الباحث القرآني

ثم قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾ [آل عمران ١٤٣] ﴿وَلَقَدْ كُنْتُمْ﴾ أكد الله هذه الجملة لإقامة الحجة عليهم: ﴿لَقَدْ كُنْتُمْ﴾ فالجملة هنا مؤكدة بكم مؤكد؟ بثلاثة: بالقسم المقدر، وباللام الواقعة في جوابه، وبـ(قد)، كنتم فيما مضى ﴿تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ﴾ وكانوا يتمنون الموت لا الموت على الفراش، ولكنهم يتمنون الموت في سبيل الله، وذلك أنه كما يعلم الكثير من الناس تخلف عن بدر جماعات كثيرة من الصحابة، فإن غزوة بدر لم يكن الخروج فيها للغزوة ولكن لأخذ العير، ولهذا لم يخرج من أهل المدينة كلهم إلا ثلاث مئة وبضعة عشر رجلًا، على أنهم يريدون العير، ولكن الله جمع بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد، فاستشهد من استشهد من المسلمين نحو ثلاثة عشر رجلًا، وتمنى الذين لم يدركوا هذه الغزوة أن قد خرجوا فيها، ولا سيما الشباب منهم. ولهذا لما استشارهم النبي عليه الصلاة والسلام في غزوة أحد: أيخرج إلى العدو أم يبقى في المدينة؟ كلهم قالوا: لا، نخرج، ولا سيما الذين تخلفوا في بدر، ماذا كانوا يتمنون بذلك؟ الشهادة كما استشهد إخوانهم في بدر، فهم كانوا يتمنون الموت، يقولون: يا ليتنا خرجنا، يا ليتنا قتلنا في بدر، يتمنون الموت، والتمني هو أن الإنسان يطلب تقديرًا ما يصعب حصوله، هذا التمني، أن يتمنى تقديرًا -يعني في قلبه- ما يصعب حصوله، سواء كان يصعب ثم يحصل أو يصعب ولا يحصل، ولهذا يقع التمني على الأشياء المستحيلة، كقول الشاعر: ؎أَلَا لَيْتَ الشَّبَابَ يَعُودُ يَوْمًا ∗∗∗ فَأُخْبِرَهُ بِمَا فَعَلَ الْمَشِيبُ وهل يعود؟ لا يمكن أن يعود. ويكون في الشيء الذي فيه العسر ولكنه قليل، إذن يتمنون الموت يعني في نفوسهم، يتمنون أنهم كانوا مع أهل بدر استشهدوا فقتلوا في سبيل الله. ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ﴾ يعني فقد حصل لكم ما تمنونه، الذي أنتم تمنونه حصل لكم ﴿وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾ يعني رأيتموه وأنتم على أشد ما يكون إحساسًا. وتأمَّل قوله: ﴿وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾ هل هي مؤكدة أو مؤسسة؟ أكثر المفسرين على أنها مؤكدة، قال: لأن من رأى فقد نظر، ولكنها في الحقيقة مؤسسة؛ لأن الإنسان قد يرى ولكن لا يحقق ما رأى، قد يرى الشيء وهو غافل عنه، لكن إذا رآه وهو ينظر إليه تمامًا قد ركز فهذا نظر خاص، أخص من النظر العام، نحملها على ذلك لأن الأصل في الكلام التأسيس؛ لأن التوكيد نوع زيادة، التوكيد نوع من الزيادة ليس فيه إلا توكيد ما مضى، وقد لا يحتاج إليه، لكن التأسيس هو الأصل. إذن يقول الله عز وجل: ﴿كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ﴾ ويقيم على ذلك الشهادة بالتوكيد: ﴿لَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ﴾، ﴿فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾ فلماذا يحصل منكم هذا التخاذل، نعم ولهذا قال: ﴿فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ﴾ أي الموت، نعم، رأيتموه أي الموت، رأوا من استشهد في غزوة أحد، رأوه بأعينهم. وذهب بعض المفسرين إلى أن المراد رأوه أي رأوا أسبابه، وهو القتال؛ لأن من لم يقتل لم يرَ الموت. ولكن هذا التفسير فيه نظر؛ لأن رؤية الموت يراها الإنسان في نفسه وفي غيره، ﴿فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ﴾ يعني فيما بينكم ﴿وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾. في هذه الآية من المشاكل النحوية قوله: ﴿تَمَنَّوْنَ﴾ حيث إن صورته صورة الماضي ولكنه صيغ بصيغة المضارع؟ فيه إشكال لأن تمنى ماضي. * طالب: حذفت التاء. * الشيخ: أيهم؟ * الطالب: تاء المضارعة: ولقد كنتم تتمنون الموت. * الشيخ: أحسنت، أصلها: تتمنون الموت. نريد أن تأتي لنا بمثال آخر في القرآن؟ * الطالب: كثير، إذا اجتمعا تاءان حذف واحدة منه (...) للثقل. * الشيخ: أنا أريد واحدًا، مثال واحد في القرآن يشهد لهذا؟ * الطالب: ﴿تَذَكَّرُونَ﴾. * الشيخ: ﴿لَعَلَّكُمْ﴾. * الطالب: إي نعم ﴿لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾. * الشيخ: ﴿لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ صح، أي: تتذكرون. ﴿فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى﴾ [الليل ١٤] أي: تتلظى، وهو كثير كما قال الأخ. * في هذه الآية من الفوائد: * أولًا: إقامة الحجة على من كانوا يتمنون الموت وقد رأوه ومع ذلك حصل منهم التخاذل؛ لقوله: ﴿وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ﴾ يعني فها أنتم الآن رأيتموه، فما موقفكم؟ * وفيه: أنه لا ينبغي للإنسان أن يتمنى المكروه؛ لأنه إذا تمناه ووقع ربما ينكص ولا يصبر، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: «لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ وَاسْأَلُوا اللهَ الْعَافِيَةَ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا؛ فَإِنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ» »[[متفق عليه أخرجه البخاري (٣٠٢٤)، ومسلم (١٧٤٢ / ٢٠) من حديث عبد الله بن أبي أوفي، واللفظ له.]] وهكذا الإنسان قد يشعر بنفسه أنه يقوى على الشيء ولكن يعجز عنه، وقد ذكروا أن سحنون صاحب مالك رحمه الله كان من العبّاد، فقال يومًا من الأيام كلامًا معناه: يا رب، إني صابر فكيفما شئت فامتحني. شوف بني آدم فقير مسكين، يعني أصبر على كل بلاء فامتحني يا رب. فأصيب بعسر البول، صار لا يبول إلا بمشقة شديدة، قالوا: فكان يدور على مدارس الصبيان، المدارس التي فيها الصبيان الصغار فيقول: ادعوا لعمكم الكذاب، ادعوا لعمكم الكذاب، وذهب إلى الصبيان لأنهم أقرب إلى الإجابة لطهارة قلوبهم وسلامتها ولا ذنوب عليهم، الكذاب لأنه قال: إني أصبر فكيفما شئت فامتحني، ولم يصبر، وهكذا الإنسان ينبغي له أن يسأل الله العافية، لكن إذا ابتلي فليصبر. * ومن فوائد هذه الآية: أنه لا بأس أن يوبخ الإنسان من تحدى واتخذ لمكانه مكانًا عاليًا إذا وجده قد تخاذل في هذا المكان، مثل لو كان رجل من الناس يزعم أنه صبور وأنه جلد وما أشبه ذلك، فإذا ألمت به الأمور صار جبانًا هلوعًا لا يتحمل فيُذكره، أظن أحد الشعراء كان يقول في شعره: ؎الْخَيْلُ وَاللَّيْلُ وَالْبَيْدَاءُ تَعْرِفُنِي ∗∗∗ وَالسَّيْفُ وَالرُّمْحُ وَالْقِرْطَاسُوَالْقَلَمُ شجاعة وعلم، كتابة كل شيء، فحصلت غزوة وكان فيها هذا الشاعر، فأراد أن ينهزم ويولي الدبر، وإذا حوله أناس قد حفظوا هذا البيت من شعره، فقالوا ما لك يا فلان وأنت تقول: ؎الْخَيْلُ وَاللَّيْلُ وَالْبَيْدَاءُ تَعْرِفُنِي ∗∗∗ وَالسَّيْفُ وَالرُّمْحُ وَالْقِرْطَاسُوَالْقَلَمُ فعتب على نفسه ورجع، وأظنه إن لم أكن نسيت أنه قُتل. فالإنسان قبل أن يصاب بالبلاء قد يشعر من نفسه أنه قوي يصبر، لكن يعجز، فإذا ذكرت أحدًا بشيء كان يفتخر به ويقول: أنا أفعل وأنا أقول وأنا أصبر، فهذا لا بأس به. ولكن هل هذا محمود إذا كان الأمر ضارًّا أو يُنظر للمصلحة؟ يُنظرللمصلحة، قد يكون المسكين يفتخر بما لا فخر فيه، فإذا وقع فيه وأراد أن يتأخر عنه ثم أغريته يقع في ضرر، فالمسألة يرجع فيها إلى المصلحة. * ومن فوائد هذه الآية: جواز التأكيد على رأي من يرى أن قوله: ﴿قَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾ فيها توكيد، أي جواز تأكيد اللفظ إذا دعت الحاجة إليه، وكان ذلك مقتضى البلاغة، بل قد يكون مطلوبًا كما في هذه الآية، فهذه الآية على قول بأن قوله: ﴿وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾ توكيد وأنها لم تأتِ بمعنى جديد، أما على القول الراجح الذي رجحنا بأنها أتت بمعنى جديد، فإننا لا نأخذ هذه الفائدة من هذه الآية، لكن نأخذها من آية أخرى، مثل: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (١٧) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ﴾ [الانفطار ١٧، ١٨]، ﴿كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ [التكاثر ٣، ٤]، ﴿أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (٣٤) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى﴾ [القيامة ٣٤، ٣٥] كثير في القرآن، تأكيدات للأهمية. * طالب: شيخنا، في الآية: ﴿لَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ﴾ [آل عمران ١٤٣] «الرسول عليه الصلاة والسلام نهى عن تمني الموت»[[متفق عليه؛ البخاري (٥٦٧١)، ومسلم (٢٦٨٠ / ١٠) من حديث أنس بن مالك.]]، فكيف نجمع بينهما؟ * الشيخ: إي نعم، هذه الواقعة سؤال يحتاج إلى التنبيه عليه، هم كانوا يتمنون الموت ذكرنا في التفسير يتمنون أيش؟ * الطلبة: الشهادة. * الشيخ: الشهادة، الموت في سبيل الله، ما هو الموت المطلق، لكن يؤخذ منه أنه يجوز أن يتمنى الإنسان الشهادة، يجوز أن يتمنى الشهادة وهو كذلك، بل لو قيل بمشروعية هذا لم يكن بعيدًا، وقد قال عمر رضي الله عنه: «اللهم ارزقني الشهادة في سبيلك والموت في بلد رسولك»[[أخرجه البخاري (١٨٩٠) من حديث عمر.]] رضي الله عنه، فكان الناس يقولون: كيف هذا الدعاء وكيف يجاب؟ المدينة بلد إسلامي، ولكنه رضي الله عنه أجاب الله دعاءه، قُتل ظلمًا وهو يصلي، ولم يُقتل لأنه عمر بن الخطاب، قتل لأنه قائم بأمر الله، منفذ لشريعة الله، قتله مجوسي مضاد للمسلمين، حرب على المسلمين، فقُتل في مدينة الرسول عليه الصلاة والسلام، فمات فيها. فتمني الموت جائز، لكن ذكر بعض المتأخرين أنه لا يجوز أن تتمنى الشهادة، قال: لأن تمنيك الشهادة يستلزم أن الأعداء يغلبون المسلمين. فتأملوا هذا الكلام هل هو حق أو باطل.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب