ماذا يقول العامة؟ يقولون: مخلوق، وتنطلي هذه البدعة على عموم المسلمين، فرأى رحمه الله أنه لا يجوز أن يتأول في هذه الحال لما في ذلك من خذلان الحق وإثبات الباطل.
* طالب: (...) الناس يتداولون الرجل اللي قتل ذبابة، وفي النفس شيء لغير الله وقال: ما..
* الشيخ: ما كنت لأقدم لأحد شيئًا غير الله، هذا مر علينا في كتاب التوحيد وقلنا: إن الحديث ضعيف، وإنه على تقدير صحته يكون هذا الرجل قد قرب مطمئنًا بالكفر، قد شرح بالكفر صدرًا.
* الطالب: خائف من القتل؛ لأنهم قتلوا صاحبه.
* الشيخ: إي، ما يخالف، لكن هو لما خاف من القتل هل إنه فعله دفاعًا ولا فعله مطمئنًا؟
* الطالب: في الحديث اللي قتل الأخير.
* الشيخ: (...) قتل، في هذه الحال نقول: هذا الرجل الأول اللي قرب (...) عن الأول؛ لأن الأول لما قرب يظهر أنه قرب منشرحًا صدره بالكفر، وهذا ما ينفع؛ لأنه لو أُكرِه الإنسان وهو يجب أن يكون إكراهه أن ينوي بالفعل أو بالقول دفع الإكراه، و(...) لها، أما إذا فعله منشرحًا به صدره أو لما أكره، وشاف أن المسألة جادة وحازمة انشرح صدره بهذا الشيء.
* الطالب: شيخ، ما هي القرينة لانشراح الصدر؟
* الشيخ: (...) حمل بموافقة الآية (...) جوابًا على هذا أن يقال: إن هذا الحديث(١) أولًا ضعيف ما يصح، والثاني: على تقدير صحته يُحمل على ما يوافق الآية الكريمة؛ لأنه ما يمكن إذا ثبت عن الرسول أن يكون مخالفًا للقرآن.
* الطالب: ما معنى (...) خلوا سبيله؟ ما معنى قال: ما عندي شيء أقربه؟ قالوا: قرب له ذبابًا، فقرب ذبابًا على طول.
* الشيخ: فقرب ذبابًا معناه أنه انشرح بالكفر صدرًا.
* الطالب: إي نعم، ما قال له: قرب ذبابًا، أو أجبره.
* الشيخ: المهم أنه شرح بالكفر صدرًا لما أُكْرِه على هذا.
* طالب: (...)؟
* الشيخ: إي، لكن إذا صح الحديث عن الرسول فمعناه أنه اعتبار مثلما قص علينا من الأمم السابقة لنعتبر بها.
* طالب: (...)؟
* الشيخ: لا، مو بعلشان هذا، علشان أن الأمم السابقة إذا قص الرسول علينا قصة مو هو بمعناها أنه بس اسمعوها ولا تعتبروا بها، معناها للاعتبار لكن الحديث -كما قلنا لكم في شرح التوحيد- ضعيف، ولا يصح.
* طالب: (...) دفعًا للإكراه (...).
* الشيخ: ﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا﴾ ما معنى قوله: ﴿جَاهَدَاكَ﴾ (...)؟ ﴿ثُمَّ﴾ هذا التعقيب لما ذكر سبحانه وتعالى أنهما إذا أمرا بالشرك لا تطعهما، وأن الواجب عليك اتباع سبيل من أناب إلى الله قال:
﴿ثُمَّ﴾ أي بعد هذه المحاولات منهما بأن تُشرك بالله، وبعد أن تطيع فالمرجع إلى الله.
وقوله:
﴿إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ﴾ جملة اسمية خبرية قُدِّم فيها الخبر لإفادة الحصر.
﴿إِلَيَّ﴾ لا إلى غيري.
﴿مَرْجِعُكُمْ﴾ يعني مردكم كما قال الله تعالى:
﴿وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ [البقرة ٢١٠].
﴿فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ يقول:
﴿فَأُنَبِّئُكُمْ﴾ بمعنى أخبركم
﴿بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾، والإنباء هذا يستلزم المجازاة، وقد لا يكون هناك مجازاة؛ ولهذا دائمًا يُعَبِّر الله عز وجل بالإنباء؛ أي الإخبار؛ لأنه قد يُجازي وقد لا يجازي؛ فإنه يخلو بعبده المؤمن، ويخبره بذنوبه ويُقرِّره بها، ثم بعد ذلك يقول: سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم.
وقوله:
﴿فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ أي بالذي كنتم تعملون، وهو شامل لكل ما يعمله الإنسان من صغير وكبير دون ما لم يعمله، فلو همَّ بالشيء فلم يعمله فإنه لا يُجازى عليه، لكن قد يُثاب عليه إذا كان معصيةً تركها من أجل الله عز وجل فإنه يُثاب على هذا الترك، قال: (فأجازيكم عليه، وجملة الوصية وما بعدها اعتراض)، قال المؤلف: (فأجازيكم عليه) كأنه جعل من لازم الإنباء المجازاة.
ولكني قلت لكم: ليس لازمًا؛ ولهذا عبر الله عز وجل بالإنباء؛ ليكون الأمر جائزًا أو دائرًا بين أن يُجازى عليه وبين ألا يجازى عليه.
وقوله: (وجملة الوصية وما بعدها اعتراض) الوصية مُبتدأة من قوله:
﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ﴾ اعتراض من قول الله عز وجل، وليس ذلك من قول لقمان لابنه؛ لأن الذي وصى الوالدين إحسانًا ووجه الإحسان هو الله عز وجل، وإنما جاءت هذه الوصية بعد ذِكْر الشِّرْك؛ لأن عقوق الوالدين يرد بعد حق الله سبحانه وتعالى، وفي الوصية أيضًا جملة اعتراضية فما هي؟ هي قوله:
﴿حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ﴾؛ لأن قوله:
﴿أَنِ اشْكُرْ﴾ هو الموصى به
﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ﴾ ﴿أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ﴾ يكون عندنا الآن كم اعتراض؟ (...).
* طالب: (...).
* الشيخ: (...).
* الطالب: (...).
* الشيخ: إذن نقول في هذا: الوصية اعتراضية بين كلام لقمان لابنه. وقوله: ﴿حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ﴾ اعتراض أيضًا بين فعل الوصية والموصى به.
* * *ثم قال الله عز وجل -عودًا على وصايا لقمان-:
﴿يا بُنَيَّ إنها﴾ أي: الخصلة السيئة
﴿إن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فتَكُنْ فِي صَخْرةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ﴾ [لقمان ١٦].
قوله:
﴿إِنَّهَا﴾ أي الخصلة السيئة فيه قصور؛ لأن الصواب المراد
﴿إِنَّهَا﴾ أي الخصلة السيئة أو الحسنة، كل شيء من حسن أو سيئ
﴿إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِن خَرْدَلٍ﴾ ﴿مِثْقَالَ﴾ أي وزن، وسمي الوزن مثقالًا؛ لأنه يعتبر بثقله، فإن الشيء يُوزن ليُعلم ثقله من خفته.
وقوله:
﴿حَبَّةٍ مِن خَرْدَلٍ﴾ هذه حبوب معروفة صغيرة
﴿فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ﴾ في صخرة في أي مكان من الأرض؟ لأننا لا نعرف صخورًا إلا في الأرض، لكن الذين خرجوا إلى القمر جاؤوا لنا منه بصخور، فلا ندري هل هذا صحيح أو ليس بصحيح؟
على كل حال (في صخرة)، المعروف أن الصخور في الأرض. وقوله:
﴿فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ﴾ هل يمكن أن يكون حبة من خردل في صخرة؟ يمكن؟
* طالب: إي نعم.
* الشيخ: أو هذا على سبيل المبالغة؟
* الطالب: يمكن؛ لأنه يطلع أحيانًا من الصخور..
* الشيخ: يظهر أن هذه العشبة تجري في شقوق، شقوق فيها تراب. على كل حال إما أن تكون على سبيل المبالغة، أو يكون مثلًا في هذه الصخرة شيء من غير جنسها بقدر حبة الخردل، فيُعتبر فيها، أو يقال: إن المراد أن حبة الخردل قد تكون في شق من هذه الصخرة، وأنا شاهدت في الغضا، الغضا يخرج في حبيبات بقدر أنملة (...) مختومة تمامًا، إذا فتحتها وجدت فيها دابة تدب على بطنها، وهي مختومة وفي نفس الغصن؛ يعني ما تجد فيها فتحة، يعني مخلوق منها هذا الشيء.
* الطالب: (...).
* الشيخ: ﴿فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ﴾ يعني في أعلى السماوات، أو أنزلها، أو في الأرض في أعلاها أو أنزلها ﴿أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ﴾ أو في أخفى مكان من ذلك ﴿يَأْتِ بِهَا اللَّهُ﴾ ﴿يَأْتِ﴾ ويش اللي روح الياء؟
* طالب: جواب الشرط.
* الشيخ: لأنها جواب الشرط في قوله: ﴿إِنْ تَكُ﴾ فإن ﴿إِنْ﴾ شرطية، و﴿تَكُ﴾ فعل مضارع مجزوم بـ(إن) الشرطية، وعلامة جزمه السكون على النون المحذوفة للتخفيف.
* طلبة: حذف حرف العلة.
* الشيخ: ﴿إِنْ تَكُ﴾ كذا علامة جزمه السكون على النون المحذوفة للتخفيف، وقوله: ﴿يَأْتِ﴾ جواب الشرط مجزوم بـ(إن) وعلامة جزمه حذف الياء (...)
* طالب: (...).
* الشيخ: (...)، حذف النون، أصلها إن تكن هذا أصلها. قال:
﴿يَأْتِ بِهَا اللَّهُ﴾ فيحاسِب عليها. هذا من أخفى ما يكون ومع ذلك قال:
﴿يَأْتِ بِهَا اللَّهُ﴾، ولم يقل: يعلمها الله؛ لأنه من لازم الإتيان بها العلم بها لكن الإتيان أبلغ، الله سبحانه وتعالى يأتي بها ويجازي عليها.
﴿إنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ﴾ باستخراجها
﴿خَبِيرٌ﴾ بمكانها، المؤلف دائمًا يخصص العموم بمقتضى السياق، والمعروف عند أهل العلم أن العبرة بعموم اللفظ، فهنا قال:
﴿إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ﴾ جعل اللطف هنا بالاستخراج والخبرة بالمكان، والصواب أنها أعم من ذلك فإن اللطيف من أسماء الله، قال ابن القيم:
وَهُوَ اللَّطِيفُ بِعَبْدِهِ وَلِعَبْدِهِ ∗∗∗ ........................
فالله تعالى لطيف بعبده ولطيف لعبده.
....................... ∗∗∗ وَاللُّطْفُ فِي أَوْصَافِهِنَوْعَانِ
اللطف الأول: إدراك أسرار الأمور وخفايا الأمور، والثاني: اللطف عند مواقع الإحسان اللي هو الإحسان إلى العبد، يلطف له بمعنى يُقدِّم له من الإحسان ودفع السوء ما لا يعلم به فيكون (لطيف) يتعدى بالباء، ويتعدى باللام، فإن تعدى بالباء فهو بمعنى العلم بخفايا الأمور، وإن تعدى باللام لطيف لهم، فهو بمعنى الإحسان بجلب المطلوب ودفع المكروه أو المخوف، قال الله تعالى:
﴿إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ﴾ [يوسف ١٠٠] اللي قاله من؟ يوسف
﴿إنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ﴾ يعني ومن لطفه أن يسر الاجتماع بكم بعد الفراق
﴿إِنَّه هو العَلِيمٌ الحَكِيمٌ﴾، فالحاصل أن اللطيف من أسمائه تعالى، وله معنيان حسب ما يتعدى به؛ إن تعدى باللام
﴿لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ﴾ فمعناه الإحسان، وإن تعدى بالباء فمعناه العلم بالخفايا، فهو لكمال علمه لطيف، كل شيء يعلم به، فيه معنى ثالث لكن ما هو بينطبق على أوصاف الله ولَّا لا؟ اللطيف هو الرقيق عند الناس يقولون: فلان لطيف يعني رقيق، حسن الخلق.
وعندي أن هذا داخل في قولنا:
﴿إنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ﴾؛ لأنه تعدى باللام؛ يعني معناه الإحسان، فإن الإحسان أخص أيضًا من حسن الخلق أخص؛ لأنه يتضمن الإنعام على من لطف له، وأما قوله:
﴿خَبِيرٌ﴾، الخبير هو العليم ببواطن الأمور، وهو مع اللطيف كالمؤكد له، وقلنا: العِلم ببواطن الأمور خبرة مأخوذ من الخبار؛ يعني الأرض الرخوة التي تبذر فيها البذور وتُدس فيها، فهو خبير سبحانه وتعالى عالم ببواطن الأمور.
ومنها: هذه الحبة التي من خردل تكون في صخرة أو في السماوات أو في الأرض.
* طالب: (...).
* الشيخ: ﴿يَأْتِ بِهَا﴾ بمعنى أنها لا تفوت، ولا تهرب منه، لا بد أن يأتي بها ويحاسب عليها، أو يأتي بها ليظهر قدرته عليها.
* الطالب: (...).
* الشيخ: المعنى إذا كانت سيئة، والآن المؤلف يقول: إنها في الخصلة، ﴿إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ﴾ [لقمان ١٦] فإنه يأتي بها.
* الطالب: من العمل.
* الشيخ: من الأعمال اللي بمقدار هذا الشيء.
* * *ثم قال عز وجل:
﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ﴾ [لقمان١٧] هذه أربعة أوامر،
﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ﴾. شوف الأول نواهي
﴿يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان١٣] نهي، ثم تحذير بقوله:
﴿إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ﴾، ثم بعد ذلك أمر:
﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ﴾، ولهذا يقال: التخلية قبل التحلية، يعني معناها: أزل الشوائب، ثم ائتِ بالمكملات، فقوله هنا:
﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ﴾ أمر بإقامة الصلاة، ومعنى إقامتها أن يأتي بها الإنسان تامةً بأركانها وشروطها وواجباتها ومكملاتها. وقوله:
﴿الصَّلَاةَ﴾ شامل للمفروضات والنوافل.
﴿وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ﴾ اؤمر بالمعروف، أين مفعول (اؤمر)؟ محذوف، التقدير: الناس أو غيرك، وأمر غيرك بالمعروف؛ أي: بالقول المعروف والفعل المعروف، والمعروف ما أمر به الشرع، هذا المعروف؛ لأن ما أمر به الشرع قد أقرَّه الشرع، وأقرته الفطر السليمة؛ فالمعروف إذن كل ما أُمِر به شرعًا هكذا؟ المعروف كل ما أمر به الشرع سواء يتعلق بحق الله أو بحق العباد.
وقوله:
﴿وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ المنكر كل ما أنكره الشرع؛ أي نهى عنه سواء ما يتعلق بحق الله أو بحقوق العباد.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هل هو واجب عيني أو على الكفاية؟ واجب على الكفاية؛ لقوله تعالى:
﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ [آل عمران ١٠٤] إذا جعلنا (مِنْ) للتبعيض، أما إن جعلنا أن (من) لبيان الجنس والمعنى: ولتكونوا أمةً تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر فإنه يكون فرْض عين، ولكن الصواب أنه فرض كفاية؛ لأن المقصود به إصلاح الغير، فإذا حصل إصلاح الغير بغيرك حصل المقصود، أما إذا لم يحصل فإنه يجب أن تأمر، فإذا وجدنا من الناس تهاونًا في هذا الأمر وتكاسلًا صار فرضًا علينا، أما إذا رأينا أن الناس قد استقاموا على هذا، وصاروا يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر فإنه يكون في حقنا فرض كفاية.
وقوله:
﴿وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ حتى والديك؟ حتى والديك تأمرهما بالمعروف وتنهاهما عن المنكر، بل إن حق الوالدين أعظم من حق غيرهما؛ لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إحسان للمأمور والمنهي وليس إساءةً، فإذا كان كذلك فأحق من تُحسِن إليه والداك.
* طالب: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هل هو الموعظة ولا..؟
* الشيخ: لا، نحن ذكرنا فيما سبق أن المراد الثلاثة بيان ودعوة، وأمر ونهي، وتغيير؛ فالبيان والدعوة واجبان على كل أحد، كل أحد يجب عليه أن يبين إذا دعت الحاجة إلى البيان أو سُئل عن علم، وكل واحد عليه أن يبلغ إذا اقتضت الحال ذلك، وأما الأمر فهو أخص من الدعوة؛ لأن الأمر أن توجه أمرًا إلى شخص معين مو هو بأن تبين أن تقوم في الناس وتقول: هذا حلال، وهذا حرام، هذا يعتبر موعظة، وأما التغيير فأن تُغيِّر بيدك تأخذ هذا المنكر تكسره مثلًا، أو تقول بلسانك إذا عجزت عن الفعل، تُغيِّر باللسان؛ إما برفع الأمر إلى من يستطيع التغيير، وإما بالانتهار والتوبيخ والزجر حتى يحصل ذلك، فإن لم تستطع هذا ولا هذا فيكون التغيير بالقلب، وهو الكراهة والبغضاء، وهذا في الحقيقة ما يحصل التغيير المطلق يعني بمعنى أن المنكر لو تنكره بقلبك لا يزول، لكن هذا أدنى درجات التغيير؛ ولهذا قال الرسول عليه الصلاة والسلام: «وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ»(٢).
* طالب: (...)؟
* الشيخ: لا، ما يمكن.
* الطالب: (...).
* الشيخ: لا، ما يكون محرمًا لذاته، يعني إذا كان فيه مثلًا شيء إذا نهينا عن المنكر (...) وهذا شرط في كل واجب؛ لقوله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ ما اسْتَطَعْتُم﴾.ومن الشروط أيضًا ألا يخشى ضررًا مُحققًا، فإن خشي الضرر في ماله أو بدنه لم يلزمه، فإن خشي الأذية لزمه ولَّا لا؟ إن خشي الأذية لزمه؛ لأنه لا بد من أذى، لكن أذية ما فيها ضرر؛ ولهذا قال:
﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ﴾ هذا توطئة وتمهيد كأنه يقول له: إذا أمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر فلا بد أن يحصل لك أذية فاصبر على هذا، وهذا هو الواقع، فإن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر غالبًا يُؤذَى، يؤذيه المأمور والمنهي؛ إما بالقول، وإما بالسخرية، وربما تصل الحال إلى أنه يرميه بالحجارة أحيانًا، وربما تصل الحال إلى أنه يخربوا سيارته أو يكسروا داره، أو ما أشبه ذلك، لكن الأخير هذا ضرر في المال، ولكن لا بد أن يكون أمرًا محققًا، أما إذا كان وهمًا عن الضرر فليس بشيء.
* طالب: (...).
* الشيخ: ما هو؛ لأنه قد يضره وقد لا يضره. وقال: ﴿إنَّ ذَلِكَ مِن عَزْمِ الأُمُور﴾ ﴿إنَّ ذَلِكَ﴾ المشار إليه ما سبق من الأمور الأربعة: ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ﴾ [لقمان ١٧] قال: أي ﴿إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ﴾ أي معزوماتها التي يُعزم عليها لوجوبها. ﴿الأُمُورِ﴾ بمعنى الشؤون والأحوال، والعزم هنا مصدر بمعنى اسم المفعول؛ أي معزوماتها التي يعزم عليها؛ لأنها واجبة، والله أعلم.
* * *﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا﴾ [لقمان ١٥].
* مِن فوائد الآية: تحريم طاعة الوالدين إذا أمرا بالشرك؛ لقوله: ﴿فلا تُطِعْهُمَا﴾ ويقاس على ذلك كل معصية أمرا بها فإنهما لا يُطاعان؛ لقول الرسول عليه الصلاة والسلام: «لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ في مَعْصِيَةِ الخَالِقِ»(٣).
* ومِن فوائد الآية الكريمة: أن فسوق الوالدين وكفرهما لا يُسقِط حقهما من البر، من أين تؤخذ؟ من قوله: ﴿وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾ فإنه أمر بمصاحبتهما معروفًا مع أنهما كافران ويأمران بالكفر.
* ومن فوائد الآية الكريمة: وجوب اتباع سبيل المؤمنين؛ لقوله: ﴿وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ﴾، ويؤيده قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ [النساء ١١٥].
* ومِن فوائد الآية الكريمة: أن جميع الخلائق -مؤمنهم وكافرهم- مرجعهم إلى الله؛ لقوله: ﴿ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمُ﴾.
* ومِن فوائدها: أن الحكم بين الخلق إلى الله؛ لقوله: ﴿إِلَىَّ مَرْجِعُكُم﴾ فإن تقديم الخبر يدل على الحصر.
* ومنها: إحاطة الله تعالى بكل شيء علمًا؛ لقوله: ﴿فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ فإن الإنباء بما نعمل لا يكون إلا عن عِلْم.
* ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات الكلام لله؛ لقوله: ﴿فَأُنَبِّئُكُمْ﴾ والإنباء إخبار.
* ومن فوائدها أيضًا: تحذير الإنسان من الأعمال السيئة؛ فإن قوله: ﴿فَأُنبِّئُكُمْ﴾ يفيد التحذير حتى لا نقع في أمر حرمه الله علينا.
* ومن فوائد الآية الكريمة أيضًا: بلوغ الغاية في البلاغة في القرآن الكريم؛ لقوله: ﴿فَأُنبِّئُكُم﴾ ولم يقل: فأجازيكم؛ وذلك أنه قد يُنبَّأ الإنسان يوم القيامة بما عمل، ثم يُغفر له، فذكر الله الإنباء؛ لأنه مؤكد، أما المجازاة فإن الله تعالى قد يغفر عن المذنب بدون (...)٠وهل يؤخذ من الآية الكريمة وجوب طاعة الوالدين في غير معصية الله؟ وجوب طاعتهم من أين؟
* طالب: لأنه ما نهى إلا عن الشرك.
* الشيخ: إي، لكن نهى عن طاعتهم.
* طالب: نهى عن طاعتهم مو بالشرك.
* الشيخ: إي، فلا نهى عن الطاعة، ما نهى عن الطاعة، إذن من أين نعرف أنها واجبة؟
* طالب: ﴿صَاحِبْهُمَا في الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾.
* الشيخ: قوله: ﴿صَاحِبْهُما في الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾ يعني من الأصل الكلام على أنه يؤخذ من الآية الكريمة.
* طالب: (...).
* الشيخ: على كل حال إذا أمرا بغير المعصية فالآية سكتت عن ذلك، حرمت الطاعة في المعصية، وسكتت عما عدا ذلك، لكن قد يقال: إن قوله: ﴿وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾ يدل على وجوب طاعتهما في غير المعصية؛ لأنه لا شك أن مِن مصاحبتهما بالمعروف امتثال أمرهما، وعلى هذا فقد يستدل بعموم قوله: ﴿وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾ على وجوب طاعتهما في غير المعصية، ولكنه سبق لنا أثناء التفسير أن شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: تجب طاعتهما فيما فيه نفع لهما ولا ضرر عليه فيه، أما ما فيه ضرر عليه فلا يجب عليه الطاعة، ولهذا لما ذكر أهل العلم أن للأب أن يتملك من مال ولده ما شاء قالوا: بشرط ألا يضر الولد، فإن ضر الولد فإنه ليس له أن يتملك، بل قالوا: بشرط ألا يضره، وألا تتعلق به حاجته، فإن تعلقت به حاجته فليس له أن يتملكه.
* طالب: تعلقت الحاجة.
* الشيخ: لا، حاجته الخاصة؛ بمعنى أنه مثلًا ما يجد غيره، ولا مثلًا حاجة -كل شيء بيحتاجه- لكن مثلًا إناء يحتاجه (...) لكن سُرِّيَّة يحتاجها ما نقول للأب أن يتملكها؛ لأن هذا يفوت على الابن حاجته واستمتاعه بها.
* طالب: (...).
* الشيخ: إي، بس من غير الآية.
* طالب: (...).
* الشيخ: إي، من غير الآية.. من أدلة أخرى..
* طالب: (...) ﴿إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ﴾ [الممتحنة ٤].
* الشيخ: إي نعم، كل هذا ينافي (...)؛ لأن ليس معنى مصاحبتهما بالمعروف أن تبدي لهما المحبة والولاية بل أنت تبغض ما هما عليه من الكفر والشرك، وتبغضهما على هذه الصفات التي اتصفا بها، ولكن تعطيهما ما يجب لهما.
* طالب: بالضحك في وجوههما، بالبشاشة لهما، بالمعروف اللي جرت عليه الناس.
* الشيخ: إي، لكن بس هذا ما هو سببه الدين، هو ليس سببه الدين أنه (...) عن دينه، فهذا أمر تقتضيه الطبيعة، والعداوة والبغضاء في القلب والكفر؛ لأن العداوة ضد الولاية.
* طالب: (...).
* الشيخ: نعم، ما يمنع هذا (...)، ولكننا ما نؤذيهم بمعنى أننا (...)، وما أشبه ذلك.ثم يقال أيضًا: لكل مقام مقال؛ فمثلًا إذا كان الوالدان أو غيرهم يتبجحان بالكفر ويفتخران به، فلنا أن نعلن هذه البراءة والعداوة والبغضاء، وإذا كانا ساكتين مسالمين فنحن لا نتعرض لهما، ولكننا نتبرأ على صفة العموم مما هم عليه من الدين، والمهم أن الله يقول:
﴿صَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا﴾ أما فيما يتعلق بالدين فلا تصاحبهما بمعروف أبدًا، فيما يتعلق بالدين يجب أن تكرههما وتبتعد عنها وتعاديهما.
* * *ثم قال تعالى في بقايا وصية لقمان:
﴿يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ﴾ [لقمان١٦] إلى آخره. في هذه الوصية فائدة، وهي تحذير الابن من المخالفة؛ لقوله:
﴿يَأْتِ بِهَا اللَّهُ﴾ فلا تخفى عليه ولا تفوته.
* ومن فوائد الآية الكريمة: عموم علم الله عز وجل وتمام قدرته من أين نأخذ العموم؟ من أنه يقول: ﴿فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ﴾، والذي يكون باديًا على الأرض، وليس في الصحراء من باب أولى، فيستفاد منه عموم عِلم الله وإحاطته، وتمام قدرته أيضًا؛ وذلك بالإتيان بها.
* ومِن فوائد الآية الكريمة: إثبات هذين الاسمين من أسماء الله ﴿إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ﴾ وإثبات ما تضمناه من الصفة.
* ومِن فوائدها: أن السماوات متعددة؛ لقوله: ﴿أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ﴾ وعددها معروف؛ وهي سبع، وأما الأرض فلم تُذكر مجموعةً في القرآن، كل ما في القرآن من ذكر الأرض فإنه بالإفراد، ولكن الله تعالى أشار إلى أنها جمْع في قوله تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ﴾ [الطلاق ١٢] فإن قوله: ﴿مِثْلَهُنَّ﴾ يراد الْمِثلية في العدد؛ إذ إن المثلية في الكيفية مستحيلة فلزم أن تكون مِثْلية في العدد فقط.
* * *ثم قال تعالى من بقية وصايا لقمان:
﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ﴾ [لقمان ١٧].
* فمن فوائد الآية الكريمة: أنه ينبغي للآباء أن يوصوا أبناءهم بهذه الخصال الأربع (...).لأن
﴿عَزْمِ﴾ بمعنى معزوم أي موجب، و
﴿الأُمُورِ﴾ الشؤون.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أنه ينبغي للأب أن يقرن موعظته لابنه بالترغيب والترهيب، فإن قوله: ﴿إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ﴾ تأكيد وحق على الابن أن يقوم بهذه الوصايا الأربع.
* طالب: (...) في سورة الشورى ﴿وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ هذا (...) ما يخاف (...) في قضاء الله وقدره ما يوافق؟
* الشيخ: يحتاج إلى تأمل.
* طالب: التلطف يا شيخ.
* الشيخ: نعم، هذه أخذناها من قبل، من كل الوصايا، هذه ﴿يَا بُنَيَّ﴾ يؤخذ منها تلطف الإنسان بمخاطبة ابنه لا سيما في مقام الموعظة، فيتفرع على هذا أيضًا بيان سوء معاملة بعض الآباء إذا أراد أن يعظ ابنه عامله بالعنف والشدة، وهذا خطأ وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: «إِنَّ اللَّهَ يُعْطِي بِالرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ»(٤)، وأنت إذا عملت بهذا الشيء فإنك سوف تتعامل بالرفق؛ لأن الرسول أخبر بأن الله يُعطي بالرفق ما لا يعطي على العنف، فإذا كان يحصل لك مقصودك بالعنف فإن حصوله بالرفق من باب أولى، وعلى هذا فينبغي الرفق في الأمور لا سيما في مقام الوعظ لهؤلاء الأبناء الذين لا يحيطون عِلمًا بما هم عليه، أما المعانِد والمستكبِر فهذا له حال أخرى، لكن كلامنا في مقام الدعوة، وفي مقام التوجيه والإرشاد فإنه ينبغي التلطف وعدم العنف.
* طالب: (...).
* الشيخ: كل واحد حتى على.. إي نعم.
* طالب: (...)؟
* الشيخ: ليس بدائم، ﴿فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾ [النساء ١٠٣] ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ﴾ [البقرة ٢٣٨] ما هو بدائم.
* * *ثم قال تعالى:
﴿وَلَا تُصَعِّرْ﴾ هذه معطوفة على قوله:
﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ﴾ فهو إذن من وصايا لقمان لابنه
﴿وَلَا تُصَعِّرْ﴾ وفي قراءة
﴿﴿ولَا تُصَاعِر﴾ ﴾
﴿خَدَّك لِلنَّاسِ﴾، يقول المؤلف: (لا تُمِل وجهك عنهم تكبرًا) التصعير هو الإمالة، ومنه: الصَّعر في الوجه، وهو الميال بحيث تكون العنق ملتوية تميل إما يمينًا وإما شمالًا.
وقوله:
﴿خَدَّكَ﴾ أي وجهك؛ فهو من إطلاق البعض وإرادة الكل. وقول المؤلف: تكبرًا، نعم هذا محط النهي أن يفعل ذلك على سبيل التكبر، أما لو فعله على سبيل الإعراض عما لا يجوز النظر إليه كما لو قابلك امرأة فصد وأعرض فإنه لا يدخل في الآية؛ ولهذا قال:
﴿وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ﴾ وأما إذا صعرت وجهي أو خدي لأجل ألا أرى إلى شيء محرم فإنه لا يدخل في هذه الآية.
وقوله:
﴿وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ﴾ اللام هنا هل هي للاختصاص على أصلها، أو أنها بمعنى (عن)؟
* طلبة: عن.
* الشيخ: ﴿لَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ﴾ أي عنهم، لكن منهي تكبرًا. وقوله: ﴿لِلنَّاسِ﴾ عام، يشمل المؤمن والكافر، ولكن الكافر لا يعامل كما يُعامَل المؤمن في مثل هذه الأمور وقد يقال: إن شرعنا ورد بخلافه، وأن الكافر يُصعَّر له الخد ويُعرَض عنه، وقد يقال: إن الكافر إذا جاءك مُقبلًا فأقبل عليه فإن هذا من باب التأليف على الإسلام، وأما إذا أعرض فأعرض.﴿وَلَا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا﴾ قال:
﴿وَلَا تَمْشِ﴾ هذا مجزوم بحذف الياء
﴿فِي الأَرْضِ﴾ أي على الأرض.
﴿مَرَحًا﴾ قال المؤلف: (أي خيلاء). المرح بمعنى البطر والأشر، والخيلاء من ذلك، فلا تكون متبخترًا في مشيتك متعاليًا في نفسك، ولكن امشِ مشية المتذلل الخاضع لله عز وجل غير الْمُتَعَلِّي على عباد الله.
وقوله:
﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ ذكر هنا
﴿لَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ ولَا تَمْشِ في الأَرْضِ مَرَحًا﴾ فالأول في معاملة الناس
﴿لَا تُصَعِّر خَدَّكَ لِلنَّاسِ﴾، والثاني في هيئته بنفسه، ألا يمشي في الأرض مرحًا، وإنما يمشي كما يمشي عباد الرحمن
﴿الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾.
﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ﴾ متبختر في مشيه
﴿فَخُورٍ﴾ على الناس
﴿مُخْتَالٍ﴾ أي فاعل للخُيلاء، و
﴿فَخُورٍ﴾ أي مفتخر بنفسه، والفرق بينهما أن الاختيال يكون بالنفس، والفخر يكون بالقول، فهذا الرجل عنده خيلاء في نفسه واختيال على عباد الله، وعنده فخر بلسانه يفخر بنفسه ويقول: أنا فلان بن فلان، ويمتدح نفسه، ولكن هذا -كما جاء في الفوائد- ما لم يكن في الحرب، فإن كان في الحرب فلا بأس أن يفخر الإنسان كما قال النبي عليه الصلاة والسلام:
أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ
ورأى بعض أصحابه يمشي مشية المتبختر فقال:
«إِنَّ هَذِهِ لَمِشْيَةٌ يُبْغِضُهَا اللَّهُ إِلَّا فِي هَذَا الْمَوْقِفِ»(٥). ففي باب الحرب يجوز للإنسان أن يفتخر، ويجوز أن يتعاظم في نفسه؛ لأنه أمام أعداء الله الذين ينبغي إذلالهم.
﴿وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ﴾ توسَّط فيه بين الدبيب والإسراع وعليك السكينة
﴿وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ﴾ المؤلف (...): (
﴿﴿وَاغْضُضْ﴾ ﴾ اخفض
﴿﴿مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ﴾ ﴾ أقبحها
﴿﴿لَصَوْتُ الحَمِيرِ﴾ ﴾ أوله زفير وآخره شهيق).
﴿اقْصِدْ فِي مَشْيِكَ﴾ القصد معناه الوسط في الأمور، فالوسط في الأمور معناه أن الإنسان يكون وسطًا في مشيه بين الذي يمشي مُسْرعًا والذي يمشي متباطئًا، والقصد في كل شيء هو الوسط؛ ولهذا ورد في الدعاء المأثور:
«وَأَسْأَلُكَ الْقَصْدَ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى»(٦). معنى (القصد) يعني التوسط في الأمور،
﴿الَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا﴾ [الفرقان ٦٧].
وقوله:
﴿وَاقْصِدْ في مَشْيِكَ﴾ توسط فيه بين الدبيب والإسراع وعليك السكينة والوقار؛ يعني لا تدب دبيبًا وأنت تمشي، ولا تسرع سرعةً تخل بالمروءة ولكن ليكن مشيك وسطًا بين هذا وهذا دالًّا على القوة وعلى النشاط كما كان الرسول عليه الصلاة والسلام يفعل في مشيه.
﴿وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ﴾ ﴿مِن﴾ هذه للتبعيض، ما قال: اغضض صوتك. بل قال: منه. وذلك لأن الإنسان لا يُحمد على رفع الصوت جدًّا ولا على خفضه جدًّا، والناس منهم من يكون عاليَ الصوت، إذا قام يتكلم وإذا هو كأنما يتكلم على جماعة بعيدين، ومن الناس من يكون بالعكس، يكلمك، ربما لا تفهم منه إلا الكلمة بعد الكلمة، كل هذا ليس بجيد؛ ولهذا قال:
﴿اغْضُضْ مِن صَوْتِكَ﴾ ولم يقل: اغضضه كله. فلا ينبغي هذا ولا هذا، بل يكون أيضًا قصدًا بين رفع الصوت والإخفاء.
وقوله:
﴿اغْضُضْ مِن صَوْتِكَ﴾ المراد عند المخاطبة؟ نعم، عند المخاطبة، ثم إن
﴿مِن﴾ هنا تفيد التبعيض في الكيفية وكذلك في الكمية، في بعض الأحيان يكون الأفضل أن ترفع صوتك، أليس كذلك؟ افرض أنك تنادي قومًا بعيدين مترامي الأطراف، تريد أن تحثهم على قتال أو ما أشبه ذلك، يجوز رفع الصوت ولَّا لا؟ يجوز؛ ولهذا العباس بن عبد المطلب في الحديث الصحيح
«لما انصرف الناس أمره النبي عليه الصلاة والسلام أن ينادي فقال بأعلى صوته: يا أهل الشجرة! يا أصحاب سورة البقرة!»(٧) بأعلى صوته، وهذا لا شك أنه ليس غضًّا من الصوت؛ لأن الله تعالى يقول:
﴿اغْضُضْ مِن صَوْتِكَ﴾ فصار الغض من الصوت باعتبار الكمية وباعتبار الكيفية، كيف ذلك؟ نقول: إذا كنت تخاطب من إلى جانبك لا ترفع الصوت، ولا تخفضه بحيث لا يسمع، هذا باعتبار الكيفية، باعتبار الكمية يعني أحيانًا ربما تضطر إلى رفع الصوت؛ ولهذا قال:
﴿اغْضُضْ مِن صَوتِكَ﴾ يعني أحيانًا، لكن في بعض الأحيان تستدعي الحال أن ترفع صوتك بقدر ما تُسمِع.
ثم علل سبحانه وتعالى، أو يكون من كلام لقمان؛ لأن قوله:
﴿إِنَّ أَنْكَرَ﴾ يحتمل أن يكون من كلام لقمان؛ لأنه الأصل، ويحتمل أن يكون من كلام الله، ختم الله به الآية.
وقوله:
﴿إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ﴾ تعليل لقوله:
﴿اغْضُضْ مِن صَوْتِكَ﴾،
﴿إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ﴾ يعني أقبحها وأبشعها، وليس أعلاها لكن أنكرها؛ لأن في الحيوان من هو أعلى صوتًا من الحمار لكن في القبح ليس فيه أقبح من صوت الحمير، وقوله:
﴿أنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ﴾ الجملة هذه مؤكدة بمؤكدين وهي (إن) واللام، ووجه ذلك ما ذكره المؤلف أن أوله زفير وآخره شهيق، كيف؟ ويش الفرق بين الزفير والشهيق؟ ما هو؟
* طالب: الزفير: خروج الهواء، والشهيق..
* الشيخ: نعم، الشهيق يكون باطنًا في الصدر، والزفير يكون خارجًا؛ ولهذا قال الله تعالى: ﴿إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا﴾ [الفرقان ١٢].
* طالب: ﴿لَهُم فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ﴾.
* الشيخ: وكذلك الآية الثانية: ﴿لَهُم فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ﴾ هذا باعتبار الساكنين، وقال في آية أخرى: ﴿سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ﴾ فذكر الله تعالى للنار زفيرًا وشهيقًا، كما أن لساكنيها أيضًا زفيرًا وشهيقًا نعوذ بالله منه. قال:
﴿إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتَ الْحَمِيرِ﴾ انتهت الوصايا النافعة التي هي من الحكمة التي أعطاها الله تعالى لقمان.
ثم قال الله تعالى: -مقررًا ما أنعم الله به على عباده-:
﴿أَلَمْ تَرَوْا﴾ تعلموا يا مخاطَبِين
﴿أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ﴾ من الشمس والقمر والنجوم لتنتفعوا بها
﴿وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ من الثمار والأنهار والدواب.
﴿وَأَسْبَغَ﴾ أوسع وأتم
﴿عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً﴾ وهي حسن الصورة، وتسوية الأعضاء، وغير ذلك.
﴿وَبَاطِنَةً﴾ وهي المعرفة وغيرها، يُقرِّر الله تعالى في هذه الآية ما أنعم الله به على العباد فيقول:
﴿أَلَمْ تَرَوْا﴾، وإنما قلت: (يقرر)؛ لأن همزة الاستفهام إذا دخلت على (لم) أفادت التقرير فينقلب الفعل المضارع إلى مؤول بماضٍ مؤكد بـ(قد)، فمثلًا
﴿أَلَمْ تَرَوْا﴾ أي قد رأيتم.
﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾ أي قد شرحنا لك صدرك. إذن للتقرير لماذا؟ لأنه إذا دخلت همزة الاستفهام على (لم) أفادت التقرير فينقلب الفعل المضارع في المعنى إلى فعل ماض مؤكد بـ(قد) فيكون معنى (ألم تروا) أي: قد رأيتم، ولهذا في سورة (ألم نشرح لك) قال الله تعالى:
﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾ بعده؟
﴿وَوَضَعْنَا﴾ فعطف فعلًا ماضيًا على ما سبق؛ لأن ما قبله بمعنى الفعل الماضي.
وقوله:
﴿أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ﴾ ﴿سَخَّرَ﴾ بمعنى ذلل؛ ذللها لكم أو لمصالحكم ومنافعكم.
﴿مَا فِي السَّمَاوَاتِ﴾ يقول المؤلف: من الشمس والقمر والنجوم. وهذا على سبيل التمثيل، وإلا فإنه قد سخر لنا أيضًا الرياح وهي بين السماء والأرض، وسخر لنا السحاب كما قال تعالى:
﴿وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ والْأَرْضِ﴾ وهو لنا، فهو عام لكل ما سخره الله تعالى من مصالحنا.
﴿وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ من الثمار والأنهار والدواب، وغيرها أيضًا حتى المعادن وغيرها سخرها الله لنا وذللها لنا، فهذه كل ما في الأرض مُسخَّر مذلل، لكن بعضه مُسخَّر بطبيعته، وبعضه مسخر بواسطة، فالحديد والمعادن وما أشبهها مسخرة لكنها بواسطة، والدواب والأنهار والأشجار مسخرة بدون واسطة، يجدها الإنسان مهيأة كاملة.
وقوله:
﴿وَأَسْبَغَ﴾ فسرها المؤلف بأمرين بالسعة والإتمام؛ أي أوسع وأتم، ومنه: إسباغ الوضوء على المكاره، يعني: إتمام الوضوء، فمعنى (أسبغ) يعني أوسع وأتم، أما (أتم) فمثاله ما ذكرت: إسباغ الوضوء على المكاره، وأما (أوسع) فمنه قوله تعالى:
﴿أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ﴾ أي دروعًا سابغات: واسعة، ومنها أيضًا قولهم: ثوب سابغ؛ يعني: واسع، ويدخل فيه الإتمام أيضًا، فالمهم أن الإسباغ يتناول شيئين: إتمام الشيء، والثاني: توفيره، والنعم التي أنعم الله بها علينا شاملة للأمرين فهي واسعة
﴿وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾، وهي أيضًا تامة ليس فيها نقص، كل ما يحتاجه الإنسان في حياته بل وكل ما يحتاجه في دينه فإن الله تعالى قد أتمه والحمد لله.
وقوله:
﴿ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً﴾ فسر المؤلف الظهور بأنها الحسية الظاهرة، والباطنة هي المعرفة وغيرها.
* طالب: هي المعروف.
* الشيخ: لا، المعرفة هي المعرفة، وهو الظاهر، النِّعم جعلها الله تعالى ظاهرةً وباطنة؛ ظاهرة للعيان، وذكر المؤلف من أمثلتها حُسْن الصورة، واستقامة الخلق، وما أشبه ذلك، والباطنة يقول: (هي المعرفة)؛ لأنها في القلب غير معلومة، وهذا لا شك أنه تفسير ناقص جدًّا، والظاهرة أعم..
* طالب: يقول: المعروفة.
* الشيخ: لا المعرفة عندنا، المعرفة معرفة في القلب يعني العلم، الصواب أنها أعم من ذلك؛ فالنعم إما ظاهرة لكل أحد، وإما باطنة لا يعلمها كل إنسان، هذا واحد، وإما ظاهرة أيضًا بحيث كل يعرف أنها نعمة، وباطنة بحيث لا يرى أنها نعمة إلا من آثارها؛ لأن بعض الأشياء حين وجودها لا تظن أنها نعمة، لكن إذا عرفت آثارها وجدت أنها نعمة، ومنه قوله تعالى: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ [البقرة ٢١٦]، فإن الإنسان أحيانًا يُصيبه ما يصيبه من قضاء الله وقدره فلا يرى أنها نعمة حتى يعرف آثارها فيما بعد، والمهم أن النعم -والحمد لله- ظاهرة بينة للعيان وعامة شاملة للخلق، وشيء باطن لا يعرفه إلا من أنعم الله به عليه، أيضًا شيء ظاهر واضح أنه نعمة، وشيء باطن لا يتبين أنه نعمة إلا فيما بعد (...). ﴿وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ [لقمان ١٨].
* يستفاد من هذه الآية الكريمة: ذم هاتين الخصلتين: تصعير الخد للناس تكبُّرًا وتعاظمًا، والمشي في الأرض مرحًا، وقد دلت الآيات الأخرى على أنهما من المحرمات كما في سورة الإسراء.
* ويستفاد من هذه الآية أيضًا: أنه ينبغي للإنسان عند محادثة غيره أن يكون مُقبلًا إليه بوجهه؛ لأن النهي عن تصعير الخد يدل على الأمر بضده وهو أن يكون مُقبلًا إليه بوجهه.
* ويستفاد منها: أنه ينبغي في المشي أن نكون كما قال الله عز وجل بعد ذلك: ﴿وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ﴾ [لقمان ١٩].
* ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات أن الله يحب؛ من قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ ووجه الدلالة أن نفي محبة الله لهؤلاء يدل على ثبوتها لغيرهم.
* ومن فوائد الآية الكريمة: تحريم الاختيال والفخر؛ لأن الله نفى محبته له، وقد سبق الفرق بين الاختيال والفخر؛ الفخر بالقول، والاختيال بالفعل.
* * *ثم قال تعالى:
﴿وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضُ مِنْ صَوْتِكَ﴾.
* يستفاد من هذه الآية الكريمة: أنه ينبغي للإنسان أن يكون مشيه قصدًا لا إسراعًا مخلًّا، ولا دبيبًا متباطئًا، فالإسراع اللي فيه التهور والعجلة والطيش مذموم، والتباطؤ والدبيب أيضًا مذموم. فيستفاد منه أنه ينبغي أن يكون الإنسان في مشيه قصدًا بين الإسراع والتباطؤ..ثم قال تعالى:
﴿وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ﴾ [لقمان ١٩].
* يُستفاد من هذه الآية الكريمة: أنه ينبغي للإنسان أن يكون مشيه قصدًا لا إسراعًا مخلًّا ولا دبيبًا متباطئًا؛ فالإسراع اللي فيه التهور والعجلة والطيش مذموم، والتباطؤ والدبيب أيضًا مذموم، فيستفاد منه: أنه ينبغي أن يكون الإنسان في مشيه قصدًا بين الإسراع والتباطؤ.
* ومن فوائدها أيضًا: أن يقال: إذا كان هذا في المشي الحسي فليكن كذلك في المشي المعنوي من الآداب والأخلاق لا ينبغي للإنسان أن يسرع سرعة مخلة ولا أن يتباطأ تباطؤًا مُفَوِّتًا للمقصود، أما الإسراع إلى الخير فقد أمر الله به ولكنه لا يتجاوز الحد؛ ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: «إِذَا سَمِعْتُمُ الْإِقَامَةَ فَامْشُوا إِلَى الصَّلَاةِ، وَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ وَلَا تُسْرِعُوا»(٨).
* ويستفاد من الآية أيضًا -من الآية الكريمة-: أنه ينبغي للإنسان أن يَغُضَّ من صوته؛ لقوله: ﴿وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ﴾، وذكرنا أمس أنه يشمل الكمية والكيفية، فإنه في بعض الأحيان ينبغي رفع الصوت كما في الأذان والخطبة وما أشبهها.
* ويُستفاد من الآية الكريمة: أن رفع الصوت في غير محله محرم؛ لقوله: ﴿إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ﴾ [لقمان ١٩] فإن هذا التشبيه يقتضي التنفير منه، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: «لَيْسَ لَنَا مَثَلُ السَّوْءِ»(٩).
* ومن فوائد الآية الكريمة: ذمُّ أصوات الحمير؛ لقوله: ﴿إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ﴾ [لقمان ١٩]. وهل يؤخذ منها أن للجار أن يُطالِبَ جاره إذا كان عنده حمار نهَّاق ببيعه وإزالته ولَّا لا؟ إي نعم، له أن يطالب بذلك إذا كان نهيقه غير معتاد؛ لأن بعض الحمير كثير النهيق، فعلى هذا له أن يطالب، مثلما قال الفقهاء رحمهم الله: إن له أن يمنعه من الرحى التي يطحن بها دائمًا، وكذلك من تغسيل الثياب وبثِّها دائمًا، كل ما يؤذي الجار فلجاره أن يمنعه منه، فإذا كان الله قد وصف النهيق بأنه أنكر الأصوات فإنه له أن يطالب فيقول: بع هذا الحمار وإلا اجعله في محل آخر حتى لا أتأذى به.
* طالب: شيخ، آلات اللهو هذه أعظم من النهيق.
* الشيخ: نعم، له أن يطالب جاره بهذا؛ يعني: لو أنه صار يرفع أصوات المزامير -والعياذ بالله- والغناء فله الحق أن يطالب حتى وإن لم تزعجه؛ لأن هذا منكر، لكن لو كان له جار يصعد إلى السطح في أيام الصيف وعنده مسجل فيه أشرطة من القرآن ثم يفتحها برفع صوت فلجاره أن يطالب بالمنع؟
* طلبة: نعم.
* الشيخ: نعم (...) لو قال: كيف؟! (...) القرآن، نقول: لا، ما أمنعك، نقول: استمع، لكن اخفض الصوت، هذا يؤذيني، وليس يؤذيني لأني أكره القرآن، لكن أريد النوم وأولادي يريدون النوم وأهلي يريدون النوم، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: «لَا يَجْهَرْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالْقُرْآنِ»(١٠) فله أن يمنع مع أن هذه عند العامة أمرها كبير؛ يعني: لو أحد طلب منع جاره من ألا يرفع صوته بقراءة القرآن لحَمَل الناس عليه راية الاستنكار، ولكن لا يهم، العامة ما يهم، إنكارهم أو إقرارهم ليس له أصل، (...).
* طالب: طيب، إذا احتاج إلى (...).
* الشيخ: ما فيه بأس، بل قد يجب أحيانًا كما لو احتاج إلى إنقاذ نفسه أو إنقاذ غيره من الهلكة فكل مقام له مقال، المقصود هذا في المشي العادي.
* الطالب: يعني: مثل أن يبغي أن يروح..
* الشيخ: المهم إذا احتاجه لا بأس به، ما فيه مانع.
* الطالب: أقول: يبغي يروح الشغل هو من عادته كل يوم مستعجل، له أن يمشي كل يوم كذا ولا؟
* الشيخ: الأولى أنه يرتب وقته حتى يخرج إلى شغله بالمشي المعتاد، لكن لو فُرِضَ أنه تأخر في يوم من الأيام فله أن يفعل.ثم قال تعالى:
﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ [لقمان ٢٠]
* في هذه الآية الكريمة: بيان نعمة الله سبحانه وتعالى على عباده بهذه النعم.
* ومن فوائدها: أن الله جل وعلا يحب أن يتمدح بما أعطى أو بما أسدى إلى عباده من النعم؛ لقوله: ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ﴾ [لقمان ٢٠].
* ومنها: أن الله تعالى سخَّر لنا ما في السماوات وما في الأرض، وهو ظاهر وقد قال الله تعالى في آية أخرى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ﴾ [الجاثية ١٣].
* ومنه: جواز استخدام ما في هذا الكون -السماوات والأرض- لمصالحنا؛ لأنه مُسَخَّر لنا فإذا كان مسخرًا لنا فلنا أن ننتفع به فيما أحل الله لنا.فلو قال قائل مثلًا: هل لنا أن ننقب عن المعادن الجارية والجامدة؟ نقول: نعم.
هل لنا أن نحاول الصعود إلى الكواكب والنجوم لنرى ما فيها من الآيات وكيف سُخِّرَت لنا؟
الجواب: نعم، ولكن على كل حال إذا كان هذا يُكَلِّف نفقات باهظة أكثر مما نستفيد منه فإن الحكمة تقتضي ألا نفعل؛ لأن الآن هذه المحاولات يكون فيها من نفاد الأموال شيء كثير فإذا قُدِّر أن ما فيها من نفاد الأموال أكثر بأضعاف وأضعاف مما نستفيد منها فإن العقل يقتضي ألا نفعل؛ لأن هذا من السفه والتبذير، والإنسان العاقل لا يبذل المال إلا وهو يرى أنه ينتفع بأكثر مما بذل، أليس كذلك؟ لو فُرِض أنك بذلت مالًا قدرُه ألف ريال لتحصل على منفعة تساوي أَلْفَيْ ريال محمودٌ هذا ولَّا لا؟
* الطلبة: نعم.
* الشيخ: طيب، بالعكس بذلت مالًا يبلغ ألف ريال لتحصيل منفعة بقدر ألف ريال، هذا مذموم؛ لأنك الآن أضعت ألف ريال بدون فائدة فيكون هذا من إضاعة المال والإسراف.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن نعم الله عز وجل وافرة؛ يعني: كثيرة كاملة؛ لقوله: ﴿وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ﴾ [لقمان ٢٠].
* ومن فوائدها: أن نِعَم الله عز وجل نوعان: ظاهرة وباطنة، سواء فسرنا الظاهرة بالأمور المحسوسة، والباطنة بالأمور المعنوية، أو فسَّرناها بالظاهرة لكل أحد، والباطنة ما لا يعرفها إلا صاحبها، أو فسرنا الظاهرة بما هو أعم يعم جميع الناس كالمطر والخصب، والباطنة بما هو دون ذلك، على كل حال النعم وافرة وسابغة من كل وجه.
* ويستفاد من الآيات السابقة من وصايا لقمان؛ يستفاد منها: ما أعطاه الله تعالى من الحِكَم؛ فإن كل ما أوصى به ابنه كله حِكَم موافقٌ للعقل، والشرع أيضًا يؤيده ولَّا لا؟ يؤيده.
* ويستفاد منها أيضًا: أن الله عز وجل إذا قصَّ علينا نبأ أحد فإن كان ذلك خيرًا فإنه يريد منا أن نفعله، وإن كان غير ذلك فإنه يريد منا أن نتجنبه؛ لمَّا قص علينا قصة قارون: ﴿إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (٧٦) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٧٧) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾ [القصص ٧٦ - ٧٨] قصَّ ذلك علينا لنحذر ونخاف ولأجل ألا نسكت على من رأيناه يبدل ويفسد في الأرض، وهنا قصَّ علينا قصة لقمان من أجل أن نعتبر بهذه الحكم وأن نقتدي به في نصيحة أبنائنا وأهلنا.
* * *ثم قال عز وجل:
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ﴾ [لقمان ٢٠].
﴿مِنَ النَّاسِ﴾ هذه
﴿مِنَ﴾ للتبعيض، وقد اختلف المعربون في (مِن) التبعيضية هل هي اسم؟ يعني بمعنى: بعض، أو أنها حرف دال على هذا المعنى؟
وعلى هذا الاختلاف ينبني الاختلاف في الإعراب؛ فإذا قلنا: (مِن) اسم بمعنى: بعض فإننا نقول: (مِن) مبتدأ و
﴿مَنْ يُجَادِلُ﴾ خبره، وإذا قلنا: إنها حرف فإننا نقول: (مِن) حرف جر، والجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر مقدم، و
﴿مَنْ يُجَادِلُ﴾ مبتدأ مؤخر.
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ﴾.
﴿وَمِنَ النَّاسِ﴾ قال المؤلف: (أي: أهل مكة) بناء على قاعدته -رحمه الله- أن كل السور المكية يحمل فيها العموم في مثل هذا السياق على مَنْ؟ على الخصوص؛ وهم أهل مكة.
والصواب أن ذلك عامٌّ؛ يعني:
﴿مِنَ النَّاسِ﴾ من أهل مكة وغيرهم.
﴿مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ المجادلة مأخوذة من الجَدْل وهو فَتْل الحبل لإحكامه؛ ومنه ما يسمى الجَدَايل -جدايل المرأة- أي: فَتْل رَأْسِها وإحكامه، هذا معناها في اللغة.
لكنها في الاصطلاح؛ المجادلة هي الممانعة؛ بمعنى أن كل واحد من المتناظرين يُحْكِم الحجة من أجل إفحام خَصْمِه، فهي إذن إحكام الحجة لإفحام الخصم، هذه المجادلة؛ إحكام الحجة لإفحام الخصم وتعجيزه.
والمجادلة إن كانت بعلم وحكمة فهي ممدوحة بلا شك، وقد تكون واجبة أحيانًا كما في قوله تعالى:
﴿وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [النحل ١٢٥]، وإن كانت بغير علم فإنها مذمومة كمن يجادل في إيراد الحجج والعلل الواقعة لإفحام خصمه ونصر قوله ولو بالباطل فهذا من المنكرات المحرمة؛
﴿وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ﴾ [غافر ٥].
﴿مِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ﴾ يقول: (أي أهل مكة).
﴿مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ﴾ ﴿فِي اللَّهِ﴾ هل المراد في ذاته سبحانه وتعالى، أو المراد في ربوبيته، أو ألوهيته ، أو أسمائه وصفاته ، أو أحكامه وأفعاله؟
الجواب: تشمل كل هذا؛ فمِنَ الناس مَنْ يجادل في ذات الله فينكر وجود الله أصلًا، ويجادل في ذاته، ومن الناس من يُجادِل في وحدانيته يُقِرُّ به، لكن ينكر الوحدانية، ومن الناس مَنْ يجادل في ألوهيته؛ أي في تفرده بالألوهية، ومن الناس من يجادل في أسمائه وصفاته.
وأكثر ما وقع فيه الجدل بين المسلمين في باب الأسماء والصفات، بين المسلمين ما هو بين المسلمين والكافرين، لكن المسلمون الذين ينتسبون إلى الإسلام ويُسَمَّوْن أهل القبلة، هؤلاء كثُر الجدل بينهم في باب أسماء الله وصفاته.
كذلك من الناس من يجادل في أحكام الله، وما أكثر المجادلين في أحكام الله، تجده يجادل؛ تقول: هذا الشيء حرام. ثم يأتي ويجادلك: ويش اللي يحرمه؟ ويش الفرق بينه وبين كذا؟ وهات الدليل، وهذا الدليل منقوض، وهذا التعليل باطل وهكذا بغير علم، أما إذا كان بعلم فليس فيه ذم، لكن بغير علم.
كذلك من الناس مَنْ يجادل في أفعال الله -والعياذ بالله- فيقول: لماذا أنعم الله على هؤلاء الكافرين بالنعم الكثيرة ومن المسلمين من هو في جهد شديد ومرض وفقر وجهل وما أشبه ذلك؟ هذا يجادل في أفعال الله.
كذلك يجادل في أفعال الله في مسألة القدر؛ فيقول مثلًا: إما أن يكون الله قد قدَّر على الإنسان عملَه أو لا، فإن كان قدَّر عليه عمله فكيف يعاقبه؟ وإن لم يُقَدِّر عليه عمله فمعنى ذلك أن الإنسان مستقل به فيكون منفردًا في الحوادث ومشاركًا لله فيها، وما أشبه هذا من الجدل الذي يكون بغير علم؛ ولهذا ينبغي للإنسان في مسائل الشرع وفي مسائل القدر أن يستسلم لما يدل عليه الكتاب والسنة وألا يجادل؛ لأنه إن فتح على نفسه باب الجدل ما يستقر له قدم أبدًا؛ ولهذا قال ابن حجر رحمه الله: إن المسائل العقلية ما لها دخل في الأمور الخبرية؛ لأننا لو أردنا أن نحيل هذه الأمور على العقل فإن العقل قد يجوز ما كان ممتنعًا شرعًا غاية الامتناع، كما أنه قد يمنع ما هو جائز، والمراد بالعقل ما ادعى صاحبه أنه عقل، أما العقل الصحيح الصريح فإنه لا بد أن يوافق النقل الصحيح، وإذا شئتم أن يتبين لكم هذا فاقرؤوا كتاب شيخ الإسلام ابن تيمية -إن أطقتموه- المسمَّى بكتاب العقل والنقل، أو: موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول.
فالمهم أن الجدل بابُه واسع، والكلام هنا في المجادلة المذمومة وهي المجادلة بغير علم.
إذن
﴿فِي اللَّهِ﴾ في ذاته، أيش بعد؟ ربوبيته، ألوهيته، أسمائه وصفاته، أحكامه، أفعاله.
﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ يعني: ما عنده علم ذاتي ولكنه مكابرة ومعاندة.
(
﴿﴿وَلَا هُدًى﴾ ﴾ من رسول) يعني: ولا عنده اقتداء بغيره، فهو ليس عنده علم في نفسه يهتدي به، وليس عنده علم من غيره يهتدي به،
﴿وَلَا هُدًى﴾.
(
﴿﴿وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ﴾ ﴾ أنزله الله تعالى، بل بالتقليد) هو ما عنده علم ولا اهتداء بهدي رسول ولا كتاب أنزله الله فيهتدي به، إذن لماذا يجادل؟ يجادل بالباطل.
وقال المؤلف: (بالتقليد)؛ لقوله:
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ هذا الذي أوجب للمؤلف أن يقول: (بل بالتقليد)؛ لأنه قال لقوله:
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ ﴿قِيلَ لَهُمُ﴾ ﴿قِيلَ﴾: هذه مبني للمجهول، فمن القائل؟ الله، الرسول، المؤمنون، كل هذا يمكن أن يكون، قال الله تعالى:
﴿اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ﴾ [الأعراف ٣]، والنبي عليه الصلاة والسلام يحث الأمة على اتباعه، والمؤمنون كذلك يدعون الناس إلى اتباع ما أنزل الله، فيكون هنا حذف الفاعل لإرادة العموم.
﴿إِذَا قِيلَ﴾ كذا؟ هذا أعمُّ مما لو قال: وإذا قال الله لهم، أو وإذا قال لهم الرسول، أو وإذا قال المؤمنون، فقوله:
﴿إِذَا قِيلَ﴾ يكون أشمل.
﴿اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ ﴿مَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ ﴿مَا﴾ مفعول
﴿اتَّبِعُوا﴾ و
﴿أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ ما المراد به؟ القرآن لا شك؛ لأن الله أنزله. السنة؟
* طالب: (...).
* الشيخ: لا، كيف؟! ﴿وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ [النساء ١١٣]، قال العلماء: الحكمة هي السنة.إذن:
﴿مَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ من القرآن ومن السنة؛ لأن السنة وَحْيٌ إن كان الله أوحاها إلى رسوله، وإلَّا فإقراره سبحانه إياها بمنزلة الوحي؛ ولهذا قال العلماء: إن إقرار النبي ﷺ بمنزلة قوله.
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ﴾ ﴿بَلْ﴾ للإضراب الإبطالي أو الانتقالي؟ الإبطالي؛ يعني: بل لا نتبع ما أنزل الله، وإنما
﴿نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾ هذا معارضة حق بباطل؛ لأنهم الآن عدلوا عما أنزل الله عز وجل إلى الآراء فقط والأهواء.
﴿مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾ ولو كان شركًا؟ ولو كان شركًا. طيب ولو كان طاعة؟ نقول: نعم، هم يقولون: ولو كان طاعة، فيكون اتباعهم لما عليه آباؤهم لا لأنه شرع، ولكن لأن عليه آباءهم، وحينئذ فلا يكون اتباعهم -اتباع آبائهم في هذا الحال- اتباعًا للشرع ولا اتباعًا محمودًا.
وعلى هذا فنقول فيمن دُعِي إلى الكتاب والسنة، وقال: أنا أريد أن أتبع فلانًا الإمام الفلاني أو العالم الفلاني مع بيان السنة ووضوحها يكون مشابهًا لهؤلاء المشركين؟ نعم يكون مشابهًا لهم.
قال الله عز وجل:
﴿أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ﴾ [لقمان ٢١]
﴿أَوَلَوْ كَانَ﴾ هذا استفهام يتلوه حرف عطف، وقد تقدم لنا مرارًا وتكرارًا بأن حرف العطف إذا وَلِي الاستفهام ففي إعرابه قولان:
أحدهما: أن همزة الاستفهام دخلت على محذوفٍ عُطف عليه ما بعد حرف العطف، ويُقَدَّر هذا المحذوف بحسب السياق، وعلى هذا فهمزة الاستفهام في مكانها، والمستفهم عنه -يعني: مدخول الاستفهام- محذوف.
والقول الثاني: أن الواو حرف عطف، والمعطوف عليه ما سبق، ومحل الهمزة بعد حرف العطف.
وقلنا: إن هذا أهون من الأول، الأول أبلغ في التقعيد، وهذا أسهل، ووجه سهولته أن الأول قد يخفى على الإنسان ماذا يُقَدِّره، وربما يصعب أحيانًا تقدير شيء مناسب، وأما هذه فلا تحتاج لشيء؛ تقول: معطوفة على ما سبق.
أما المؤلف فمشى على أي القولين؟ (
﴿﴿أَ﴾ ﴾ يتبعونهم
﴿﴿وَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ﴾ ﴾؟) على الأول، أن حرف الاستفهام دخل على شيء محذوف، وأن حرف العطف عاطف على ذلك الشيء المحذوف.
﴿أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ﴾ (أي: موجباته. لا).
يقول الله عز وجل: أيتبعون آباءهم دون ما أنزل الله حتى في هذه الحال وهو: أن الشيطان يدعوهم، يدعو الآباء ولَّا يدعو هؤلاء؟ أظنها تشمل هؤلاء والآباء.
﴿إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ﴾ يعني: إلى ما يوجب عذاب السعير من أعمال الشرك والكفر وغيرها، الاستفهام ظاهر كلام المؤلف أنه للإنكار والنفي؛ لقوله: (لا)، ولكنه للنفي فيه إشكال؛ لأنهم لا شك أنهم متبعوه، أما للإنكار فنعم؛ يكون الله عز وجل أنكر عليهم أن يتبعوا آباءهم والشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير.
وقوله:
﴿عَذَابِ السَّعِيرِ﴾ هو عذاب النار، وأضيف إلى (...).
قوله: (
﴿﴿إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾ ﴾ موحد
﴿﴿فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى﴾ ﴾).
(مَنْ) هذه شرطية جوابها قوله:
﴿فَقَدِ اسْتَمْسَكَ﴾، وقُرِنَ الجواب بالفاء؛ لأنه اقترن بـ(قد)، والجواب يقترن بالفاء إذا كان أحد أمور ستة:
اسْمِـيَّـــةٌ طَلَبِيَّـــةٌ وَبِجَـــامِــدٍ ∗∗∗ وَبِـ(مَا) وَ(قَدْ) وَبِـ(لَنْ)وَبِالتَّنْفِيسِ
سبعة، وهذا اقترن في جوابٍ بـ(قد) فوجب أن يقرن بالفاء.
وقوله:
﴿وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ﴾ يعني معناه: ينقاد له تمام الانقياد بحيث يسلمه إليه، وهذا غاية ما يكون من التذلل والتوكل.
﴿يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ﴾ ولم يقل: (لله)؛ لأن قوله:
﴿إِلَى اللَّهِ﴾ أبلغ؛ كأنه أعطاه لله عز وجل وبلغ غايته في الوصول إلى الله.
وقوله:
﴿وَجْهَهُ﴾ المراد وجهه؛ يعني: وجه قلبه أو وجه بدنه؟ المراد وجه قلبه؛ يعني: اتجاهه فهو من الوجهة؛ أي: من يتجه إلى الله قصدًا وتوكلًا واعتمادًا.
وقوله:
﴿وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾ الجملة هذه حالية حال من فاعل (يُسْلِم) يعني: والحال أنه محسن، والمراد بالإحسان يقول المؤلف: (التوحيد)، ولكن الصواب خلاف كلامه؛ لأن التوحيد مفهوم من قوله:
﴿وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ﴾، لكن قوله:
﴿وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾ أي: محسن باتباع الشريعة محسن باتباع شريعته؛ شريعة الله عز وجل، فيكون في الآية إشارة إلى الحُكْمَيْنِ الأساسيين في العبادة وهما: الإخلاص والمتابعة.
وقوله:
﴿وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾ يعني: في ماذا؟ في اتباع الشريعة؛ يعني: متبع لشريعته على وجه الإحسان.
﴿فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ﴾ ﴿اسْتَمْسَكَ﴾ بمعنى: تَمَسَّك، لكنها أتت بهذه الصيغة استفعل؛ للمبالغة أي: للمبالغة في التمسك؛ لأن (استمسك بكذا) أقوى من قولك: (تمسَّك به)؛ لأنهم يقولون: إن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى فلما كثُرت حروف استمسك صارت أقوى في معناها من تمسَّك.
وقوله:
﴿بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى﴾ يقول المؤلف رحمه الله: (
﴿بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى﴾ بالطرف الأوثق الذي لا يُخاف انقطاعُه).
العروة الإنسان عندما يتمسك بالحبل فتارة يتمسك به بطرفه وليس له عُروة، وتارة يتمسك به بطرفه وهو معقود، وتارة يتمسك بطرفه وهو مَثْنِيٌّ كالعروة، أيهما أبلغ؟ العروة أبلغ؛ لأن الإنسان إذا تمسك بطرفه ربما يزلق فيسقط، وكذلك بطرفه مأخوذًا ما يتمكن مثلما يتمكن بطرفه إذا كان عروة.
و
﴿الْوُثْقَى﴾ مؤنث (أوثق) يعني العروة التي هي أوثق شيء، ولا ريب أن من أسلم وجهه إلى الله وهو محسن فإنه سينجو من كل مكروه ويفوز بكل مطلوب؛ لأن هذا هو الطريق الأمثل الذي يُوصِل إلى الله عز وجل أن تُسْلِمَ وجهك إليه وأنت محسن، هل ورد مثلُها في القرآن استمسك بالعروة الوثقى؟
﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى﴾ [البقرة ٢٥٦].
* طالب: (...).
* الشيخ: أي: إصراره إذا عقد طرفه (...).﴿وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾ لَمَّا بيَّن أن الذي يُسْلِم وجهه إلى الله وهو محسن أنه مستمسك بالعروة الوثقى وأن الإنسان في حال الإسلام إلى الله والإحسان قد يعتريه أمور يشك هل هو مستمسك بالعروة الوُثْقَى ولَّا لا؟ مثل أن يتخلف عنه النصر في يوم من الأيام وما أشبه ذلك فيخشى أن يكون على غير حق فبيَّن الله تعالى أن عاقبة الأمور إلى الله، وهذا كقوله تعالى:
﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٤٠) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾ [الحج ٤٠، ٤١] لأن الإنسان قد يقول: ما قيمة هذه الأشياء بالنسبة للقنابل والصواريخ وما أشبه ذلك؟ فبيَّن الله تعالى أن العاقبة لمن؟ عاقبة الأمور لله فأنت ما دُمت قُمْتَ بأسباب النصر التي بيَّنها الله لك فلا يخدعنك ما أعطي أعداء الله تعالى من القوة المادية لأن هذه القوة المادية تتضاءل بكلمة من الله عز وجل، إذا أراد عز وجل أن يخسف بهم جميعًا الأرض أو يُفْسِد عليهم معداتهم قال: كن فيكون؛ ولهذا أعقبها بقوله:
﴿وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾ [الحج ٤١] حتى لا يستبعد الإنسان نصر الله عز وجل بسبب ما أوتي أعداؤه من قوة؛ لأن العاقبة لله عز وجل.
هذه مثلها أيضًا ليسلِّم الإنسان وجهه إلى الله وهو مُحْسِن وينتابه بعض الأحيان شكوك وهل هو على حق ولَّا على غير حق، وهل إن هذا استمساك حقيقي ولَّا لا؟ فبيَّن الله تعالى أن عاقبة الأمور إلى الله وأنك متى أسلمت وجهك إلى الله وأنت محسن فلا بد أن تنجو.
وقوله:
﴿وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾ ﴿إِلَى﴾ تفيد أيش؟ أيش معناها؟ تفيد الغاية؛ يعني غاية عاقبة الأمور إلى الله لا إلى غيره، هو الذي يدبر الأمور كيف يشاء حتى تصل إلى ما يريده سبحانه وتعالى.
وقوله:
﴿الْأُمُورِ﴾ جمع أمر، أمر واحدُ الأمور؛ يعني الشئون كل الشئون الدينية والدنيوية العامة والخاصة كلها عاقبتها إلى الله، هذا قسم من الناس الذي أسلم وجهه إلى الله وهو محسن.
الثاني الكافر؛ قال: (
﴿﴿وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ﴾ ﴾ يا محمد
﴿﴿كُفْرُهُ﴾ ﴾ لا تهتمَّ بكفره
﴿﴿إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ﴾ ﴾) إلى آخره.
قال:
﴿وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ﴾ (من) هذه شرطية، وفعل الشرط
﴿كَفَرَ﴾، وجوابه قوله:
﴿فَلَا يَحْزُنْكَ﴾، وقُرِنَ بالفاء؛ لأن الجملة اسمية
﴿فَلَا يَحْزُنْكَ﴾.
وقوله:
﴿وَمَنْ كَفَرَ﴾ هذا عام من الأقارب والأباعد؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام يَحْزَن لكفر الكافرين سواء كانوا أقارب له أم أباعد.
وقوله:
﴿فَلَا يَحْزُنْكَ﴾ (يا محمد) أبان المؤلف -رحمه الله- أن الخطاب في قوله:
﴿فَلَا يَحْزُنْكَ﴾ لمن؟ للرسول ﷺ، ويحتمل أن يكون موجَّهًا للرسول عليه الصلاة والسلام ولكلِّ مَنْ يصح خطابه ممن شأنه أن يحزن إذا كَفَر عبادُ الله، فيكون على هذا المعنى أعم مما قال المؤلف.
وقوله:
﴿فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ﴾ ما هو الحزن؟ الحزن: هو ضد السرور، وإذا قيل: حزن وخوف؛ صار الحزن على الماضي والخوف للمستقبل، وقد يُطلَق الحزن على الخوف كما في قوله تعالى:
﴿إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾ [التوبة ٤٠] يعني:
﴿لَا تَحْزَنْ﴾ أي: لا تخف فإن الله معنا، على أنه يحتمل أن معنى
﴿لَا تَحْزَنْ﴾ على ما فعلنا من اللجوء إلى هذا الغار فيكون على بابه على الأصل.
وقوله:
﴿فَلَا يَحْزُنْكَ﴾ قال المؤلف: (لا تهتمَّ بكفره)، وظاهر كلامه أن الحزن هنا بمعنى الاهتمام بالشيء يعني: لا يهمنك أمرهم، ولكن الحزن أخص من الاهتمام، فإبقاء الآية على ظاهرها، وهو أن الرسول عليه الصلاة والسلام يحزُن إذا كفر الناس وكذلك من كان ناصحًا لله ولرسوله يحزُن إذا كفر الناس، أو قل: إن حَمْلَها على ظاهرها أولى.
وفعلًا الإنسان الناصح يحزن إذا كفر الناس يحزن لأمرين:
أولا: رحمة لهؤلاء الذين كفروا، والثاني: حزنًا على ما فات الإسلام من كثرة متبعيه؛ لأن كثرة متبعي الإسلام عزٌّ للإسلام أليس كذلك؟ ويش الدليل أن الكثرة عز؟
* طالب: قول الرسول (...).
* الشيخ: وغيره من القرآن؟ في القرآن آيتان تدل على أن الكثرة عز؟
* طالب: آية الأنفال.
* الشيخ: نعم، ربما في الأنفال فيه ﴿وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ﴾ [الأنفال ٤٣] ربما يفيد هذا.قال شعيب لقومه:
﴿وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ﴾ [الأعراف ٨٦]، وقال تعالى ممتنًّا على بني إسرائيل:
﴿وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا﴾ [الإسراء ٦]، فالكثرة عز بالدليل الشرعي والواقعي.
الآن الصين الشيوعية بالنسبة للقوة الصناعية ما تُقارَن بالروس ولا بأمريكا ومع ذلك يهابونها، يهابونها لماذا؟ للكثرة؛ كما يقول القائل: (...)، وأعداء المسلمين الآن يحبذون للمسلمين أن يقللوا النسل فتارة يقولون: إذا كثَّرتم النسل ضاق الرزق كقول الكفار الذين يقتلون أولادهم خشية الإملاق، وتارة يقولون: إذا كثر الأولاد عجزتم عن تربيتهم. إساءة ظن بالله عز وجل، وتارة يقولون: إذا كثر الحمل ضعفت المرأة ولحقها الضعف، وهذا لا بد منه، لا بد أن تضعف المرأة كما قال تعالى:
﴿حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ﴾ [لقمان ١٤]، والحاصل أن كثرة الأمم عز لها.
وقوله:
﴿فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ﴾ جملة خبرية قُدِّمَ فيها الخبر لإفادة الحصر،
﴿إِلَيْنَا﴾ يعني نحن الله عز وجل، لا إلى غيره.
وقوله:
﴿مَرْجِعُهُمْ﴾ مصدر (...) أي: رجوعهم، فرجوعهم إلى الله عز وجل لا إلى غيره، وهو الذي يحاسبهم على أعمالهم؛ ولهذا قال:
﴿فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ ﴿نُنَبِّئُهُمْ﴾ نخبرهم.
وإذا أُخْبِروا بذلك يجازون عليه؟ نعم، الكافر لا بد أن يُجازى على ذنبه، ولكنه يجازى بالعدل؛ ولهذا كانت النار دَرَكات بحسب جرم الكافرين، والمنافقون في الدرك الأسفل من النار.
فقوله:
﴿نُنَبِّئُهُمْ﴾ أي: نخبرهم، على سبيل التوبيخ والإهانة ثم نجازيهم بما يستحقون.
قوله:
﴿إِلَيْنَا﴾ و
﴿نُنَبِّئُهُمْ﴾ هذا ضمير جمع، لكن المراد به؟
* طالب: التعليل.
* الشيخ: التعليل، المراد التعليل لا شك.﴿إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ [لقمان ٢٣] هذا تكميل للتهديد؛ يعني: أن الله عليم بذات الصدور، وما هي ذات الصدور؟ ذات الصدور هي القلوب؛ لأنها فيها قال تعالى:
﴿وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ [الحج ٤٦].
فمعنى (ذات الصدور) أي: صاحبة الصدور وهي القلوب.
وقال:
﴿ذَاتِ الصُّدُورِ﴾ هنا القلوب؛ لأن ما كان داخل الصدر محجوب عن الخلق لا يعلمه إلا الله عز وجل؛ ولهذا قال:
﴿إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾.
وفي قوله:
﴿عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ دليل على أن الكافر يُحاسب على عمل القلب وهو كذلك فإن الكافر يحاسب عليه؛ لأنه لولا أنه يحاسب لم يكن في قوله:
﴿إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ كبير فائدة.
* طالب: قوله: ﴿فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ﴾ ترى جواب الشرط الثاني أليست طلبية؟
* الشيخ: ما هي طلبية؛ لأن (لا) ناهية، صحيح ﴿فَلَا يَحْزُنْكَ﴾ نهي، ما هي طلبية.ثم قال:
﴿نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ﴾ [لقمان ٢٤] -أعوذ بالله-
﴿نُمَتِّعُهُمْ﴾ يعني: نجعلهم يتمتعون، يأكلون ما شاؤوا ويلبسون ما شاؤوا ويركبون ما شاؤوا ويسكنون ما شاؤوا ويتنعمون بكل نعيم الدنيا، ولكن هذا قليل وقليل وقليل، يقول الرسول ﷺ:
«لَمَوْضِعُ سَوْطِ أَحَدِكُمْ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا»(١١) موضع السوط خير من الدنيا، ما هي الدنيا، بمن فيها فقط من أولها إلى آخرها، من الدنيا وما فيها، هؤلاء -والعياذ بالله- يمتعون قليلًا وما أقل الدنيا ومتاعها، كل ما مضى من الدنيا إلى ساعتك الحاضرة كأنه لم يكن، كأنه أضغاث أحلام، يعمر الإنسان فيها ما يعمر ومع ذلك
﴿يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ﴾ [الأحقاف ٣٥]، فهم يمتعون قليلًا، والقلة هنا باعتبار نوع المتاع وباعتبار زمنه، فنوع المتاع بالنسبة لما في الآخرة قليل ولَّا كثير؟
* طلبة: قليل.
* الشيخ: قليل جدًّا وليس ينسب قال ابن عباس: «ليس في الدنيا مما في الآخرة إلا الأسماء»(١٢).كذلك بالنسبة للزمن؛ الزمن قليل، أليس كذلك؟ ولا يُنْسَب إلى زمن الآخرة الأبدي.
﴿نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا﴾ وقد بَيَّن الله تعالى في آية أخرى صفة هذا التمتيع فقال جلَّ ذكره:
﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ﴾ [محمد ١٢]، هذا صفة هذا التمتع، شهوانيون ليس لهم إلا شهوة البطن وشهوة الفرج كما تفعل الأنعام تمامًا.
وقال:
﴿ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ﴾ [لقمان ٢٤]
﴿ثُمَّ﴾ يعني: بعد هذا التمتيع القليل (
﴿﴿نَضْطَرُّهُمْ﴾ ﴾ في الآخرة
﴿﴿إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ﴾ ﴾ وهو عذاب النار، لا يجدون عنه محيصًا)
﴿نَضْطَرُّهُمْ﴾ يعني: نلجئهم
﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ﴾ [البقرة ١٧٣] يعني: فمن أُلْجِئ، وهذا أصله مأخوذ من الإلجاء إلى الضرر؛ لأن: (اضطر) أصلها نضطر، فلهذا كل شيء يُلْجِئ الإنسان يسمى ضرورة؛ لأنه يلجئه إلى هذا الشيء.
وقوله:
﴿نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ﴾؛ لأنهم هم لا يريدونه ما يريدون النار ولا يريدون هذا العذاب لكنهم يُجْبَرون عليه -والعياذ بالله- لأنهم عملوا أسبابه.
وقوله: (
﴿﴿نَضْطَرُّهُمْ﴾ ﴾ في الآخرة) ما المراد بـ(الآخرة)؟ هو ما بعد يوم القيامة أو حتى القبر؟
* طالب: حتى القبر.
* الشيخ: حتى القبر؛ ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة الواسطية: ومما يدخل في الإيمان باليوم الآخر كلُّ ما أخبر به النبي ﷺ مما يكون بعد الموت، كله من اليوم الآخر، فهم بعد هذا المتاع يُلْجَؤون إلى العذاب، والعياذ بالله.وقوله:
﴿نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ﴾ العذاب العقوبة، الغليظ يقول المؤلف: (إنه عذاب النار)، ويش ضد الغليظ؟ ضده الرقيق، وغلظ عذاب النار في كيفيته وفي نوعه والعياذ بالله.
أما الكيفية؛ فإن الله تعالى يقول:
﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ﴾ [النساء ٥٦]، ويقول فيما يُعَذَّبون به:
﴿كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا﴾ [الإسراء ٩٧]، والعياذ بالله هذا في كيفيته.
أما نوعه؛ فإنه لا يخطر بالبال ولا يدركه الخيال، يُسْقَون ماء حميمًا، إذا استغاثوا وماتوا من العطش واستغاثوا وطلبوا الغوث، ماذا يغاثون به؟ يغاثون بماء كالمهل وهو الرصاص المذاب -والعياذ بالله- يشوي الوجوه إذا أقبل على الوجه شوى الوجه، فإذا نزل إلى الأمعاء سقوا ماء حميمًا فقطَّع أمعاءهم، أحيانًا يسقون من ماء صديد:
﴿يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ﴾ [إبراهيم ١٧]، هذا العذاب -والعياذ بالله- بأنواعه الشديدة العظيمة يستحق أن يوصف أنه عذاب غليظ ليس فيه رقة ولا رفقة، بل هو غليظ شديد.
وقوله:
﴿لَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا﴾ [النساء ١٢١] هكذا في القرآن؛ يعني: لا يجدون مفرًّا،
﴿وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا﴾ [الكهف ٥٣] ما فيها، بل إنهم -والعياذ بالله- يأتون إليها وِرْدًا عِطاشًا، وتمثَّل لهم كأنها سراب ماء، والعطشان إذا رأى الماء ولو كان سرابًا يظنه ماء لشدة تلهفه إلى الماء، فيَرِدونها على هذا الوجه -والعياذ بالله- ويتساقطون فيها.
﴿وَلَئِنْ﴾ لام قسم
﴿سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ [لقمان ٢٥].
قوله:
﴿وَلَئِنْ﴾ يقول: (لام قسم) مقرون بماذا؟ بـ(إن) الشرطية، حُذِف جواب الشرط ولَّا جواب القسم؟ حُذِف جواب الشرط وبَقِي جواب القسم، أين الجواب؟
﴿لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾، وقد مر علينا قول ابن مالك:
وَاحْذِفْ لَدَى اجْتِمَاعِ شَرْطٍ وَقَسَمْ ∗∗∗ جَـــــــوَابَ مَــــــا أَخَّــــرْتَ فَهْوَمُــــلْتَزَمْ
وقوله:
﴿لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ﴾ يعني الرسول عليه الصلاة والسلام أو من يتَأَتَّى خطابه؟ يحتمل هذا وهذا.
﴿مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ﴾ هذا هو صيغة السؤال، من خلق السماوات والأرض؟ خلقها اللات؟! العزى؟! مناة؟! هبل؟! مَنْ؟
الجواب:
﴿لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ هم يعترفون بأن خالق السماوات والأرض هو الله عز وجل.
وقوله:
﴿لَيَقُولُنَّ﴾ هي جواب القسم (حُذِفَ منه نونُ الرفع لتوالي الأمثال، وواو الضمير لالتقاء الساكنين) أصله: ليقولونَنَّ، هذا أصله ليقولونَنَّ، صح؟ لأن هذا فعل مضارع من الأفعال الخمسة لا بد فيه من الواو والنون، فنقول: (ليقولون) حط نون التوكيد معها (ليقولونَنَّ)، اجتمع عندنا الآن ثلاثُ نونات كلُّهُنَّ زائدات، نضرب بينهم قرعة أو نفصل بينهم بحكم؟ نفصل بينهن بحكم نقول: إن حذفنا نون الرفع بقيت نون التوكيد وإن حذفنا نون التوكيد بقيت نون الرفع فأيهما؟ نحذف نون الرفع؛ لسببين:
السبب الأول: أن نون الرفع اعتيد حذفُها فيما إذا كان الفعل منصوبًا أو مجزومًا صح ولَّا لا؟ بل، إنها قد تحذف في غير حالتي النصب والجزم، تحذف للتخفيف كما في قول الرسول عليه الصلاة والسلام:
«وَاللَّهِ لَا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا»(١٣) «وَاللَّهِ لَا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ»،
«لَا تَدْخُلُوا» هذه ما فيها لا ناصب ولا جازم، حذفت للتخفيف وأصله؟ (لا تدخلون الجنة) فحُذِفَت النون للتخفيف.
وتُحْذَف النون أيضًا مع نون الوقاية كثيرًا، إذن فهي أحق بالحذف فتبقى نون التوكيد؛ لأننا لو حذفنا نون التوكيد فات المقصود ونحن نريد أن نُؤَكِّد الفعل، وتأكيد الفعل هنا -ونحن قد بحثنا في درس جديد في النحو- توكيد الفعل هنا واجب ولَّا غير واجب (ليقولنَّ)؟
* طالب: واجب.
* الشيخ: واجب؛ لأنه مُثبِت لِقَسَم مستقبل.
* طالب: غير مفصول.
* الشيخ: غير مفصول؛ لم يُفْصَل بين لامه وبين فعله فيكون توكيده واجبًا.إذن نُبْقِي النون، فإذا قالت نون الرفع: أبقونا جميعًا، نصير جميعًا (ليقولونَنَّ)، خلونا نبقي ما يخالف؟
نقول: ما يمكن؛ لأن نون الرفع زائدة ونون التوكيد زائدة فلا يمكن يجتمع عندنا ثلاثة حروف كلها زائدة في مكان واحد، عسانا نتحمل حرفًا أو حرفين.
إذن نقول: لا بد من حذف إحداكنَّ، وأنت يا نون الرفع أولى بالحذف، امشي، تجي عاد الواو مع نون التوكيد، الواوهنا ساكنة، تقولون: ساكنة ونون التوكيد مشددة فالحرف الأول منها ساكن، اجتمع ساكنان، ما يمكن يجتمع ساكنان، ما يمكن يجتمعان، ويش السبب؟ لأن السكون والحركة نقيضان فلا يمكن يجتمع شيء ساكن وساكن، فإذن لا بد من أن نعمل عملًا يفكنا من اجتماع الساكنين، ما هو العمل؟ العمل إن كان الحرف صحيحًا اللي قبل الساكن، أيش نعمل فيه؟ نكسره، إذا كان الحرف الذي قبل الساكن صحيحًا كسرناه، وإن كان الحرف غير صحيح حرف لين فإننا نحذفه قال ابن مالك:
إِنْ سَاكِنَانِ الْتَقَيَا اكْسِرْ مَا سَبَقْ ∗∗∗ وَإِنْ يَــــــــكُنْ لَيْنًا فَحَــــذْفَهُاسْتَحَـــــقْ
فهنا الساكن الأول (الواو) حرف لين ولَّا صحيح؟
* طالب: حرف لين.
* الشيخ: إذن نحذفه، فتلتقي اللام مع النون (ليقولُنَّ)، فصار عندنا الآن في هذا الفعل عندنا حذفان؛ حذف النون، عَلِّل؛ لتوالي الأمثال، حذف واو الرفع؛ لالتقاء الساكنين، وعلى هذا يقول المؤلف: (حُذِفَ منه نونُ الرفع لتوالي الأمثال، وواو الضمير لالتقاء الساكنين).ما إعراب قوله:
﴿اللَّهُ﴾ ﴿لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾؟ فاعل لفعل محذوف التقدير: خلقهن الله، ويدل لذلك قوله تعالى:
﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ﴾ [الزخرف ٩] ليقولن: خلقهن، فذكر الله تعالى الفعل، إذن فهنا المحذوف أيش؟
* طالب: فعل.
* الشيخ: الفعل؟ نعم، هل يصح أن نقول: إن المحذوف اسمًا؛ التقدير هو الله؟ يصح، لكن خلاف الأولى؛ لأن السؤال معارض للجواب، والسؤال بلفظ الفعل (مَنْ خلق)؟ فيقتضي أن يكون الجواب كالسؤال بالفعل (خلقهن كذا).قال الله تعالى:
﴿قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ [لقمان ٢٥] (قل) يعني: إذا أقروا واعترفوا
﴿قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ ﴿الْحَمْدُ﴾ مبتدأ و
﴿لِلَّهِ﴾ خبره، الحمد لله على أيش؟ على ظهور بيان الحجة وظهور المحجة، الآن هم اعترفوا بماذا؟ بأنهم على ضلال في شركهم.
فـ
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ هنا على بيان الحجة وإظهارها وأنهم خُصِموا بذلك؛ لأنهم إذا أقروا واعترفوا أن خالق السماوات والأرض هو الله وأن هذه الأصنام لا تخلق فقد أقروا على أنفسهم بماذا؟ بأن هذه الأصنام لا تستحق العبادة؛ ولهذا
﴿قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾، كما أن الحمد أيضًا هنا ممكن، ممكن أن نقول مع ذلك: الحمد لله على خلق السماوات والأرض، أنه يُحْمَد على أنه الخالق عز وجل دون غيره، فيُحْمَد على ما له من صفات الكمال ومن جميل الأفعال.
يقول: (
﴿﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ ﴾ على ظهور الحجة عليهم).
﴿الْحَمْدُ﴾ تقدم هنا مرارًا وتكرارًا بأنه هو وصف المحمود بالكمال مع المحبة والتعظيم.
واللام في قوله:
﴿لِلَّهِ﴾ اللام للاستحقاق والاختصاص، الاستحقاق؛ لأنه هو المستحق للحمد كما قال النبي عليه الصلاة والسلام:
«أَهْلُ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ»(١٤).
ثانيًا: للاختصاص؛ لأن الذي يستحق الحمد المطلق من هو؟ هو الله عز وجل.
﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (بل) هنا للإضراب الانتقالي وليست للإضراب الإبطالي؛ فهو انتقال مما سبق للتسجيل عليهم بالجهل التام؛ ولهذا قال: (
﴿﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ ﴾ وجوبه عليهم) يعني التوحيد، وإنما نفى العلم عنهم لماذا؟ لانتفاء فائدته، والشيء قد يُنْفَى لانتفاء فائدته؛ قال الله تعالى:
﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا﴾ يسمعون بآذانهم
﴿وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ﴾ [الأنفال ٢١] نفى السمع عنهم؛ لانتفاء فائدته بالنسبة إليهم.
فقوله:
﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ نفى العلم عنهم -وإن كانوا هم مقرون بأن الله هو الخالق لكنهم لم ينتفعوا بهذا العلم، وأيهما أشد قبحًا؛ جاهل لا يدري، وعالم لم ينتفع؟
* طلبة: الأخير.
* الشيخ: الأخير أشد وأقبح؛ لأنه جاهل مركب وذاك جاهل بسيط، ولأنه معاند مستكبر وذاك ضال غير معاند، والجهل المركب أشد قبحًا، والعناد عن علم أشد من العناد عن جهل، يقول الشاعر بيتين:
وَمَنْ رَامَ الْعُلُــــــــومَ بِغَيْرِ شَيْخٍ ∗∗∗ يَضِلَّ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ؎وَتَلْتَبِسِ الْعُــــــــــلُومُ عَلَيْهِ حَتَّى ∗∗∗ يَكُونَ أَضَلَّ مِنْ تُومَا الْحَكِيمِ
توما جاهل مركب يسمونه الحكيم، لكن هو غره أنهم سموه الحكيم، وبدأ يفتي في كل شيء، حتى أفتى بأنه من تصدق على إنسان بابنته فإنه يدخل الجنة، قال: تصدق -البيت الثالث-:
تَصَدَّقَ بِالْبَنَاتِ عَلَى رِجَالٍ ∗∗∗ يُرِيـــــدُ بِذَاكَ جَنَّاتِالنَّعِيــــــمِ
هذا جاهل ولَّا لا؟
* طالب: هذا مثل الزنى؟
* الشيخ: إي، أنت محتاج إلى الزواج شاب ولا عندك مهر، ولا شيء فلو أعطيتك صدقة، هكذا يقولون: إي نعم، الجهل يمكن يقيس بعقله يقول: بدل ما أعطيه دراهم ويروح يخطب نقطع الطريق يقول: هذي بدون دراهم.
* طالب: نبغي شرح هذا المركب والبسيط.
* الشيخ: المركب والبسيط اسمعه في البيتين الآتيين:
قَالَ حِمَـــــــــــــــــارُ الْحَــــــكِيمِتُـــــومَا ∗∗∗ .........................
أما قال: أضل من توما الحكيم؟
قَالَ حِمَـــــــــارُ الْحَكِيمِ تُــــومَـــــا ∗∗∗ لَوْ أَنْصَفَ الدَّهْرُ كُنْتُ أَرْكَبْ؎لِأَنَّنِي جَــــــــــــاهِــــلٌ بَسِيــــــــــطٌ ∗∗∗ وَصَـــــــاحِبِي جَــــــــــــاهِــــلٌمُرَكَّبْ
عرفت الفرق الآن؟
* طالب: إي معروف، الشطر، يعني..
* الشيخ: خلاص معروف، انتهى.
* الطالب: أقول: ويش الفرق..؟
* الشيخ: الحمار يقول: إنه جاهل بسيط، وصاحبه اللي هو توما جاهل مركب.الجاهل هو الذي لا يدري أنه جاهل، جاهل ولا يدري أنه جاهل هذا مركب، والبسيط هو الجاهل الذي يَعْلَم أنه جاهل.
ويتضح بالمثال؛ قال لك قائل: متى كانت غزوة بدر؟ فقلتَ: لا أدري. ويش يُسَمَّى هذا؟
هذا جاهل بسيط، الإنسان لا يدري وعرف أنه لا يدري وقال: ما أدري.
وقال رجل لآخر: متى كانت غزوة بدر؟ قال: الحمد لله الذي فتح على الجاهلين، كانت غزوة بدر في جمادى الآخرة سنة تسع من الهجرة (...).
عرفتَ الفرق الآن؟
* طالب: (...).
* الشيخ: (...).
* الطالب: لا، أنا أقول: ويش فرق ..
* الشيخ: الحمار؛ يقول: إنه جاهلٌ بسيط، وصاحبه اللي هو توما جاهلٌ مركَّب، الجاهل المركَّب هو الذي لا يدري أنه جاهل، جاهلٌ ولا يدري أنه جاهل، هذا مركَّب. والبسيط: الجاهل الذي يعلم أنه جاهل. ويتَّضح بالمثال؛ قال لك قائل: متى كانت غزوة بدر؟ فقلت: لا أدري. ويش يُسمَّي هذا؟
* طالب: بسيط.
* الشيخ: هذا جهلٌ بسيط؛ الإنسان لا يدري وعرف أنَّه لا يدري وقال: ما أدري.وقال رجلٌ لآخَر: متى كانت غزوة بدر؟ قال: الحمد الله الذي فتح على الجاهلين، كانت غزوة بدر في جمادى الآخرة سنة تسعٍ من الهجرة. ويش تقول في هذا؟
* طالب: هذا جاهل مركَّب.
* الشيخ: الآن هو جاهل، وهو لا يدري أنه جاهل، ولهذا استفتح بقوله: الحمد لله الذي فتح على الجاهلين. فيقال: أنت ما فتح الله عليك لأنك جاهل.
* طالب: أنا أقصد (مركَّب)، أيش معنى مركَّب؟
* الشيخ: مركَّب من جَهْلين: جهله بالواقع، وجهله بحاله. الجاهل المركَّب لأنَّه جاهلٌ بالواقع وجاهلٌ بحاله. واضح؟
* طالب: إي نعم. (١٥)
(١) أخرجه ابن أبي شيبة (٣٣٥٨٣)، والبيهقي في شعب الإيمان (٩ / ٤٥٧) من حديث سلمان الفارسي.
(٢) أخرجه مسلم ( ٤٩ / ٧٨) من حديث أبي سعيد الخدري.
(٣) أخرجه أحمد في المسند (١٠٩٥) من حديث علي بن أبي طالب.
(٤) أخرجه مسلم (٢٥٩٣/٧٧) عن عائشة رضي الله عنها، ولفظه: «وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ».
(٥) أخرجه الطبراني (٦٥٠٨) من حديث خالد بن سماك بن خرشة، عن أبيه، عن جده.
(٦) أخرجه النسائي (١٣٠٥) من حديث عمار بن ياسر.
(٧) أخرجه الحميدي في مسنده (٤٦٤) عن العباس رضي الله عنه، ولفظه: يا أصحاب السمرة، يا أصحاب سورة البقرة.
(٨) متفق عليه؛ البخاري (٦٣٦)، ومسلم (٦٠٢ / ١٥١) من حديث أبي هريرة.
(٩) متفق عليه؛ البخاري (٢٦٢٢) واللفظ له، ومسلم (١٦٢٢ / ٥) من حديث ابن عباس.
(١٠) أخرجه أحمد في المسند (١٩٠٢٢)، ومالك في الموطأ (١ / ١٣١)، والنسائي في الكبرى (٣٣٤٦) من حديث البياضي.
(١١) أخرجه البخاري (٢٨٩٢) من حديث سهل بن سعد.
(١٢) أخرجه البيهقي في البعث والنشور (٣٣٢).
(١٣) أخرجه أبو داود (٥١٩٣)، والترمذي (٢٦٨٨)، وابن ماجه (٦٨) وأصله في الصحيح من حديث أبي هريرة.
(١٤) أخرجه مسلم (٤٧٧ / ٢٠٥) من حديث أبي سعيد الخدري.
(١٥) اختُصِرَ كلام المؤلف لشدة طوله