الباحث القرآني

ثم قال الله عز وجل: ﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾، ﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾، ﴿الْحَقُّ﴾ خبر مبتدأ محذوف، والتقدير: ذلك الحق، أي هذا الذي قُصّ عليك هو الحق، وعلى هذا فتكون شبه الجملة، وهي: ﴿مِنْ رَبِّكَ﴾ تكون في موضع نصب على الحال من ﴿الْحَقُّ﴾، ويحتمل على بُعد أن يكون ﴿الْحَقُّ﴾ مبتدأ، و﴿مِنْ رَبِّكَ﴾ خبره، وفائدة هذا التركيب على هذا الإعراب فائدته أنك لا تطلب الحق من غير الله، فكأنه يقول: مصدر الحق من الله فلا تطلبه من غيره، ﴿الْحَقُّ﴾ يوصف به الحُكم ويوصف به الخبر؛ فإن وُصف به الحكم صار معناه العدل، وإن وُصف به الخبر صار معناه الصدق، والصدق والعدل كلاهما ثابت، ولهذا وُصِفَا بالحق، وأصل الحق من حَقَّ الشيءُ إذا ثبت، كما قال الله تعالى: ﴿كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [يونس ٣٣] ﴿حَقَّتْ﴾ يعني؟ * الطلبة: ثبتت. * الشيخ: ثبتت، إذن في إعرابها وجهان، ﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾ في إعرابها وجهان؟ * طالب: قيل أنه مبتدأ وجملة الجار والمجرور من ربك هي الخبر، وقيل: أنها خبر لمبتدأ محذوف تقديره: ذلك الحق؟ * الشيخ: خبر مبتدؤه محذوف. * الطالب: مبتدأ وخبره محذوف. * الشيخ: مبتدأ وخبره محذوف. * طالب: خبر لمبتدأ محذوف. * الشيخ: خبر لمبتدأ محذوف، صح. * الطالب: ذلك الحق. * الشيخ: نعم، طيب ﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾، ﴿مِنْ رَبِّكَ﴾ هنا أضاف الربوبية إلى النبي عليه الصلاة والسلام لتكون ربوبية خاصة؛ لأن الربوبية كما مرّ علينا كثيرًا عامة وخاصة، فالعامة هي الشاملة لجميع الخلق من مؤمن وكافر، وبر وفاجر، وآدمي وبهيم، وحيوان وجماد؛ والخاصة هي التي تختص بالمؤمنين، وتستلزم تربية أخص من التربية العامة، ﴿مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ (لا) هذه ناهية، ولهذا جُزِم الفعل بعدها، وهل مثلها الآية الأخرى ﴿فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ [البقرة ١٤٧]؟ لكن فيه إشكال؛ لأن الآية الأخرى ما جُزِمَت ﴿فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾. * طالب: جزمت الآية. * الشيخ: وأين الجزم؟ * الطالب: الجزم (...) الجزم يكون بحذف النون ويكون بالسكون. * الشيخ: وأين حذف النون؟ * الطالب: ﴿فَلَا تَكُنْ﴾. * الشيخ: ﴿فَلَا تَكُنْ﴾ هذه أيش؟ * الطالب: هذا سكون. * الشيخ: هذا سكون، و﴿فَلَا تَكُونَنَّ﴾؟ * الطالب: النون محذوفة. * الشيخ: النون محذوفة؟ * طالب: النون ثابتة وحُرِّكَت لأجل التقاء الساكنين. * الشيخ: في ﴿لَا تَكُونَنَّ﴾؟ * الطالب: نعم. * الشيخ: خطأ. * طالب: الفعل هنا مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد. * الشيخ: أحسنت، الفعل هنا ما هو معرب حتى يُجزم، مبني على الفتح؛ لاتصاله بأيش؟ بنون التوكيد ﴿فَلَا تَكُونَنَّ﴾، ولهذا بقي الفعل بجميع حروفه. طيب، قوله: ﴿فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ أي: فلا تكن من الشاكين، وقد أشكل هذا التعبير على كثير من الناس، وقال: أفَيَشُكّ الرسول عليه الصلاة والسلام؟ أفيشك؟ والجواب عن هذا أن نقول: هذه الآية أو هذا التعبير لا يدل على وقوع الشك من الرسول ﷺ، بل ولا على إمكانه، وإنما يراد به التعريض بالممترين، التعريض بالممترين وذمهم، فلو قلت لرجل صالح: لا تكن من الفاسقين، هل معنى ذلك أن الرجل فاسق؟ لا، ولكن معناه التعريض بالفاسقين وأنهم على خُلُق ينبغي أن يفر منهم كل عاقل، فكذلك ﴿لَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ ليس معناه أن الرسول يمكن أن يكون منهم أو أنه منهم، لكن المعنى التعريض بالممترين الشاكين، ومنهم في هذه المسألة منهم النصارى؛ لأن النصارى يعتقدون بأن عيسى ابن الله، فهم ممترون في خبر الله شاكّون فيه، وإلا فليس في التوراة ولا الإنجيل ولا القرآن ولا غيرها من الكتب المنزلة أن عيسى ابن الله، وليس فيها أيضًا ما يفيد ظاهرًا ولا احتمالًا أن عيسى ابن الله، ومع ذلك شكك هؤلاء النصارى وصاروا يبثون عقيدتهم الفاسدة بأن عيسى ابن الله، طيب إذن ﴿لَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ ينهاه الله تعالى أن يكون من الممترين، لا لأنه منهم ولا لأنه يمكن أن يكون منهم، ولكن تعريضًا بهؤلاء الممترين، تعريضًا لهم بالذم، ونظير ذلك كما قلت لكم: أن تقول لشخص مستقيم تقول: لا تكن من الفاسقين، سيقول لك: أنا فاسق؟ الله يهديك، أقول: ما قلت إنك فاسق، لكنني أعرّض بذم هؤلاء الفاسقين. وقال بعض أهل العلم حلًّا لهذا الإشكال المتوهم قال: إن الخطاب للرسول ﷺ والمراد أمته، الخطاب للرسول ﷺ والمراد أمته، ولكن هذا القول ضعيف جدًّا؛ لأن الخطاب صريح بأنه للرسول عليه الصلاة والسلام، وكذلك المحادثة مع الرسول ﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾ [البقرة ١٤٧]، كيف نقول: المراد الحق من ربك فلا تكونوا يا أمة محمد من الممترين، هذا مؤدى هذا المعنى أو هذا القول، وهو بعيد من الأسلوب القرآني، ولكن المعنى الذي ذكرته هو الصواب؛ أن الرسول ﷺ لم يمترِ ولن يمتري، ولكن هذا من باب التعريض؛ كأنه يقول: استمر على ما أنت عليه من اليقين وما أقبح حال هؤلاء الممترين! * طالب: شيخ ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ﴾ يعني في كل رسالته؟ * الشيخ: لا، في الخلق بس، في الخلق؛ يعني النصارى اشتبه عليهم الأمر لما خُلِق بدون أب، اشتبه عليهم الأمر فقالوا: هو ابن الله. * طالب: ﴿الْحَقُّ﴾ أليس نحن نعربها فاعل لفعل محذوف، أي: جاءك الحق من ربك؟ * الشيخ: إذا قلنا: إنه فعل محذوف، ترتب عليه حذف ثلاثة أشياء، أو لا؟ * الطالب: فاعل لفعل محذوف. * الشيخ: إذا قلنا: فاعل لفعل محذوف، ترتب على هذا حذف ثلاثة أشياء، ما هي؟ الفعل، والفاعل والمفعول، أو الفاعل موجود؟ * الطلبة: موجود. * الشيخ: ترتب حذف شيئين: الفعل والمفعول، وإذا قلنا: إنه خبر مبتدأ محذوف، ترتب على ذلك حذف واحد، وأيضًا واحد يُحذف كثيرًا وهو الاسم؛ لأن حذف الاسم أكثر من حذف الفعل في الغالب. * طالب: جزاك الله خيرًا يا شيخ، ترى الناس يشبه عليها أمر فيقول، يعني حتى أحيانًا يتورع فيه: يعني النصارى من أهل النار، يعني لو سئل: لماذا؟ يقول: أولًا لماذا فُرضت عليهم الجزية، يعني ما هم مثل غيرهم من الكفار، ثانيًا: ويسمع من بعض الإذاعات تنشر يعني يقترفوا الزنا يعني (...) النصرانية يقول (...)؟ * الشيخ: هذا لا ينبغي الاشتباه فيه مع الآيات الكثيرة الصريحة، ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ﴾ [البينة ٦]، ويقول عز وجل في سورة الأعراف: ﴿فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ [الأعراف ١٥٨]، وصح عن النبي ﷺ أنه قال: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا يَسْمَعُ بِي وَاحِدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ ثُمَّ لَا يَتَّبِعُ مَا جِئْتُ بِهِ - أَوْ قَالَ: لَا يُؤْمِنُ بِمَا جِئْتُ بِهِ - إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ»[[أخرجه مسلم (٢٤٠ / ١٥٣) من حديث أبي هريرة.]]. * طالب: الحكمة يا شيخ من ضرب الجزية؟ * الشيخ: إذلالًا لهم، ولعلهم إذا عاشوا بيننا يرجعون إلى الحق؛ لأن كتبهم تصرّح بأن محمدًا ﷺ على حق، مع أن القول الراجح أن الجزية تؤخذ منهم ومن غيرهم، تؤخذ من كل إنسان؛ لأن المقصود أن يكون الإسلام هو العالي. * طالب: لماذا لا يقال إن الآية ﴿فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ تجرى مجرى حديث عائشة حين قالت: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك. * الشيخ: نعم، فيه فرق بين الدعاء وبين الخبر؛ لأن الدعاء كل إنسان عنده إيمان فهو خائف، من كان بالله أعرف كان منه أخوف، والإنسان يخشى، لكن خبر الله عن رسوله أنه جائز أن يكون من الممترين أو هو الآن من الممترين هذا بعيد. * الطالب: للإشارة إلى (...). * الشيخ: لا، بعيد هذا. * طالب: شيخ، أحسن الله إليك قلنا في قوله: ﴿خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ﴾ أي: ابتدأ خلقه من تراب ثم بعد ذلك قال: كن فيكون، في النشأة، الله سبحانه وتعالى قادر على أن يكون نشأته وابتداؤه بكن فيكون، كذلك للابتداء والخلق، لماذا اختار النشأة بكن فيكون؟ * الشيخ: هو ما مر علينا مثل هذا؟ كل خلق الله، يقول: إن الله قادر أن يقول كن فيكون قبل أن يخلقه من التراب ثم يكونه، كل المخلوقات قادر أن الله يخلقها بكلمة (كن)، ومع ذلك ما فعل؛ لأن مخلوقات الله تحتاج إلى حكمة وتدرج، وأشياء يحتاج بعضها إلى بعض، ولهذا ما خلق السماوات والأرض بـ(كن)، خلقها في ستة أيام وهو قادر أن يخلقها بكلمة (كن). * طالب: شيخ، استدلينا على قوله سبحانه وتعالى ﴿قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ على أن الله سبحانه وتعالى لفظه مسموع بحروف مرتبة، طيب هل اللغة كانت عربية علشان نستدل هذا الاستدلال؟ * الشيخ: يعني ما يتكلم الله به عند إرادة الخلق ما ندري هل هو باللغة العربية أو لا؟ * طالب: إذن كيف استدلينا بالحروف؟ * الشيخ: كلمة (كن) هذه حرفين اثنين واحد قبل الثاني، هذا هو الترتيب. * طالب: شيخ؟ في قوله: ﴿فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ يستفاد منها يعني الأمر إذا كان الأمر ﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ يعني الشرط محذوف في هذا كله يعني إذا كان الحق من ربك فلا تكن من الممترين. * الشيخ: الأخ يقول: إن الفاء رابطة لجواب شرط مقدَّر، كذا؟ * الطالب: إي نعم. * الشيخ: نقول: لا حاجة إلى هذا؛ لأنه ينبغي أن نفهم قاعدة أننا لا نلجأ إلى التقدير إلا عند الضرورة إليه، أما متى استقام الكلام بدون تقدير فهذا هو الواجب؛ لأنك إذا قلت: إن الكلام لا يستقيم إلا بتقدير، إذا قلت: إن الكلام فيه شيء مقدر، معناه أن الكلام الآن ناقص، ولا يمكن أن نصف الكلام بالنقص إلا عند الضرورة؛ إذا رأينا أنه لا يستقيم المعنى إلا بالتقدير فنعم، أما هنا فيستقيم ونجعل الفاء هنا للتفريع، أي: فبسبب كونه من ربك لا تكن من الممترين. * * * * طالب: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٥٩) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (٦٠) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (٦١) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٢) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ﴾ [آل عمران ٥٩ - ٦٣]. * الشيخ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله عز وجل: ﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾. في هذه الآية من الفوائد: أن الله تعالى لا يصدر منه إلا الحق، ﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾. * ومن فوائدها: فضيلة رسول الله ﷺ بإضافة الربوبية إليه، وذلك لأن الربوبية هذه خاصة، والربوبية الخاصة تفيد معنى أخص من الربوبية العامة. * ومن فوائدها: النهي عن الشك فيما أخبر الله به؛ لقوله: ﴿فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾. * ومن فوائدها: أن الممترين كثيرون؛ لقوله: ﴿مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾، وإن كان يحتمل أن يراد به الجنس فيصدق بواحد، لكن الظاهر الأول، ولا شك أن الممترين من بني آدم كثيرون؛ لأن ذرية بني آدم منهم تسع مئة وتسعة وتسعون كلهم من أهل النار. * ومن فوائدها: جواز التعريض، أو جواز المخاطبة بالتعريض؛ لأن قوله: ﴿فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ لا يعني أن الرسول يمكن أن يكون منهم، بل هو تعريض بهؤلاء وأنهم ذوو خلق سيئ فلا تكن منهم، وإن كان هو ليس منهم لا باعتبار الواقع ولا بالمستقبل.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب