الباحث القرآني

ثم قال: ﴿لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ﴾ إلى آخره، وهنا قد يقول قائل: ما وجه مجيء الاستدراك في هذه الآية: ﴿لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا﴾؟ لأن الاستدراك إنما يكون فيما يتوقع دخوله فيما سبق؛ فأنت مثلًا (...) القوم لكن فلان لم يقم، ممن يتوقع أن يكون فيهم قائم، فهنا: ﴿لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ﴾ ما وجه الاستدراك؟ وجه الاستدراك أن الذين اتقوا ربهم لو حصل لهم من الدنيا مثل ما حصل لهؤلاء الكفار لم يكن ذلك حائلًا بينهم وبين ما عند الله؛ يعني: قد يحصل تقلب المؤمنين في البلاد كتقلب الكفار، أليس كذلك؟ فهل يكون مأوى المتقين كمأوى الكافرين؟ لا؛ ولهذا قال: ﴿لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ﴾ فالاستدراك هنا من ألطف ما يكون؛ لئلا يظن الظان أن الله لو مكن للمؤمنين أن يتقلبوا في البلاد تقلب الكفار لفاتهم ما عند الله، فبين أنه لن يفوتهم، قال: ﴿لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ﴾. ﴿الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ﴾ والتقوى تمر بنا كثيرًا وأحسن ما فسرت به أنها: اتخاذ ما يقي من عذاب الله بفعل أوامره واجتناب نواهيه، هذا أجمع ما قيل في التقوى، اتخاذ وقاية من عذاب الله بفعل أوامره واجتناب نواهيه. وقوله: ﴿الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ﴾ ولم يقل: اتقوا الله، إشارة إلى أن ربوبية الله لهم ربوبية خاصة أعانهم فيها على التقوى ووفقهم لها فكانت ربوبيته لهم ربوبية خاصة بهم، (...) ربوبيته لبعض الأنبياء مثل: ﴿رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ﴾ [الأعراف ١٢٢] فهي ربوبية خاصة لا يشركهم فيها أحد. ﴿اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ﴾ إلى آخره. إذا رجعنا إلى الإعراب بعد معرفة المعنى نقول: (لكن) حرف استدراك، عاملة ولَّا غير عاملة؟ غير عاملة، و﴿الَّذِينَ﴾ مبتدأ و﴿لَهُمْ جَنَّاتٌ﴾ مبتدأ وخبر، والمبتدأ والخبر خبر المبتدأ الأول. ﴿لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ (جنات) جمع (جنة) وأصلها البستان الكثير الأشجار؛ سمي بذلك؛ لأنه يجن من كان فيه أي يستره، ولكننا لا نفسر (جنات) أو (جنة) التي في القرآن والتي يريد الله بها جنة الخلد لا نفسرها بهذا التفسير عند العامة؛ لأنك لو فسرتها هذا التفسير عند العامة لنزلت رغبتهم في الجنة نزولًا كثيرًا، لقالوا: البستان الفلاني أحسن منها، فيه أشجار وفيه نخيل وفيه كذا وفيه كذا. لكننا نقول عند العامة: الجنة هي الدار التي أعدها الله تعالى للمتقين فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. وأعتقد أنك لو فسرتها عند عجوز من عجائزنا فقلت: الجنة البستان الكثير الأشجار والنخيل لمالت عليك، هذه؟ ما هي الجنة هكذا؟ لأنها تتصور الجنة فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وإذا قلت: هي البستان الكثير الأشجار والنخيل ويش تتصور؟ كل رآها، كل يعرفها، لهذا أنا أقول: ينبغي لطالب العلم أن يفسر القرآن بمعناه، ولكن إذا خاف فتنة فنفسره بما يوافق العقول ولا يخالف النصوص، فإذا قلت عند العامة: الجنة هي الدار التي أعدها الله تعالى للمتقين، وفيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. فالتفسير هذا صحيح. لكن عندما تتكلم مع طالب علم يقول: ما معنى الجنة، ولماذا سميت بهذا؟ نأتي إلى المادة (الجيم والنون) نجد أنها كلها تدل على الاستتار، فتقول: هي في الأصل البستان الكثير الأشجار. ولنا أن نقول: إن الجنة في الأصل هي هذا المعنى، لكن نُقِلَت شرعًا إلى الدار التي أعدها الله للمتقين، كما نُقِلَتْ الصلاة والزكاة والحج والعمرة إلى معناها الشرعي. ﴿لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا﴾ سبق لنا أن قوله: ﴿مِنْ تَحْتِهَا﴾ يدل على علو قصورها وأشجارها، وأن الأنهار أربعة، وأنها تجري بلا أخدود وبلا شَقٍّ ساقي، تجري حيث شاء صاحبها، خليج منه أو إلى ساق منه يتجه حيث يشاء، وفي ذلك يقول ابن القيم في النونية: ؎أَنْهَارُهَا مِنْ غَيْرِ أُخْدُودٍ جَرَتْ ∗∗∗ سُبْحَانَ مُمْسِكِهَا عَنِ الْفَيَضَانِ أسأل الله أن يجعلني وإياكم من أهلها. يقول: ﴿مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا﴾ الخلود هو البقاء أي: باقون فيها، إلى متى؟ أبدًا، كما قال الله تعالى في آيات أخرى متعددة: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾ [النساء ٥٧]. ﴿نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ ﴿نُزُلًا﴾: هذه منصوبة على الحال، أي: حال كون هذه الجنات نزلًا. فإذا قال قائل: كيف (...) وصاحبها نكرة، لأن (جنات) نكرة، والحال لا تأتي من النكرة لا بد أن يكون صاحبها معرفة؟ فالجواب على ذلك أن نقول: صاحبها نكرة لكنه خصص بالنعت: ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ والنكرة المخصصة تأتي من الحال كما تأتي من المعرفة. الثاني يقول قائل: (...) لا جامد، والنزل وهو اسم لما يقدم للضيف من الطعام جامد وليس بمشتق؟ فالجواب: أنه قد تأتي الحال جامدة لكنها مؤوَّلة بالمشتق، يعني أنهم مكرمون بهذا النزل. وقوله: ﴿مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ أي: أن هذا النزل ليس من فلان أو فلان، من عند أكرم الأكرمين وأجود الأجودين وهو الله، والنزل من الأكرم يكون عظيمًا وكريمًا وكثيرًا. قال: ﴿وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ﴾ (ما) اسم موصول ولا يمكن أن تكون نافية؛ لأن المعنى يفسد كثيرًا، لو قلت: (ما) نافية صار المعنى: ليس عند الله خيرٌ للأبرار. وهذا كذب، فهي (ما) الموصولة؛ يعني: والذي عند الله خير، فتكون مبتدأ و(خير) خبره، يعني: وما عند الله خير مما ذكر من وصف الجنات، وهذا كقوله تعالى: ﴿لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ﴾ [ق ٣٥] ففي الجنة أكثر مما يتمناه الإنسان وأكثر مما يتصوره، وهو النظر إلى وجه الله عز وجل، فإن النظر إلى وجه الله أعظم ما يكون من النعيم؛ ولهذا سماه الله زيادة في قوله تعالى: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾ [يونس ٢٦] فقد فسر أعلم الخلق بكلام الله وهو النبي ﷺ الزيادة بأنها النظر إلى وجه الله[[أخرجه أحمد (١٨٩٣٥)، والنسائي في السنن الكبرى (١١١٧٠) من حديث صهيب. ]]. ﴿وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَار﴾ والأبرار جمع بَر، والبر (...) الخير، ومنه قوله تعالى: ﴿إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ﴾ [الطور ٢٨] أي: كثير الخيرات، فالأبرار جمع بر وهم كثيرو الخيرات؛ وذلك بفعلهم ما أمر الله به وتركهم ما نهى الله عنه، ويأتي -إن شاء الله- ذكر فوائد هذه الآية. * طالب: (...) (نزلًا) مصدرًا لفعل محذوف؛ يعني تنزلهم نزلًا. * الشيخ: لا؛ لأن النزل هذا لما يقدم للضيف، ما هو من الإنزال. * طالب: يعني: هم اشتقوا منه. * الشيخ: لا ما يستقيم. * طالب: (...) * الشيخ: ما تقولون في الجواب على هذا؟ يقول: المعروف أن النزل أول ما يقدم للضيف لا يستمر؟ فالجواب على هذا أن نقول: إن الله جعل الجنة كلها، ومعروف أن النزل الذي يقدم للضيف أول ما يقدم يكون من أطيب شيء وأكرم شيء، فكأن الجنة كلها بمنزلة النزل، يعني لا يختلف آخرها عن أولها، بخلاف نُزُل الضيافة في الدنيا، الضيف أول ما يأتي أول يوم تجعل عنده طعامًا طيبًا، وثاني يوم أقل شوي، هذا الواقع، ثالث يوم أقل، ورابع يوم نقول: في أمان الله. فالنزل معروف أنه أول يوم أحسن شيئًا، فجعل الله هذه الجنة كلها نزلًا فلا يختلف آخرها عن أولها. * طالب: (...)؟ * الشيخ: يصح هذا، لكن لما ذكر الجنات ذكر أن ما عند الله خير من ذلك، فإذا كانت الجنات خيرًا من الدنيا وما فيها، فاللي خير من الجنات يكون أشد. * طالب: (...)؟ * الشيخ: لا، هذا يؤخذ من آيات أخرى، لكن ما هو الخير اللي هو خير من الجنات؟ قلنا: بَيَّنَها الله في آية أخرى. * طالب: (...). * الشيخ: أيش معناها؟ * * * قال الله تعالى: ﴿لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ﴾ [آل عمران ١٩٨]. ما فائدة هذا الاستدراك؟ * طالب: لئلا يظن ظان أن من حصل له ما حصل للكفار من التقلب في البلاد، أن يكون مآله مثل مآلهم فاستدرك الله عز وجل حتى.. * الشيخ: أن يكون مآل المتقين مثل مآل الكفار. قوله: ﴿وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ﴾، ماذا تعرب: ﴿مَا عِنْدَ اللَّهِ﴾؟ * طالب: (...). * الشيخ: اسم موصول، طيب، هي مبتدأ أين خبرها؟ * طالب: ﴿خَيْرٌ﴾. * الشيخ: ﴿خَيْرٌ﴾ طيب، من الأبرار؟ * طالب: (...) * الشيخ: جمع أيش؟ * طالب: بَر. * الشيخ: وهو كثير الخير. هل من أسماء الله البر؟ * طالب: (...). * الشيخ: نعم، الدليل؟ * طالب: ﴿إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ﴾ [الطور ٢٨]. * الشيخ: قوله تعالى: ﴿لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ﴾ إلى آخره. * فيها فوائد منها: أن المتقين وإن تقلبوا في البلاد فليس مآلهم كمآل الكافرين؛ لقوله: ﴿لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ﴾. * ومنها: فوائد التقوى، وأن من فوائدها ما حصل لهؤلاء المتقين من النزل العظيم عند الله عز وجل؛ وهي هذه الجنات التي تجري من تحتها الأنهار. * ومنها: أن هؤلاء المتقين ثوابهم عند الله عز وجل أكثر بكثير مما يعطى هؤلاء الذين يتقلبون في البلاد؛ لأن الله قال في المتقلبين: ﴿مَتَاعٌ قَلِيلٌ﴾، أما هؤلاء فقال: ﴿لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا﴾ دائمًا وأبدًا. * ومنها: عظم هذا الجزاء والثواب الذي يحصل لهم؛ لأنه نزل من عند أكرم الأكرمين وهو الله عز وجل؛ لقوله تعالى: ﴿نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾. * ومنها: ما استنبطه بعض أهل العلم من أن قوله: ﴿وَمَا عِنْدَ اللَّهِ﴾ يفيد العلو؛ وذلك لأنه لا يمكن أن يفيد السفل؛ لأن ذلك نقص يُنَزَّه الله عنه، فتعين أن يكون ذلك في العلو: ﴿وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ﴾. * ومنها: أن الجزاء من جنس العمل، فإن هؤلاء لما كانوا بررة كثيري الخيرات كان لهم عند الله عز وجل هذا النزل العظيم. * ومن فوائدها: أن في الجنات أنهارًا، أنهارًا عظيمة تجري من تحت غرفها وأشجارها؛ لقوله تعالى: ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ [البقرة ٢٥]. * ومن فوائدها: أن مَن منَّ الله عليه بالتقوى فإن ذلك من مقتضى ربوبية الله تعالى الخاصة؛ حيث قال: ﴿اتَّقَوْا رَبَّهُمْ﴾ فتخصيص الربوبية هنا بهؤلاء المتقين هو من باب الربوبية الخاصة. وقد مر علينا كثيرًا أن ربوبية الله عز وجل لخلقه نوعان: عامة، وخاصة؛ فالعامة هي الشاملة لجميع الخلق، والخاصة هي الخاصة بالمؤمنين. كما أن العبودية أيضًا نوعان: عامة وهي التي لجميع الخلق، كما في قوله تعالى: ﴿إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا﴾ [مريم ٩٣]، وخاصة وهي عبودية الله عز وجل للمؤمنين، كما قال الله تعالى: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا﴾ [الفرقان ٦٣] وهذه الخاصة منها ما هو أخص، كما في عبودية الرسل فهي أخص من العبودية العامة للمؤمنين المتقين؛ قال تعالى: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ﴾ [الفرقان ١]. وعلى هذا ففي العبودية عموم مطلق وعموم نسبي؛ فالعموم المطلق هو الذي يشمل جميع من في السماوات والأرض، والنسبي هو عموم عبودية المؤمنين، فإنه عام بالنسبة لعبودية الرسل خاص بالنسبة للعبودية المطلقة. * ومن فوائد الآية الكريمة: هذه الجنات التي تجري من تحتها الأنهار إذا كانت نزلًا وهو ما يقدم للضيف من الكرامة فما بالك بما يكون بعد هذا؟ سيكون خيرًا كثيرًا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب