الباحث القرآني
ثم قال الله عز وجل: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾، (إذ) ظرف لما مضى، وتأتي في القرآن كثيرًا محذوفة العامل، ويقدره العلماء بقولهم: (اذكر إذ)، (واذكر إذ أخذ الله) يعني: اذكر هذا للناس مبينًا ما حصل.
وقوله: ﴿إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ﴾ الميثاق هو العهد الثقيل، وسمي العهد الثقيل ميثاقًا من الوثاق، وهو الحبل الذي يُشد به الإنسان ويربط، كما في قوله تعالى: ﴿فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ﴾ [محمد ٤] يعني الحبل الذي تربطونهم به وتأسرونهم به، فالميثاق بمعنى العهد الثقيل، وسمي العهد الثقيل ميثاقًا لأنه كالرباط للمعاهد.
وقوله: ﴿الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ المراد بهم اليهود والنصارى، أخذ الله عليهم العهد والميثاق بما أعطاهم من الكتاب أن يبينوه للناس، ولهذا قال: لتبيننه، اللام موطئة للقسم، أي أُخذ عليهم عهد بهذا: ﴿لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ﴾، هنا قال: لتبينن ولا تكتمونه، فكيف يصح قوله: ﴿وَلَا تَكْتُمُونَهُ﴾ مع أنه قال: ﴿لَتُبَيِّنُنَّهُ﴾؟ لأن البيان ضد أيش؟ ضد الكتمان، ولكن نقول: المعنى: لتبيننه بيانًا لا كتمان فيه.
والكتمان نوعان: إما إخفاء بعض الآيات، وإما تحريف الآيات إلى معانٍ أخرى، فإن هذا يعد كتمًا؛ لأن الذي يحرف الآيات إلى معانٍ أخرى لم يبين الآيات على ما هي عليه، بل كتم المعنى الحقيقي المراد إلى معنًى آخر، فالكتم إذن نوعان: إخفاء لبعض الآيات كما قال الله تعالى: ﴿تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا﴾ للناس ﴿وَتُخْفُونَ كَثِيرًا﴾ [الأنعام ٩١]، وإما أن يكون الكتم كتم المعنى، أي لا يُبين المعنى، وإنما يُحرف.
فالكتم إذن نوعان: إخفاء الألفاظ، والثاني: إخفاء المعاني، بحيث لا يغير اللفظ لكن يغير المعنى، فهذا كتمان.
ومن ذلك مثلًا أن النصارى قالوا: إن محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام ليس هو الذي بشّر به عيسى؛ لأن الذي بشر به عيسى اسمه أحمد، وهذا اسمه محمد، هذا كتمان، كتمان معنى ولا لفظ؟
* طلبة: معنى.
* الشيخ: معنى.
﴿لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ﴾ فإن قال قائل: هل يشعر العالم بهذا الميثاق، وأنه جرى بينه وبين الله عز وجل صفقة عهد؟
الجواب: لا يشعر، لكن إيتاء الله العلم له يعتبر ميثاقًا، يعني كون الله يهبه علمًا هذا ميثاق، ما أعطاك هذا العلم إلا من أجل أن تبينه، وإن كان الإنسان لا يستحضر أنه جرى بينه وبين ربه عهد كما يعاهَد أهل الذمة مثلًا، ولكن إيتاء الله عز وجل العلم له هذا عهد أن يبينه.
قال: ﴿وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ﴾: ﴿نَبَذُوهُ﴾ أي: نبذوا العهد، نبذوا الميثاق، أي طرحوه، ومع ذلك لم يطرحوه بين أيديهم، بل طرحوه وراء ظهورهم، وهو كناية عن شدة إعراضهم عما آتاهم الله من الكتاب، حيث نبذوه نبذًا، ولم ينبذوه أمامهم، بل وراء ظهورهم، فيكون هذا أشد في كراهية ما أنزل الله وفي الاستكبار عنه والإعراض عنه.
﴿فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا﴾: ﴿اشْتَرَوْا بِهِ﴾ أي استبدلوا به ﴿ثَمَنًا قَلِيلًا﴾ أي بهذا العهد والميثاق ثمنًا قليلًا، ما هو الثمن القليل الذي اشتروه؟ إبقاء رئاستهم وجاههم وسلطانهم على قومهم؛ لأن هؤلاء الأحبار والقسيسين لو تبعوا محمدًا زالت رئاستهم ووجاهتهم، وصاروا كعامة الناس، فقالوا: نكذب محمدًا ونبقى على ما كنا عليه من الرئاسة والجاه والتقديم. إذن ما هو الثمن؟ ما هو المبيع وما هو الثمن؟
المبيع العهد، والثمن: الجاه والرئاسة وما أشبه ذلك، ووصف الله هذا بأنه قليل، وصدق الله، فإن جميع ما في الدنيا قليل، قال الله تعالى: ﴿قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى﴾ [النساء ٧٧]. فهذا الذي استبدلوه هو ثمن قليل زهيد، لا يدوم للإنسان ولا يدوم الإنسان له، بل لا بد من زوال؛ إما زوال الإنسان وإما زوال الثمن الذي اشتراه.
يقول: ﴿فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ﴾ بئس: فعل ماضٍ جامد. جامد يعني لا يتصرف، النحويون يسمون الفعل الذي لا يتصرف جامدًا؛ لأنه باقٍ على حال واحدة، والمتصرِّف يسمونه متصرفًا لأنه يشبه المائع الذي يسيل ويسيح، لكن هذا جامد لا يتصرف.
وقوله: ﴿بِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ﴾ كلمة (بئس) و(نعم) وما أشبههما تحتاجان إلى شيئين: إلى فاعل، ومخصوص بالذم أو بالمدح، فقوله: ﴿مَا يَشْتَرُونَ﴾ هذا هو الفاعل (ما)، والمخصوص محذوف، والتقدير أيش؟
* طالب: هذا الشراء.
* الشيخ: فبئس ما يشترون هذا الثمن أو هذا الشراء.
في هذه الآية قراءات نسينا أن نبينها لكم، قوله: ﴿لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ﴾ فيها قراءة: ﴿لَيُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا يَكْتُمُونَهُ﴾ ، يعني بالياء بدلًا عن التاء، فعلى القراءة الأولى بالتاء يكون في الكلام التفات، منين؟ من الغيبة إلى الخطاب، وعلى القراءة الثانية يكون الكلام نسقًا واحدًا، ليس فيه التفات.
والالتفات ذكرنا أن فيه فوائد، ما هي؟
* طالب: منها التنبيه على هذه الجملة.
* الشيخ: نعم، التنبيه على هذه الجملة؛ لأن الكلام إذا صار على نسق واحد شرد الذهن، فإذا جاء التفات كأنه يقول: انتبه. هذا واحد.
* طالب: بيان عظم هذا الأمر.
* الشيخ: لا.
* طالب: تشويق السامع.
* الشيخ: تشويق السامع؟ أحيانًا يكون فيه تشويق السامع، صحيح، لكن شدة وقع هذا الشيء؛ لأن العدول عن الغيبة إلى الخطاب أشد وقعًا من الغيبة، يعني أن المشافهة بالخطاب أشد وقعًا من المشافهة بالغيب، ولهذا قال الله تعالى: ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى﴾ [عبس ١، ٢] ولم يقل: عبست، وهو يريد سبحانه وتعالى النبي ﷺ، لكن أسلوب الغيبة أهون وقعًا من أسلوب الخطاب. وتأملوها في قصة الخضر مع موسى: في الأول، في الجملة الأولى، قال له: ﴿أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا﴾ [الكهف ٧٢]، ﴿أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ﴾، في الثانية قال: ﴿أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا﴾ [الكهف ٧٥] فكانت الثانية أشد من الأولى، أشد وقعًا.
وفيه أيضا قراءة في الآية التي بعدها.
* من فوائد هذه الآية: أن الله عز وجل أخذ على أهل العلم العهد ببيان العلم وعدم كتمانه؛ لقوله: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّه﴾ إلى آخره.
* ومن فوائدها: التحذير من كتمان العلم؛ لأن الله ذكر ذلك على سبيل الذم، لا على سبيل المدح، وقد جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام أن «مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ وَهُوَ يَعْلَمُهُ ثُمَّ كَتَمَهُ؛ أُلْجِمَ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»[[أخرجه الترمذي (٢٦٤٩) وابن ماجه (٢٦٦) من حديث أبي هريرة.]]، نعوذ بالله، كما أنه كتم العلم ولم ينطق به فإنه يُجعل له يوم القيامة لجام يلجم به على فمه لسكوته عن بيان العلم.
* ومن فوائد هذه الآية: وجوب بيان العلم على أهل العلم؛ أنه يجب على أهل العلم أن يبينوه، أن يبينوا العلم الذي آتاهم الله، ولم يذكر الله عز وجل الوسيلة التي يحصل بها البيان، فتكون على هذا مطلقة، راجعة إلى ما تقتضيه الحال، قد يكون البيان بالقول، وقد يكون بالكتابة، وقد يكون في المجالس العامة، وقد يكون في المجالس الخاصة، على حسب الحال؛ لأن الله أطلق البيان ولم يفصل ولم يعين.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أنه في الأمور الهامة ينبغي أن يُقرن النفي بالإثبات ليتحقق الكمال؛ لقوله: لتبيننه ولا تكتمونه. ووجه ذلك ما أشرنا إليه قبل أن البيان عدم الكتمان، لكن لما قال: ﴿وَلَا تَكْتُمُونَهُ﴾ أكد البيان، وأن يكون بيانًا كاملًا ليس فيه كتمان.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: الذم القبيح لأهل الكتاب اليهود والنصارى؛ لقوله: ﴿فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ﴾ وأنتم تجدون شدة الوقع في قوله: ﴿نَبَذُوهُ﴾، ثم شدة الاستكبار؛ لقوله: ﴿وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ﴾.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن هؤلاء الذين نبذوا العهد والميثاق وراء ظهورهم أخذوا بدله ثمنًا قليلًا، يعني لم يأخذوا مقابله ولا مماثله ولا ما فوقه، ولكنهم أخذوا بدله ثمنًا قليلًا، مما يدل على خسة هممهم، وأن هممهم دنيئة، حيث أخذوا الأدنى بدلًا عن الأعلى.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: القدح في هذه الطريقة؛ لقوله: ﴿فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ﴾.
* ويتفرع على هذه الفائدة: تحذير أولئك الذي يحابون الرؤساء والأمراء والوجهاء والأعيان في ترك بيان العلم؛ لأن الله تعالى أثنى بالقدح واللوم والتوبيخ على من كانت هذه حاله، والواجب البيان حتى عند الأمراء والوزراء والكبراء والرؤساء، بل إن بيان الحق عندهم يكون أوجب، وكلمة الحق عند السلطان الجائر من أفضل الجهاد.
{"ayah":"وَإِذۡ أَخَذَ ٱللَّهُ مِیثَـٰقَ ٱلَّذِینَ أُوتُوا۟ ٱلۡكِتَـٰبَ لَتُبَیِّنُنَّهُۥ لِلنَّاسِ وَلَا تَكۡتُمُونَهُۥ فَنَبَذُوهُ وَرَاۤءَ ظُهُورِهِمۡ وَٱشۡتَرَوۡا۟ بِهِۦ ثَمَنࣰا قَلِیلࣰاۖ فَبِئۡسَ مَا یَشۡتَرُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق