الباحث القرآني

ثم قال تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾، هذا أمر آخر للنبي ﷺ من ربه أن يوبِّخ أهل الكتاب على عدوانهم على غيرهم؛ لأن التوبيخ الأول ﴿لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ﴾ توبيخ على عملهم القاصر عليهم، الثاني: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ توبيخ على عدوانهم على الغير حيث يصدون عن سبيل الله، قال: ﴿لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾، يعني: لأي شيء وبأي حجة ﴿تَصُدُّونَ﴾ أي: تصرفون ﴿عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾، أي: عن دينه وشريعته. وسمي الدين سبيلًا لله؛ لأنه موصِل إليه، وأضيف إلى الله لوجهين؛ الوجه الأول: أن الله هو الذي وضعه سبيلًا للخلق يمشون عليه، والوجه الثاني: أنه أيش؟ موصِل إلى الله، فمن سلك السبيل الذي وضعه الله للعباد فسيصل إلى الله عز وجل. إذن سبيل الله ما المراد به؟ المراد به دينه؛ لأنه الطريق الموصل إليه، وقوله: ﴿مَنْ آمَنَ﴾ (مَن) هذه مفعول ﴿تَصُدُّونَ﴾، يعني: تصرفون الذي آمن عن سبيل الله، وهذا شأن بني إسرائيل من اليهود والنصارى يصدون عن سبيل الله من آمن، وإنما ذكر مَن آمن مع أنهم يصدون من آمن حتى يرتد عن إيمانه، ويصدون من لم يؤمن حتى لا يدخل في الإيمان؛ لأن صد من آمن أشد عدوانًا من صد من لم يؤمن؛ لأن من آمن يصدونه ليكون مرتدًّا، ومن لم يؤمن يصدونه عن سبيل الله من أجل أن يبقى على كفرهم، والبقاء على الكفر أهون من الردة كما هو ظاهر. وقوله: ﴿مَنْ آمَنَ﴾ يشمل الرجال والنساء، ولكن خطابات القرآن غالبها للرجال؛ لأن الرجل هو الأصل وهو الأمير على المرأة، ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ [النساء ٣٤]. ﴿تَبْغُونَهَا عِوَجًا﴾، ﴿تَبْغُونَهَا﴾ الجملة حال من الواو في قوله: ﴿تَصُدُّونَ﴾، يعني: حال كونكم تبغون سبيلَ الله أي: تطلبونها، ﴿عِوَجًا﴾ أي: لأجل العوج، فتكون مفعولًا من أجله، ويجوز أن تكون مفعولًا به أي: تطلبونها عوجًا، أي: تصيِّرونها عوجًا، والعوج ضد المستقيم، ويقال: عِوَج في المعاني، وعَوَج في الأعيان، فتقول مثلًا: هذا العصا عَوَج؛ لأنه عين، وتقول: هذا القول عِوَج؛ لأنه معنى، ففي المعاني بكسر العين، وفي المحسوسات بفتحها. وأصل العِوَج الميل، وضده الاستقامة، والعِوَج عن شريعة الله يشمل معنيين؛ المعنى الأول في الأوامر، أو موضوعه أمران؛ الأول في الأوامر، والثاني في النواهي، أما في الأوامر فاعوجاجها إما بالتهاون بها والتفريط، وإما بالإفراط فيها والغلو. فالناس بالنسبة لأوامر الله ثلاثة أقسام: قسم وسط، وقسم مُفَرِّط، وقسم مُفْرِط، يعني غالي متجاوز للحد، فالوسط هو المستقيم، والْمُفَرِّط عَوَج، والزائد عَوَج أيضًا، هذا في الأوامر، في النواهي، العَوَج في النواهي هو انتهاكها وارتكابها، هذا عوج؛ لأن الصراط المستقيم في النواهي أن تدعها وأن تتجاوزها، فإذا أنت فعلتها وانتهكتها فهذا هو العوج فيها، فهؤلاء اليهود والنصارى أهل الكتاب يريدون من الناس العوج في الأوامر وفي النواهي؛ في الأوامر بأيش؟ بالتفريط والتهاون أو بالغلو والإفراط، وفي النواهي بانتهاكها والتهاون بها. ﴿تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ﴾، الواو هذه للحال، يعني: والحال أنكم شهداء على ما تفعلون، فأنتم تعلمون أنكم بفعلكم هذا تصدون عن سبيل الله، تعلمون هذا وتشهدون به، ووجه ذلك أنه يوجد في كتبهم أن محمد بن عبد الله ﷺ سوف يُبعث، وأنه رسول الله، وأنه الذي بشّر به عيسى، لكنهم يحرّفون الكلم عن مواضعه من أجل صد الناس عن الإيمان بمحمد ﷺ، فصاروا يصدون عن سبيل الله وهم شهداء يشهدون بالحق، لكن - والعياذ بالله - استكبروا عنه. ﴿وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ﴾ شهداء على أيش؟ على أنكم تصدون عن سبيل الله؛ لأنكم تعلمون أن ما جاء به محمد ﷺ فهو سبيل الله، ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾، يعني نفى الله أن يكون غافلًا عن عملهم القليل والكثير. وهنا نجد أن هذه الصفة من الصفات السلبية؛ لأن صفات الله كما مر علينا قسمان: ثبوتية، وسلبية، يعني شيء ثابت لله وشيء منفي عنه، فهنا الصفة سلبية، ما الذي نُفِيَ عن الله؟ الغفلة. والقاعدة عند أهل السنة أن الصفات السلبية تتضمن شيئين، الأول: انتفاء هذه الصفة التي نفاها الله عن نفسه، والثاني ثبوت الكمال في ضدها؛ لأنها ما نُفِيَت عنه إلا لأنه كامل، فيكون قوله: ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ متضمنًا لنفي الغفلة عن الله، والثاني ثبوت كمال المراقبة؛ لأن من كان كامل المراقبة فإنه ليس عنده غفلة، فيكون هذه الآية مثبتة لله تعالى كمال المراقبة كما قال تعالى: ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا﴾ [الأحزاب ٥٢]، وانتفاء الغفلة عنه، والجملة تفيد التهديد لهؤلاء الذي يصدون عن سبيل الله من آمن ويبغونها عوجًا. * في هذه الآية من الفوائد: أمر رسول الله ﷺ أن يوبخ أهل الكتاب على عدوانهم على الغير، وذلك بالصد عن سبيل الله. * ومن فوائدها: أن من صد عن سبيل الله من المسلمين ففيه شبَه من أهل الكتاب اليهود والنصارى، فإذا وُجِد أحد يثبطك عن فعل الخير أو يرغِّبك في فعل الشر ففيه شبه من اليهود والنصارى؛ لأن هذه سبيلهم. * ومن فوائد هذه الآية: إثبات أن الشياطين ليست شياطين الجن فقط، فكما أن للجن شياطين يصدون عن سبيل الله ففي الإنس أيضًا شياطين يصدون عن سبيل الله، وإلى هذا يقول الله تبارك وتعالى في سورة الأنعام: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا﴾ [الأنعام ١١٢]. * ومن فوائد هذه الآية: الحث على لزوم الشرع؛ لأنه سبيل الله، وكل إنسان عاقل فإنه يسعى إلى الوصول إلى الله عز وجل؛ لأنه غاية المطالب، ولا وصول إلى الله إلا بسلوك شرعه؛ سبيله الذي يوصل إليه. * ومن فوائد هذه الآية: أن مَن صد عن سبيل الله من آمن به فإنه في غاية ما يكون من العدوان، وهو أعظم ممن صد عن سبيل الله من لم يؤمن؛ لأن هذا رفْع والأول منْع، والرفع أشد، رفع الخير أشد عقوبة من منعه وأشد جناية. * ومن فوائد هذه الآية: سوء القصد في أهل الكتاب، حيث يبغون أن تكون سبيل الله عِوجًا، وهذا الوصف لأهل الكتاب لا يزال منطبقًا عليهم إلى اليوم، فللنصارى دعاة ينصِّرون الناس ويسعون بكل جهدهم إلى أن يصدوا عن سبيل الله من آمن؛ لأنهم يريدون أن يسلك الناس السبيل العَوَج، لا يريدون أن يسلكوا السبيل السويّ، وما زالوا إلى اليوم ولهم إذاعات خاصة تدعو الناس إلى النصرانية - والعياذ بالله - النصرانية الباطلة التي يحاربها عيسى عليه الصلاة والسلام، كما قال الله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (١١٦) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ﴾ [المائدة ١١٦، ١١٧]. فهم الآن يدَّعون أن دين عيسى عليه الصلاة والسلام القول بالتثليث، ويقولون: إن الله ثالث ثلاثة، ثم يضحكون على أنفسهم وعلى الناس يقولون: إنها ثلاثة في واحد، ثلاثة في واحد، هذا معقول هذا؟ لكن هذا من ضلال النصارى؛ لأن النصارى ضالّون حتى الأمور العقلية لا يهتدون إليها، وكيف يكون ثلاثة في واحد؟ هذا لا يمكن. على كل حال هم يريدون أن يضلوا الناس منذ عهد الرسول عليه الصلاة والسلام إلى يومنا هذا، ومن ثم يجب على المسلمين الحذر منهم، الحذر منهم والتشهير بهم حتى ينفّروا الناس منهم، وأن يقابلوا دعوتهم الإلحادية الكفرية بدعوة التوحيد والإخلاص، والإخلاص والتوحيد موافقان للفطرة السليمة لو وَجَدَا من يعرضهما عرضًا حقيقيًّا شيقًا، لكن مع الأسف أن المسلمين في غفلة، فالمسلمون الذين هم على الحق لا تجد منهم الدعاة الذين يدعون إلى الحق إلا قليلًا، وأيضًا إلا قليلًا في بلادهم، أما أولئك النصارى المنصِّرون فإنهم يجوبون مشارق الأرض ومغاربها، ويُغْرُون الناس بالمال وبحسن الخلق حتى ينخدع الناس بهم. * ومن فوائد هذه الآية: أن أهل الكتاب الذين يصدون عن سبيل الله يعلمون أنهم على باطل وأن الحق في خلافهم؛ لقوله: ﴿وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ﴾، لكن الذي يمنعهم هو الاستكبار. * ومن فوائد هذه الآية: إثبات إحاطة الله سبحانه وتعالى بكل شيء علمًا ورقابة؛ لقوله: ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾. * ومن فوائدها: أن من صفات الله ما هو سلبي أي منفي، وهذا كثير في القرآن، قال الله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى ١١]، ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾ [مريم ٦٥].
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب