الباحث القرآني
﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ﴾ [الروم: ٤١] ﴿ظَهَرَ﴾ بمعنى بان واتضح، وقوله: ﴿الْفَسَادُ﴾ ضد الصلاح، وهو من كل شيء بحسبه؛ ففساد الزروع بيبسها وتلفها بالعواصف والأمطار المغرقة والبرد المتلف، وكذلك فساد المواشي بهلاكها ومرضها، وفساد الثمار بنقصها، وما أشبه ذلك، المهم الفساد في كل شيء بحسبه.
وهل الفساد هنا يراد به الفساد الحسي أو يشمل الفساد الحسي والمعنوي؟ الصحيح أنه يشمل الفساد الحسي والمعنوي؛ فالحسي ما ذكرنا أمثلته قبل، والمعنوي هو كثرة المعاصي والفسوق وانتشارها بين الناس وعدم المبالاة بها حتى يصبح المنكر معروفًا والمعروف منكرًا، فإن هذا من أعظم الفساد، قال الله تعالى: ﴿وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا﴾ [الأعراف ٥٦]، قال العلماء: لا تفسدوها بالمعاصي.
وقوله: ﴿فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾ يقول المؤلف: (﴿الْبَرِّ﴾ القِفَار) أي: الفيافي الخارجة عن المدن والسكان، هذا البَر، وقيل: المراد بالبَر ما ليس ببحر، فيشمل المدن والأمصار والقفار وغيرها.
وقوله: (بقحط المطر وقلَّة النبات، ﴿وَالْبَحْرِ﴾ أي: البلاد التي على الأنهار بقلَّة مائها) فمشى المؤلف رحمه الله على أن المراد بالبَر ما سوى العمران، والمراد بالبحر العمران الذي على شواطئ البحار، وبهذا قال كثير من المفسرين، ولكن الصواب أن المراد بالبَر ما سوى البحر، والمراد بالبحر الماء؛ لأن ما ذكرناه هنا أعم مما ذكره المؤلف وغيره، وهو الأظهر أيضًا؛ فإن البحر إذا أُطْلِق في القرآن ويش يُرَاد به؟ يُرَاد به الماء، ففساد البر -كما قال المؤلف- بالقحط وقلة النبات، وفساد النبات أيضًا بعد وجوده؛ ولهذا أرسل الله على آل فرعون، أرسل الله عليهم الجراد والقمل والضفادع والدم، أربع آفات؛ الجراد يفسد الزروع بعد خروجها ويأكلها، القُمَّل يفسد القوت، إذا حُصِد (...) جاءه القُمَّل؛ وهو السوس الذي يتلفه، والضفادع بماذا؟ بالماء، امتلأت مياههم ضفادع حتى إن الإنسان ما يستطيع يشرب من الماء -والعياذ بالله- من الضفادع، والدم الصحيح أن المراد به النزيف، وإن كان بعض العلماء يقول: إن المراد بالدم أن الماء يكون عند آل فرعون كالدم، والصواب أنه النزيف؛ لأن الله ذكر إفساد الماء بماذا؟ بالضفادع، فكان القوت من أوله إلى آخره وغايته وهو الدم؛ لأن الدم يكون من القوت، فصارت الأقوات -والعياذ بالله- لا تنفعهم؛ لا قبل دخولها أجوافهم، ولا بعد الدخول.
* طالب: القُمَّل -يا شيخ- القَمْل ولَّا غيره؟
* الشيخ: لا، القُمَّل ما يسكن من السوس في القوت، يسمونه عندنا الخيش، عبارة عن دودة تكون في الحبوب تفسده وتأكله، المهم هذا من الفساد في البر.
الفساد في البحر بماذا؟ قال العلماء: يكون بموت الحيتان وفسادها، وكذلك تغير المياه وعدم اطرادها كالعادة، هذا من الفساد في البحر.
وقوله: ﴿بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ﴾ [الروم ٤١] ﴿بِمَا كَسَبَتْ﴾ الباء للسببية، و(ما) يحتمل أن تكون مصدرية، ويحتمل أن تكون موصولة؛ إذا كانت موصولة فلا بد لها من عائد محذوف، والتقدير: بما كسبته أيدي الناس، وإن كانت مصدرية ما تحتاج إلى عائد، ويكون المعنى: بكسب أيدي الناس.
وقوله: ﴿بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ﴾ قال المؤلف: (من المعاصي)، و﴿أَيْدِي النَّاسِ﴾ جمع (يد)، والمراد ما كسبوا، وهذا من أساليب اللغة العربية أن يُعَبَّر باليد عن صاحب اليد، وليس المراد ما كسبت اليد فقط؛ لأن المعاصي ما تكون بالأيدي فقط، تكون باليد، وبالرجل، وبالعين، وباللسان، وبالأذن، جميع الحواس، كل الحواس يمكن للإنسان أن يعمل بها المعصية، فيكون المراد بالأيدي هنا الأنفس لا اليد التي هي عضو من أعضاء البدن.
* طالب: ممكن هذا مجاز يا شيخ؟
* الشيخ: لا، ما هو مجاز؛ لأنها بسياقها دالة على أن المراد ما كسبوه فلا تكون مجازًا، أما قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ﴾ [المائدة ٣٣] فالمراد بـ﴿أَيْدِيهِمْ﴾ الأعضاء، فالكلمة في سياقها حقيقة في معناها.
ولهذا لو أراد أحد أن يصرف قوله: ﴿أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ﴾ إلى أن المعنى: أو تقطع أبدانهم ما استطاع، كما أنه لو أراد أن يجعل ﴿بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ﴾ بما كسبت اليد نفسها فقط دون بقية الأعضاء ما استطاع.
وهذا هو وجه قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إنه لا مجاز في القرآن ولا في اللغة العربية؛ لأنه إذا كانت الكلمة قد تعين معناها بسياقها صارت بمقتضى هذا السياق حقيقةً في هذا المعنى، وحينئذ ما نحتاج إلى تأويل.
وقوله: ﴿النَّاسِ﴾ تقدم لنا مرارًا وتكرارًا أن أصلها (أناس) لكنها حذفت الهمزة للتخفيف، كما هي في قوله: شر وخير، وأصلها أشر وأخير، وكما هي في قوله: الله فإن أصله الإله. هكذا قيل في الله، وفي النفس من هذا شيء.
قال: (﴿لِيُذِيقَهُمْ﴾ بالياء والنون ﴿بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا﴾ ) ﴿لِيُذِيقَهُمْ﴾ اللام هنا للتعليل، وما هو المعلَّل؟ المعلل متعلق هذه اللام، واللام متعلقة بماذا؟ بـ﴿ظَهَرَ﴾، هذا هو المعلل، ظهر لكذا؛ أي لأجل أن يذيقهم. وفيها قراءتان سبعيتان؛ وهي ﴿لِنُذِيقَهُمْ﴾ مضافًا فيها الفعل إلى الله عز وجل، أو ﴿لِيُذِيقَهُمْ﴾ مضافًا فيها الفعل إلى ضمير الغائب، ومع ذلك فإن هذا الغائب يعود إلى من؟ يعود إلى الله سبحانه وتعالى.
وقوله: ﴿لِيُذِيقَهُمْ﴾ يُعَبَّر دائمًا بالإذاقة عن الإصابة؛ لأن الذوق هو أعلى أنواع الإدراك الحسي، فإن الإنسان يسمع بالشيء، ثم يراه، ثم يذوقه، أقول لك: عندي تفاحة، إدراكك للتفاحة الآن بالسماع، ثم أخرجها وأريك إياها يكون بالرؤيا، وأيهما أقوى؟ الرؤيا أقوى من السماع، ثم أعطيكها فتأكلها، ويش يصير هذا؟ بالذوق، وهذا أعلى ما يكون؛ لأني إذا قلت: عندي تفاحة ولا شفتها أنت يحتمل أن قولي هذا كذب، وإذا أريتك إياها ولكنك ما ذقتها يحتمل أن تكون نباتًا آخر يشبه التفاحة، ويحتمل أن تكون من التفاح الصناعي الذي يصنعونه من البلاستيك تشاهده كأنها تفاح حقيقي، فإذا ذقتها صارت حق اليقين؛ ولهذا يعبر الله عز وجل دائمًا عن الإصابة بالإذاقة؛ لأنها أعلى أنواع الإدراك.
وقوله: (﴿بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا﴾ أي: عقوبته) لأن الذي عملوا غير الفساد الظاهر في البر والبحر ولكن الفساد هو عقوبته.
لكن يقول قائل: لماذا عبَّر عن العقوبة بالفعل؟ نقول: عبَّر عن العقوبة بالفعل بعض الذي عملوا لوجهين:
الوجه الأول: بيان سبب هذه العقوبة.
الوجه الثاني: أن هذه العقوبة بقدر العمل تمامًا؛ ولذلك عبَّر عنها بالعمل إشارةً إلى أنها بقدره ليس بها ظلم، وهذا كثير في القرآن يعبِّر الله تعالى عن العقوبة بالفعل من أجل هذين الوجهين:
الوجه الأول: بيان أن سبب العقوبة هذا العمل.
والثاني: أن العقوبة بقدر العمل.
وقوله: ﴿بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا﴾ يعني: لا كله، إي نعم، لا كل؛ لأن الله يقول: ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ﴾ [فاطر ٤٥]، وقال: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ [الشورى ٣٠]، وهذا حق لو أن الله تعالى آخذ الناس بقدر ذنوبهم ما ترك عليها من دابَّة، كان كل الناس يموتون ولا يبقون، ولكنه سبحانه وتعالى يصيبهم ببعض ذنوبهم فقط.
الحكمة قال: ﴿لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الروم ٤١] (يتوبون)، و(لعل) هنا للتعليل، وكلما جاءت (لعل) في كلام الله فإنها للتعليل أو توقُّع الشيء إذا كان من المتوقع؛ أي: لأجل أن يرجعوا إلى الله عز وجل.
وهذه من حكم الله؛ أن الله تعالى يبتلي العباد بالضراء لأجل أن يرجعوا إلى الله، وكم من إنسان صارت عقوبته بالضراء سببًا لرجوعه إلى ربه، بل إنها أحيانًا تكون سببًا مباشرًا، ﴿وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ﴾ أين يذهبون؟ ﴿دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ [لقمان ٣٢]، هذا رجوع، لكنهم -والعياذ بالله- إذا نجوا عادوا إلى كفرهم، ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾.
قال الله تعالى: (﴿قُلْ﴾ لكفار مكة ﴿سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ﴾ [الروم ٤٢]) الخطاب في قوله: ﴿قُلْ﴾ للرسول عليه الصلاة والسلام، ويحتمل أن يكون له ولكل من دعا إلى شريعته ودعا الناس إلى الاتعاظ والاعتبار.
وقوله: ﴿سِيرُوا فِي الْأَرْضِ﴾ السير معناه المشي، و﴿فِي الْأَرْضِ﴾ (في) بمعنى (على)؛ يعني: على الأرض، وليس المراد في داخلها، وقيل: إن (في) للظرفية، وإن الظرف يختلف بحسب المظروف وبحسب الظرف أيضًا، يعني مثلًا إذا قلنا: الماء في الكوز، صار في جوف الكوز، كوز ماء؛ الكأس أو الطاس مثلًا أو القِدر، فهنا صار الماء في جوفه، وإذا قلنا: الكتابة في الورق؛ اختلفت، وإذا قلنا: الوجه في المرآة؛ اختلفت، فيرى بعض العلماء أن (في) هنا للظرفية ولكن ظرف كل شيء بحسبه.
والسير المأمور به هنا لا أحد يتصور أن المراد أن احفروا لكم خندقًا في الأرض وادخلوا فيه، ما أحد يتصور هذا، فهنا وجهان في كلمة (في):
الوجه الأول: أن تُجْعَل بمعنى (على)؛ سيروا على الأرض، أي: على ظهرها.
الوجه الثاني: أن تُجْعَل (في) للظرفية، ويقال: إن ظرفية بكل مكان بحسبه. هذا تفسير (في).
تفسير ﴿سِيرُوا فِي الْأَرْضِ﴾ ﴿سِيرُوا﴾ هل المراد السير بالأقدام أو السير بالعقول؛ بالتفكير؟ كلهن، يشمل السير بالأبدان بأن يذهب الإنسان إلى مساكن القوم ليتعظ ويعتبر، أو السير بالقلوب؛ بأن يقرأ تواريخهم وأحداثهم حتى يعتبر بهم. وكم من سير بالقلب صار أعظم من السير بالقدم، ولكن السير بالقدم لأجل التفرج والنزهة هذا محرم، كما يفعله بعض الناس الآن؛ يذهبون إلى ديار ثمود من أجل التفرج والنزهة والاطلاع على ما لهم من قوة سابقة، مع أن الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: «لَا تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ إِلَّا وَأَنْتُمْ بَاكُونَ، فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا بَاكِينَ فَلَا تَدْخُلُوهَا»[[متفق عليه؛ البخاري (٤٣٣)، ومسلم (٢٩٨٠ / ٣٨) من حديث ابن عمر.]]. أين الذين يذهبون إلى ديار ثمود وهم يبكون؟ والرسول ﷺ لما مرَّ بها في ذهابه إلى تبوك مشى مسرعًا وقنَّع رأسه، نزلها عليه الصلاة والسلام وأسرع، وعلى هذا فنقول: إذا سرت في أرض هؤلاء المعاقَبين فسرْ سيرَ متعظٍ معتبرٍ، كما أمر النبي عليه الصلاة والسلام.
﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ﴾ ﴿فَانْظُرُوا﴾ نظر اعتبار وتفكر ولَّا نظر عين؟ على حسب ما قلنا في السير؛ إن كان سيرًا بالقدم فهو نظر بالعين، إن كان سيرًا بالقلب فهو نظر بعين البصيرة؛ التفكر والتأمل. ويمكن أن نقول أيضًا: إن حتى إذا فسرنا السير هنا بالسير الحسي على الأقدام فإنه لا بد أن يكون مقرونًا بالنظر بعين البصيرة والاعتبار؛ إذ النظر بالعين المجردة لا يفيد شيئًا.
﴿فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ﴾ ويش محل (كيف) من الإعراب؟ محلها النصب خبر (كان) مقدمًا، و(عاقبة) اسمها، والجملة معلِّقة عن العمل، معلِّقة لكلمة (انظروا)، الجملة المعلِّقة في تأويل الاسم المفرد، والتقدير: فانظروا حالهم كيف كان.
وقوله: ﴿كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ﴾ (عاقبة) هنا مصدر؛ ولهذا ذُكِّر الفعل، أي بمعنى عقبى، ﴿الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ﴾ (من) حرف جر، و(قبل) اسم مرفوع بـ(من) وعلامة رفعه ضمة ظاهرة في آخره.
* طالب: مبني على الضم لقطعه عن الإضافة.
* الشيخ: إي، مبني على الضم لقطعه عن الإضافة.
* طالب: (...).
* الشيخ: حذف المضاف ونوي معناه فيُبْنَى على الضم؛ لأنهم يقولون في (قبلُ) و(بعد): إن وُجِد المضاف لفظًا فهي معربة غير منونة، وإن حُذِف لفظًا ومعنى فهي معربة منونة. هذان حالان متقابلان؛ إذا وُجِد المضاف إليه فهي معربة غير منونة، تقول: أتيت من قبلِ زيدٍ ومن بعدِه، وإذا حذف المضاف لفظًا ومعنى فهي معربة منونة.
وإذا حُذِف المضاف إليه ونُوِي لفظه فهي معربة غير منونة كما لو وُجِد لفظه معربة غير منونة، وإذا حُذِف المضاف إليه ونُوِي معناه فهي مبنية على الضم، إي نعم، لها أربع حالات.
﴿كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ﴾ كأن الإنسان يتوقع: فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم أُهْلِكوا وأُتْلِفوا وما أشبه ذلك، ولكن البيان جاء على غير المتوقع، ماذا تتوقعون أنتم لما قال الله عز وجل: ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ [الروم ٩]؟
* طالب: (...).
* الشيخ: لا، (...) تتوقعون: أهلكناهم ودمرناهم وما أشبه ذلك، يعني هذه عاقبتهم، لكن جاء الأمر على خلاف المتوقع ﴿كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ﴾ جاء مبينًا لسبب هذه العاقبة؛ لأنها هي الحال التي عليها هؤلاء المكذبون وهو الشرك؛ يعني فأنتم الآن مشركون، وهم كانوا مشركين فدُمِّروا، فمعنى ذلك أن عاقبتكم أنتم ستكون مثلهم مآلها التدمير والهلاك، وهذا من بلاغة القرآن أن الله تعالى ذكر سبب هلاك أولئك القوم الذي كان عليه،
الآن هؤلاء المخاطبون مشركون، كانوا على الشرك إلى الآن، ما وجدوا العاقبة، لكن إذا علموا أن سبب عاقبة هؤلاء هو الشرك فلا شك إذا كان لهم عقول أن ينتهوا عن الشرك.
﴿كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ﴾ يقول: (فأُهْلِكوا بإشراكهم، ومساكنهم ومنازلهم خاوية)، قوله تعالى: ﴿كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ﴾ طيب والبعض الآخر؟ ظاهر الآية الكريمة أن البعض الآخر -وهو الأقل- لم يكن مشركًا، فهاهنا إشكال: هل أُهْلِك الموحدون مع المشركين، مع أن الله تعالى ذكر في آيات كثيرة في الأمم السابقة ﴿فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ﴾ [الأعراف ٦٤]، ﴿وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ﴾ [الزمر ٦١]، فظاهره أن المؤمنين لم يهلكوا، أو نقول: ﴿كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ﴾ [الروم ٤٢] باعتبار القادة والرؤساء الذين يعرفون أنهم على شرك، أما العامة الذين لا يدرون فهم تابعون وراضون وإن لم يكن عندهم شرك، لكن هم يظنون أن هذا هو الحق، فأي الاحتمالين أولى؟ أو احتمال ثالث؛ أن يقال: إن الله تعالى أمرنا أن ننظر كيف كان عاقبة السابقين، وإذا نظرنا وجدنا أن أكثرهم مشرك فأُهْلِك، وأن المؤمن نجا، فيكون في هذا تحذير من الشرك وترغيب في الإيمان والتوحيد؟
فهاهنا ثلاثة احتمالات:
الاحتمال الأول: أن الجميع أُهْلِك، وهذا يشكل عليه آيات كثيرة في أن الله تعالى أنجى المؤمنين. هذا واحد.
الوجه الثاني: أن المراد بـ﴿أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ﴾ الذين يعرفون أنهم على شرك دون الغوغاء والعامة الذين لا يدرون ما هم عليه وإنما هم أتباع كل ناعق.
الوجه الثالث: أن يقال: العاقبة حميدة وذميمة، والله يقول: ﴿كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ﴾، ونحن نعلم أن من حكمة الله عز وجل أن يجازي المشرك على شركه والمؤمن على إيمانه، وحينئذٍ يكون في الآية ترغيب في الإيمان والتوحيد وترهيب عن الشرك والكفر، فأي الاحتمالات أولى؟
الظاهر أن الأخير أولى؛ يعني: ينظروا كيف كان عاقبة السابقين، وأن من كان مشركًا منهم أُخِذ بشركه، ومن كان مؤمنًا نُجِّي بإيمانه؛ من أجل أن يؤمنوا هم، ومن أجل أن يثبت المؤمنون من هذه الأمة على إيمانهم.
وقال المؤلف: (فأُهْلِكوا بإشراكهم، ومساكنهم ومنازلهم خاوية) هذا هو الواقع، فقوم صالح، مثلًا صالح والذين معه نجوا ولَّا ما نجوا؟ نجوا، وقومهم أخذتهم الرجفة والصيحة، فأصبحوا في دارهم جاثمين، ﴿فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا﴾ [النمل ٥٢] تجدها الآن خاوية ولم تُسْكَن -فيما نعلم- بعدهم، ما سكنت إلى الآن.
ثم قال تعالى: (﴿فَأَقِمْ وَجْهك لِلدِّينِ الْقَيِّم﴾ دِين الْإِسْلَام) (أقم) الخطاب لمن؟ للرسول ﷺ أو لكل من يتوجه إليه الخطاب، وقد سبق توجيه القول الأول؛ إذا جعلنا الخطاب للرسول عليه الصلاة والسلام فإما أن يكون المراد به الرسول نفسه، وتكون أمته تبعًا له، وإما أن يراد به الرسول والأمة، لكن خوطب به الرسول؛ لأنه زعيمهم وإمامهم.
وقوله: ﴿فَأَقِمْ وَجْهك لِلدِّينِ الْقَيِّم﴾ ما المراد بالوجه، هل المراد الاتجاه أو المراد الوجه الحسي الذي في الرأس؟ الظاهر المراد الاتجاه؛ لأن الوجه يراد به الجهة، كما قال تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾ [البقرة ١١٥]، فإنه سبق لنا أن فيها قولين للمفسرين: قول: إن المراد به وجه الله الحقيقي، وقول: إن المراد به الجهة، فلا شك أن الوجه يراد به الجهة.
وقوله: ﴿لِلدِّينِ الْقَيِّم﴾..
* طالب: (...).
* الشيخ: لا، إذا قلنا: إن المراد بالوجه الجهة -جهته للدين- شمل ما إذا كان الوجه الحسي بما يطلب منه الاتجاه للقبلة.
وقوله: ﴿لِلدِّينِ الْقَيِّم﴾ ما المراد بالدين هنا؟ المراد بالدين العمل، وقد سبق لنا أن الدين في القرآن يُرَاد به العمل والجزاء، فقوله تعالى: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ [الفاتحة ٤] ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ﴾ [الانفطار ١٧] المراد بالدين الجزاء، وأما ﴿وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ [المائدة ٣] ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾ [آل عمران ١٩] فالمراد به العمل، كما في هذه الآية.
وقوله: ﴿الْقَيِّم﴾ ويش ضده؟ المعوج، كما قال تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ﴾ [الأنعام ١٥٣].
* طالب: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (١) قَيِّمًا﴾ [الكهف ١، ٢].
* الشيخ: نعم الكتاب قيمًا، لكن نريد الدين ﴿قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا﴾ [الأنعام ١٦١]؛ يعني: قيم، فدين الإسلام دين مستقيم ليس فيه اعوجاج؛ لا بالنسبة لمعاملة الله عز وجل وهي العبادة، ولا بالنسبة لمعاملة المخلوق؛ ولهذا تجد في المعاملات حرَّم الكذب والغش والخديعة وما أشبه ذلك، وحرم الجور والظلم وتحريم تقتيل الأولاد وما أشبه ذلك؛ لأن كل هذا خلاف الاستقامة، وفي العبادات حرَّم الشرك والابتداع؛ لما في ذلك من انحراف عن الصراط المستقيم.
* طالب: (...)؟
* الشيخ: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾ [آل عمران ١٩] هذا يشمل العقيدة، ويشمل الأعمال الظاهرة، مثلما قلنا فيما سبق: إن الإسلام إذا قُرِن بالإيمان صار الإسلام الأعمال الظاهرة والإيمان الأعمال الباطنة، وإذا أُفْرِد أحدهما شمل الآخر.
(﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ﴾ [الروم ٤٣] وهو يوم القيامة ﴿يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ﴾ )، قوله: ﴿مِنْ قَبْلِ﴾ متعلق بـ(أقم)؛ يعني: أقمه من قبل هذا اليوم، وقوله: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ﴾ نُكِّر للتعظيم؛ لأن هذا اليوم كما وصفه الله عز وجل في قوله: ﴿لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (٥) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [المطففين ٥، ٦].
وقوله: ﴿لَا مَرَدَّ لَهُ﴾ (مرد) هذا مصدر ميمي ولَّا؟ نعم مصدر ميمي؛ أي: لا رَدَّ له، يعني ما يمكن أن يرد هذا، جوابه لأن الله تعالى قضى به.
وقوله: ﴿مِنَ اللَّهِ﴾ متعلق بصفة لقوله: ﴿يَوْمٌ﴾ هذه صفة، متعلق بصفة لـ﴿يَوْمٌ﴾؛ يعني: من قبل أن يأتي يوم من الله؛ يعني هذا اليوم من الله لا من غيره.
ويحتمل أن يكون متعلقًا بـ﴿يَأْتِي﴾ أن يأتي من الله يومٌ، والأول أبلغ؛ أن يكون صفة لـ﴿يَوْمٌ﴾؛ لأن كونه من الله يدل على عظمته، وأنه لا يمكن أن يرد هذا اليوم.
وقوله: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ﴾ إذا قال قائل: هذه الآية خُوطب بها الناس في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، ومعلوم أن القيامة ما تقوم في عهد الرسول ﷺ، فكيف قال: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ﴾؟
فالجواب على هذا أن نقول: إن الموت واقع حتى في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، ومن مات قامت قيامته وانقطع عمله، فلا فرق بين من يموت في ذلك الوقت وبين من يموت وهو آخر الناس موتًا بالنسبة لانقطاع العمل، كل منهم انقطع عمله، فكأنه -أي كأن من يموت في عهد الرسول ﷺ- بلغ يوم القيامة؛ ولهذا يقول العلماء: إن موت الإنسان قيامة بالنسبة إليه، وهو قيامة صغرى بالنسبة إلى عموم الناس؛ لأن العمل انقطع، انتهى.
وقوله: ﴿لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ﴾ يفيد بأن هذا أمر لا بد أن يقع، وهو كذلك؛ لأن يوم القيامة هو الذي من أجله خُلِق الناس لعبادة الله، وجزاؤها يكون يوم القيامة.
قال: ﴿يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ﴾ قال: (فيه إدغام التاء في الأصل في الصاد، ومعناه: يتفرقون بعد الحساب إلى الجنة والنار) ﴿يَوْمَئِذٍ﴾ (إذ) منونة، والتنوين هنا عوض عن جملة؛ يعني: يوم إذ يأتي يصدعون.
ويقول المؤلف: (فيه إدغام التاء في الأصل في الصاد) ويش معنى (إدغام التاء في الأصل في الصاد)؟ أصلها يتصدعون، فقوله: (إدغام التاء في الأصل) أي: باعتبار الأصل؛ يعني أن الصاد التي أدغمت في أختها أصلها تاء، فأدغمت بها بعد قلبها صادًا، ومعنى ﴿يَصَّدَّعُونَ﴾ يتفرقون.
* طالب: أصله صدع يتصدع.
* الشيخ: أصلها يتصدعون، ومعنى التصدع التفرق، ومنه: تصدع الأرض؛ لأن تصدعها تتفرق أجزاؤها، فتنفجر، فهم يوم القيامة..
أن الفساد سببه أعمال بني آدم؛ لقوله: ﴿بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ﴾ [الروم ٤١]، ويدل لهذا أيضًا قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [الأعراف ٩٦].
* ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات العلل والأسباب، وأن أفعال الله عز وجل معلَّلة، لا بد لها من علة. من أين تؤخذ؟ من قوله: ﴿بِمَا كَسَبَتْ﴾. ولا شك أن أفعال الله تعالى وأحكامه معللة؛ لأن من أسمائه الحكيم.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن الناس لا يعاقبون إلا بأسبابهم؛ لقوله: ﴿بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ﴾، فيتفرع على ذلك أن من أراد أن ترفع عنه العقوبة فليتب إلى الله؛ فإن التوبة من أسباب رفع العقوبة وجلب المثوبة، ولهذا قال هود لقومه: ﴿وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ﴾ [هود ٥٢] وقال نوح لقومه: ﴿فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (١٠) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (١١) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا﴾ [نوح ١٠- ١٢].
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن الجزاء من جنس العمل، وبقدر العمل؛ لقوله: ﴿لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا﴾ [الروم ٤١].
* ومن فوائد الآية الكريمة: بيان سعة رحمة الله، وأن رحمته سبقت غضبه؛ لقوله: ﴿بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا﴾، ولو أن الغضب كان بقدر الرحمة لكان الله يذيقنا كل الذي عملنا، ولو كان غالبًا للرحمة لكان يذيقنا أكثر مما عملنا أو لا؟
فالأمور ثلاثة الآن: إذاقة البعض أو المثل أو الأكثر، المثل أو الأكثر ممتنع، وإنما يذيق الله تعالى البعض لأنه ثبت في الحديث الصحيح: «أَنَّ اللهَ تَعَالَى كَتَبَ كِتَابًا عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ: إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي»[[متفق عليه؛ البخاري (٧٤٢٢)، ومسلم (٢٧٥١ / ١٥) من حديث أبي هريرة.]]، ولولا هذا لكان الله تعالى يؤاخذ الناس بما عملوا.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن العقوبات قد تكون سببًا للرجوع إلى الله، من أين؟ ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الروم ٤١]، كما أنها قد تكون بالعكس، قد تكون سببًا في الازدياد في العتو والنفور، والعياذ بالله، يدل على ذلك قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ﴾ [الحج ١١] والجامع بين هذه الآية والتي نحن نفسر أن يقال: إن العقوبات على سبيل العموم مفيدة، لكن على سبيل الخصوص قد لا تفيد؛ لأن الله قال: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ﴾ من الناس، على أن قوله: ﴿وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ﴾ يحتمل أن يراد بها فتنة الدين بحيث ما يكون عنده مقاومة، فيقع في الهاوية والعياذ بالله، لكن الأظهر أنها عامة ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً﴾ [الأنبياء ٣٥].
ثم قال تعالى: ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ﴾ [الروم ٤٢]:
* في هذه الآية الكريمة: الأمر بالاعتبار بما جرى للسابقين ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ﴾.
* وفيه من فوائد الآية: أنه ينبغي للإنسان أن يقرأ كتب التاريخ الماضية للاعتبار، ولكن كما نعلم جميعًا كتب التاريخ بعضها مزيف، ليس على حقيقته، فمصدر التاريخ في الأمم السابقة ما أخبر الله به ورسوله، قال الله تعالى في سورة إبراهيم: ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ﴾ [إبراهيم ٩]، فنفى أن يكون لأحد علم بهم إلا الله، إذن من أين نأخذ أخبارهم؟ ما دام ما يعلمهم إلا الله نأخذها من الله إما من الكتاب أو من السنة.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن أسباب هلاك الأمم السابقين كان إشراك أكثرهم؛ لقوله: ﴿كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ﴾.
* ومنها أن العقوبة إذا حلت قد تصيب الصالح وغيره؛ لأنه قال: ﴿كَانَ أَكْثَرُهُمْ﴾ يعني والبعض لم يشرك.
* ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [الأنفال ٢٥]، وقد ينجي الله المؤمنين كما أنجى الله تعالى الرسل ومن آمن معهم، أنجاهم.
ثم قال تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ﴾ إلى آخره [الروم: ٤٣]:
* في هذا وجوب الاتجاه إلى الدين ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ﴾، ويلزم من وجوب الاتجاه إليه وجوب الإعراض عما سواه؛ لأن الوجهة واحدة؛ إما إلى هنا وإما إلى هنا، فإذا لزم أن تتجه إلى الدين لزم أن تنحرف عن غيره.
* ومن فوائد الآية: تحريم الحكم بغير ما أنزل الله؛ لأنه مخالف للاتجاه إلى الدين القيم، والحكم بغير ما أنزل الله منه ما يكون كفرًا، ومنه ما يكون فسقًا، ومنه ما يكو ظلمًا؛ كما ذكر الله تعالى ذلك في سورة المائدة: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ [المائدة ٤٤]، وفي الآية الثانية: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [المائدة ٤٥]، وفي الآية الثالثة: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [المائدة ٤٧]، وهذه الأوصاف تتنزل على حال الحاكم، فقد يكون كافرًا أو ظالمًا أو فاسقًا.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن هذا الدين قيم، ويش معنى قيم؟ معتدل لا اعوجاج فيه، لا في جانب العبادة ولا في جانب المعاملة.
* ومن فوائدها: أنك إذا ظننت أن في الدين ما يخالف الاستقامة فاعلم أنك قاصر؛ إما في علمك وإما في فهمك، وجه ذلك أن الله وصف هذا الدين بأنه قيم، كل شيء تستعرضه في دين الله فيبدو لك أنه ليس على الاستقامة فاعلم أنك مخطئ؛ لقصور علمك، أو لقصور فهمك، والإنسان يُؤتَى من هاتين الناحيتين؛ إما لقصور علمه، ما عنده علم، وإما لقصور فهمه، عنده علم لكن ما يفهم.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أنه ينبغي لمن أمر بشيء أن يذكر ما يغري به ويرغب فيه، من أين يؤخذ؟
* طالب: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ﴾ [الروم ٤٣].
* الشيخ: لا، نعم هذا صحيح لكن قبل ذلك لقوله: ﴿الْقَيِّمِ﴾، فالإنسان إذا عرف أنه قيم لا شك أنه يتجه إليه، فأنت إذا أردت أن تأمر بشيء فاذكر الأسباب التي توجب للناس الإقبال عليه بأوصافه المحبوبة وثمراته الحميدة.
* ومن فوائد الآية الكريمة: الجمع بين الترغيب والترهيب: الترغيب ﴿الْقَيِّمِ﴾، والترهيب ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ﴾ [الروم ٤٣].
* ومن فوائدها: إثبات يوم القيامة وأنه آتٍ لا محالة ﴿لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ﴾.
* ومن فوائدها: أن يوم القيامة يوم عظيم، من أين؟ من تنكير يوم ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ﴾، والتنكير يفيد التعظيم، ويدل لذلك -لعظم هذا اليوم- قوله تعالى: ﴿أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (٤) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (٥) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [المطففين ٤ - ٦].
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن الحكم لله سبحانه وتعالى؛ لقوله: ﴿لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ﴾ [الروم ٤٣]، فلا أحد يستطيع أن يمنع ما أراد الله، ولا أن يجلب ما لم يرد الله أبدًا «اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ»[[متفق عليه؛ البخاري (٨٤٤)، ومسلم (٥٩٣ / ١٣٧) من حديث المغيرة بن شعبة.]].
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن الناس يوم القيامة ينقسمون ويتفرقون؛ لقوله: ﴿يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ﴾، فيه في الآية الأولى أول ما أخذنا ﴿بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ﴾ فيها دليل على بطلان مذهب الجبرية، كيف؟ الجبرية يقولون: إن الإنسان مجبَر على عمله، ما هو يفعل باختياره، ولا يضاف الفعل إليه، إلا على سبيل المجاز، فيقال: صلى، صام، زكى، مجازًا لا حقيقة، الآية الكريمة ترد عليهم من وجهين:
الوجه الأول: قوله: ﴿بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ﴾ فأضاف الكسب إلى أيدي الناس.
الوجه الثاني: أن الله تعالى عاقبهم على هذا الفعل، ولو كانوا مجبرين عليه لكانت عقوبتهم ظلمًا لهم، كيف يعاقبون على ما ليس باختيارهم؟ ففيها رد من وجهين؛ وجه لفظي، وهو إضافة الكسب إلى أيديهم، ووجه معنوي، وهو أنه يلزم من عقوبتهم على ذلك لو كانوا مجبرين أن يكون الله تعالى ظالمًا لهم، والله تعالى ليس بظلام للعبيد، وكذلك أيضًا يؤخذ من قوله: ﴿بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا﴾ أضاف العمل إليهم.
{"ayahs_start":41,"ayahs":["ظَهَرَ ٱلۡفَسَادُ فِی ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ بِمَا كَسَبَتۡ أَیۡدِی ٱلنَّاسِ لِیُذِیقَهُم بَعۡضَ ٱلَّذِی عَمِلُوا۟ لَعَلَّهُمۡ یَرۡجِعُونَ","قُلۡ سِیرُوا۟ فِی ٱلۡأَرۡضِ فَٱنظُرُوا۟ كَیۡفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلُۚ كَانَ أَكۡثَرُهُم مُّشۡرِكِینَ","فَأَقِمۡ وَجۡهَكَ لِلدِّینِ ٱلۡقَیِّمِ مِن قَبۡلِ أَن یَأۡتِیَ یَوۡمࣱ لَّا مَرَدَّ لَهُۥ مِنَ ٱللَّهِۖ یَوۡمَىِٕذࣲ یَصَّدَّعُونَ"],"ayah":"ظَهَرَ ٱلۡفَسَادُ فِی ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ بِمَا كَسَبَتۡ أَیۡدِی ٱلنَّاسِ لِیُذِیقَهُم بَعۡضَ ٱلَّذِی عَمِلُوا۟ لَعَلَّهُمۡ یَرۡجِعُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق