﴿قُلِ ٱللَّهُمَّ مَـٰلِكَ ٱلۡمُلۡكِ تُؤۡتِی ٱلۡمُلۡكَ مَن تَشَاۤءُ وَتَنزِعُ ٱلۡمُلۡكَ مِمَّن تَشَاۤءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاۤءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاۤءُۖ بِیَدِكَ ٱلۡخَیۡرُۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ قَدِیرࣱ ٢٦ تُولِجُ ٱلَّیۡلَ فِی ٱلنَّهَارِ وَتُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِی ٱلَّیۡلِۖ وَتُخۡرِجُ ٱلۡحَیَّ مِنَ ٱلۡمَیِّتِ وَتُخۡرِجُ ٱلۡمَیِّتَ مِنَ ٱلۡحَیِّۖ وَتَرۡزُقُ مَن تَشَاۤءُ بِغَیۡرِ حِسَابࣲ ٢٧﴾ [آل عمران ٢٦-٢٧]
طالب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:
﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٦) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَاب﴾ [آل عمران ٢٦، ٢٧].
* الشيخ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. قال الله تعالى: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ﴾ إلى آخره.الخطاب لا يخفى أنه لرسول الله ﷺ، ومناسبة هذه الآية لما قبلها أن الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب إذا دُعوا إلى كتاب الله ليحكم بينهم تولَّوا يريدون أن تكون السيادة لهم لا لغيرهم؛ فأُمِر النبي عليه الصلاة والسلام أن يدعوَ الله تعالى بهذا الدعاء المتضمن لهذه الصفات العظيمة التي مقتضاها قدرة الله سبحانه وتعالى على أن ينقُل الرسالة التي يتبعها الملك من بني إسرائيل إلى العرب بمحمد ﷺ، فهذا وجه ارتباط هاتين الآيتين بما قبلهما، أي: أن هؤلاء الذين تولَّوا وأعرضوا إذا دُعوا إلى كتاب الله ليحكم بينهم لا شك أنهم يريدون أن تبقى السيادة لهم وأن يمنعوها غيرهم فأمر الله نبيه أن يبتهل إلى الله بهذا الدعاء المتضمن قدرة الله على نقل النبوة التي يتبعها الملك من بني إسرائيل إلى العرب فقال:
﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ﴾.
وقد سبق الكلام على هذه الجملة
﴿اللَّهُمَّ﴾، وبينَّا أنها منادى حذفت منه ياء النداء وعوض عنها الميم؛ ولهذا لا يُجْمَع بينهما، ولا يجمع بينهما إلا في حال الشذوذ كما قال بن مالك:
......................... ∗∗∗ وَشَــــذَّ يَا اللَّهُــــمَّ فِيقَرِيــــــــضِ
أي: في النظم.
وقوله:
﴿اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ﴾ أي: يا الله.
وقوله:
﴿مَالِكَ الْمُلْكِ﴾ مالك اسم فاعل، و
﴿الْمُلْكِ﴾ يحتمل أن يكون بمعنى المملوك أي: مالك المملوكات كلها، ويحتمل أن يكون المراد به التدبير، أي: مالك تدبير الخلائق كلها، والأمران ثابتان لله عز وجل؛ فهو مالك المملوكات كلها بأعيانها، وهو مالك التصرف فيها لا يشركه في ذلك أحد، هو الذي يدبر الأمر ويملك المأمور.
وقوله:
﴿مَالِكَ الْمُلْكِ﴾ قيل: إنه بدل من الله ولكنه نُصِب؛ لأنه مضاف، والبدل يكون على نية إعادة العامل، وأنت لو سلطت ياء التي هي العامل في
﴿اللَّهُمَّ﴾ لو سلطتها على
﴿مَالِكَ الْمُلْكِ﴾ لوجب النصب؛ لأن المنادى إذا أضيف يجب فيه النصب، وسواء قلت: إنها بدل أو إنها منادى حُذِف منه حرف النداء فإن المعنى لا يختلف.
قال:
﴿مَالِكَ الْمُلْكِ﴾ ثم فسر فقال:
﴿تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ﴾ والأصح أن
﴿تُؤْتِي﴾ هذه جملة استئنافية لبيان كيف يكون ملك الله عز وجل لهذا المملوك، فقال:
﴿تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ﴾، وقال:
﴿تُؤْتِي﴾ أي: تُعْطِي، ولم يقل: تُمَلِّك؛ لأن ما يكون للعبد من الملك إنما هو من إعطاء الله تعالى إياه وتسليطه عليه؛ ولهذا لا يتصرف المالك من المخلوقين بما ملك إلا على حسب أيش؟ إلا على حسب الشريعة التي شرعها الله عز وجل؛ لأن الإتيان من الله، فالتصرف في هذا المؤتى إلى الله عز وجل لا إلى الإنسان؛ فالإنسان لا يملك أن يتصرف تصرُّفًا مطلقًا فيما ملكه الله.
وقوله:
﴿تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ﴾ الفعل تُؤْتي من الأفعال التي تنصب مفعولين ليس أصلهما المبتدأ والخبر ومفعولها الأول الملك، ومفعولها الثاني
﴿مَنْ تَشَاءُ﴾ ﴿مَنْ﴾.
وقوله:
﴿تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ﴾ نحن نعلم أن من سنة الله عز وجل أن كل شيء له سبب إما شرعي وإما كوني؛ لأن هذا مقتضى حكمة الله سبحانه وتعالى، وإذا كان كذلك فإن إتيان الله الملك لمن يشاء مُقيَّد بسبب، فلا بد أن يكون له سبب؛ فالملك قد يكون مستقلًا عن الرسالة، وقد يكون تابعًا للرسالة؛ فإذا كان مبنيًّا على الشريعة صار تابعًا للرسالة، وإذا كان غير مبنيٍّ على الشريعة كان مستقلًا، قال الله تعالى:
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ﴾ [البقرة ٢٥٨]، وهذا الملك تابع للرسالة ولَّا لا؟ لا، هذا مستقل ما هو تابع للرسالة؛ لأنه كافر هذا الذي يُحاج إبراهيم في ربه؛ وأما قول النبي عليه الصلاة والسلام:
«إِنَّ اللَّهَ زَوَى لِيَ الْأَرْضَ فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَأَنَّ مُلْكَ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مَا زَوَى لِي مِنْهَا»(١) فالمراد بالملك هنا ملك النبوة يعني الملك التابع للنبوة.
فهنا يقول:
﴿تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ﴾ يشمل الملك المستقل الذي قد يكون مبنيًّا على الكفر والملك التابع للرسالة وهو المبني على الشريعة.
قال:
﴿تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ﴾، ثم إن:
﴿مَنْ تَشَاءُ﴾ ككثير من الآيات الكريمة المقيدة للحكم بالمشيئة أو المعلِّقة للحكم بالمشيئة تُقيَّد كلها بما تقتضيه الحكمة.
﴿وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ﴾ قوله:
﴿تَنْزِعُ الْمُلْكَ﴾ يحتمل وجهين؛ الوجه الأول: نزع بعد ثبوت، والوجه الثاني: نزع بمعنى المنع، فعلى الأول يكون فيه إشارة إلى أن الله تعالى يُملِّك من شاء من خلقه ثم ينزع عنه الملك، وكم من ملِك ملَك ثم زال ملكه إما بالغلبة له أو بموته أو بغير ذلك، ويحتمل أن تكون بمعنى المنع أي: تُملِّك من شئت ولا تملك من شئت، وكلا المعنيين صحيح؛ فالله تعالى قد يمنع الإنسان الملك، وقد ينزع الملك منه بعد ثبوته له وكلاهما صحيح.
إذن الملك بيد الله يؤتيه من يشاء فهذا يملِّكه وهذا لا يملكه، وهذا يملكه ثم ينزع الملك منه وهذا يملكه ويستمر الملك له حتى يتوفاه الله.
﴿وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ﴾ ولكن يكون هذا بحكمة أيضًا؛ فقد يكون هذا الملك الذي نُزِع منه الملك غير صالح للملك لكونه من أصحاب الفساد في الأرض فيُسَلَّط عليه من ينزع الملك منه، وقد يكون هذا الملك ضعيفًا هو لا يريد الفساد لكنه ضعيف لا يُقيم الإصلاح فيسلط عليه من ينزع الملك منه، وهذا كثير في التاريخ لو تدبرتموه، والله سبحانه وتعالى لا يفعل شيئًا إلا لحكمة.
﴿وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاء﴾ والإعزاز هنا يعني التقوية، أي: تجعله عزيزًا قويًّا غالبًا على غيره، وكذلك
﴿وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاء﴾، وهل هذا ملازم للملك أي: تعز من تشاء من الملوك وتذل من تشاء أو هو عام؟ هو عام، قد يعز الله الإنسان بدينه وعلمه وإيمانه وإن لم يكن ملكًا، وقد يعزه بملكه، وكذلك في الذل قد يذله بالمعصية وبالغلبة، بالمعصية هذا في مقابل العز بالإيمان، وبالغلبة في مقابل العز بالملك، المهم أن الإعزاز والإذلال لا يستلزمان الملك ولا يستلزمهما الملك، فمن الذي يعزه الله؟ يعز الله تعالى من ذكره بقوله:
﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [المنافقون ٨] فالعزة لله لكن لا دخل لها في الآية هنا، لكن الذي يعزه الله هم الرسل وأتباعهم كما قال الله تعالى:
﴿كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [المجادلة ٢١] فمن أسباب العزة الإيمان سواء كان الإنسان ملكًا أم غير ملك، ومن أسباب العزة الاستعداد والحذر والحزم والقوة والنشاط، كل هذه من أسباب العزة لكن هذه أسباب مادية حسية والإيمان سبب معنوي، على أن الإيمان قد يكون من ثمرته ونتيجته أن يكون الإنسان قويًّا حازمًا ينظر إلى الأمور بمنظار الحكمة فتحصُل له بذلك العزة.
قال:
﴿وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاء﴾ يذل الله من يشاء ممن آتاه الله الملك وممن لم يؤته حتى الملك، ربما يكون ملكًا ولكنه ذليل ضعيف خائف، كل شيء يَخاف منه ولا يكون عنده حزم وقوة ونشاط، وقد يذل الله سبحانه وتعالى الإنسان حتى في ملكه وقد يذل الله من لم يكن ملكًا.
ومن أسباب الذل أن يعجب الإنسان بنفسه وأن يتعرض لما لا يمكنه دفعه، فهذان شيئان: إعجابه بالنفس قد يخذله ويذله، كذلك تعرضه لما لا يمكنه دفعه قد يكون سببًا لذله أيضًا وخذلانه، وكلا الأمرين يقع فيهما كثير من الناس، فكثير من الناس يتكلم أو يفعل غير ملتفت إلى الاستعانة بالله عز وجل فيُخذل، وكثير من الناس يتعرض للأمور التي لا يمكنه دفعها، تكون أمورًا كبيرة فوق مستواه ثم يُخذل ويذل، ولهذا جاء في الأثر:
«لَا يَنْبَغِي لَأَحَدِكُمْ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ». فَقَالُوا كَيْفَ يُذِلَّ نَفْسَهُ؟ قال:
«يَتَكَلَّمُ بِمَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَدْفَعَهُ»(٢) أو كَلمة هذا معناها، فالإنسان ينبغي له أن لا يُعرِّض نفسه للذل بسبب معقول أو معنوي أو بغير ذلك؛ فالأول: أن يكون معجبًا بنفسه يقول القول أو يفعل الفعل غير ملتفت لماذا؟ للاستعانة بالله، والثاني: يتعرض نفسه لأمور لا يمكنه دفعها أمور أكبر من مستواه، ولنفرض واحد بيتكلم بالفقه وهو لا يعرف الفقه فيُخذل ويذل، يتكلم في النحو وهو لا يعرف النحو، يتكلم في الأصول وهو لا يعرف الأصول فيظهر ذُلُّه أمام الناس؛ ولهذا ينبغي للإنسان أن يتحرى في قوله حتى لا يقع في شبكة الذل.
﴿وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ﴾ الخير بيد الله عز وجل، والخير كل ما فيه مصلحة ومنفعة للعبد فهو خير سواء كان ذلك في أمور الدنيا أو في أمور الآخرة، فالرزق والصحة والعلم هذه خير، والعمل الصالح أيضًا خير، فكل ما ينتفع به الإنسان في دينه ودنياه فهو خير، وهذا كله بيد الله كما قال تعالى:
﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ﴾ [النحل ٥٣].
وهنا ذكر أن الخير بيده، ولم يذكر الشر مع أن الخير من الله والشر من الله، فقال بعض المفسرين: إن هذا من باب حذف المقابل المعلوم كقوله:
﴿وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ﴾ [النحل ٨١] وزعموا أن تقدير الآية: بيده الخير والشر، ولكن هذا وهم باطل، وليس المقام مقام حذف وقصر أو اقتصاد، المقام مقام ثناء والثناء ينبغي فيه البسط والتوسع في الكلام، فالحذف غير مناسب لفظًا وهو باطل معنى؛ لأن الله لا يضاف إليه الشر، ولا يجوز أن نقول: بيده الشر؛ لأنه ثبت عن النبي ﷺ أنه قال:
«وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ»(٣) فلا يُنْسب إلى الله الشرُّ قَوْلًا ولا فِعْلًا، فالله يقول الحق وهو يهدي السبيل ويفعل الخير ولا يفعل الشر، وإذا وُجد شرٌّ في المفعولات فهو شر من وجه خير من وجه آخر، لكن إيجاد الله لهذه الأشياء الشريرة ليس شرًّا بل هو خير، خير محض، ففعل الله ليس فيه شرٌّ إطلاقًا، والشر إنما هو في المفعولات، لا في الأفعال، أما الخير فهو في المفعولات والأفعال؛ ولهذا ينسب إلى الله؛ لا يقال: بيده الخير لكن الشر ليس إلى الله.
ولنضرب لهذا مثلًا بالسباع والهوام؛ فالسباع فيها شرٌّ والهوام اللاسعة واللادغة فيها شر بلا شك، الشياطين كلها شر، لكنَّ إيجاد الله لهذه الأشياء خير، خير ولا بد منه، الحكمة توجبه، لأنه لا يمكن أن تعرف تمام قدرة الله إلا بخلق الأشياء المتضادة، ثم في خلق هذه الأشياء من إصلاح العبد ولجوئه إلى ربه واستعاذته به من هذه الأمور الشريرة خير كثير، ثم إن الخير لا يُعرَف إلا بضده، لا يمكن يُعْرَف الخير إلا إذا عرف ضده حتى يُعرف قدر الخير.
ثم إن الخليقة لا بد لها من امتحان، لا بد لها من امتحان، فلو كانت في خير دائمًا لزال هذا الامتحان؛ لأنها دائمًا في خير، فإذا وُجِد شر فحينئذ يتبين الامتحان، لو كان الإنسان دائمًا في صحة ودائمًا في غنى ودائمًا في عقل ودائمًا في سعة ما حصل في هذا امتحان، ولا عَرَفَ قدر النعمة ولا شكر الله عليها، لكن إذا أصيب بمرض عَرَف قدر الصحة، بفقر عرف قدر الغنى، بخوف عرف قدر الأمن، وهكذا.
فوجود هذه الأشياء فيه فوائد عظيمة فيكون إيجادها خيرًا وليس بشرٍّ، لكن هي نفسها فيها شر، كذلك وجود الأشياء المدمرة كالزلازل والعواصف والفيضانات وما أشبهها هي شر في نفسها، لكن فيها خير عظيم فيكون إيجادها خيرًا وليس بشر، إذن فيجب أن نُبْقِيَ الآية على ظاهرها بدون تقدير، وهو قوله:
﴿بِيَدِكَ الْخَيْرُ﴾ ولا شر يُنسب إلى الله، أما المفعولات فلا شك أن فيها خيرًا وشرًّا.
﴿إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ إنك على كل شيء قدير، ومن قدرتك تغيير هذه الأشياء العظيمة: إيتاء الملك، نزعه، الإعزاز، والإذلال كل هذه أمور عظيمة لا يقوم بها إلا قادر عليها سبحانه وتعالى.
وقوله:
﴿إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ الآية عامة؛ فهو قدير على كل شيء على ما شاءه وما لم يشأه، قدير على ما شاءه وعلى ما لا يشاؤه، فما لا يشاؤه قدير على إيجاده، وما شاءه قدير على إيجاده إذا كان مقيدًا بوقت وعلى إعدامه إن كان موجودًا، المهم أن الله قدير على كل شيء، على إيجاد المعدوم وعلى إعدام الموجود سواء أراده أم لم يرده، وبهذا نعرف أن تقييد بعض الناس القدرة بالمشيئة خطأ، الذين يقولون: إنه على ما يشاء قدير، هذا خطأ، لأن الله قادر على ما يشاء وعلى ما لا يشاؤه، ولكن ما شاءه لا يمكن أن يعجز عنه، وبهذا التقدير الأخير أن ما شاءه لا يمكن أن يعجز عنه يتبين الجواب عن قوله تعالى:
﴿وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ﴾ [الشورى ٢٩]؛ وذلك أن المشيئة هنا ليست عائدة على القدرة، ولكنها عائدة على الجمع يعني: إذا أراد جمعهم وشاء جمعهم فهو قدير عليه لا يعجز عنه.
* * * * طالب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
﴿تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (٢٧) لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (٢٨) قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير﴾ [آل عمران ٢٧ - ٢٩].
* الشيخ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله تعالى: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.
* في هذه الآية من الفوائد أولًا: تعليم الله عز وجل نبيه محمدًا ﷺ أن يفوض الأمر إليه في قوله: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ﴾، والخطاب الموجه للرسول ﷺ مُوجَّه لأمته؛ إما عن طريق التأسي، وإما لأنه الإمام، والخطاب للإمام خطاب له ولمن اتبعه إلا إذا دل الدليل على أنه خاص به فيكون خاصًّا به.
* ومن فوائد الآية الكريمة: بيان تمام ملك الله سبحانه وتعالى وسلطانه، لقوله: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ﴾، كل ملك فالله مالكه، وسبق لنا أن المراد بالملك إما المملوك أو جنس المُلك.
* ومن فوائدها أيضًا: أن الله سبحانه وتعالى يُؤتي الملك من يشاء، لقوله: ﴿تُؤْتِي الْمُلْكَ﴾.ومن فوائدها أيضا: أن ملك المخلوقين ليس ملكًا استقلاليًا بل هو بإعطاء؛ لقوله:
﴿تُؤْتِي الْمُلْكَ﴾ والملك الذي بإعطاء لا شك أنه ناقص عن ملك المعطى، وقد جاء في الحديث الصحيح:
«اليَدُ العُلْيَا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى»(٤).
* ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات المشيئة لله في قوله: ﴿مَنْ تَشَاءُ﴾ وكل أمر قرنه الله بالمشيئة فإنه مبني على الحكمة متى اقتضته شاءه الله، ودليل ذلك قوله تعالى: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ [الإنسان ٣٠].
* ومن فوائد الآية الكريمة: تمام ملك الله وسلطانه أيضًا في كونه يحرِم الملك من يشاء وينزعه بعد ثبوته ممن يشاء؛ لقوله: ﴿وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ﴾.
* ومن فوائد الآية الكريمة: بيان أيضًا تمام ملك الله وسلطانه بكون العزة من عنده، يعز من يشاء، ولكن سبق لنا في التفسير أن للعزة أسبابًا منها الإيمان، لقول الله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [المنافقون ٨].
* ومن فوائدها أيضًا: أن الله سبحانه وتعالى تام الملك والسلطان لكونه يذل من يشاء، ولو بلغ ما بلغ من العزة البشرية، فإن يد الله فوقه مهما بلغ الإنسان من العز فالله قادر على إذلاله، ولذلك أمثلة كثيرة، منها: قصة فرعون فإن فرعون طغى وبغى، وقال: أنا ربكم الأعلى. وافتخر بما عنده من الأنهار؛ فأهلكه الله بمثل ما افتخر به بالماء، غرق، عاد استكبروا في الأرض، وقالوا: من أشد منا قوة؟ فأهلكهم الله تعالى بالريح وهي من ألطف الأشياء، لكنها من أشد الأشياء مع لطافتها، فالله عز وجل يذل من يشاء.ويتفرع على هذه الفائدة: أننا متى علمنا أن الإعزاز والإذلال بيد الله فإننا لا نطلب العزة إلا به عز وجل؛ ولهذا نقول: من ابتغى العزة من غير الله فهو ذليل، فالعزة لا تُطْلَب إلا من الله.
وكذلك أيضًا يتفرع على هذا: أنه ينبغي للإنسان أن يستعيذ بالله دائمًا من الذل الحسِّي والمعنوي، لأن الله تعالى هو الذي بيده الإذلال، من شاء أذله ومن شاء أعزه.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن الله سبحانه وتعالى بيده الخير.ويتفرع على هذه الفائدة: أنه إذا كان الخير بيده، فلا يطلب الخير إلا منه؛ لأنه لا أحد بيده الخير إلا الله سبحانه وتعالى؛ فهو الذي يطلب منه الخير.
* ومن فوائدها: أن الشر لا يضاف إلى الله وإن كان عز وجل هو الذي خلق كل شيء، لكن الشر لا يضاف إلى الله، لماذا؟ لأن أفعاله كلها خير، والشر في المفعولات، ثم هذا الشر في المفعولات قد يكون خيرًا حتى في المفعولات نفسها، قد يكون خيرًا، فكم من مرض صار سببًا لصحة الجسم، وكم من آفات في الزروع وغيرها صارت أسبابًا للنمو الاقتصادي من جهة أخرى مثلًا، فالمهم أن الشر لا يضاف إلى الله؛ لأن فعله كله خير سبحانه وتعالى.
* ومن فوائد الآية الكريمة: عموم قدرة الله؛ لقوله: ﴿إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾، وهذا يشمل ما كان من أفعاله وما كان من أفعال الخلق، فيكون في ذلك ردٌ على القدرية الذين يقولون: إن الله لا يخلق أعمال العباد ولا يريدها، وأن الإنسان مستقل بإرادته وعمله، فنقول: هل هذا بقدرة الله أو لا؟ إن قالوا: بغير قدرة الله، فقد كذَّبوا عموم قوله تعالى: ﴿إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير﴾، وإن قالوا: بقدرة الله، قلنا: يلزم أن يكون أيش؟ مرادًا ومخلوقًا لله؛ لأنه ما دام الأمر بقدرته، فلا بد أن يكون مخلوقًا له ومرادًا له.
* ومن فوائدها: الرد على كلمة وقعت من بعض المفسرين ومنهم الجلال السيوطي في قوله تعالى: ﴿لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [المائدة ١٢٠] حيث قال: خص العقل ذاتَه فليس عليها بقادر، فإن هذه كلمة باطلة، هو أراد معنى -والله أعلم- لكن التعبير بهذا خطأ، نقول: إن الله تعالى قادر على كل شيء يتعلق بفعله أو بفعل عباده، كل شيء يفعله الله فهو بقدرته سبحانه وتعالى، كل شيء يفعله العباد فهو أيضًا بقدرته، وهذا الاستثناء أو هذا التخصيص غير صحيح، بل العقل يشهد لله تعالى بالكمال أو بعموم القدرة وأنه على كل شيء قدير.
* ومن فوائد الآية الكريمة: الاستغناء بالثناء عن الدعاء؛ لأنك إذا تأملت الآية هذه لن تجد فيها دعاء، أي طلبًا، لكن الثناء مما يتوسل به إلى الله، وقد مر علينا أن الدعاء تارة يكون بذكر حال الداعي، وتارة يكون بالثناء على الله، وتارة يكون بهما، وتارة يكون بالطلب وحده، وكل ذلك جاءت به السنة، هنا الثناء يتضمن ما تدل عليه هذه الجمل، فإذا قلت: أنت الذي تُعِز وأنت الذي تُذِل، فمعنى هذا أو فمقتضى هذا: أنك تسأل الله أن يعزك ولا يذلك؛ ولهذا قال الشاعر:
إِذَا أَثْنَــــى عَلَيْــــكَ الْمَــــرْءُيَوْمًــــــــــــا ∗∗∗ كَفَــــاهُ مِــــنْ تَعَرُّضِــــهِالثَّنَــــــــــــــــــــاءُ
أي: ثناؤه عليك يكفي عن تعرضه وسؤاله.
ثم قال الله تعالى:
﴿تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ﴾ قال:
﴿تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ﴾ أي: تدخل الليل في النهار، وتدخل النهار في الليل، بمعنى أن الليل يدخل على النهار، فيزيد الليل وينقص النهار،
﴿تُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ﴾ بالعكس يدخل النهار على الليل، فيطول النهار ويقصر الليل، وهذا الفعل من الأفعال التي لا يقدر عليها إلا الله وحده، هو الذي يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل.
ومع هذا فإن هذا الإيلاج إيلاج بحكمة، بتدرج، بتدرج يأتي قليلًا قليلًا حتى ينتهي ثم يعود، ما ظنكم لو أن الليل قفز من أقصر الليل إلى أطوله؟ لاختل نظام العالم وفسد العالم، وفسدت مواقيته، ولكن الله عز وجل يجعله بالتدريج ليعرف الناس أوقاتهم، وينبني أيضًا على هذا الإيلاج ينبني على ذلك تغير الفصول، فإنه إذا طال النهار طال زمن وجود الشمس على سطح الأرض احتر الجو، وأيضًا يكون شعاع الشمس عموديًّا، فيكون أشد تأثيرًا في الحرارة مما إذا كان غير عمودي، والعكس بالعكس بالنسبة للشتاء، فيترتب على هذا الإيلاج زمن الفصول.
ومن رحمة الله عز وجل أن هذا الزمن الفصلي لا يأتي أيضًا دفعة واحدة، ما ظنك لو انتقل الناس من أحر يوم في السنة إلى أبرد يوم؟ ضرر عظيم، أو بالعكس؟ لكن الرب الرحيم عز وجل الحكيم يأتي بهذا الشيء بتدرج، فمن الذي يستطيع أن يزيد في الليل ساعة أو في النهار ساعة؟ لا أحد يستطيع، لو اجتمعت الأمة كلها -كل الخلائق- على أن يزيدوا ساعة في الليل أو ساعة في النهار ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا.
وقوله:
﴿وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ﴾ ﴿الْمَيِّت﴾ في الموضعين فيها قراءتان:
﴿الْمَيْت﴾ و
﴿الْمَيِّت﴾ يعني بالتشديد والتخفيف.
﴿وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ﴾ هل المراد (الْحَيّ) حياة حسية أو معنوية أو هما؟ الثالث هو المراد؛ وذلك لأن اللفظ صالح للمعنيين، وإذا صلح اللفظ للمعنيين بدون تنافٍ بينهما، فالواجب حمله عليهما.
(الْحَيّ) حياة حسية أمثلته كثيرة، فالإنسان مخلوق من نطفة وهي ميتة، ميتة بالمعنى اللغوي، فصار حيًّا من جماد؛ ولهذا قال الله تعالى:
﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ [البقرة ٢٨] كنتم في أصلاب أمهاتكم أمواتًا ليس فيكم أرواح، ثم نفخ في الإنسان الروح فصار حيًّا.
إذن يخرج الحي من الميت، أي يجعل الميت حيًّا، كما قال تعالى:
﴿ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ﴾ [المؤمنون ١٤] أو يخرج حيًّا ناميًا متحركًا من شيء لا ينمو، فهو ميت، كإخراج الفرخ من البيضة، فإن البيضة ميتة يخرج منها فرخ حي، هذا الموت الحسي والحياة الحسية.
المعنوي: يخرج الحي من الميت، أي: المؤمن من الكافر؛ لأن المؤمن حي حياة قلبية، والكافر ميت، يخرج الحي العالِم،
﴿مِنَ الْمَيِّتِ﴾ من الجاهل، كما قال تعالى:
﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا﴾ [الأنعام ١٢٢]، الأول هو العالِم، والثاني الجاهل، هذا الحياة المعنوية والحسية.
قال:
﴿وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ﴾ الميت من الحي بالنسبة للحياة الحسية، مثل البيضة من أين؟ من الدجاجة، ميت من حي، وغير؟
* طالب: المني من الرجل.
* الشيخ: لا.
* طالب: إذا سقط..
* الشيخ: الميت من الحي، نعم، وربما يتناول الميت إذا سقط من حي، يعني المرأة إذا أجهضت جنينًا ميتًا خرج، مع أن هذا الجنين لا يتحرك، لكن يخرج بقدرة الله، يسوقه الله عز وجل حتى يخرج.
* طالب: الحَب من الشجر.
* الشيخ: الحَب؟ إيه، الحب من الشجر، الحب لا ينمو والشجر ينمو، وهذه حياة خاصة، حياة نباتية.المعنوي: يخرج الكافر من المؤمن، ويخرج الجاهل من العالم، كذا؟
قال:
﴿وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ ﴿تَرْزُقُ﴾ تعطي،
﴿مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ أي: بغير عوض؛ لأن المحاسبة إنما تكون مع المعاوضة، فإن من لا يريد العوض لا يحاسبه، لكن من يريد العوض هو الذي يحاسب حتى يعلم هل ما أخذه مقابل لما أعطاه أو لا، وأما من لا يحتاج إلى عوض أو من لا يأخذ عوضًا فلا يحاسب.
إذن
﴿تَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ﴾ بغير عوض، لكن نفى الحساب الذي مقتضاه الذي لا يكون إلا من معاوضة أو من لازمه المعاوضة، فالله سبحانه وتعالى يعطي بلا عوض، وما أكثر النعم التي أنعم بها علينا ولكن لا يحاسبنا، يعطينا منه سبحانه وتعالى تفضلًا وكرمًا، وإن أمرنا بالشكر فشكرناه، فهذا عطاء ثانٍ، فشكر الإنسان ربه على نعمته هو من نعمته أيضًا، هو من نعمته، ولهذا يقول الشاعر:
إِذَا كَانَ شُكْرِي نِعْمَةَ اللَّهِ نِعْمَــةً ∗∗∗ عَلَيَّ لَهُ فِي مِثْلِهَا يَجِبُ الشُّكْــــرُ؎فَكَيْفَ بُلُوغُ الشُّكْرِ إِلَّا بِفَضْلِــــهِ ∗∗∗ وَإِنْ طَالَتِ الْأَيَّامُ وَاتَّصَلَالْعُمْرُ
أعيد البيتين يقول:
إِذَا كَانَ شُكْرِي نِعْمَةَ اللَّهِ نِعْمَــةً ∗∗∗ عَلَيَّ لَهُ فِي مِثْلِهَا يَجِبُ الشُّكْــــرُ؎فَكَيْفَ بُلُوغُ الشُّكْرِ إِلَّا بِفَضْلِــــهِ ∗∗∗ وَإِنْ طَالَتِ الْأَيَّامُ وَاتَّصَلَالْعُمْرُ
والمرة الثالثة:
إِذَا كَانَ شُكْرِي نِعْمَةَ اللَّهِ نِعْمَــةً ∗∗∗ عَلَيَّ لَهُ فِي مِثْلِهَا يَجِبُ الشُّكْــــرُ؎فَكَيْفَ بُلُوغُ الشُّكْرِ إِلَّا بِفَضْلِــــهِ ∗∗∗ وَإِنْ طَالَتِ الْأَيَّامُ وَاتَّصَلَالْعُمْرُ
سمِّعْناها.
* طالب:
إِذَا كَانَ شُكْرِي نِعْمَةَ اللَّهِ نِعْمَــةً ∗∗∗ عَلَيَّ لَهُ فِي مِثْلِهَا يَجِبُ الشُّكْــــرُ؎فَكَيْفَ بُلُوغُ الشُّكْرِ إِلَّا بِفَضْلِــــهِ ∗∗∗ وَإِنْ طَالَتِ الْأَيَّامُ وَاتَّصَلَالْعُمْرُ
* الشيخ: البيتان معناهما واضح، يعني: أن الله إذا وفقك لشكر نعمته، فهذه نعمة تحتاج إلى شكر، فإذا شكرتها يحتاج الشكر إلى شكر آخر، وإذا شكرت الثالث احتاج إلى رابع، وهكذا؛ ولهذا قال:
فَكَيْفَ بُلُوغُ الشُّكْرِ إِلَّا بِفَضْلِــــهِ ∗∗∗ وَإِنْ طَالَتِ الْأَيَّامُ وَاتَّصَلَالْعُمْرُ
إذن يقول:
﴿تَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ أي: تعطي من تشاء بغير حساب، واعلم أن رزق الله عز وجل نوعان: رزق به قوام البدن، ورزق به قوام القلب والروح، أما الأول فيشمل المؤمن والكافر، والبر والفاجر، والمطيع والفاسق، وحتى البهائم، ما هو؟ الرزق الذي به قوام البدن، هذا شامل لكل أحد حتى الكافر مرزوق، وهل يدخل فيه الحرام؟ نعم، يدخل فيه الحرام، حتى الذي لا يأكل ولا يشرب إلا حرامًا فهو برزق من الله، رزق، لكنه رزق يقوم به البدن.
والثاني: ما يقوم به القلب والروح، وهذا خاص بأهل الإيمان والعلم، هؤلاء رزقهم الله عز وجل ما تقوم به قلوبهم وأرواحهم علم؛ لأن العلم بمنزلة الماء للشجرة، العلم للقلب بمنزلة الماء للشجرة، لا يمكن أن تنمو بدونه، الإيمان كذلك، لا يمكن أن يقوم القلب ويصلح القلب إلا بالإيمان، وكلما ازداد القلب إيمانًا بالله ازداد صلاحًا.
إذن الرزق نوعان: عام وخاص، فالعام ما به قوام البدن، والخاص ما به قوام القلب والروح، إذن كل من رزقه الله ما به قوام القلب والروح، فقد رزقه ما به قوام البدن، وليس كل من رزق ما به قوام البدن يكون قد رزق ما به قوام القلب والروح.
قال:
﴿وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ وكلمة:
﴿مَنْ تَشَاءُ﴾ نقول فيها ما سبق، أي: ما اقتضت حكمتك أن ترزقه.
وأسباب الرزق كثيرة؛ إما حركة من الإنسان، وإما إمداد من الله، والحركة أيضًا لا تنفع إلا بإمداد من الله، لكن أحيانًا يرزق الإنسان بدون كسب، بدون عمل، مثل أن يموت له قريب فيرث منه، أو يخرج إلى البر ويحتطب، وإن كان هذا نوع من العمل، وأحيانًا يكون لا بد من ممارسة عمل وتجارة، وكل هذا من أسباب الرزق.
بل من أسباب الرزق تقوى الله، وليس معنى التقوى أن تعكف في المسجد وتتعبد، التقوى أعم من ذلك، الساعي على الأرملة والمساكين اللي يذهب ويطلب لهم الرزق ويقوم عليهم يقول الرسول ﷺ:
«السَّاعِي عَلَى الْأَرْمَلَةِ وَالْمَسَاكِينِ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ»(٥)، إذن هذا دين ولَّا غير دين؟ السعي على الأرملة والمساكين، يذهب في أرض الله يطلب الرزق لهؤلاء الأرامل والمساكين، وكل من لا يكتسب فهو مسكين، حتى ولو كان من أولادك، حتى ولو أنت غني وهذا الولد لا يكتسب فهو مسكين، فأنت إذا سعيت عليه كالمجاهد في سبيل الله، قال: وأحسبه قال:
«كَالصَّائِمِ لَا يُفْطِرُ، وَكَالْقَائِمِ لَا يَفْتُرُ»(٦).
فليس تقوى الله بأن يلزم الإنسان المساجد، تقوى الله أن يقوم بطاعة الله من أي جنس كانت، حتى طلب الرزق لمن تجب عليك معونته يعتبر من تقوى الله عز وجل.
* من فوائد الآية الكريمة: تمام قدرة الله عز وجل وسلطانه في كونه يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل.
* ومن فوائدها: إثبات حكمة الله؛ لأن هذا الإيلاج له حكمة عظيمة لا تقوم مصالح الخلق إلا بها؛ لأنه يترتب على هذا الإيلاج -كما قلنا- اختلاف فصول السنة التي يترتب على اختلافها نمو الأجساد والنبات، من النبات ما يكون شتويًّا، ومن النبات ما يكون صيفيًّا.
* ومن فوائد هذا أيضًا: أن الإنسان يعرف به ضعفه وافتقاره إلى ربه، إن جاء البرد صار يتطلب ما يدفئه، وإن جاء الحر صار يتطلب ما يبرده، فهو محتاج إلى ربه في الحالين، واضح؟ وهذه من فوائد اختلاف الحر والبرد.
* ومن فوائدها أيضًا، ويتفرع على ذلك: أن هناك أشياء مؤذية -وهي ما يعبر عنه بعلم الطب: الجراثيم- لا يقتلها إلا شدة البرد، وأخرى لا يقتلها إلا شدة الحر، وهذا شيء مشاهد، هذا أيضًا من حكمة الله عز وجل المترتبة على إيلاج الليل في النهار وإيلاج النهار في الليل.
* ومن فوائد ذلك -أي إيلاج الليل في النهار وإيلاج النهار في الليل-: أن هذا الإيلاج يدل على كمال القدرة، كما أسلفنا أولًا، إذ إنه لا أحد يستطيع أن يزيد ساعة من الليل في النهار أو بالعكس، ولكن الله تعالى هو الذي يقدر على هذا.
* ومن فوائد هذه الآية: تمام قدرة الله وسلطانه بإخراج الحي من الميت وإخراج الميت من الحي، ووجه ذلك ظاهر، فإن القادر على إخراج الشيء من ضده دليل على أن قدرته تامة، وسلطانه نافذ سبحانه وتعالى.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن الرزق بيد الله؛ لقوله: ﴿وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ﴾، ويترتب على هذا: أنه ينبغي للعاقل فضلًا عن المؤمن أن لا يطلب الرزق من أيدي الناس، وإنما يطلبه من الله عز وجل؛ ولهذا جاءت النصوص بفضيلة العفة أن يستعف الإنسان عما في أيدي الناس، ولا يسأل.«وكان من جملة ما بايع الصحابة رضي الله عنهم عليه رسول الله ﷺ: أن لا يسألوا الناس شيئًا، فكان سوط أحدهم يسقط من على بعيره، وينزل إلى الأرض ليأخذه ولا يقول: ناولني إياه(٧) »؛ لأنهم بايعوا على أن لا يسألوا الناس شيئًا، وهذا لاشك يجعل الإنسان يلجأ إلى من؟ إلى الله سبحانه وتعالى، يلجأ إلى الله، (...) يسأل الإنسان ما يباح له سؤاله، إنما تمام العفة أن لا يسأل الناس شيئًا، بل يجعل الأمر موكولًا إلى الله سبحانه وتعالى.
* ومن فوائد الآية الكريمة: أن عطاء الله بلا عوض؛ لقوله: ﴿بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾، فالله سبحانه وتعالى لا يبيع عليك الثمر الذي تأكل، أو الثوب الذي تلبس، أو البيت الذي تسكن، لا، بل هو يرزق ويعطي بغير حساب، كل ما بنا من نعمة فمن الله.
* ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات المشيئة لله عز وجل، في قوله: ﴿مَنْ تَشَاءُ﴾، وقد مر علينا في التوحيد أن لله مشيئة وإرادة، وأن المشيئة ليس فيها انقسام، والإرادة تنقسم إلى كونية وشرعية، أما المشيئة فهي كونية، فإن الله تعالى يشاء كل شيء.
(١) أخرجه مسلم (٢٨٨٩ / ١٩) من حديث ثوبان.
(٢) أخرجه الترمذي (٢٢٥٤)، وابن ماجه (٤٠١٦) من حديث حذيفة بن اليمان.
(٣) أخرجه مسلم (٧٧١ / ٢٠١) من حديث علي.
(٤) متفق عليه؛ البخاري (١٤٢٧)، ومسلم (١٠٣٤ / ٩٥) من حديث حكيم بن حزام.
(٥) متفق عليه؛ البخاري (٥٣٥٣)، ومسلم (٢٩٨٢ / ٤١)، من حديث أبي هريرة.
(٦) متفق عليه؛ البخاري (٥٣٥٣)، ومسلم (٢٩٨٢ / ٤١)، من حديث أبي هريرة.
(٧) أخرجه مسلم (١٠٤٣ / ١٠٨) من حديث عوف بن مالك الأشجعي.