الباحث القرآني

ثم قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ هذه الآية صلتها بما قبلها أنها كالتوكيد لها. قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ﴾ أي: اختاروا الكفر على الإيمان، وإلا فإن الكفر ليس سلعة يُباع ويشترى؛ فالاشتراء هنا بمعنى الاختيار، وترك الطرف الآخر. وقوله: ﴿اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ﴾ إذا قال قائل: هم لم يؤمنوا؟ قلنا: لكن اختيارهم للكفر أخرجهم من الفطرة التي كانوا عليها وهي التوحيد، فهم اشتروا الكفر بعد الإيمان، وسبق معنى الكفر، وأما الإيمان فإنه في اللغة قيل: التصديق، واستدلوا لذلك بقوله تعالى: ﴿وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا﴾ [يوسف ١٧] وقيل: الإقرار، والإقرار أخص من التصديق، واستدل هؤلاء بأن الكلمة إذا كانت بمعنى الكلمة فلا بد أن تتعدّى بما تتعدّى به، ومن المعلوم أن الإيمان لا يتعدى كما يتعدى التصديق؛ فإنك تقول: صدّقته ولا تقول: آمنتُه. لا تقول: آمنته؛ إذن فليس معناهما واحدًا، بل معنى الإيمان الإقرار؛ وهذا في اللغة، أما في الشرع فهو الإقرار المستلزم للقبول والإذعان، ليس مجرد الإقرار بإيمان، بل لا بد من أن يقبل ما جاء به الرسول ويُذعن له؛ ولهذا لم يكن أبو طالب مؤمنًا مع أنه مقرّ بما جاء به الرسول ﷺ، لكنه لم يقبله ولم يُذعن له فلم يكن مؤمنًا؛ وإذا كان هذا هو الإيمان -أي الإقرار المستلزِم للقبول والإذعان- فإنه يتضمّن جميع شرائع الإسلام كما هو مذهب أهل السنة والجماعة؛ أن الإيمان شامل للاعتقاد وقول اللسان وعمل الجوارح وعمل القلب أيضًا، عمل القلب والجوارح، وقول اللسان، واعتقاد القلب؛ أربعة أشياء، كلها من الإيمان. ﴿إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [آل عمران ١٧٧] ﴿لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا﴾ كالآيات السابقة تمامًا. ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ هنا قال: إنه أليم، وهناك قال: إنه عظيم، فيجتمع في عذابهم -والعياذ بالله- العِظم والألم. و﴿أَلِيمٌ﴾ هنا بمعنى (مؤلم)، وليست بمعنى شديد، فهي بمعنى اسم الفاعل من الرباعي من (آلمه يؤلمه إيلامًا فهو مؤلم). وهل يأتي (فَعِيل) بمعنى (مُفْعِل)؟ * طالب: نعم. * الشيخ: مثاله؟ * طالب: نبيه. * الشيخ: نبيه بمعنى نابه. * الطالب: (سَمِيع) بمعنى (مُسْمِع). * الشيخ: إي نعم، صح، السميع بمعنى (مُسمِع) على حد قول الشاعر: ؎أَمِنْ رَيْحَانَةَ الدَّاعِي السَّمِيعُ ∗∗∗ يُؤَرِّقُنِـــــي وَأَصْحَابِـــــيهُجُـــــــوعُ الداعي السميع: يعني المسمع. * في هذه الآية الكريمة: بيان شدة رغبة الكفار بالكفر؛ لأنهم اشتروه اشتراء، والمشتري طالب للسلعة، فهم يأخذونها -والعياذ بالله- عن رغبة، يأخذون الكفر عن رغبة. * ومن فوائد الآية الكريمة: بيان خسران هؤلاء حيث أخذوا الكفر بدلًا عن الإيمان، وهذه أخسر صفقة على وجه الأرض أن يأخذ الإنسان الكفر بالإيمان طائعًا طيبة به نفسه، والعياذ بالله. * ومن فوائد الآية الكريمة: بيان كمال الله عز وجل، وأنه لا تضره معصية العاصي، ولا تنفعه طاعة الطائعين؛ لقوله: ﴿إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا﴾. * ومن فوائدها: كمال سلطان الله، حيث إن هؤلاء الذين اختاروا الكفر على الإيمان لم يضروا الله شيئًا، مع أن المعروف أن الملك كلما قلّت جنوده ضعفت قوته إلا الله عز وجل فإنه لا يضره شيء. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أن عذاب هؤلاء الذين اختاروا الكفر على الإيمان عذاب مؤلم؛ ولذلك قال الله تعالى: ﴿وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا﴾ [فاطر ٣٧] يصارخون: ﴿رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ﴾ فينادون توبيخًا: ﴿أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ﴾. ثم قال تعالى: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ [آل عمران ١٧٨] ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ أي: لا يظن الذين كفروا؛ وفيها قراءة ثانية سبعية: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وقوله: ﴿أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ﴾ أي: نمهلهم عن الأخذ بالعقوبة؛ خيرًا أو خيرٌ؟ ﴿خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ﴾. وهنا يقع تساؤل: لماذا كانت خيرٌ مع أنه قال: ﴿نُمْلِي﴾ والفعل المضارع ينصب المفعول به؟ * طالب: خبر (أنّ). * الشيخ: أنَّ ﴿أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ﴾ لكن ﴿أَنَّمَا﴾ هنا (ما) اسم موصول، ولَّا أنما حرف حصر؟ * طالب: (ما) اسم موصول اسم من الأسماء.. * الشيخ: نعم، صح، إذن يكون التقدير: أن الذي نملي لهم خير، مع أن عندي مرسومة متصلة بـ(أن)، فصورتها صورة الحصر، ولكن هذا لا يمنع من أن تكون اسمًا موصولًا؛ لأن العلماء اتبعوا في رسم المصحف الرسم العثماني، وإلا لو مشينا على القاعدة الموجودة الآن لكُتبت (أنَّ) وحدها و(ما) وحدها. قال الله تعالى: ﴿أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ﴾ هذه (إنما) أداة حصر ﴿أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ﴾ أي: نمهلهم ﴿لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾. قوله: ﴿لِيَزْدَادُوا إِثْمًا﴾ اللام للتعليل باعتبار فعل الله؛ يعني أنه عز وجل يملي من أجل زيادة الإثم؛ وللعاقبة باعتبار حال المشركين أو الكافرين؛ لأنهم ما كفروا لأجل أن يزدادوا إثمًا ولكن كفرهم كان سببًا لزيادة الإثم؛ وقوله: ﴿لِيَزْدَادُوا إِثْمًا﴾ أي: إلى إثمهم؛ لأن الرجل إذا كفر عشرة أيام وزاد يومًا زاد كُفرًا، إذا زاد عشرة أيام أخرى زاد أكثر وهكذا؛ فهم -والعياذ بالله- لا يستفيدون من دنياهم بل يزدادون بذلك كفرًا. ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ ﴿مُهِينٌ﴾: مُذِلّ من الإهانة؛ وذلك لأنهم إنما كفروا استكبارًا وعلوًّا فعُوقبوا بعذاب يذلهم ويهينهم. يقول عز وجل: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ إلى آخره. * من فوائد هذه الآية: أنه يجب على الإنسان أن لا يظن أن إمهال الله له خير له؛ من أين تؤخذ؟ من النهي، والأصل في النهي التحريم، فلا يجوز للإنسان أن يغتر بإمهال الله له. * ومن فوائد الآية الكريمة: أن الله عز وجل بحكمته قد يستدرج بعض الخلق فيعطيه النعم تترى وذاك متجاوز لحدوده، ليبلغ في الطغيان غايته حتى إذا أخذه لم يفلته، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: «إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ»[[متفق عليه؛ البخاري (٤٦٨٦)، ومسلم (٢٥٨٣ / ٦١) عن أبي موسى الأشعري.]] وتلا قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾ [هود ١٠٢]. فإن قال قائل: هل تقيسون العاصي على الكافر؟ بمعنى أنه قد يُمهَل له وهو مقيم على المعصية؟ قد نقول: بالقياس بجامع أن كل واحد منهما أمهله الله ولم يعاقبه؛ وقد نقول: بعدم القياس، وذلك لأن الكفر أعظم من الفسوق؛ ولكن من رجع إلى ظاهر القرآن تبين له أنه حتى الفاسق ربما يُمهَل له؛ في قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾. * من فوائد هذه الآية الكريمة: أنه يجب على الإنسان أن يعتبر في عمره؛ وهل هو قد أمضاه في طاعة الله فليبشر بالخير، وإن أمضاه في معصية الله والله تعالى يُدرّ عليه النعم فليعلم أن هذا أيش؟ استدراج. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: الإشارة إلى أن الإنسان قد يغتر بظواهر الحال ولو كان من المتقين ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا﴾ فالإنسان قد يغتر بظاهر الحال ويقول: إن الله لم ينعم عليَّ نعمة إلا لأنني أهل، كما قال قارون: ﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾ [القصص ٧٨]. * من فوائد الآية الكريمة: إثبات زيادة الآثام؛ لقوله: ﴿لِيَزْدَادُوا إِثْمًا﴾ فتدل بالمفهوم على زيادة الإيمان، كذا؟ لأنه إذا ازدادوا إثمًا فما نقص عن الإثم كان زيادة في الإيمان؛ ولهذا قال أهل السنة: إن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية. * ومن فوائد هذه الآية الكريمة: إثبات العقوبة المذلّة لهؤلاء؛ لقوله: ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾. * ومن فوائدها أيضًا: أن الجزاء من جنس العمل؛ فإن هؤلاء لما استكبروا على الخلق وعلوا عليهم أذلهم الله. * طالب: أقر ممكن تأتي بدون تعدي بالباء ﴿وَصَدَّقَ﴾ تأتي بالتعدي بالباء مثل: ﴿وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ﴾ [الزمر ٣٣] نقول مثلًا: الله أقرّ فعل الرسول، ولكن الإشكال الذي يرد بالنسبة للتصديق والإيمان هو نفسه أتى مع الإقرار..؟ * الشيخ: لا يا أخي؛ أقره غير أقرّ به؛ أقره يعني لم ينكر عليه، وأقر به اعترف به؛ * طالب: مصدق؛ يعني متبع (...) وصدق به. * الشيخ: إي، لكن الإقرار أعظم أخص، ليس كل مصدق مقرًّا؛ يعني يصدق وفي نفسه شيء. * طالب: شيخ، أحسن الله إليك، أقول: عدم المطابقة بين التصديق والإيمان هل هو مبرر أحسن الله إليك لأن نقول: بأن الإيمان هو الإقرار لا التصديق، وإذا كان الأمر كذلك فكيف الجواب عن قول أبناء يعقوب: ﴿وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا﴾ [يوسف ١٧]؟ * الشيخ: إي نعم، إي، واضح لأنه مصدق، هنا مؤمن بمعنى مصدق؛ فالإيمان إذا تعدى باللام صار بمعنى التصديق. * الطالب: صار بمعنى التصديق باللام. * الشيخ: إي باللام. * الطالب: أقول: أحسن الله إليك، عدم المطابقة بين أنواع التصديق، لكن ما بيجعلنا نقول بأن الإيمان لا يجمع (...). * الشيخ: إي نعم، الإيمان المعدّى بالباء كما هو الإيمان بالله وملائكته إلى آخره لا يطابق الإيمان بالتصديق. هذا البحث الحقيقة ما رأيت أحدًا بحثه وسُدّد فيه إلا شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب الإيمان، وأنكر على من قال: إن الإيمان هو التصديق. * طالب: بالنسبة للكافر يعني عندما تشاهده إذا كان قريبًا يعني هل تتأسف عليه وتتمنى له الإيمان؟ * الشيخ: إي نعم. * الطالب: ولو عرفته مثلًا واحد.. مثلًا تدعو له؟ * الشيخ: إي نعم، تقول: اللهم اهده، اللهم اهده. * الطالب: تدعو له؟ * الشيخ: إي نعم، كيف ما تدعو؟! * الطالب: طيب بالنسة يا شيخ اللي عارف.. * الشيخ: لا سيما إذا كان من الرؤساء؛ لأن الرؤساء إذا هداهم الله اهتدى بهم أمّة. * الطالب: شيخ، إذا كان الإنسان عارف إنجليزي ودرس إنجليزي؛ يعني وجب عليه يبلغه لمن قابله؟ * الشيخ: فرض كفاية، التبليغ فرض كفاية. * طالب: هل القراءات في: (يَحْسِبن) بكسر السين؟ * الشيخ: ما أعرف اللي عندي ما ذكر كسر السين يقول: ﴿تحسَبَنّ﴾ بس. * طالب: شيخ، فيه قراءة.. * الشيخ: أقول اللي عندي ما فيه. * طالب: فيه وجهان. * الشيخ: ما هم؟ * طالب: (...). * الشيخ: اقرأ. * الطالب: قوله تعالى: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ﴾. الإملاء: طول العمر ورغد العيش. والمعنى: لا يحسبن هؤلاء الذين يخوفون المسلمين فإن الله قادر على إهلاكهم، وإنما يطول أعمارهم ليعملوا بالمعاصي لا لأنه خير لهم، ويقال: ﴿أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ﴾ بما أصابوا من الظفر يوم أُحُد لم يكن ذلك خيرًا لأنفسهم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب