﴿إِن یَمۡسَسۡكُمۡ قَرۡحࣱ فَقَدۡ مَسَّ ٱلۡقَوۡمَ قَرۡحࣱ مِّثۡلُهُۥۚ وَتِلۡكَ ٱلۡأَیَّامُ نُدَاوِلُهَا بَیۡنَ ٱلنَّاسِ وَلِیَعۡلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَیَتَّخِذَ مِنكُمۡ شُهَدَاۤءَۗ وَٱللَّهُ لَا یُحِبُّ ٱلظَّـٰلِمِینَ﴾ [آل عمران ١٤٠]
ثم قال تعالى مسليًا الصحابة رضي الله عنهم بقوله:
﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ﴾ [آل عمران ١٤٠]
﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ﴾ وفيها قراءة:
﴿قُرْحٌ﴾ في الموضعين:
﴿فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قُرْحٌ مِثْلُهُ﴾ فقيل: معناهما واحد، وأن القَرح والقُرح هو الجرح، وقيل: إن القُرح الجرح، والقَرح ألم الجرح، والقولان وإن قلنا باختلافهما متلازمان؛ لأن القَرح من لازم الجرح الذي هو القُرح، فالإنسان المقروح لا بد أن يكون متألمًا، يعني إن يمسسكم جراح وألم فقد مس القوم قَرح مثله يعني جراح وألم؛ قال الله تعالى في نفس سياق الآيات:
﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ﴾ [آل عمران ١٦٥]، فإذا كان أصابتكم مصيبة فقد أصبتم مثليها في أُحُد، قُتِل منكم سبعون، لكن في بدر قُتل من عدوكم سبعون وأُسِر سبعون، ضِعف، هنا يقول:
﴿فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ﴾، وفي هذا تسلية للمؤمنين؛ لأن الإنسان إذا علم أن عدوه أصابه مثل ما أصابه فإنه تهون عليه المصيبة، تقول الخنساء وهي ترثي أخاها صخرًا:
وَلَوْلَا كَثْرَةُ الْبَاكِينَحَوْلِـــــــــــــــي ∗∗∗ عَلَى إِخْوَانِهِمْ لَقَتَلْتُ نَفْسِي
وَمَا يَبْكُونَ مِثْلَ أَخِي وَلَكِنْ ∗∗∗ أُسَلِّي النَّفْسَ عَنْهُبِالتَّأَسِّــــــــيوإلى هذا أشار الله في القرآن فقال: ﴿وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ﴾ [الزخرف ٣٩]، فاشتراككم في العذاب لم ينفعكم ولم يخفف عنكم الألم، لكن الله عز وجل يقول للمؤمنين إن كنتم قد أُصِبْتُم بقَرح فقد أصيب عدوكم بقرح مثله، بل في آية أخرى يقول الله عز وجل: ﴿وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ﴾ [النساء ١٠٤] شوف التسلية أعظم، ﴿وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ﴾ أي في طلبهم، يعني لا تضعفوا في طلبهم، اطلبوهم اقتلوهم، ﴿إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ﴾ [النساء ١٠٤] صدق الله، أليس كذلك؟ ويش بعد؟ ﴿وَتَرْجُونَ﴾ هذه نكتة ﴿وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ﴾ [النساء ١٠٤] هذه الفائدة العظيمة، هم لا يرجون شيئًا، إنما يريدون علوًّا واستكبارًا، خرجوا من ديارهم بطرًا ورئاء الناس، وأنتم ترجون أيش؟ ترجون الجنة، ترجون الشهادة، ولهذا قال: ﴿تَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ﴾، والصحابة ماذا قالوا لأبي سفيان في أُحُد لما قال: «يوم بيوم بدر والحرب سجال»، يعني مرة لنا ومرة علينا، قالوا: «لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار »(١) - والعياذ بالله - إذن فالمؤمنون لا يظنون أن عدوهم لا يصيبه ألم، لا يصيبه قرح، يصيبه، لا يهولهم دعايته الكاذبة أنه سيفعل ويفعل ويفعل، لا، لا يهولهم، إذا قُتِل منهم واحد ذاقوا ألم هذا المقتول كما أنه لو قُتِل منا واحد فإنّا ذقنا ألمه، لكن نحن نرجو من الله ما لا يرجون، ولهذا قال: ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ﴾ هذه بهذه.
ثم قال:
﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾،
﴿تِلْكَ﴾ اسم إشارة، يعني: هذه الأيام نداولها بين الناس، يعني نجعلها دولًا، تارة يُدال هذا على هذا، وتارة يدال هذا على ذاك، وانظر إلى قوله:
﴿نُدَاوِلُهَا﴾ حيث أتت بصيغة نون العظمة إشارة إلى أن الله عز وجل لكمال سلطانه وكبريائه يديل الناس بعضهم على بعض، فتارة تكون الأيام لهؤلاء، وتارة تكون الأيام لهؤلاء، فالله عز وجل هو الذي بيده الأمر، حتى إن الدولة تكون في بعض الأحيان لأعدائه على أوليائه لحكم يريدها، بيّنها بقوله:
﴿وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ إلى آخرها.
* طالب: بالنسبة لجهاد الكفار الآن في زماننا هذا لأن أي دولة يعني نقول مثلًا السعودية ومثلًا السنغال هذه الدول يعني إذا مثلًا الحكومة في الدولة يعني تريد تجاهد الكفار الدول الأخرى يعارضوهم لماذا تتعب نفسك (...) إذا كان أمة واحدة مثلًا دولة يكون جميع المسلمين رئيسهم واحد كان ممكن يكون يتفقوا في الجهاد، لكن الآن اتفاقهم في الجهاد صعب جدًّا؟
* الشيخ: هو عندك أمة إسلامية الآن على حسب ما يريد الله منها؟ أسألك الآن: هل عندك أمة على حسب ما يريد الله منها؟
* الطالب: إلا من رحم.
* الشيخ: أجب، ذكرت المستثنى دون المستثنى منه.
* الطالب: أما بالنسبة للحكام لا.
* الشيخ: لا، حتى بالنسبة للشعوب، ألم تعلم أنه يوجد أناس ينتسبون إلى الإسلام في بلاد أخرى ويقولون عن علماء السعودية ما يقولون؟ إذن الخلاف ما هو بس الحكام فقط، حتى بين العلماء، حتى بين المبادئ، الآن الذي يدعو للتوحيد يسمى وهابيًّا متشددًا متصلبًا متعنتًا متنطعًا، طيب وين الأمة الإسلامية؟ يعني يُخشى أن الأمة الإسلامية تقوم الحرب بينها، هذه مشكلة، المسألة تحتاج إلى علاج من الجذور، ويا حبذا أن يجتمع علماء المسلمين بنية صادقة وإخلاص ونصح لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ويدرسوا أوضاع المسلمين.
* الطالب: ويجعلوا الرئيس واحدًا بس.
* طالب آخر: أحسن الله إليك، نجد يا شيخ أن الجهاد قد مات في قلوب الناس، فإن العوام لا يدرون أن الجهاد كتب على هذه الأمة بأنه فرض، قلما يسمعون عن الجهاد، كأنه قصص خيالية؛ لأننا يا شيخ نشاهد العلماء لا يحيون بالناس وكذلك لا يطالبون بفريضة الجهاد كما يطالبون بالفرائض الأخرى، فلماذا يعني هذا الابتعاد الشديد عن الجهاد وعن تبيينه..؟
* الشيخ: هو لا شك أنه يجب أن يبين أن الكفار أعداء لنا، وأنه يجب أن نستعد لهم وأن نخشى شرهم، وأنهم أحيانًا يدسون السم بالعسل، بل كثيرًا، لكن مع الأسف ما عندنا هذا الروح، يعني أحكام الجهاد التي كتب عنها الفقهاء رحمهم الله كتابات، كتب مؤلفة، ما يعرفها عامة طلبة العلم ما يعرفونها، ولولا أزمة الخليج، أزمة الخليج بدأ الناس يتلمسون شيئًا من الجهاد مسألة ولّا مسألتين، إي نعم.
* الطالب: يا شيخ، العلماء لماذا يطالبون يعني مثل..
* الشيخ: والله أنا أقول: أسأل الله يصلح بطوننا قبل، بطون فيها عفون، نسأل الله السلامة.
* طالب: عفا الله عنك يا شيخ، ذكرنا أنه من التهور وإلقاء النفس في التهلكة أن نواجه أعداءنا وليس لنا قوة مثل قوتهم، كيف نجمع يا شيخ بين هذا وبين أننا نعد لهم مع أننا لن نستطيع أن نصل إلى ما وصلوا إليه من التقنية؟
* الشيخ: بس نحن أصلًا ما فكّرنا بهذا، يعني حتى الآن أنا أقول حتى بعض الدول العربية التي تكوّن جيوشًا وأسلحة ما أظن أنه يطرأ على بالها أنها تكون هذه لجهاد الكفار.
* طالب: ما فيه شك.
* الشيخ: ما فيه شك، فإذن الأساس من أصله خربان، أنت الآن لو بنيت جدارًا من طين على بركة، بركة ماء، يصمد للسقف الذي يبنى عليه الجدار؟ لا، يمكنك ما تعرف الطين والماء، يسقط؟ إي نعم، تحتاج إلى نية، لو تسأل كثيرًا من قادة العرب الآن أو إن شئت وقادة المسلمين لماذا تكوّن جيشًا، قال: أخاف من جيراني، أو يخاف من شعبه أن يثوروا عليه، وهو يريد أن يبقى على الحكم.
* طالب: ماذا نفعل؟ نيأس ونستسلم على هذا؟
* الشيخ: لا، ما نيأس، الحمد لله، الآن فيه تفتح، وفي حرب الخليج هذه فيه ناس الحمد لله من السعوديين ومن غير السعوديين أبناء الخليج نسمع عنهم أنهم لا يركبون إلا باسم الله، ولا يقاتلون إلا باسم الله، وأنهم يصلّون قبل أن يركبوا الطائرات مثلًا أو قبل أن يركبوا المراكب، كل هذا طيب، فيه صحوة جيدة الآن.
* طالب: شيخ، أحسن الله إليك، القرآن نزل بلغة العرب، والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ﴾، كافة الناس، بالنسبة للأعاجم الذين هم غير العرب أيش الوجوه (...) تكون لهم بيان؟
* الشيخ: الجواب على هذا وهو إشكال في محله يقال: كيف كان القرآن وهو عربي بيانًا للناس كلهم وفيهم العجم الذين لا يعرفون لغة العرب؟ نقول: لأن هؤلاء سيقيض لهم من يبلغهم إياه، ولهذا كثير من العلماء المسلمين الآن الذين لهم قدم صدق في العلم والدين كثير منهم عجم، إن شئتم فاعجبوا أن المرجع الوحيد لأكثر الناس في اللغة العربية كان الذي ألفه أعجمي الفيروزآبادي القاموس المحيط، القاموس المحيط مرجع غالب الناس الآن في اللغة إليه، في النحو مَن إمام البصريين؟ سيبويه، سيبويه في اللغة الأعجمية: رائحة التفاح، صح؟ إي نعم، فالحاصل إن - الحمد لله- العجم بلغهم القرآن، بواسطة، ما هو لازم أنهم يأخذون من القرآن نفسه، وبعضهم تعرّب وصار لسانه عربيًّا.
* طالب: جزاكم الله خير، ذكرنا في سياق الآيات أنه ينبغي للمسلمين ألا يقاتلوا حتى يستعدوا بقوة الإيمان والقوة المادية، بينما سمعنا أن الجهاد في أفغانستان بدأ من قلة قليلة، يعني أربعة أشخاص حققوا نتائج باهرة جدًّا، كيف هذا الأمر؟
* الشيخ: إي نعم، ما فيه مشكلة؛ لأن هؤلاء تعرف من قتال الأفغان عندهم استعداد وقوة؛ لأن طبيعة بلادهم صالحة لحرب العصابات، وهم بدؤوا هكذا، فبدؤوا يأخذون شيئًا فشيئًا، وفي رؤوس الجبال قمم الجبال وفي المغارات وفي الأشجار وغيرها، وحصلوا على خير كثير.
* طالب: ألا تكون منطلق يا شيخ في الجهاد لعامة الأمة؟
* الشيخ: ما أكثر المنطلَقات، لكن نسأل الله أن يسهل المنطلِق، منطلَق بفتح اللام واجد، لكن بكسر اللام مكسور الجناح، إن شاء الله، يكون إن شاء الله.
* طالب: شيخ، يقول النبي ﷺ إذا ثبت:« «لَنْ يُغْلَبَ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا مِنْ قِلَّةٍ»(٢)، فكيف يا شيخ موقفنا من هذا الحديث ونحن الآن عندنا الجيش السعودي أكثر من الضعف بكثير، وعنده من الآليات الحربية أكثر من اثني عشر ألفًا، فكيف هذا؟
* الشيخ: إيه، لكن معناها، لكنها قد تُغلب من غير قلة، قد تغلب من جهة أخرى، مثل ما ذكرنا، الجدار من الطين مُقام على بركة ماء.
* طالب: ذكرت يا شيخ إن الآن بحمد الله وهذا سمعناه (...)؟
* الشيخ: طيب، ما يخالف لكن كم؟ لو قدّرنا أنهم أربعين، خمسين، مئة (...).
* * *
* طالب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (١٤0) لِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (١٤١) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (١٤٢) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (١٤٣) وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (١٤٤) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ﴾ [آل عمران ١٣٩ - ١٤٥].
* الشيخ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله عز وجل: ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾. سبق لنا أن المراد بقوله تعالى:
﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ﴾ أن المراد به التسلية، أي أنه إذا كنتم أُصِبْتُم في أُحُد فإن القوم قد أُصِيبوا بقرح مثله، في نفس الغزوة أيضًا قُتل من المشركين من قتل وهُزموا لولا أن الله سبحانه تعالى أراد بحكمته أن يخالف بعض الجند مع النبي ﷺ الموقف الذي أمرهم به النبي ﷺ فحصل فيما بعد أن كان خلاف المراد.
قال الله تعالى:
﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾،
﴿تِلْكَ الْأَيَّامُ﴾ المشار إليه هنا بعيد ولكنه في الحقيقة قريب؛ لأن الأيام هي الزمن فهي قريبة، لكن لما كانت الأيام منها ما هو بعيد ومنها ما هو قريب غلب جانب البعد:
﴿تِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ أي: نجعلها بينهم دولًا، فمرة تكون الدولة لهؤلاء على هؤلاء، ومرة تكون الدولة لهؤلاء على هؤلاء، ففي بدر كانت الدولة على المشركين، وفي أُحُد كانت الدولة على المؤمنين، فهذا مرة وهذا مرة؛ لحكم عظيمة بيّنها الله سبحانه وتعالى فيما بعد.
وقوله:
﴿نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ يشمل مداولتها بين أمة وأمة، ويشمل كذلك مداولتها في الإنسان الواحد، فالإنسان يجد يومًا سرورًا ويجد يومًا آخر حزنًا، كما قال الشاعر:
فَيَوْمٌ عَلَيْنَا وَيَوْمٌ لَنَا ∗∗∗ وَيَوْمٌ نُسَاءُ وَيَوْمٌ نُسَرْفالدنيا هكذا لا تبقى على حال واحدة، ولهذا يقال: دوام الحال من المحال، فالأيام دُوَل.
وقوله:
﴿وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا منكم﴾، الواو هنا حرف عطف، فما هو المعطوف عليه؟ هل هي الجملة التي سبقت:
﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾؟ نقول: لا؛ لأن
﴿وَلِيَعْلَمَ﴾ تعليل للجملة التي قبلها وهي:
﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾، والعلة غير المعلول، ولا يصح عطفها عليه؛ لأن العلة هي السبب في وجود المعلول، إذن فهناك شيء معطوف عليه فيقدر بما يناسب الحال، فالذي يناسب هنا أن نقول: إن التقدير: ليتبين بذلك تمام سلطان الله عز وجل، نداولها بين الناس؛ ليتبين بذلك تمام سلطان الله، وأن الله عز وجل هو الذي له الحكم، يحكم في عباده بما يشاء، فيخذل أقوامًا وينصر آخرين، ويأتي بالعسر ويأتي باليسر حتى يتبين بهذا تمام سلطانه سبحانه وتعالى، حتى المخلوقات بعضها فيها خير وبعضها فيها شر، كل هذا ليظهر للناس تمام السلطان للعلي الكبير سبحانه،
﴿وَلِيَعْلَمَ﴾ إذن فالواو هنا حرف عطف، والمعطوف عليه؟
* طالب: ليتبين تمام سلطان الله عز وجل.
* الشيخ: محذوف تقديره: ليتبين بذلك تمام سلطان الله.﴿وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ علمَ وجود، وعلمًا يترتب عليه الجزاء، وإنما قلنا ذلك لأن الله تعالى قد علم الذين آمنوا قبل أن يؤمنوا، فإن علم الله بالأشياء علم أزلي قديم، يعلم سبحانه وتعالى ما كان وما يكون إلى يوم القيامة، لكن يعلمه علم وجود أي يعلمه موجودًا، أما العلم السابق فإنه يعلمه أنه سيوجد، وهناك فرق بين علمه الشيء موجودًا حال وجوده وبين علمه الشيء بأنه سيوجد، هذا واحد، الثاني: يعلمه علمًا يترتب عليه الجزاء، وذلك حين يوجد الإيمان أو يُفقد، أما علم الله السابق فإنه لا يترتب عليه الجزاء، وذلك لأن المؤمن لم يكن موجودًا بعد حتى يجازى أو لا يجازى، وبهذا يزول الإشكال الوارد على مثل هذه الجملة، ويحصل به الجواب عن الإشكال، وهو أن يقال: إن الله تعالى قد علم الذين آمنوا من قبل، فإنه سبحانه وتعالى كتب في اللوح المحفوظ مقادير كل شيء إلى يوم القيامة، وقد علم المؤمن من غيره من قبل، فكيف يقول:
﴿وَلِيَعْلَمَ﴾؟ ما الجواب؟ أن نقول: ليعلم علم وجود، أي بأن الشيء وُجِد، وتعلق العلم بالموجود غير تعلقه بالمعدوم الذي سيوجد، أليس كذلك؟ الثاني: أن يعلمه علمًا يترتب عليه الجزاء؛ لأن علمه السابق بأنه سيوجد لا يترتب عليه الجزاء.
وقوله:
﴿وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ كيف ذلك؟ لأن المؤمن يرضى بهذه المداولة؛ بمداولة الله الأيامَ بين الناس، يرضى بها رضًا تامًّا؛ إن أصابته ضراء صبر، وإن أصابته سراء شكر، ويعلم أن ذلك بتقدير الله فيرضى ويسلم، غير المؤمن بالعكس؛ إن أصيب بسراء أَشِرَ وبطر، وإن أصيب بضراء ضجر وتسخط، يقول الله سبحانه وتعالى:
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ﴾ [الحج ١١] أي على طرف،
﴿فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ﴾ والفتنة هنا المراد بها ضد الخير،
﴿وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ﴾، وكم من إنسان ارتد لأنه أصيب بمصيبة والعياذ بالله.
إذن
﴿وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ كيف كان هذا العلم؟ نقول: لأن المؤمن يرضى بمداولة الله الأيام بين العباد، إن أصابته ضراء أيش؟ صبر، أو سراء شكر، غير المؤمن بالعكس؛ لا يرضى بقضاء الله وقدره، يقول:
﴿لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا﴾ [آل عمران ١٦٨]،
﴿لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا﴾ [آل عمران ١٥٦]، وما أشبه ذلك، هذه واحدة، الحكمة الثانية: أقول الثانية أو الثالثة؟
* طالب: الثانية.
* طالب آخر: الثالثة.
* الشيخ: الثالثة: ألم نقل: إن قوله: ﴿وَلِيَعْلَمَ﴾ معطوف على مقدر، التقدير: ليتبين تمام سلطانه وليعلم.إذن الحكمة الثالثة: قال:
﴿وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ﴾، انظر إلى هذا التعبير، لم يقل: وليوجَد، بل قال:
﴿وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ﴾، فهؤلاء الشهداء اتخذهم الله واصطفاهم لنفسه جل وعلا، ولولا مثل هذه الهزيمة لم يكونوا شهداء، ولكن من أجل أن يتخذ منكم شهداء، أي يتخذ منكم أناسًا قُتِلُوا في سبيل الله، وكم من شهيد اتخذهم في غزوة أُحُد؟
* طالب: سبعون.
* الشيخ: سبعون رجلًا، لولا هذا لم يكن هناك شهداء، ﴿وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾، قوله: ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ أولًا: من هم الظالمون؟ الظالمون هم الذين نقصوا حق الله وحق عباده؛ لأن الأصل في الظلم النقص، الأصل أن معنى الظلم النقص؛ لقوله تعالى: ﴿كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا﴾ [الكهف ٣٣] أي: لم تنقص، فالظالم هو الذي نقص في حق الله وحق عباده، بل وحق نفسه ﴿وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [البقرة ٥٧]، فالظالم لا يحبه الله، لكن إن كان ظلمه ظلم كفر فلا حظ له في محبة الله، وإن كان ظلمه دون ذلك فله من محبة الله بقدر ما معه من العدل، ومن كراهة الله بقدر ما معه من الظلم.قوله:
﴿لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ قد يبدو غريبًا على القارئ مناسبة هذه الجملة بما قبلها:
﴿وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾، كيف هذا؟ فيقال: الجواب من وجهين؛ الوجه الأول: أن المراد به؛ بقوله:
﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ بيان أن الذين تخلفوا عن غزوة أحد وهم مقدار ثلث الجيش لم يكن منهم شهيد؛ لأنهم نجوا بأنفسهم، فلكونهم ظلمة لم يتخذ الله منهم شهداء، فيكون ذلك تنديدًا بمن؟
* الطلبة: بالذين فروا.
* الشيخ: بمن يا جماعة، ما فيه فرار، بالذين تخلفوا ورجعوا من أثناء الطريق وهم عبد الله بن أبي ومن تبعه من المنافقين، فكأنه قال: اتخذ منكم أيها الصفوة شهداء، ولم يتخذ من أولئك الذين نكصوا على أعقابهم؛ لأن هؤلاء ظلمة والله لا يحبهم، هذه واحدة، الوجه الثاني: أن الذين قُتِلوا في أحد قُتِلوا على أيدي المشركين، والمشركون هم الظالمون كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان ١٣]، فهل انتصار الظالمين في أُحُد واستشهاد من استشهد من المسلمين في أحد لأن الله يحب الظالمين ويكره المؤمنين؟ لا، إذن ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ لئلا يظن ظانّ أن انتصار المشركين في تلك الغزوة من محبة الله لهم، فبيّن الله عز وجل أنه لا يحب الظالمين، أعرفتم يا جماعة؟ إذن الجواب من وجهين.نرجع الآن إلى* فوائد الآية الكريمة:
﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ﴾ [آل عمران ١٤٠]
* من فوائد هذه الآية: بيان رأفة الله سبحانه وتعالى برسول الله ﷺ وأصحابه بهذه التسلية العظيمة ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ﴾.
* ومن فوائدها أيضًا: أنه ينبغي للإنسان أن يعزي المصاب بمثل هذا، بمثل هذه التعزية، فيقول مثلًا: يا أخي لست أول من أصيب، كم من أناس أصيبوا بمثل هذه المصيبة أو أكثر، ويقول له مثلًا: قدّر أن المصيبة أعظم من هذا؛ لأن كل شيء ممكن، فإذا أصبت بفقد ألف فقدّر أنك أصبت بفقد كم؟ ألفين؛ لأن هذا ممكن، فإذا قدّرت أنك أصبت بفقد ألفين والمفقود ألف هان عليك فقد الألف، إذن فالله علّمنا كيف نعزي المصاب بأن نسليه بذكر النظائر أو بذكر ما هو أعظم.
* من فوائد هذه الآية: أن الله سبحانه وتعالى جعل هذه الدنيا دولًا تتقلب؛ لئلا يركن الإنسان إليها؛ لأن الدنيا لو كانت دائمًا راحة ونعمة ركن الإنسان إليها ونسي الآخرة، ولو كانت دائمًا محنة ونقمة لكانت عذابًا مستمرًّا، ولكن الله جعلها دولًا يُدال فيها الناس بعضهم على بعض وتتداول الأحداث على الإنسان ما بين خير وشر.
* ومن فوائد هذه الآية: تمام سلطان الله سبحانه وتعالى في خلقه، وأن له التدبير المطلق، بناء على أيش؟ بناء على المقدر الذي قدرناه؛ ليظهر بذلك أو ليتبين بذلك تمام سلطان الله.
* ومن فوائدها: أن الله سبحانه وتعالى قد يمتحن العبد ليعلم إيمانه من عدمه، بماذا؟ يمتحنه بأنواع من الامتحانات، تارة بالمصائب وتارة بالمعائب، فهنا ابتلاء بماذا؟ بالمصائب، وإذا يسّر الله للإنسان أسباب المعصية فهذا ابتلاء بتيسير المعائب، مثل قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ﴾ [المائدة ٩٤].ومن فوائدها، من فوائد هذه الآية: تمام سلطان الله سبحانه وتعالى في خلقه، وأن له التدبير المطلق، بناء على أيش؟ بناء على المقدَّر الذي قدرناه، ليظهر بذلك أو ليتبين بذلك تمام سلطان الله.
* ومن فوائدها: أن الله سبحانه وتعالى قد يمتحن العبد ليعلم إيمانه من عدمه، بماذا؟ يمتحنه بأنواع من الامتحانات، تارة بالمصائب، وتارة بالمعائب، فهنا ابتلاء بماذا؟ بالمصائب، وإذا يسر الله للإنسان أسباب المعصية فهذا ابتلاء بتيسير المعائب، مثل قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ﴾ [المائدة ٩٤].ما تقول في هذه الآية؟ هذا الابتلاء ما هو؟
* طالب: ابتلاء حتى يعني يعلم من يتعدى حدود الله سبحانه وتعالى.
* الشيخ: إذن ويش القصة؟
* الطالب: قصة يعني قوله سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [المائدة ٩٤].
* الشيخ: ويش القصة؟
* الطالب: يعني حرم على المؤمنين الصيد وهم حُرُم.
* الشيخ: صح، حرم الله الصيد على المؤمنين وهم حرم، فابتلاهم بصيد تناله أيديهم ورماحهم، يعني يمسك الإنسان الصيد بيده وبرمحه ما يحتاج إلى سهم ﴿لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ﴾.
* من فوائد هذه الآية: أن علم الله سبحانه وتعالى على قسمين، علمه بالأشياء على قسمين: علم بأنها ستوجد وهذا أزلي، وعلم بأنها وُجدت وهذا يكون عند الوجود، ولهذا قال: ﴿وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [آل عمران ١٤٠].
* ومن فوائد هذه الآية: أن الله تعالى قد يقدر المكروه لحكم بالغة كثيرة، لقوله: ﴿لِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ﴾ [آل عمران ١٤٠].
* ومن فوائدها: فضيلة الشهادة. من أين تؤخذ؟ من قوله: ﴿وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ﴾ فكأنه سبحانه اصطفى هؤلاء الشهداء واتخذهم لنفسه.
* ومن فوائد هذه الآية: فضيلة شهداء أحد؛ لأن قوله: ﴿وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ﴾ أول من يدخل فيها شهداء أحد رضي الله عنهم.
* ومن فوائدها: إثبات المحبة لله؛ أن الله يحب. وجه ذلك أن نفيها عن الظالمين يدل على ثبوتها لضدهم؛ لأنها لو انتفت عن هؤلاء وهؤلاء لم يكن في نفيها عن الظالمين فائدة.ولهذا استدل الشافعي رحمه الله وغيره من أهل العلم على ثبوت رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة بقوله تعالى:
﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ﴾ [المطففين ١٥] يعني الفجار. قال: فلما حجب هؤلاء عن رؤيته في السخط دل على رؤية الآخرين في حال الرضا.
وهذا لا شك استدلال جيد، فهنا نقول: لما نفى المحبة عن الظالمين دل على ثبوتها لمن؟ لمن كان ضدهم؛ لأنها لو كانت منتفية عن هؤلاء وهؤلاء لم يكن لتخصيص الظالمين فائدة.
المحبة يعني كون الله يحب الشخص هل فيها نقص بالنسبة لله؟
لا، ولهذا كان أهل السنة السلف يثبتون أن الله تعالى يحب، يثبتون أن الله يُحِب وأنه يُحَب أيضًا، كما قال تعالى:
﴿فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ [المائدة ٥٤].
ومحبة الله سبحانه وتعالى إذا وُفق العبد لها لا يعادلها شيء ولا يماثلها لذة، يجد الإنسان في محبة الله لذة لا توصف أبدًا، حتى إن بعض السلف يقول: لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف. الله أكبر! الملوك هم في قمة النعيم الدنيوي، أليس كذلك؟ وأبناؤهم كذلك، لكن أحباب الله وأولياء الله أعظم منهم في هذا النعيم، يقول: لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه يعني من اللذة والسرور لجالدونا عليه بالسيوف.
ويدل لهذا قوله تعالى:
﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ [النحل ٩٧]. إذن نقول: من مذهب أهل السنة والجماعة إثبات المحبة لله، أن الله يُحِب وأنه يُحَب.
هل من الناس من أنكر محبة الله؟
نعم، من الناس من أنكر محبة الله، لكنه ليس إنكار تكذيب بل إنكار تأويل، فقالوا: المراد بالمحبة الإرادة أو الثواب، فمعنى (يحب) أي يريد أن يثيبهم أو أيش؟ أو يثيبهم، معنى (يحبهم) يعني يثيبهم، وهؤلاء هم الأشاعرة ومن كان أشد منهم في التعطيل، الأشاعرة يقولون: حرام عليك أن تقول: إن الله يحب، حرام عليك. طيب الله يقول: يحب؟ قال: معنى (يحب) يعني: يريد أن يثيبهم، أو معناه يثيبهم. وقد مر علينا مثل هذا كثيرًا وبيّنّا بطلان مذهبهم، وأن ما ذهبوا إليه يعتبر تحريفًا لكتاب الله وليس تأويلًا له.
* من فوائد الآية الكريمة: التحذير من الظلم، وجهه: لقوله: ﴿لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ [آل عمران ٥٧] وكل إنسان يهرب هروبه من الأسد من كل فعل يؤدي إلى عدم محبة الله له، ففي هذا تحذير من الظلم.والظلم أقسام؛ إما في حق الله، وإما في حق الآدمي، والظلم في حق الآدمي إما في المال وإما في النفس وإما في العرض، أنواع، لكن كل ظلم فإن الله لا يحبه.
* من فوائد الآية الكريمة: أن محبة الله قد تتبعض، بمعنى أنه يحب هذا أقوى من هذا، ويكره هذا أقوى من هذا، وجهه: أن الحكم إذا عُلق بوصف فإنه يزداد بزيادته ويقوى بقوته، وينقص بنقصه ويضعف بضعفه، فإذا كان انتفاء المحبة من أجل الظلم فكلما كان الإنسان أظلم كان أبعد عن محبة الله عز وجل.
(١) أخرجه البخاري (٣٠٣٩)، وأحمد (٢٦٠٩)واللفظ له من حديث عبد الله بن عباس.
(٢) أخرجه أبو داود (٢٦١١)، والترمذي (١٥٥٥) من حديث عبد الله بن عباس.