الباحث القرآني
ثم قال الله تعالى: (﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ﴾ [الروم ٨]: ليرجعوا عن غفلتهم).
قوله: ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا﴾ سبق لنا مرارًا كيف نُعرِب مثل هذا التركيب، وقلنا: إن في إعرابه للنحوبين قولين:
أحدهما: أن الهمزة مقدَّمة على مكانها، وأن أصلها: (وَأَلَمْ يتفكروا) فتكون جملة معطوفة على ما سبق.
والوجه الثاني: أن تكون الهمزة داخلة على محذوف يُقدَّر بحسب السياق، ويكون ما بعدها من حرف العطف عاطفًا على ذلك المحذوف.
وفي هذه الآية يكون التقدير: أَغَفَلُوا ولم يتفكروا؟ عندما قال: ﴿وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾ قال: ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا﴾. والاستفهام للتوبيخ؛ لأن الإنسان مأمور بأن يتفكر.
وقوله: ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ﴾ هل قوله: ﴿فِي أَنْفُسِهِمْ﴾ هي محل التفكر أو آلة التفكر؟ بمعنى: هل المقصود من الآية الحث على تفكرهم في أنفسهم كما في قوله تعالى: ﴿وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ [الذاريات ٢١]، أو الحث على التفكر في خلق السماوات والأرض في أنفسهم؟
* طالب: كلا الأمرين.
* الشيخ: كلا الأمرين؟ إي نعم كلا الأمرين لكن الأقرب الأخير؛ ولهذا قال: ﴿مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ﴾ [الروم ٨].
فالمعنى: أولم يرجعوا إلى أنفسهم ويتفكروا تفكيرًا حقيقيًّا في هذا الكون ليعرفوا بذلك حكمة الله عز وجل وما يتضمنه من صفاته العظيمة؟!
وقوله: ﴿فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ﴾ (ما) إعرابها؟
* طالب: اسم موصول.
* الشيخ: لا.
* طالب: نافية.
* الشيخ: نافية، الدليل قوله: ﴿إِلَّا بِالْحَقِّ﴾.
﴿مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ (خلق) بمعنى أوجد وأبدع، ولا يكون غالبًا إلا بتقدير وتنظيم؛ لأن أصل الخلق تقدير في النفس، كما قال الشاعر:
وَلَأَنْتَ تَفْرِي مَا خَلَقْتَ وَبَعْضُ النَّاسِيَخْلُقُ ثُمَّ لَا يَفْرِي
يعني: ما قدَّرْتَ، فالخلق هو الإبداع بتقدير وتنظيم.
وقوله: ﴿السَّمَاوَاتِ﴾ سبق الكلام عليها، وأن المراد بها الطباق، وكانت سبعًا.
وقوله: ﴿وَالْأَرْضَ﴾ مفرد والمراد الجنس فيشمل جميع الأرضين، وعُطِفت على ﴿السَّمَاوَاتِ﴾ وهي منصوبة؛ ولهذا فُتِحت بخلاف ﴿السَّمَاوَاتِ﴾؛ لأنها جمع مؤنث سالم.
وقوله: ﴿وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ (ما): اسم موصول معطوف على الأرض ولَّا على السماوات؟
* طالب: على السماوات.
* الشيخ: على السماوات نعم.
العلماء يقولون: إنه إذا تعدَّدت المعطوفات فالمعطوف عليه الأول منها؛ لأنه المباشر للعامل، المباشر للعامل وما بعده فرْعٌ عليه، فيكون العطف إذن على السماوات.
لو قلت: جاء زيد وعمرو وبكر وخالد وسعيد. فسعيد معطوف على زيد أول واحد؛ لأنه مباشر وما بعده فرع، والفرع لا يُعطَف على فرع، يُعطَف على أصل.
وقوله: ﴿وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ البينية ما تقتضي التَّماس، فقد يكون الشيء بين الشيئين وهو لا يمس أحدهما، وهنا اللي بين السماوات والأرض لا يلزم أن يمسَّ، ولكن هل يمكن أن يمس؟ يمكن لكن لا يلزم.
فعلى هذا نقول: ﴿مَا بَيْنَهُمَا﴾ يشمل السحاب، والرياح، والنجوم، والشمس، والقمر، وغير ذلك من المخلوقات العظيمة التي ما نعلمها.
وفي التنصيص على ذكر ما بين السماوات والأرض فيه دليل على أن ما بينهما أمر عظيم يقارَن بنفس السماوات والأرض، وهذا يعلمه أهل الفلك الذين يطَّلعون على ما في الأفق من الآيات العظيمة التي تدل على ما تدل عليه من كمال الله سبحانه تعالى.
وقوله: ﴿إِلَّا بِالْحَقِّ﴾ هذا محط الفائدة: ﴿مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ﴾، حصْر وهو محل الفائدة، أي: هذا الخلق مقارَن بالحق، فالباء إذن للمصاحبة والملابسة، أي: إن خلقه سبحانه وتعالى مصحوب بالحق، لماذا؟ لأنه متضمِّن لكمال العدل ولكمال الصدق.
كمال العدل: ما قامت السماوات والأرض إلا بالعدل، والعدل حق، وهل يشمل ذلك أن يكون الغاية منها حقًّا؟ نعم يشمل، فبالحق ابتداءً وانتهاءً، كما قال الله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ﴾ [الأنبياء ١٦].
لو كان هذه السماوات والأرض خُلِقت لتحيا الخليقة عليها وتعيش وتموت بدون جزاء ولا حساب ولا ثواب ولا عقاب، لو كان الأمر كذلك لكان باطلًا وليس بحق، إذن لا بد لهذه المخلوقات العظيمة أن يكون لها غاية، غاية هي الحق.
فعلى هذا نقول: إن قوله: ﴿بِالْحَقِّ﴾ يشمل الابتداء والانتهاء.
وقوله: ﴿وَأَجَلٍ مُسَمًّى﴾ معطوف على ﴿بِالْحَقِّ﴾ يعني: ما خلقهما أيضًا إلا بأجل مسمى معيَّن، والأجل غاية الشيء، و﴿مُسَمًّى﴾ من قِبَل مَن؟
* طالب: من قبل الله سبحانه وتعالى.
* الشيخ: من قِبَل الله سبحانه تعالى، هو الذي عيَّنه.
وقوله: (بأجل) يشمل الابتداء والانتهاء، فابتداؤها بأجل، وانتهاؤها بأجل أيضًا، فإن الله تعالى أوجد هذه السماوات والأرض بعد أن كانت معدومة، وإيجاده لها كان بالأجل المعيَّن عنده، وكذلك سوف يُنهِي السماوات والأرض، وإنهاؤه إياها؟
* طالب: بالأجل.
* الشيخ: بالأجل، إذن كل شيء عند الله عز وجل مُقَدَّر، حتى الحوادث التي تحدث في السماوات والأرض بعد خلقها وإيجادها كله بأجل لا يتقدم ولا يتأخر، وإذا تأملت قليلًا عرفت بذلك كمال قدرة الله سبحانه تعالى، كيف هذه الأمور والشؤون العظيمة الكثيرة كلها تُدبَّر بأجل ما يتقدم ولا يتأخر؟!
نحن الآن مقررون أن ابتداء الدرس في الساعة الثامنة، ولكن حين نبدأ في الساعة الثامنة والنصف، حين في الساعة الثامنة والثلث، ونتأخر ما ينتظم أمرنا مع أنه بسيط.
وهكذا كل شؤون الخلق ما يمكن لأحد أن يضبط جميع أعماله بأجلها المحدد مهما بلغ في الحرص؛ لأنه قد يعتريه ما لا طاقة له به، ما يقدر، لكن الرب سبحانه وتعالى حدد كل شيء بأجله لا يتقدم ولا يتأخر، وهذا لا شك أنه من كمال الحكمة والصنع: ﴿صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [النمل ٨٨].
فإذا تأملنا هذا الكون العظيم على ما فيه من الحوادث الفلكية والأرضية والعامة والخاصة، فإننا في الحقيقة نستدل بها دلالة واضحة على كمال قدرة المدبر لهذا الكون الخالق له، كل شيء بأجل، وفي آية أخرى: ﴿وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ﴾ [الرعد ٨]. أيضًا بمقدار ما يزيد ولا ينقص، فهو بأجله وبمقداره لا يزيد ولا ينقص. سبحان الله العظيم.
قوله: (﴿وَأَجَلٍ مُسَمًّى﴾ لذلك) هكذا عندكم؟
* طالب: نعم.
* الشيخ: (تفنى عند انتهائه، وبعده البعث) (تفنى) أي: السماوات والأرض وما بينهما عند انتهاء هذا الأجل، ثم يأتي البعث.
يقول: (﴿وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ﴾ أي: كفار مكة ﴿بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ﴾ أي: لا يؤمنون بالبعث بعد الموت).
قوله: ﴿كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ﴾ [الروم ٨] خصَّه المؤلف بأهل مكة، والصواب العموم أهل مكة وغيرهم، كثير من الناس ينكرون البعث، يمكن نجد في غير أهل مكة مَن هو أشد منهم إنكارًا للبعث، فتخصيص العام في القرآن أمر لا ينبغي إلا إذا قام الدليل على هذا فعلى العين والرأس.
وقوله: ﴿بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ﴾ اللقاء: بمعنى المواجَهة والمقابَلة، وكل إنسان سوف يلقى الله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾ [الانشقاق ٦]. أي إنسان؟ المؤمن ولَّا الكافر؟ حتى الكافر؟
* طالب: نعم.
* الشيخ: إي نعم؛ لأنه قال: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ﴾ عامٌّ، ثم قال بعد قوله: ﴿فَمُلَاقِيهِ﴾: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ﴾ [الانشقاق ٧]. ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ﴾ [الانشقاق ١٠]، فدل هذا على أنه عامٌّ. فكل أحد ملاقي الله عز وجل، وسوف يحاسبه، ولكن حساب الله للناس يختلف، المؤمن يُقَرِّره بذنوبه فإذا أقرَّ بها غفر له، وأما الكافر -والعياذ بالله- فإنه يُخزَى بها ويعاقب عليها ويكون هوانًا له.
فيقال: ﴿بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ﴾ اللام في قوله: ﴿لَكَافِرُونَ﴾ لأيش؟ للتوكيد، و(كافرون): خبر (إن)، و(بلقاء ربهم) متعلق به وقُدِّم عليه لمراعاة الفواصل.
ومراعاة الفواصل في القرآن الكريم ظاهر؛ لأن الكلام عامة إذا كان له فواصل متفقة يكون هذا أنشط للنفس، وأرغب لاستماعه وتلاوته.
قال: ﴿بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ﴾، الكَفْر في اللغة: الستر، ومنه سُمي الكُفُرَّة الذي هو كافور النخل غلاف الطلع؛ لأنه يستره. والمراد بالكفر: ستر نعمة الله عز وجل على المرء، بحيث يعصيه إذا أمره، ويجحده إذا طلب منه الإيمان.
وأنواع الكفر كثيرة، منها: الكفر المخرج عن الملة، ومنها: الكفر أي خصال كفر وليس الكفر المطلق، وهذا يرجع إلى حسب النصوص الشرعية.
﴿وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (٨) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ [الروم ٨، ٩] هذا معطوف على قوله: ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا﴾. فالتفكر في خلق السماوات والأرض، والسير في الأرض فقط، ثم السير في الأرض إما أن يكون سيرًا بالأقدام أو سيرًا بالأفهام، إن كان سيرًا بالأفهام فهو داخل فيما سبق.
وقد نقول: إن هذا أخص مما سبق؛ لأنه قال هنا: ﴿فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾، فهو نظر في حوادث لا في خلق الأرض، فتكون هذه الآية منفصلة عن التي قبلها من حيث المعنى، فالأولى تفكير، ولهذا جاء مُتَعَلَّقُها عامًّا في السماوات والأرض وما بينهما.
وهذا السير لأمر مخصوص ما هو؟ أي: الحوادث؛ أن ﴿يَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ فيشمل السير بالقدم والسير بالفكر والفهم. على القول بأنه سير أقدام يكون السير حسيًّا، وعلى الثاني يكون معنويًّا، فيشمل السير الحسي والسير المعنوي.
السير الحسي إذا قال قائل: كيف تطلبون من الإنسان أن يسير بقدمه إلى مواقع العذاب، وقد نهى النبي عليه الصلاة والسلام أن ندخل مواقع العقاب إلا ونحن باكون؟
نقول: لا تعارُضَ؛ لأن هذا هو المقصود من السير إلى مواقع العذاب المقصود به الاتعاظ والانزجار، وهذا يتحقق بالبكاء؛ ولهذا نهى النبي عليه الصلاة والسلام أن ندخل على ديار ثمود إلا ونحن باكون، وقال: «إِنْ لَمْ تَكُونُوا بَاكِينَ فَلَا تَدْخُلُوهَا»[[أورده ابن هشام في السيرة (٢/٥٢٢) بلاغًا عن الزهري، ولفظه: "لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ الَّذِينَ ظَلَمُوا إِلَّا وَأَنْتُمْ بَاكُونَ".]].
وبعض الناس يذهب إلى ديار ثمود على سبيل النزهة والطرب والتمتع بالمناظر؛ ولهذا يأخذون لها صورًا خوفًا أو إعجابًا؟
* طلبة: إعجابًا.
* الشيخ: إعجابًا بها، وهذا من قسوة القلب -والعياذ بالله- والجهل بما جاء به النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن غالبهم يكون جاهلًا، غالب هؤلاء الذي يروحون لهذا المقصد يكونون جاهلين، ما نقول: إن كلهم عندهم قسوة قلب، تعمدوا مخالفة الحق. لكننا نقول: عندهم شيء من الجهل، وإلا فلا يجوز للإنسان اللي ما يعرف من نفسه أنه إذا ذهب بيتأثر حتى يبكي لا يجوز أن يدخل؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن ذلك.
وقوله: ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ﴾، ﴿فِي﴾ أيش معناها؟
* طالب: على.
* الشيخ: قيل: معناها على؛ لأنها لو أُخِذت بظاهرها لكان السير في سراديب تحت الأرض ﴿فِي﴾؛ لأن (في) للظرفية، والظرف محيط بالمظروف من جميع الجوانب، ولا يمكن أن تحيط بك الأرض من جميع الجوانب إلا إذا كنت داخل الأرض في سرداب، وليس هذا مرادًا، فعلى هذا تكون (في) بمعنى (على).
وقيل: إن (في) للظرفية على بابها ولا حاجة إلى تأوليها، وأن ظرفية كل شيء بحسَبِه، فيكون ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ معناه: في ظهر الأرض، وكل أحد يعرف أنه لا يراد أن تخرق الأرض وتمشي في أسفلها! ما أحد يفهم هذا، وأيًّا كان فإن المراد السير على ظهر الأرض.
* طالب: (...) تمشي على ظهر الأرض (...).
* الشيخ: ما تصير (في) (...).
* طالب: إلا من فوق.
* الشيخ: لا، من اليمين لليسار، ما فيه جدار. على كل حال المعنى واضح، حتى لو قلنا: إن (في) للظرفية فيكون الظرف في كل موضع بحسبه، ما هو لازم أن يكون في جوف.
وقوله تعالى: ﴿فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا﴾ الأرض مفرد والمراد به الجنس، أي: الأراضي التي وقع العذاب بأهلها، مثل ديار ثمود، وغيرها الأحقاف، وديار قوم لوط كما قال الله تعالى: ﴿وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ﴾ [الحجر ٧٦]
* طالب: (...).
* الشيخ: (...) إيه، مثل ما قلت: إنه الجهل، الغالب عليهم الجهل، (...) أحد يفلح بمكان نهى الرسول عليه الصلاة والسلام عن دخوله إلا في حال بكاء، لكن الغالب هو جهل.
قال: ﴿فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ﴾ (ينظروا): نظر بصر أو نظر بصيرة؟
* طالب: بصيرة.
* طالب آخر: الأول.
* الشيخ: إن كان السير بالقدم فالنظر من البصر، وإن كان السير بالفهم فالنظر نظر بصيرة، يعني: فينظروا بعين البصيرة أو بعين البصر حسب السير الذي سبق.
وقوله: ﴿فَيَنْظُرُوا﴾ الفاء هنا هل هي سببية أو عاطفة؟
* طالب: سببية.
* طالب آخر: عاطفة.
* الشيخ: يجوز فها الوجهان، يجوز أن تكون عاطفة والمعنى: أفلم يسيروا فلم ينظروا، ويجوز أن تكون سببية، المعنى: أفلم يسيروا فبسبب سيرهم ينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم.
* طالب: شيخ، قلنا: إذا سار على الأرض فإنه ينظر بعين البصر ما يصير عين البصيرة، لو أنه ما أبصر ما ينفع..
* الشيخ: إي ما يخالف، بعين البصر الذي يؤدي إلى عين البصيرة، لكن يعني هو المقصود أنك إذا سرت بقدمك ما أقول: إنك إذا وصلت إلى مكان تغمض، تنظر بعينك، لكن هذا النظر بالعين هل يفيد ولا ما يفيد؟ إن كان ما فيه بصيرة ما يفيد، إذن المراد بالسير على القدم النظر بالعين ليؤدي ذلك إلى النظر بالبصيرة، وإلا فالنظر المباشر بالسير على القدم هو العين.
وقوله: ﴿فَيَنْظُرُوا﴾ (يسيروا) و(ينظروا) ويش الجازم هنا؟ مجزومات بأيش؟ مجزومات بحذف النون والواو فاعل؛ لأنها من الأفعال الخمسة.
وقوله: ﴿كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ ﴿كَيْفَ﴾ هذه اسم استفهام خبر )كان( مقدمًا، و﴿عَاقِبَةُ﴾ اسمها في مكانه، والعاقبة مصدر بمعنى العُقبى، وعاقبة الشيء: ما يتلوه ويأتي بعده، فقوله: ﴿عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ أي: ما تلا تكذيبهم للرسل.
وقوله: (﴿الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ من الأمم، وهي إهلاكهم بتكذيبهم رسلهم) ويش عاقبة ثمود؟ الإهلاك والدمار. عاقبة عاد الذين استكبروا في الأرض وقالوا: من أشد منا قوة؟ ما أحد أشد منا قوة. عاقبتهم أن أُهلِكوا بأمر من ألطف الأشياء وهو الريح، الريح لطيف وجسم لا يُرى، هؤلاء الكبار الأجسام الشديدو القوى أُهلِكوا بهذه الريح اللطيفة التي لا تُرى؛ ليتبين ضعف الإنسان وأنه مهما كان فالله عز وجل أقوى منه، كما قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً﴾ [فصلت ١٥].
وكذلك قرى قوم لوط الذين أُترفوا فتَرِفوا -والعياذ بالله- أُترِفوا ونُعِّموا، حتى كانوا من شدة الترف -والعياذ بالله- يعدِلون عما خلق الله لهم من أزواجهم إلى إتيان الذكور، نسأل الله العافية.
قال: ﴿كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً﴾ ﴿كَانُوا﴾ جملة استئنافية يراد بها بيان حال هؤلاء السابقين.
(﴿أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً﴾ كعاد وثمود) لا شك أنهم أشد من قريش قوة، عادٌ معروف قوتهم ﴿ذَاتِ الْعِمَادِ (٧) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ﴾ [الفجر ٧، ٨].
وثمود أيضًا الذين ينحتون من الجبال بيوتًا فارهين بيوتًا آمنين، أمينة عالية شامخة من الجبال من الأحجار، وهذا يدل على القوة، ومن السهول يتخذون قصورًا ﴿تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا﴾ [الأعراف ٧٤] قصورًا عظيمة فخمة -هذا ما حصل لأهل مكة- ومع ذلك دمرهم الله عز وجل بكفرهم وتكذيبهم.
﴿كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ﴾، ﴿وَأَثَارُوا الْأَرْضَ﴾ معطوفة على ﴿كَانُوا﴾ ما هي على خبر (كان)، على (كان) نفسها، عاقبة الذين من قبلهم أثاروا الأرض، وليست معطوفة على ﴿أَشَدَّ﴾ حتى نقول: كانوا أشد منهم وكانوا أثاروا الأرض وعمروها، بل معطوفة على ﴿كَانُوا﴾.
﴿أَثَارُوا الْأَرْضَ﴾ يقول: (حرثوها وقلبوها للزرع) أيش بعدها؟
* طلبة: (والغرس).
* الشيخ: (والغرس)، هذا إثارة الأرض، الإنسان إذا حرث الأرض لا شك أنه يثير الأرض ولَّا لا؟ تعرفون الحرث بالمسحاة ولَّا بالجرارات تثير الأرض، يعني ترفعها، وكذلك أيضًا الغرس، فإن الإنسان يثير الأرض ليحفر للشجرة حتى يثبتها، فهؤلاء أشد منهم قوة وأيضًا قد أثاروا الأراضي، أهل مكة ما أثاروا الأرض؛ لأنه وادٍ غير ذي زرع.
﴿وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا﴾ ﴿عَمَرُوهَا﴾ أي: السابقون عمروا الأرض، ويش هو؟ بالتجارة، والبناء، والمصانع وغيرها.
سليمان عليه الصلاة والسلام قال الله له: ﴿يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ﴾ [سبأ ١٣] ﴿جِفَانٍ﴾: الصحاف التي فيها الطعام، ﴿كَالْجَوَابِ﴾ ويش هي الجابية؟
* طالب: البركة.
* الشيخ: بركة الماء، كبار ولَّا صغار هذه؟
* الطالب: كبار.
* الشيخ: صحاف كبار كبركة الماء هذا عظيم، ﴿وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ﴾ ما تتشال من كبرها وكثرة الطعام فيها، هذا كله وما هو مثله ما حصل لهؤلاء لقريش.
(﴿وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ﴾ بالحجج الظاهرات) الباء للمصاحبة أو للتعدية، يحوز هذا وهذا، المعنى أن الرسل عليهم الصلاة والسلام جاءتهم بالبينات، رسلهم مِن قِبَل مَن؟ من قِبَل الله سبحانه وتعالى.
﴿بِالْبَيِّنَاتِ﴾: بالحجج البينات، أو قل: بالآيات البينات التي تشمل الحجج والأحكام، فإن الْحُكم إذا كان حُكمًا عادلًا نافعًا للعباد فإنه بينة تدل على صدق مَن أتى به. الرسل كلهم جاؤوا بالبينات؟
* طالب: نعم.
* الشيخ: نعم ما من رسول إلا أتى ببينة: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ﴾ ويش بعد؟ ﴿وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ﴾ [الحديد ٢٥]، إذن فمع كل نبي كتاب، كل نبي له كتاب، كل نبي له آيات بينات: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾ [البقرة ٢١٣]، المهم أنه ما من رسول إلا معه بينة ومعه كتاب.
وقوله: (﴿وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ﴾ بإهلاكهم بغير جرم ﴿وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ بتكذيبهم رسلهم).
﴿فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ﴾ اللام في قوله: ﴿لِيَظْلِمَهُمْ﴾ إعرابها؟
* طالب: لام الجحود.
* الشيخ: لام الجحود، تسمى لام الجحود، أي: لام النفي لملازمتها لهم، وقد سبق لنا أن لام الجحود ما سبقها؟ قرأناها في الأجرومية، قرأنا لام الجحود أنها تنصب الفعل المضارع، وقلنا: إن لام الجحود هي التي سبقها؟
* طالب: لم، أو: ما كان.
* الشيخ: لم يكن..
* الطالب: لم يكن أو ما كان.
* الشيخ: أو ما كان، هنا سبقها: ما كان.
وقوله: ﴿مَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ﴾، إذا قيل: ما كان الله ليفعل كذا، أو ما أشبه ذلك، فاعلم أنه للممتنع غاية الامتناع: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا﴾ [مريم ٦٤] ممتنع غاية الامتناع، ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا﴾ [القصص ٥٩] ممتنع غاية الامتناع، وهكذا كل ما جاء مثل هذا التعبير فالمراد أنه ممتنع غاية الامتناع.
وقوله: ﴿لِيَظْلِمَهُمْ﴾، الظلم في الأصل النقص، الظلم في أصل اللغة النقص، ومنه قوله تعالى: ﴿كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا﴾ [الكهف ٣٣].
وهو في الشرع كذلك؛ نقْصٌ فيما يجب، فيشمل الإهمال في الواجب والتعدي في المحرم، التعدي في المحرم نقص؛ لأنك بخست نفسك حقها حيث لم تجتنب المحرم، وكذلك أيضًا التقصير في الواجب نقص، فمَن قصَّر في واجب فقد ظلم نفسه، ومن تعدى في محرم فقد ظلم نفسه؛ لأنه نقَصَ مما يجب أن يعامل به نفسه، فيكون الظلم إما تركًا لواجب وإما فعلًا لمحرم.
بالنسبة لله عز وجل: ﴿فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ﴾ هذا الصفة سلبية ولَّا ثبوتية؟
* طالب: سلبية.
* الشيخ: سلبية، ويش تتضمن؟
* طالب: كمال العدل.
* الشيخ: كمال العدل، فهو لا يظلمهم لا لأنه عاجز عنه، ولا لأنه غير قابل له، ولكنه لكمال عدله سبحانه وتعالى، ما يمكن يظلم.
ونفي الظلم يكون لثلاثة أسباب: إما للكمال، أو العجز، أو عدم القابلية. إما للكمال يعني كمال العدل، أو العجز، أو عدم القابلية. خدوا بالكم، إذا قلت: إن الجدار لا يظلم، فهو؟
* طلبة: لعدم القابلية.
* الشيخ: لعدم القابلية، لا يقع منه الظلم أصلًا.
إذا قلت: فلان ضعيف لا يظلم عدوه؟
* الطلبة: للعجز.
* الشيخ: هذا للعجز، قال الشاعر:
؎قُبَيِّلَةٌ لَا يَغْدِرُونَبِــــــــــــــــــــــــــــــــذِمَّةٍ ∗∗∗ وَلَا يَظْلِمُونَ النَّاسَ حَبَّةَخَرْدَلِ
ليش؟
* طالب: لعجزهم.
* الشيخ: لعجزهم، وإذا قلت: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا﴾ [يونس ٤٤]؟
* طالب: لكمال عدله.
* الشيخ: فهو لكمال عدله، هو قادر جل وعلا على أن يظلم، لكنه ممتنع عليه لكمال صفاته، لكمال صفاته لا يظلم، وقالت الجبرية: إنه لا يظلم لعدم قابليته (...)، والله سبحانه وتعالى يملك جميع الخلق، فتصرفه في ملكه ليس بظلم ولا يُتصور، فالظلم في حق الله لا لكمال عدله ولكن لأنه غير قابل له. ولهذا قال ابن القيم: "والظلم عندهم المحال لذاته". فهو محال لذاته عندهم، ما يُتصور الظلم في حق الله. ولكننا إذا قلنا بقولهم فهل يكون ذلك مدحًا لله عز وجل وثناء؟
* طالب: لا.
* الشيخ: لا، لا يكون نفي الظلم مدحًا وكمالًا إلا إذا كان مع القدرة عليه وإمكانه لكن منَعَه كمالُ عدله منه، أفهمتم؟
وقوله: ﴿وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾، ﴿أَنْفُسَهُمْ﴾ منصوبة على أنها خبر (كان)، كيف؟ (كان): فعل ماضٍ يرفع الاسم وينصب الخبر، والواو اسمها. و(أنفسهم) خبرها؟
* طالب: (أنفسهم) توكيد للضمير.
* الشيخ: لو كان توكيدًا للضمير لقال: كانوا أنفُسُهم. وهنا: ﴿أَنْفُسَهُمْ﴾.
* طالب: جملة (يظلمون أنفسهم) خبر، يعني حالية.
* الشيخ: أيش تعربون ﴿أَنْفُسَهُمْ﴾؟
* طالب: مفعول.
* الشيخ: مفعول لأيش؟
* طالب: مفعول لـ (يظلمون).
* الشيخ: مفعول لـ (يظلمون) مقدم، مفعول مقدم ليظلمون، ﴿وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾، يعني: ولكن كانوا يظلمون أنفسهم، بأي شيء يظلمون أنفسهم؟ بمعصية الله؛ إما بترك واجب أو فعل محرم، وسيأتينا إن شاء الله في الفوائد ما تدل عليه هذه الجملة. المهم أن الله تعالى ما ظلم هؤلاء المكذبين الذين أهلكهم، ما ظلمهم ولكن كانوا هم الذين ظلموا أنفسهم، فالجناية منهم على أنفسهم، والله عز وجل عاملهم بكمال العدل (...).
* * *
﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ﴾ [الروم ٨].
* يستفاد من هذه الآية الكريمة: أولًا: توبيخ مَن أعرض عن التفكر؛ لقوله: ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا﴾، فإن الاستفهام هنا للتوبيخ.
ويتفرع على هذه الفائدة * فائدة أخرى: وهي الحث على التفكر، أليس كذلك؟ ويتفرع عليه فائدة ثانية وهي فائدة التفكر؛ لأن الله لا يحث على شيء ويوبخ عن تركه إلا لِما فيه من الفائدة والصلحة.
* من فوائد الآية: أن محل التفكير هو العقل؛ لقوله: ﴿فِي أَنْفُسِهِمْ﴾، هذا إذا قلنا: إن المراد كون النفس آلة التفكر وطريق التذكر، أما إذا قلنا: محل التذكر فيستفاد منه فائدة، وهي عظيم صنع الله عز وجل في نفس الإنسان وما أودعه فيه من العجائب.
وإذا أردت أن تعرف ذلك فاذهب إلى أهل العلوم والطب، تجد في جسمك العجب العجاب، هذا الطعام اللي أنت تأكله يتحول إلى دم ويتوزع على الجسم بحسب أنسجته، يعني يعطي الأعصاب كمية تليق بها، ويعطي اللحم كمية تليق به، ويعطي العظام كمية تليق بها، سبحان الله العظيم، أنابيب دقيقة مثل الشعر توزع على هذا الجسم بقدر ما يحتاج إليه.
المهم ما هذا نبغي شرحه، ولكن كلامنا على أن في خلق الله عز وجل للإنسان من العجب العجاب ما يبهر العقول، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في كتاب مفتاح دار السعادة من هذا شيئًا كثيرًا، هذا قبل أن يرتقي الطب إلى ما ارتقى إليه اليوم.
* من فوائد الآية أيضًا: أن الخالق هو الله عز وجل، خالق السماوات والأرض هو الله؛ لقوله: ﴿مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ﴾، فلم يخلقهما أحد سواه؛ ولهذا قال في سورة الطور: ﴿أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ﴾ [الطور ٣٦].
* ومن فوائدها: إثبات عدد السماوات وهي سبع، وأما الأرض فتأتي دائمًا تُفْرَد في القرآن، ما ذُكِرت في القرآن مجموعة، لكن أُشيرَ إلى أنها سبع في قوله: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ﴾ [الطلاق ١٢].
* ومن فوائدها: أن بين السماوات والأرض من المخلوقات العظيمة ما يستحق أن يُجعل قسيمًا لخلق السماوات والأرض، كده ولَّا لا؟
* طالب: بلى.
* الشيخ: فتش الآن عندكم: السماوات، والأرض، وما بينهما، كلنا يعلم عِظَم الأرض وعِظَم السماء، إذن فعِظَم ما بينهما مُوازٍ لهما.
* من فوائد الآية أيضًا: كمال حكمة الله سبحانه وتعالى وقدرته.
كمال قدرته بأي شيء نستدل عليها؟ بعِظَم مقدوره، كمال القدرة يؤخذ من عِظَم المقدور، وهذا من الدلالة باللازم الذي نوهنا عليه من قبل، وقلنا: إن الله إذا فتح على العبد معرفة لوازم النصوص استفاد بذلك فوائد عظيمة، حتى إنه يأخذ من النص الواحد من المسائل ما لا يأخذ غيرُه نصفَها أو أقلَّ.
أقول:* يستفاد من هذه الآية: عِظَم قدرة الله عز وجل وبالغ حكمته، الحكمة منين نأخذها؟ من قوله: ﴿إِلَّا بِالْحَقِّ﴾، ما هي عبثًا، ﴿بِالْحَقِّ﴾. أما القدرة فنأخذها من عِظَم المخلوق، عِظَم المخلوق يدل على عظمة الخالق.
* ومن فوائد الآية: أنه ينبغي للإنسان ألَّا يضيع وقته سبهللًا وسُدًى، منين نأخده؟ من قوله: ﴿إِلَّا بِالْحَقِّ﴾؛ لأن ضده الباطل، والباطل إما ضار وإما غير ضار ولا نافع، كل لهو يلهو به ابن آدم فهو باطل إلا كذا وكذا.
المهم أنه ينبغي ما دام السماوات والأرض كلها خُلِقت بالحق والجد والصدق والثبات، فينبغي لك أن تكون موافقًا لهذه الحكمة التي من أجلها خُلِقت السماوات والأرض.
* ومن فوائد الآية: أن هذا الخلق على عِظَمِه له أجل محدود؛ لقوله: ﴿وَأَجَلٍ مُسَمًّى﴾ أي: مُعَيَّن، وكل شيء في السماوات والأرض كليًّا كان أو جزئيًّا فإنه محدد إلى أجل مسمى، وسواء كان ذلك عينًا أو صفة فإنها محددة إلى أجل مسمى؛ ولهذا من الْحِكَم المشهورة: دوام الحال من المحال.
وهذا يتفرع عليه* فائدة أخرى: وهي أن الخلق ناقص، حيث لم يُقَدَّر له الأبدية، فهو ناقص؛ ولهذا تأتي الحياة الآخرة تأتي كاملة لأنها مؤبَّدة.
* ومن فوائد الآية: كمال الحكمة، حيث كان كل شيء له أجل مقدر منظم: ﴿وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ﴾ [الرعد ٨]، والمقدار يشمل: مقدار الكمية، ومقدار الكيفية، ومقدار الزمنية، ومقدار المكانية، كل الأنواع الأربعة يشملها قوله: ﴿وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ﴾ سبحانه وتعالى.
ثم قال: ﴿وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ﴾ * يستفاد من هذه الآية: أنه مع هذه الآيات العظمى: خلق السماوات، والأرض، وما بينهما، وتأجيل ذلك بأجل مسمى، وتقديره بتقدير معين، مع هذا كله كثير من الناس ينكرون لقاء الله.
والحقيقة أن العاقل يستدل بهذا التأجيل على وجوب لقاء الله، إذا رأى أصحابه وقرناءه الذين كانوا بالأمس معه إذا رآهم يذهبون واحدًا فواحدًا، هل هذا يحمله على الإيمان ولَّا لا؟ لا شك أنه يحمله على الإيمان؛ لأنه يعلم أنه لو دامت الدنيا لأحد ما وصلت إليك، ما وصلت إليك إلا بعد أن خلفت غيرك.
فإذن تستدل بهذه الآجال المقدرة على أنه لا بد أن يكون شيء وراء هذا، هل من الحكمة أن تُنشئ هذه الخليقة العظيمة وبهذا النظام البديع، ثم تكون النهاية أن يموت الإنسان كجيفة الحمار أو لا؟ أبدًا ليس هذا من الحكمة؛ ولهذا قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ﴾ [القصص ٨٥]، فهذه الشرائع التي نزلت لا بد أن يكون وراءها شيء، وهو البعث الذي فيه لقاء الله عز وجل، ولكن مع هذا: ﴿وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ﴾.
* من فوائد هذه الآية: إثبات البعث المفهوم من قوله: ﴿بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ﴾. * ومنها: أن كل أحد سيلاقي الله عز وجل، منين نأخذه؟ من قوله: ﴿بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ﴾. وقال تعالى في سورة الانشقاق: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾ [الانشقاق ٦].
فإذا قال قائل: هل هذا اللقاء شامل للمؤمن والكافر؟ قلنا: نعم، لكن هناك فرقًا بين اللقاءين، كما أن الرجل يلاقي زيدًا ويلاقي عمرًا ويكون بين اللقاءين فرق عظيم، يلاقي هذا بوجه غضب وهذا بوجه رضا، هذا بوجه انقباض وهذا بوجه انبساط وما أشبه ذلك.
* ومن فوائد الآية: إثبات الربوبية العامَّة ولَّا الخاصة؟ العامة؛ لقوله: ﴿بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ﴾، مع أنه يتكلم عن الكافرين، فهي الربوبية العامة، والربوبية تنقسم إلى قسمين: عامة وخاصة، وقد اجتمعا في قوله تعالى: ﴿قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (١٢١) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ﴾ [الأعراف ١٢١، ١٢٢]، فالأولى عامة، والثانية خاصة.
* ومن فوائد الآية: ذمُّ من كفروا بلقاء الله مع آياته العظيمة الدالة على وجوده وحكمته؛ لقوله: ﴿وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ﴾، وهذه الجملة بلا ريب تدل على الذم.
* طالب: يؤخذ منها كثرة الكفار أنهم أكثر الناس؟
* الشيخ: لا، يعني كثيرًا منهم، ما هو قال: أكثرهم. في هذه الآية لا يؤخذ، لكن في غيرها يؤخذ.
* طالب: (...).
* الشيخ: ما يعمل؟ هذا الذي لا يعمل له وجود إيمانه كالعدم؛ لأن الكفر نوعان: كفر جحد، وكفر استكبار.
* طالب: المراد باللقاء هل هو مجرد الرؤية؟
* الشيخ: المراد باللقاء المواجهة، لكنها بعد البعث ومِن لازِمِها البعث.
* الطالب: ومن لازمها الرؤية؟
* الشيخ: الله أعلم مسألة الرؤية؛ لأن الله ذكر في الكفار: ﴿إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ﴾ [المطففين ١٥].
* طالب: تقسيم الربوبية لعامة وخاصة، أيش الفرق بينهما؟ مع أن الربوبية أصلًا..
* الشيخ: الفرق بينهما أن الربوبية العامة تستلزم التصرف المطلق في المربوب، والخاصة: تستلزم مع التصرف المطلق العناية به ونصره وتأييده وما أشبه ذلك، تشبه المعية العامة الخاصة، وتشبه أيضًا مسائل كثيرة من هذا النوع.
قال: ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [الروم ٩].
* يستفاد من هذه الآية: التوبيخ لمن غفلوا عن السير في الأرض سواء بأبدانهم أو بقلوبهم؛ لأن الاستفهام في قوله: ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا﴾.
* طالب: للتوبيخ.
* الشيخ: للتوبيخ. ويتفرع على ذلك * على هذه الفائدة: الحث على السير في الأرض، ومن ذلك -من السير في الأرض بالقلوب- مراجعة كتب التاريخ والأمم؛ لأن مَن راجعها لا سيما التواريخ الحريصة على الضبط والمضبوطة، مَن راجعها يتبين له العجب العجاب في خلق الله عز وجل، ومداولته للأيام بين الناس، وتغييره للأمور، وتزيد الإنسان إيمانًا بالله، لكن إن كانت هذه الحوادث من السيرة النبوية وسِيَر الخلفاء الراشدين ازداد بها مع الإيمان بالله أن يصطبغ بصبغتها، ويحتذي حذوها في السير، وإن كانت من الأمور العامة العابرة فإنه يستدل بها على قدرة الله عز وجل، وكمال سلطانه، وتغييره للأمور.
المهم أن السير في الأرض بمعنى مراجعة الحوادث والتواريخ هذه تفيد المرء ويعتبر بها، ولكنها تفيد مَن؟ ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ [ق ٣٧].
* ويستفاد من هذه الآية أيضًا: أن عاقبة الكفار عاقبة وخيمة؛ لقوله: ﴿فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾.
* ومن فوائدها: أن الإنسان مهما قَوِيَ فهو ضعيف بالنسبة لقوة الله؛ لقوله: ﴿كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا﴾، ومع ذلك هل تحصنوا بهذا من عذاب الله؟ الجواب؟
* طالب: لا.
* الشيخ: لا، بل إن الله تعالى بحكمته أهلك أعتى أهل الأرض بأهون الأسباب وألطفها، وهم عاد أُهلِكوا بالريح. وأهلك مَن كان يفتخر بالأنهار تجري من تحته أهلكه بأي شيء؟
* طالب: غرق.
* الشيخ: بالماء، بالماء الذي كان يفتخر به بالأمس، وهذا مما يدل على كمال سلطان الله سبحانه وتعالى وعظمته، وأنه مهما قوي الإنسان فهو ضعيف بالنسبة لقوة الله عز وجل.
أظن في عام أربع مئة أو قبلها حصل هزة أرضية في إيران دمرت -بلمح البصر- خمسة وعشرين ألف نسمة من بني آدم، فضلًا عن الحيوانات والمواشي وما إلى ذلك، ودمرت مائتين وثلاثين قرية ومدينتين كبيرتين، والهزة ما هي تهز مثل الأرجوحة، الهزة لمحة بصر، مثل ما حكاها إنسان كتب للشيخ عبد العزيز بن باز في الهزة التي أصابت اليمن، يعني صوَّرها تصويرًا عجيبًا في سرعتها وأصوات صَحِبَتها، وحالة الناس والرعب اللي أصابهم حتى إنه تذهل كل امرأة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها، فهذه القدرة العظيمة هل يمكن لأحد أن ينجوَ منها إذا شاءها الله عز وجل؟
* طالب: لا.
* الشيخ: لا يمكن أبدًا، ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ﴾ [الأنعام ٦٥].
* ومن فوائد الآية: أن التأمل في حال الكفار للاعتبار مطلوب، التأمل في حال الكفار للاعتبار يعتبر بها الإنسان أمر مطلوب، لو جاء إنسان وأراد أن يدرس تاريخ أمة كافرة ويش اللي حصل عليها ويش اللي جاها؟ ننهاه عن ذلك؟ إذا كان يريد أن ينتفع بهذا ويعرف ماذا كان عاقبة المجرمين فإنه مأمور به، أما إذا كان يريد أن يتعجب من قوتهم وصنعتهم وما إلى ذلك فإنه يُنهى عنه، مثل ما قلنا في الذين يذهبون إلى ديار ثمود، قصدهم التفرج والنزهة هذا حرام، واللي قصدهم الاعتبار هذا جائز بالشرط الذي ذكره النبي عليه الصلاة والسلام، ما هو؟ ألا يدخلوها إلا وهم باكون.
* ومن فوائد الآية: أن إثارة الأرض من أسباب الدنيا، يعني الاشتغال بالزراعة من أسباب القوة بلا شك؛ لأنها يحصل بها الاكتفاء الذاتي عن الغير، إذا كانت بلادنا مثلًا تتنج الثمار والزروع استغنينا بذلك عن غيرنا، وربما يكون لدينا فائض نُصَدِّره لغيرنا فنكسب، فإثارة الأرض من أسباب القوة.
وكذلك عمران الأرض، عمران الأرض بغير الإثارة، بالبناء والتجارة وما أشبه هذا من أسباب القوة.
* ومن فوائد الآية: أن الله تعالى ما ترك أحدًا بدون رسل؛ لقوله: ﴿وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ﴾.
* ومن فوائدها أيضًا: أن كل رسول معه بينة تؤيده؛ لقوله: ﴿وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ﴾.
* ومن فوائدها -من فوائد الرسل وكونهم بالبينات- * يستفاد منها فائدتان -غير ما ذكرنا-: وهي رحمة الله، وحكمة الله، أما الرحمة فلأن العقول لا يمكن أن تهتدي لِما يريده الله منها إلا بالوحي، توافقونني على هذا؟
* طالب: نعم.
* الشيخ: نعم، هل يمكن للإنسان بعقله أن يعرف كيف يتوضأ وكيف يصلي وكيف يصوم وكيف يحج ولَّا ما يمكن؟ لا يمكن، إذن لا بد من أن يكون هناك رسول يأتيه الوحي من الله عز وجل ليبين لنا ما يرضاه الله وما لا يرضاه.
ثانيًا: كون هؤلاء الرسول يأتون بالبينات من الرحمة، لو أرسل الله الرسل بدون بينات وألزم العباد أن يخضعوا لهم بدون أن يكون هناك بينة يطمئنون إليها يكون في هذا من العنت والمشقة ما لا يعلمه إلا الله، ولكن من رحمة الله أن جعل مع كل نبي بينة، ولاحظوا أن الأنبياء الذين تُقَيَّد نبوتهم ورسالتهم بزمن أو مكان -وهم جميع الأنبياء ما عدا محمدًا ﷺ- تجدون آياتهم غالبًا آيات حسية تنتهي بانتهائهم، وتكون بعد موتهم خبرًا يُنْقَل ويُؤْثَر.
أما آية النبي عليه الصلاة والسلام فهي اشتملت آياته على الأمرين على أمور حسية نُقِلَت بعده وأُثِرَت، وعلى أمور معنوية بقيت بعده مثل القرآن العظيم، ومثل إخباره ببعض الأمور الغيبية التي وقعت كما أخبر؛ لأن رسالة النبي عليه الصلاة والسلام دائمة ومستمرة وثابتة، فلا بد أن تكون الآيات المؤيدة للرسول عليه الصلاة والسلام باقية حتى تقوم بها الحجة على مَن؟ على الباقين من الناس؛ لأن الباقين من الناس إذا لم يشهدوا الشيء بأيديهم وإنما هي أخبار تُؤْثَر، فإنه كما جاء في الحديث: «لَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ»[[أخرجه أحمد (١٨٤١) وابن حبان -الإحسان- (٦٢١٣) عن ابن عباس رضي الله عنهما.]]. إذن نستفيد من إرسال الرسل وإيتائهم البينات فائدتين: وهما: رحمة الله عز وجل، وحكمته.
* ويستفاد من هذه الآية: انتفاء الظلم عن الله لكمال عدله؛ لقوله: ﴿فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ﴾، نقول: انتفاء الظلم عن الله لكمال عدله.
لو قال قائل: انتفاء الظلم عن الله نوافقكم عليه؛ لأن الله نفاه عن نفسه: ﴿فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ﴾، لكن لكمال عدله من أين لكم هذا؟
الجواب: لأننا نقول: النفي يدل على انتفاء المنفي، والانتفاء يساوي عدمًا، انتفاء أي عدم، والعدم نفسه ليس بشيء، ما هو بشيء، العدم عدم على اسمه، فإذا كان ليس بشيء فهل يكون صفة كمال يُثنِي الله بها على نفسه وهو ليس بشيء؟
* طالب: لا.
* الشيخ: الجواب لا، إذن لا بد من أن يكون متضمنًا لشيء وهو الإثبات، هذا الإثبات إما أن يكون للعجز، وإما أن يكون لعدم القابلية، وإما أن يكون لكمال العدل، واختر أي الاحتمالات يليق بالله عز وجل، أو انظر أي الاحتمالات يليق بالله عز وجل؟ كمال العدل، وبهذا عرفنا أن التزام نفي الظلم لكمال العدل لازم عقلي بالنسبة لله عز وجل، ما هو بالنسبة لكل مَن يُنفَى عنه الظلم، بالنسة لله عز وجل التزام ذلك لكمال العدل لازم عقلي لا بد منه، وحينئذ* يستفاد منها: انتفاء الظلم لكمال عدل الله عز وجل.
* ومن فوائد الآية: أن نفس الإنسان عنده أمانة، تؤخذ: ﴿وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾. فأثبت الله تعالى ظلمَ الإنسانِ نفسَه، ولو كانت غير أمانة لكان غير ظالم لأنه يتصرف ويتحكم، لكنها أمانة عنده يجب عليه أن يرعاها حق رعايتها؛ ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام:« «إِنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا»[[أخرجه البخاري (١٩٦٨) عن أبي جحيفة رضي الله عنه، ولفظه: «إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا».]]. وهذا كما يشمل إعطاء النفس راحتها يشمل إعطاء النفس حقها من العبادة، لا تُهملها.
* طالب: قوله: (...).
* الشيخ: إي نعم.
* الطالب: كيف يعني؟
* الشيخ: يقابَل بقوله: ﴿النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ﴾ [الفجر ٢٧]؛ لأن الإنسان فيه ثلاث أنفس: أمارة، ومطمئنة، ولوامة.
أما المطمئنة: فهي التي تأمره برضا الله، وأما الأمارة بالسوء: فهي التي تأمره بمعصية الله، وأما اللوامة: فهي التي تلومه، ويش تلومه عليه؟ صالحة للوجهين: إن لامته على ترك الشر فهذه من النفس الأمارة، اللي قالت له: يا ليتك رحت مع هؤلاء تشرب الخمر وتزني وتقامر.. إلى آخره، تلومه، شوف البنات رُحْن (...) ومكيفة وأنت ما رحت. هذه لوامة لكنها أي النفسين؟
* طالب: الأمارة.
* الشيخ: الأمارة بالسوء.
وفيه نفس لوامة تلومه على فعل الشر وترك الخير، وهذه هي النفس المطمئنة. ففي الإنسان ثلاث أنفس كما ذكر الله في القرآن.
* طالب: مدار النفس فيه ثلاثة، فيه أمارة بالسوء، كيف هو: ﴿كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ والنفس هي الإنسان؟
* الشيخ: إي نعم؛ لأن عنده نفسًا أخرى مقابِلة.
* الطالب: يعني كل إنسان عنده ثلاث أنفس؟
* الشيخ: إي نعم كل إنسان لا بد أن يكون لديه هذه الأنفس.
* طالب: هي أوصاف؟
* الشيخ: إي، هي أوصاف، هي في الحقيقة أوصاف ولَّا النفس العاقلة أو التفكير واحدة.
* طالب: موجودة الجميع؟
* الشيخ: إي نعم موجودة الجميع، الإنسان يوجد فيه الجميع، يحس من نفسه أحيانًا بما يأمره بمعصية، ويحس أحيانًا بما يأمره بالخير، ويحس أحيانًا بما يلومه.
* طالب: يعني هي موجودة فيه ابتداءً (...)؟
* الشيخ: لا عاد، ينبغي أيهما اللي تطالب، من الناس من تطالبه النفس الأمارة، ومن الناس من تأمره المطمئنة تطالبه المطمئنة، تختلف.
* طالب: ابتداءً الله خلقها؟
* الشيخ: ابتداءً الله خلق فيه هذه القوى، هذه القوى النفسية مخلوقة في الإنسان.
قال: ﴿وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾:
* من فوائد الآية: أن الإنسان بمعصيته لا يضر إلا نفسه، أو لا؟
* طالب: بلى.
* الشيخ: نعم، ويدل على هذا قوله سبحانه وتعالى في الحديث القدسي:« «يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا نَقَصَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا» »[[أخرجه مسلم (٢٥٧٧) عن أبي ذر رضي الله عنه.]]. يعني ما يضرني، حتى لو خرجتم عن عبادتي والتعبد لي فإن ذلك لا يضرني، ﴿وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾.
* طالب: يؤخذ من الآية إثبات الأفعال الاختيارية للعبد؟
* الشيخ: للعبد؟ إيه، إي نعم،* يؤخذ منها: أن العبد فعله مختار؛ لقوله: ﴿وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾، فأثبت الظلم منهم لأنفسهم.
ومن وجه آخر * يؤخذ منه أيضًا من نفس الآية: ﴿فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ﴾؛ لأنه لو كان يُجبِرهم على ذلك لكان عقوبتهم ظلمًا ولَّا لا؟ لو اعتقد الإنسان أنه يُجبر الإنسان على فعل المعصية ثم يعاقبه عليها، أيكون ذلك ظلمًا؟
* طالب: نعم.
* الشيخ: إي نعم ظلمًا، ففيها دليل على الأفعال الاخيتارية من جهتين؛ من قوله: ﴿وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾، ومن قوله: ﴿فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ﴾.
هل* يستفاد من ذلك أن الظلم في حق الله من حيث هو ممكن، من حيث القدرة عليه يعني، ممكن ولَّا لا؟
* طالب: ممكن.
* الشيخ: نعم ممكن؛ ولهذا أثنى الله على نفسه بانتفاء الظلم عنه، أو بنفي ظلمِه عبادَه -أحسن- أثنى على نفسه بنفي ظلمه للعباد، ولو كان هذا من الأمور المستحيلة ما صار هناك محل اختلاف، فهو قادر عز وجل على أن يظلم لو شاء، لكنه لا يشاء ذلك لكمال عدله، إذن فالظلم ممتنع على الله، ليش؟
* طالب: لكمال عدله.
* الشيخ: لكمال عدله، خلافًا للجهمية الذين يقولون: إن الظلم ممتنع لاستحالته بذاته على الله، قالوا: هذا شيء مستحيل. فجعلوا محل الثناء أمرًا مستحيلًا عقلًا.
{"ayahs_start":8,"ayahs":["أَوَلَمۡ یَتَفَكَّرُوا۟ فِیۤ أَنفُسِهِمۗ مَّا خَلَقَ ٱللَّهُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَمَا بَیۡنَهُمَاۤ إِلَّا بِٱلۡحَقِّ وَأَجَلࣲ مُّسَمࣰّىۗ وَإِنَّ كَثِیرࣰا مِّنَ ٱلنَّاسِ بِلِقَاۤىِٕ رَبِّهِمۡ لَكَـٰفِرُونَ","أَوَلَمۡ یَسِیرُوا۟ فِی ٱلۡأَرۡضِ فَیَنظُرُوا۟ كَیۡفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِهِمۡۚ كَانُوۤا۟ أَشَدَّ مِنۡهُمۡ قُوَّةࣰ وَأَثَارُوا۟ ٱلۡأَرۡضَ وَعَمَرُوهَاۤ أَكۡثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاۤءَتۡهُمۡ رُسُلُهُم بِٱلۡبَیِّنَـٰتِۖ فَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِیَظۡلِمَهُمۡ وَلَـٰكِن كَانُوۤا۟ أَنفُسَهُمۡ یَظۡلِمُونَ"],"ayah":"أَوَلَمۡ یَتَفَكَّرُوا۟ فِیۤ أَنفُسِهِمۗ مَّا خَلَقَ ٱللَّهُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَمَا بَیۡنَهُمَاۤ إِلَّا بِٱلۡحَقِّ وَأَجَلࣲ مُّسَمࣰّىۗ وَإِنَّ كَثِیرࣰا مِّنَ ٱلنَّاسِ بِلِقَاۤىِٕ رَبِّهِمۡ لَكَـٰفِرُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق