الباحث القرآني

ثم قال الله عز وجل: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (٥٦) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ [آل عمران ٥٦، ٥٧]. من فوائد هاتين الآيتين، أولًا: إثبات العذاب للكافرين؛ لقوله: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا﴾. * ومن فوائدها: أن العذاب في الدنيا قد لا يكفي عن العذاب في الآخرة بالنسبة للكفار، أو نقول: أن العذاب في الدنيا لا يغني عن العذاب في الآخرة بالنسبة للكفار؛ لقوله: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾، ولهذا يُعَذَّب الكفار في الدنيا ويُهزمون ويُؤسرون وتُسبى ذريتهم ونساؤهم وتُغنم أموالهم، وهذا عذاب عظيم، ومع ذلك لا ينجون من عذاب النار. * * * * طالب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٥٩) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (٦٠) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (٦١) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٢) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ﴾ [آل عمران ٥٩ - ٦٣]. * الشيخ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾. قال الله عز وجل: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾. يستفاد من هذه الآية الكريمة فوائد، منها: إثبات الجزاء؛ لقوله: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ﴾. ومنها: أن الجزاء من جنس العمل؛ فكلما كان العمل أسوأ كان الجزاء أشد، ولهذا قال: ﴿فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا﴾. ومنها: أن العذاب عذاب الكافرين يكون في الدنيا ويكون في الآخرة؛ فأما عذاب الدنيا فبالأسر والقتل والزلازل والفيضانات، وما أشبه ذلك، كما قال الله تعالى: ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ﴾ [التوبة ١٤]، وهذا بماذا؟ بالقتل والأسر، وأما العذاب بالزلازل وشبهها فكقوله تعالى: ﴿فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (١٠) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [الدخان ١٠، ١١]، هذا عذاب من الله عز وجل، والأول عذاب بأيدي المؤمنين. من فوائد هذه الآية الكريمة: أن الكفار لا ناصر لهم من عذاب الله، لا أحد يمنعهم؛ لقوله: ﴿وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾، أما في الآخرة فظاهر؛ لأن الشفاعة لا تنفع فيهم؛ لقوله تعالى: ﴿وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى﴾ [الأنبياء ٢٨]، وأما في الدنيا فكذلك؛ لأن هؤلاء الكفار إذا عُذِّبُوا بأيدي المؤمنين فالمقاتلة منهم يُقتلون، والنساء والذرية يُسْبَون، والأموال والأراضي تُغْنَم، وهذا لا ناصر لهم فيه. فإن قال قائل: أليس الإمام يخيَّر في الأسرى بين أمور أربعة: بين القتل، والفداء بمال أو بنفس مؤمنة، والاسترقاق، والمن؟ بين أمور أربعة: إما القتل، أو الفداء بمال أو بأسير مسلم، أو الاسترقاق يجعله رقيقًا يُباع ويشترى، أو المن مجانًا، لا إشكال في الأشياء الثلاثة الأولى، الإشكال في الأخير وهو المنّ، وهذا ليس بعذاب، فالجواب عن ذلك أن نقول: إنه لا يجوز للإمام أن يختار واحدة من هذه الأربع إلا حيث يرى للمسلمين فيها مصلحة، فالتخيير هنا تخيير مصلحة وليس تخيير تشهي واختيار، وإذا كان للمسلمين مصلحة فلا بد أن يكون هذا عذابًا على الكافرين؛ لأن كل شيء فيه مصلحة للمسلمين ففيه عذاب للكافرين، وعلى هذا فلا ناصر لهم لا في الدنيا ولا في الآخرة. ثم قال الله تعالى: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ﴾، يستفاد من هذه الآية: بلاغة القرآن وحكمة القرآن؛ بلاغته في الإتيان بالمعاني متقابلة؛ لأن الإتيان بالمعاني متقابلة توجب نشاط الإنسان، حيث ينتقل الذهن من معنى إلى ما يقابله فيزداد نشاطًا وشغفًا، وأما من جهة كمال البلاغة فلأن المعاني إذا تنوعت على وجوه التقابل ازداد اللفظ حسنًا، وهذا معروف عند علماء البلاغة باسم علم أيش؟ علم البديع، وفيه أيضًا تربية للنفس؛ لأن النفس إذا سمعت عقاب الكافرين خافت ووجلت وربما يستولي عليها اليأس، فإذا جاء ثواب المؤمنين طمعت ورجت فصار سيرها إلى الله تعالى بين الخوف والرجاء. * ومن فوائد الآية الكريمة: أن وفاء الأجر مرتبط بوصفين: الإيمان والعمل الصالح؛ فالإيمان وحده لا يكفي، بل لا بد من عمل صالح ينمي هذا الإيمان ويشهد بصحته، أما مجرد العقيدة فإنها لا تكفي، على أن العقيدة إذا كانت سليمة استلزمت العمل الصالح؛ لقول الرسول ﷺ: «أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ»[[متفق عليه؛ أخرجه البخاري (٥٢)، ومسلم (١٠٧ / ١٥٩٩) من حديث النعمان بن بشير.]]. * ومن فوائد الآية الكريمة: أن العمل لا ينفع إلا إذا كان صالحًا، والعمل الصالح ما جمع وصفين: الإخلاص لله، والمتابعة لرسول الله ﷺ، أي ما كان خالصًا صوابًا كما قال الفضيل بن عياض رحمه الله. * ومن فوائد الآية الكريمة: منّة الله سبحانه وتعالى على عباده، حيث جعل هذا الجزاء كالأجور اللازم وفاؤها؛ لقوله: ﴿فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ﴾، شوف، والفرق بين التعبيرين، هناك قال: ﴿فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا﴾، وهنا قال: ﴿فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ﴾. * ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات المحبة لله؛ لقوله: ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾، فإن قال قائل: كيف تستدلون على إثبات المحبة بنفي المحبة؛ لأنه قال: ﴿لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾؟ فالجواب: أن نفي المحبة عن الظالمين دليل على ثبوتها لغيرهم؛ ولو كانت منتفية عن الجميع لم يكن لتخصيصها بالظالمين فائدة، ولهذا استدل الشافعي رحمه الله على ثبوت رؤية المؤمنين لله بقول الله تعالى عن الفجار: ﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ﴾ [المطففين ١٥]، وقال في وجه الاستدلال: ما حجب أعداءه عن رؤيته في الغضب إلا لثبوت رؤية أوليائه له في الرضا. وهذا واضح. * ومن فوائد الآية الكريمة: شؤم الظلم، شؤم الظلم على الإنسان، وأنه سبب لانتفاء محبة الله له، وإذا انتفت محبة الله للعبد فقد هلك. * ومن فوائدها: أن الظلم من كبائر الذنوب؛ لأنه رُتِّب عليه وعيد وهو انتفاء محبة الله سبحانه وتعالى، ولكن الظاهر أن هذا ليس على سبيل الإطلاق، بل الظلم يكون كبيرة ويكون صغيرة؛ لأن جميع المعاصي ظلم، ومن المعاصي ما هو كبير ومنها ما هو صغير. * ومن فوائد الآية مع التي قبلها: التنوع في الأسلوب، وهو الانتقال من ضمير التكلم إلى ضمير الغيبة ﴿فَأُعَذِّبُهُمْ﴾ وهنا قال: ﴿فَيُوَفِّيهِمْ﴾، فهل هناك فرق من حيث المعنى؟ الجواب: نعم، فرق من حيث المعنى، أما اللفظ فظاهر ففيه التفات من ضمير التكلم إلى ضمير الغيبة، لكن نريد الفرق في المعنى، الفرق في المعنى أن العذاب عقوبة يستدعي سلطة وقهرًا وعزة، فكان الأنسب التعبير بماذا؟ بـ (أُعَذِّب) الدالة على قوة السلطان، أما هذه فكأن الله سبحانه وتعالى للتودد مع هؤلاء وبيان فضلهم قال: ﴿فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ﴾، ولم يسند الإيفاء إلى نفسه؛ ليعطيهم شيئًا من الشكر على عملهم؛ لأن الفرق بين أن تخاطب الإنسان بالتعبير عن فعلك به بضمير التكلم أو أن تعبر بضمير الغيبة؛ لأن المواجهة أشد من الغيبة، وتأمل قوله تعالى: ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى (١) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (٢) وَمَا يُدْرِيكَ﴾ [عبس ١ - ٣]، فقال: ﴿عَبَسَ﴾ ولم يقل: عبست، وقال: ﴿وَمَا يُدْرِيكَ﴾ ولم يقل: وما أدراه، أو وما يدريه، فهذه والله أعلم الحكمة من أنه جاء التعبير بالعذاب بالفعل مسندًا إلى ضمير المتكلم بخلافه في الجزاء، ويدل لهذا الاعتبار قوله تعالى في سورة الرحمن: ﴿هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾ [الرحمن ٦٠]، فجعل فعلهم إحسانًا يُشْكَرون عليه ويُحسن إليهم، مع أن الإحسان كله من الله، فإن التوفيق للعمل الصالح من إحسان الله إلى العبد، لكن هذا من كمال رحمة الله عز وجل وثوابه وجزائه، وقال تعالى في سورة الإنسان: ﴿إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا﴾ [الإنسان ٢٢]، طيب سعيهم مشكورًا من الذي وفقهم للسعي؟ الله، ومع ذلك يقول: ﴿وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا﴾، فصار في تغيير الأسلوب في الآيتين صار فيه فائدتان: لفظية ومعنوية؛ اللفظية هو الالتفات الذي يوجب الانتباه، والثاني المعنوية هو إظهار السلطة والعظمة والعزة في باب التعذيب، وإظهار الفضل والإحسان للعاملين في باب المثوبة. ثم قال تعالى: ﴿ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ﴾ [آل عمران ٥٨]، من فوائد هذه الآية الكريمة: أن الله عز وجل تكلم بالقرآن، فقال: ﴿ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ﴾، إذا كانت التلاوة لله حقيقة ونقلها جبريل إلى الرسول ﷺ، ويحتمل أن تكون التلاوة لجبريل لكن لما كان جبريل رسولًا لله نُسِبَ فعله إلى الله، فهو كقوله تعالى: ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١٦) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ﴾ [القيامة ١٦ - ١٨]، ومعلوم أن الذي يقرؤه جبريل. * ومن فوائد الآية الكريمة: أن القرآن الكريم آية، بل آيات، كما قال الله تعالى: ﴿بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ [العنكبوت ٤٩]، آيات عظيمة، فآياته كثيرة، كل آية فيها عدة آيات، ولكن لا يفهم هذه الآيات إلا من فتح الله قلبه للإيمان والعلم واعتقاد أن هذا القرآن كلام الله وأن فيه آيات بينات، أما الذي تمر عليه مثل هذه الجملة من الآيات مر الكرام ولا يتحرك بها قلبه ولا يتأمل هذه الآيات فإنه لن ينتفع بما في القرآن من الآيات، لا بد أن تؤمن بأن فيه آيات وأن تحاول استخراج هذه الآيات بالتدبر، والإنسان إذا تدبر القرآن وجد فيه آيات عظيمة لا يحصيها البشر. * ومن فوائد هذه الآية: أن القرآن ذِكْر، لكن هل هو ذكر يُتقرب إلى الله به، أو هو ذكر يتذكر به الإنسان؟ ذكرنا أن المعنى شامل لهذا وهذا، فهو ذكر يقرب إلى الله؛ لأن مَن تلاه فله بكل حرف عشر حسنات، وهو ذكر يتذكر به الإنسان، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ [ق ٣٧]، قيل: وهو ذكر رفع الله به شأن الذين تمسكوا به، كما قال تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ﴾ [الزخرف ٤٤]، وكقوله تعالى: ﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾ [الشرح ٤]، أي: شأنك أعلوناه، وعلى هذا فيكون للذكر كم؟ ثلاثة معاني: ذكر يُتقرب به إلى الله بتلاوته، وذكر يتذكر به الإنسان، وذكر يعني شرفًا لمن تمسك به. * ومن فوائد الآية الكريمة: وصف القرآن الكريم بهذا الوصف العظيم وهي الحكمة ﴿وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ﴾ [آل عمران ٥٨]، والحكيم هنا بمعنى الحاكم والمحكِم؛ لأن القرآن حكم بين الناس، ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ [النساء ٥٩] أي: إلى كتابه، فهو حكم وهو أيضًا محكَم، محكم متقَن ليس فيه اختلاف ولا اضطراب ولا تناقض. * ومن فوائد الآية: أنه لا يوجد حكم دل عليه القرآن إلا وهو في موضعه اللائق به، من أين يؤخذ؟ من ﴿الْحَكِيمِ﴾؛ لأن الحكيم هو الذي يضع الشيء في مواضعه، فكل حُكْم حَكَم به القرآن فإنه في موضعه، لا يقول العقل: ليته لم يحكم به، أبدًا، سواء كان ثبوتيًّا أم سلبيًّا. * ومن فوائد الآية الكريمة: فضيلة الرسول عليه الصلاة والسلام في قول: ﴿نَتْلُوهُ عَلَيْكَ﴾، فخصه ﷺ بالتلاوة عليه؛ لأنه ﷺ أشرف من يتلقى القرآن وأَقْوَم الناس عملًا به، فكأنه هو المخصوص بالتلاوة عليه ﴿نَتْلُوهُ عَلَيْكَ﴾. ثم قال الله تعالى: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ﴾، لقد مر علينا أن هذه الآيات نزلت حين قدم وفد نجران إلى رسول الله ﷺ وكانوا نصارى، وكان قدومهم في سنة تسع من الهجرة؛ لأن تلك السنة كثر فيها الوافدون إلى رسول الله ﷺ، ولهذا تسمى سنة الوفود، وهذا أحد الأسباب الذي منعت النبي ﷺ أن يحج في العام التاسع مع أن مكة قد فتحت، ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ﴾ يعني: شأنه، إن شأن عيسى عند الله كشأن آدم لا يختلف عنه، فكما أننا متفقون على أن آدم خلقه الله عز وجل من غير أب ولا أم حتى النصارى يؤمنون بهذا، فما بال النصارى يقولون: كيف خلق الله عيسى بلا أب؟ ما هو إلا ابنه - نعوذ بالله – فقالوا: إنه ابن الله جزء منه، ولم يقولوا: إن آدم ابن الله، مع أنه لو كان أحد يدعي البنوة في أحد من البشر لكان الأحق بها آدم، البنوة لله، لكان الأحق آدم؛ لأنه ما له أم ولا أب، أما عيسى فله أم، والأم أحد الوالدين، فإذا كنا نقول: لا يمكن أن يوجد أحد من أم بلا أب فلنقل: ولا أحد يوجد بدون أم ولا أب، فأنتم أيها النصارى أقررتم بأن آدم ليس ابنًا لله فيلزمكم أن تقروا بأن عيسى ليس ابنًا لله؛ لأن مثل عيسى كمثل آدم ﴿خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ﴾، خلقه يعني: ابتدأ خلقه من تراب، وضمير المفعول في (خلقه) يعود على آدم؛ لأنه هو المخلوق من التراب، ﴿خَلَقَهُ﴾ أي: خلق آدم من تراب، ﴿ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾، نحن قلنا: ابتدأ خلقه ثم قال: كن، والأمر هذا لتمام الخلق، وإنما قلنا ذلك؛ لئلا يقول قائل: كيف تكون كلمة (كن) بعد الخلق؛ لأن الترتيب العقلي يقتضي أن تكون كلمة (كن) قبل الخلق، كن، فكان، فنقول: إن معنى ﴿خَلَقَهُ﴾ يعني: ابتدأ خلقه من تراب ثم قال له: كن بشرًا، فكان بشرًا، ﴿ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾، وهذا القول: كن، قول قدري أو شرعي؟ قول قدري، والقول القدري لا يتخلف عنه المقول؛ لأنه أمر حتمي، بخلاف القول الشرعي فإن من الناس من يستكبر عنه، يقول الله: ﴿أَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ [الأنعام ٧٢]، فيقول: لا، ما يقيم الصلاة، أما القول الكوني فإنه لا مرد له، ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾، ولم يقل: فكان، على حكاية الحال، يعني: لما قال: ﴿كُنْ﴾ فعلًا شرع بالكينونة حتى تمت. في هذه الآية: بيان إقامة الحجة بمثل ما يحتج الخصم به؛ لأنه أقام الحجة على النصارى بمثل ما احتجوا به، فقال: إذا قلتم: إن عيسى ابن لله؛ لأنه خُلِق بلا أب فقولوا: إن آدم ابن الله، وإلا فأنتم متناقضون. * ومن فوائد الآية الكريمة: بيان قدرة الله سبحانه وتعالى حيث خلق آدم من غير أم ولا أب، وخلق عيسى من أم بلا أب، وهناك أيضًا صنفان؛ أن الله خلق من أب بلا أم، وخلق بين أب وأم، من الذي خُلِق من أب بلا أم؟ حواء، وسائر البشر من بين أم وأب. * ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات القياس، من أين يؤخذ؟ ﴿كَمَثَلِ آدَمَ﴾، وكل مثل مضروب في القرآن فإنه دليل على ثبوت القياس؛ لأنه إلحاق المورِد بالمضرب، يعني أنك ألحقت الممثَّل بأيش؟ بالممثَّل به. * ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات القول للرب عز وجل؛ لقوله: ﴿ثُمَّ قَالَ لَهُ﴾. ومنها، من فوائدها: أن قول الله بصوت مسموع وبحروف مرتبة؛ لقوله: ﴿قَالَ لَهُ كُنْ﴾ فسيسمع هذا القول، وحرف مرتب ولاَّ لا؟ الكاف قبل النون. ومنها، من فوائد الآية: إثبات صفة الخلق لله ﴿خَلَقَهُ﴾، والخلق صفة ذاتية أو فعلية؟ * الطلبة: فعلية. * الشيخ: فعلية، من الصفات الفعلية، لكن قد مر علينا أن جنس الصفات الفعلية أيش؟ ذاتية؛ لأن الله لم يزل ولا يزال فعَّالًا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب