الباحث القرآني

ثم قال: ﴿رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ [آل عمران ١٩٤] انظر إلى التكرار في قوله: ﴿رَبَّنَا﴾ لأنهم يتلذّذون بهذا التعبير أن يكون الله ربهم، وإذا كان الله ربهم فهم عبيده، وتلذّذ الإنسان بعبوديته لله عز وجل دليل على كمال إيمانه؛ لأنه كلما كان الإنسان أذل لله كان أكمل إيمانًا، ولهذا يكرّرون: ربنا، ربنا؛ تلذذًا بهذا الاسم الكريم. وقوله: ﴿رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا﴾ (آتنا) بمعنى (أعطنا)، بخلاف (ائتنا) فهي بمعنى (جئنا)، (آتى) بمعنى (أعطى)، (أتى) بمعنى (جاء)، ما المصدر من آتى؟ (إيتاء)، قال الله تعالى: ﴿وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى﴾ [النحل ٩٠]، والمصدر من أتى: (إتيان). يقول: ﴿وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ﴾ ﴿مَا﴾ هذه موصولة، ومحلها من الإعراب مفعول ثانٍ لـ(آتِ)؛ لأن (آتِ) تنصب مفعولين، أصلهما؟ * طالب: من أخوات (أعطى). * الشيخ: من أخوات (أعطى). يعني ليس أصلهما المبتدأ والخبر، فالذي ينصب مفعولين إن كان أصلهما المبتدأ والخبر فهو من أخوات (ظن)، وإن لم يكن أصلهما المبتدأ والخبر فهما من أخوات (أعطى) و(كسا)، هذه من أخوات (أعطى) و(كسا). ﴿مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ﴾ ﴿مَا وَعَدْتَنَا﴾ أي: عهدت به إلينا من الثواب الجزيل على أعمالنا. وقوله: ﴿عَلَى رُسُلِكَ﴾ تحتمل معنيين؛ أحدهما: على الإيمان برسلك، والثاني: على أيدي رسلك، فعبر بالرسل عن أيدي الرسل؛ لأن الذي وعدهم هم الرسل أنفسهم، وعدوا المؤمنين بما وعدهم الله به، ووعدوا المخالفين بما توعّدهم الله به. ﴿وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ ﴿تُخْزِنَا﴾ أي: تفضحنا وتذلّنا. ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ أي: يوم يقوم الناس من قبورهم لله عز وجل، وسمي هذا اليوم يوم القيامة لأمور ثلاثة: الأول: أنه يقوم الناس فيه من قبورهم لله. والثاني: أنه يقام فيه العدل. والثالث: أنه يقوم فيه الأشهاد. وقوله: ﴿إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾ تعليل لسؤالهم؛ يعني سألناك يا ربّنا أن تعطينا هذا؛ لأنك لا تخلف الميعاد؛ يعني الوعد، وإنما انتفى عنه إخلاف الوعد لكمال صِدقه وكمال قدرته، حطوا بالكم، انتفى عنه خلاف الميعاد لكمال صدقه وكمال قدرته؛ لأن إخلاف الوعد إما أن يكون لكذب الواعد، كميعاد أهل النفاق، وإما أن يكون لعجز الواعد؛ أي: أنه يفي لكن عجز، والله عز وجل قد انتفى في حقه الأمران: أعني الكذب والعجز، فهو لكمال صدقه وكمال قدرته لا يخلف الميعاد، وهذه الصفة من الصفات أيش؟ السلبية، السلبي يعني بمعنى النفي، من الصفات السلبية. وقد قررنا غير مرة أن الصفات السلبية يراد بها شيئان؛ الأول: انتفاء الصفة التي نُفيت، والثاني: إثبات كمال ضدها؛ يعني انتفى عنه هذا لكمال ضده، هذا المعنى؛ فإذا قلت: فلان لا يكذب، فالمعنى أنه كامل الصدق، لا يوجد في كلامه كذب، ولهذا نقول: إن الصفات المنفية عن الله عز وجل لا يراد بها مجرد النفي، وإنما يراد بها إثبات كمال الضد. * من فوائد هذه الآية الكريمة: أنه ينبغي للداعي أن يُكثر من الثناء على الله تعالى بأسمائه وصفاته؛ لأن هذا من وسائل إجابة الدعاء. * ومن فوائد الآية الكريمة: كمال إيمان هؤلاء بوعد الله؛ لقولهم: ﴿وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا﴾ إذ لو كان عندهم شك ما سألوا هذا السؤال. * ومن فوائدها: أن الرسل هم الواسطة بين الله وبين خلقه؛ لقوله: ﴿عَلَى رُسُلِكَ﴾ ولا شك أن الرسل هم الواسطة بين الله وبين الخلق، ومن حكمة الله أن جعلهم من البشر؛ لأنه لا يمكن التلاؤم بينهم وبين البشر إذا لم يكونوا من جنسهم، ولهذا قال الله تعالى رادًّا على الكفار الذين قالوا: لو كان محمد ملكًا لآمنَّا به، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (٨) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا﴾ [الأنعام ٨- ٩] وحينئذٍ تعود المشكلة على زعمهم ﴿وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ﴾. * ومن فوائد هذه الآية: إثبات أن الخلق لهم أكثر من رسول ﴿عَلَى رُسُلِكَ﴾؛ لأن رُسُل جمع (رسول)، وهذا أمر معلوم، معلوم باليقين القطعي، فالقرآن كله مملوء من قصص الأنبياء. فإذا قال قائل: قد ورد الجمع يراد به الواحد كقوله تعالى: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ﴾ [الشعراء ١٠٥] ومعلوم أن قوم نوح لم يكذّبوا إلا نوحًا؟ فالجواب عن ذلك أن نقول: إن هذه الآية قد دلّت على أن المرسَل إليهم كم؟ واحد، ولكن لما كان تكذيب الرسول الواحد تكذيبًا لجميع الرسل قال: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ﴾؛ لأن المقصود هو التكذيب بالجنس لا بالواحد، فكأنهم كذبوا بجنس الرسالة وقالوا: لا يمكن أن الله يبعث الرسل كما قال تعالى في بيان تكذيب الأمم أنهم يقولون لرسلهم: أنتم بشر مثلنا: ﴿مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا﴾ [يس ١٥]. * من فوائد الآية الكريمة أيضًا: أن هؤلاء الأبرار يؤمنون بيوم القيامة وبما يلحق الناس به من الذل والخزي؛ لقوله: ﴿وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾. * ومن فوائدها: أن الخوف من عذاب الله لا ينافي البر؛ لقولهم: ﴿وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ بل إن الخوف من عذاب الله يزيد البر؛ لأنه يزيد تصديقه بما أخبر الله به. * ومن فوائد الآية الكريمة: كمال صدق الله وقدرته، من أين تؤخذ؟ من قوله: ﴿إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾. * ومن فوائدها: أن الله تعالى لا يخلف الميعاد أبدًا. فإن قال قائل: يرد على هذا قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء ٤٨] وقد توعّد الله سبحانه وتعالى العصاة بما يستحقون من الذنوب مثل: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَتَّاتٌ»[[متفق عليه؛ البخاري (٦٠٥٦)، ومسلم (١٠٥ / ١٦٩) من حديث حذيفة.]] أي: نَمَّام. فالجواب: أننا متى قلنا: إن هذا النفي يُراد به بيان كمال الله في الصدق والقدرة فإن عفوه عمن استحقّ العقاب لا يعد إخلافًا للوعد؛ يعني هو قادر، ولكنه كمال فوق كمال، فإن العفو عن الانتقام مع القدرة أيش؟ كمال، قال الله تعالى: ﴿إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا﴾ [النساء ١٤٩].
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب