الباحث القرآني
ثم قال الله عز وجل: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا﴾ [آل عمران ١١٦]، قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ يشمل كل من كفر بالله من يهودي أو نصراني أو شيوعي أو دهري أو مسلم يرتد، المهم أن كل من كفر بالله فهذا حكمه.
والكفر ذكر أهل العلم أنه قسمان: كفر مخرج عن الملة، وكفر غير مخرج عن الملة، وعليه يتنزل قول ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ [المائدة ٤٤] قال: «كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ»[[تفسير عبد الرزاق (٧١٧)، وأخرجه الحاكم في المستدرك (٣٢٥٨). ]].
ومن أمثلة هذا النوع -أعني الكفر الذي لا يخرج عن الملة- قول النبي ﷺ: «سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ»[[متفق عليه؛ البخاري (٤٨)، ومسلم (٦٤ / ١١٦) من حديث عبد الله بن مسعود. ]]، فإن قتال المسلم ليس بكفر؛ أي ليس بكفر مخرج عن الملة، ولكنه كفر دون كفر؛ لأنه لا أحد يقدم على قتل المسلم إلا الكافر، فإذا قدم المسلم على قتل أخيه المسلم فقد أتى خصلة من خصال الكفر.
والدليل على أن قتال المسلم ليس بكفر مخرج عن الملة قوله تعالى: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ﴾ [الحجرات ٩]، إلى قوله: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ﴾ [الحجرات ١٠].
ومن ذلك قوله ﷺ: «اثْنَتَانِ فِي النَّاسِ هُمَا بِهِمْ كُفْرٌ: الطَّعْنُ فِي النَّسَبِ، وَالنِّيَاحَةُ عَلَى الْمَيِّتِ»[[أخرجه مسلم (٦٧ / ١٢١) من حديث أبي هريرة.]]، ولها أمثلة، المهم أن هذا كفر أصغر لا يخرج من الإسلام.
أما الكفر الأكبر فهو الكفر الذي يخرج من الإسلام، مثل قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ﴾ [البينة ٦].
وهنا يقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ هل المراد به الكفر الأصغر الذي لا يخرج به الإنسان من الملة أم الأكبر؟
الظاهر -والله أعلم- أن المراد به الأكبر؛ لقوله تعالى: ﴿وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [آل عمران ١١٦]؛ لأن أصحاب النار لن يكونوا إلا الكفار كفرًا أكبر؛ لأن صاحب الشيء هو الملازم له، ومن كفر كفرًا أصغر فإنه لن يلازم النار، بل لا بد له من الخروج منها.
وقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا﴾ يعني: لن تدفع عنهم شيئًا من عذاب الله إذا أراد الله بهم سوءًا، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ﴾ [الرعد ١١]، وحينئذ نقول: إن قوله: ﴿لَنْ تُغْنِيَ﴾ أي لن تمنع ولن تدفع، فهي عاجزة عن منع ما أراد الله وعن رفعه.
وقوله: ﴿أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا﴾ ذكر الأموال لأن الأموال يفتدي بها الإنسان نفسه في مواطن الحرج، لو أن أحدًا أمسك شخصًا وأراد أن يحبسه أو يقتله أو يعتدي على عرضه فقال له: دعني، أنا أعطيك ما شئت من المال، خذ ما شئت من مالي. حينئذ أغنى عنه المال. الأولاد كيف يغنون عن الإنسان شيئا؟ لأن الأولاد يدافعون عن آبائهم وأمهاتهم، وهم أشد الناس حماسًا في الدفاع، أعني الأولاد في الدفاع عن آبائهم وأمهاتهم، أشد الناس حماسًا، فالإنسان لا يمكن أن يدع عدوه يبطش بأمه أو بأبيه أبدًا وهو على قيد الحياة، فلهذا قال: ﴿وَلَا أَوْلَادُهُمْ﴾؛ لأن الأولاد هم الذين يدافعون عن آبائهم وعن أمهاتهم.
﴿مِنَ اللَّهِ شَيْئًا﴾: (شيئًا) نكرة في سياق النفي، أين النفي؟ ﴿لَنْ تُغْنِيَ﴾.
قال الأصوليون: والنكرة في سياق النفي تفيد العموم، أيْ: أيّ شيء كان، سواء كان هذا الشيء شديدًا أم كان ضعيفًا.
قال: ﴿وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ ففي الدنيا لا يغني عنهم مالهم شيئًا ولا ولدهم، وفي الآخرة كذلك هم أصحاب النار هم فيها خالدون.
والنار معروفة؛ هي ذلك الجسم الحار، ولكن حرارة النار في الآخرة ليست كحرارة النار في الدنيا، هي فضلت على حرارة النار في الدنيا بتسعة وستين جزءا -نسأل الله السلامة- فأنت إذا قدرت الآن أعظم ما في الدنيا من النيران في الحرارة فإن نار جهنم أشد منها، يعني تزيد عليها بتسعة وستين جزءًا، فإذا أخذنا الأصل والزيادة صارت سبعين، يعني مقدار حرارتها سبعين عن حرارة نار الدنيا.
وقوله: ﴿أَصْحَابُ النَّارِ﴾ أي أهلها الملازمون لها و﴿هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ أي ماكثون.
ثم قال عز وجل في بيان أن أموالهم لا تغني عنهم شيئًا ولا تنفعهم: ﴿مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ﴾، هذا تمثيل أو تشبيه تمثيلي؛ لأن التشبيه يقولون: إنه نوعان: تشبيه إفرادي: مثل أن تقول: فلان كالبحر، فلان كالأسد، وتشبيه تمثيلي: بمعنى أنه تشبه الهيئة بالهيئة، يكون المشبَّه شيئًا مؤلفًا من عدة أمور، والمشبَّه به كذلك يكون شيئًا مؤلفًا من عدة أمور، فيسمى عند البلاغيين تشبيهًا تمثيليًّا، والأول تشبيهًا إفراديًّا.
﴿كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ الصورة الآن: ريح شديدة فيها برودة عظيمة، ولها وحيف صرير من شدتها ﴿أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا﴾، فالتشبيه مركب الآن من ريح شديدة باردة أصابت حرث قوم، يعني: مصيب ومصاب، ﴿حَرْثَ قَوْمٍ﴾ أي زرعهم، ﴿ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ أي استحقوا أن يعذبهم الله عز وجل بهذه الريح، ﴿فَأَهْلَكَتْهُ﴾ فإذا هبت الريح العاصفة الباردة القوية انتقامًا من بني آدم فإنها سوف تهلك هذا الحرث.
وجه الشبه ظاهر؛ لأنهم سلطوا على أموالهم تسليطًا عظيمًا، لكن لم ينتفعوا بهذا التسليط، عادت هباءً كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ﴾ [الأنفال ٣٦] هذه حال الكفار إذا أنفقوا أموالهم لن ينتفعوا بها إطلاقًا. ﴿كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْه﴾.
﴿فِيهَا صِرٌّ﴾ يعني أنها مشتمِلة على الصر، وفسرنا الصر بأمرين؛ البرودة والشدة؛ الصوت، لها صرير من شدتها، وباردة هذه لا تبقي على الزرع ﴿لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ﴾ [المدثر ٢٨] ﴿فَأَهْلَكَتْهُ﴾.
قال الله تعالى: ﴿وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ﴾ يعني أن الله عز وجل ما ظلمهم حين سلطهم على إهلاك أموالهم بدون أن ينتفعوا بها، ما ظلمهم؛ لأن الله تعالى لا يظلم الناس شيئا ﴿وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ يعني هم الذين يظلمون أنفسهم بكفرهم بآيات الله، ولا أحد أجبرهم على هذا الكفر، وإذا فعل الإنسان الشيء بنفسه فلا يلومن إلا نفسه، وقوله: ﴿وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ فيه إشكال، وهو أنه نصب المبتدأ، والمعروف أن المبتدأ يكون مرفوعًا، فما الجواب؟
* طالب: نقول: إنه هنا وقعت خبرًا.
* الشيخ: هه؟
* الطالب: نقول: إن المبتدأ محذوف.
* الشيخ: المبتدأ محذوف، و(أنفس)؟
* الطالب: خبر.
* الشيخ: خبر، والخبر يكون منصوبًا في ليلة الجمعة!
* طالب: (لكن) هنا ليست التي تعمل، هاديك (لكنَّ).
* الشيخ: الآن عملت نصبت: ﴿أَنْفُسَهُمْ﴾؟
* طالب: مفعول مقدم.
* الشيخ: ليش؟
* الطالب: يظلمون أنفسهم.
* الشيخ: إي ويش تقول؟
* الطلبة: صحيح.
* الشيخ: صحيح، نعم هذه مفعول مقدم لـ(يظلمون). علامة ذلك أنه لو كان في غير القرآن وحولت الجملة بالتقديم والتأخير فقلت: (ولكن يظلمون أنفسهم) لاستقام الكلام، إذن فـ(أنفس) هذه مفعول به مقدم.
وفائدة التقديم الحصر، يعني أنهم ما ظلموا الله عز وجل، والله أيضًا ما ظلمهم، ولكنهم ظلموا أنفسهم؛ أما كونهم ما ظلموا الله فلأن الله قال: ﴿وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [البقرة ٥٧]، وأما كونهم لم يُظلموا فلأن الله تعالى يقول: ﴿وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ﴾، فالله ما ظلمهم، وهم لم يظلموا الله، أي لم ينقصوه شيئًا، وإنما نقصوا أنفسهم ﴿وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾.
* في هاتين الآيتين فوائد:
* أولًا: بيان أن الكفار مهما بلغوا في القوة عددًا ومددًا فإن قوتهم لن تغنيهم من الله شيئًا، عددًا لقوله: أولاد، مددًا: أموال، مهما كثرت قوتهم عددًا ومددًا فإنها لن تغني عنهم من الله شيئًا.
* ومن فوائدهما أيضًا: تمام قدرة الله وسلطته على العباد، حيث إن الكفار العتاة لا يستطيعون أن يدفعوا شيئًا بأموالهم وأولادهم مما قضاه الله عز وجل.
فإن قال قائل: مفهوم الآية أن المؤمنين تغني عنهم أموالهم وأولادهم من الله شيئا؟
قلنا: هذا غير مراد؛ لأن الآية سيقت في الرد على الكفار الذين يفتخرون بأموالهم وأولادهم، فبين الله أن أموالهم وأولادهم لا تغني عنهم من الله شيئًا، أما المؤمنون فقد قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [المنافقون ٩]، ولا أحد ينفعه ماله وولده إلا أن يكون عونًا له على طاعة الله.
* من فوائد هذه الآية: أن الكفار في النار؛ لقوله: ﴿أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ﴾.
* ومن فوائدها: أنهم مخلدون فيها؛ لقوله: ﴿هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾، والجملة اسمية تدل على الدوام والثبوت.
فإن قال قائل: هل هذا الخلود أبدي أم له غاية؟
فالجواب: أنه أبدي وليس له غاية، ودليل ذلك في كتاب الله في ثلاث آيات منه؛ في النساء والأحزاب والجن، ففي النساء يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (١٦٨) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا﴾ [النساء ١٦٨، ١٦٩]، وفي سورة الأحزاب يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (٦٤) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾ [الأحزاب ٦٤، ٦٥]، وفي سورة الجن: ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾ [الجن ٢٣].
وليس بعد هذه الآيات قول يقال، بل لو قاله قائل فقوله مردود عليه؛ لأن هذا أمر غيبي لا يعلم إلا من قبل الشرع والوحي، والوحي كما ترون نزل بأنهم خالدون فيها أبدًا، وإذا جاء النص فلا قياس، فمن ادعى أنهم يخلدون فيها إلى أمد فإنه لولا تأويله لكان أمره خطيرًا جدًّا، لكنه تأول واشتبهت عليه بعض الآيات، وقال بعدم التخليد الأبدي، وإلا لكان أمره خطيرًا جدًّا؛ لأن ظاهر هذا القول تكذيب القرآن، والأمر خطير جدًّا، لكنه صدر من أناس نعلم نصحهم لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم على وجه تأولوا فيه، والله يغفر لهم تأويلهم.
لكن بالنسبة للعقيدة التي بين الإنسان وبين ربه إذا تبين له خطأ عالم من العلماء وجب عليه مخالفته، أما بالنسبة للعالم فيرجو له المغفرة والرحمة إذا علم بالنصح للأمة؛ لأنه غير معصوم، العصمة في كتاب الله وسنة رسوله ﷺ.
* ومن فوائد هذه الآيتين: إثبات القياس؛ لقوله: ﴿مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ﴾، ووجه ذلك أن المثل إلحاق للأصل بالفرع، إلحاق للمشبه بالمشبه به، وهذا هو أصل القياس، أصل القياس إلحاق فرع بأصل في حكم لعلة جامعة. فكل مثال ضربه الله في القرآن ففيه دليل على القياس؛ إذ إنه إلحاق المشبه بماذا؟ بالمشبه به، وعليه فيكون في هذه الآية إثبات القياس.
* ومن فوائد هاتين الآيتين: حسن أو تمام بلاغة القرآن، وذلك بقياس الغائب على الشاهد، وجهه: أن الريح التي فيها صر وأصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم، كل يعرف أنها مدمرة ومهلكة، فكذلك أعمال الكافرين هالكة لا خير فيها؛ لأن الكفر مدمر لها، ﴿وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ﴾ [التوبة ٥٤].
* ومن فوائد هاتين الآيتين: أن الكافر لن ينتفع بما عمل في الآخرة، ووجهه: أنه إذا هلك ما عمله وزال فإنه لن ينفعه، لكن قد ينفعه في الدنيا فيدفع الله عنه به من البلاء ما يدفع أو يحصل من الخير الذي يرجوه ما يحصل بسبب العمل أو الإنفاق الذي أنفقه من ماله.
* ومن فوائد هاتين الآيتين: انتفاء الظلم عن الله؛ لقوله: ﴿وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ﴾.
وهل هو محال لذاته أو لغيره؟ لغيره، قيل: إنه محال لذاته؛ وذلك لأن الخلق كلهم عبيد الله، ومهما فعل السيد بعبيده فليس بظالم، وعلى هذا فإن الظلم في حق الله مستحيل لذاته، وهذا القول يتضمن أن الله غير قادر على الظلم؛ لأنه مستحيل لذاته عندهم.
والقول الثاني: أن الظلم بالنسبة لله مستحيل لغيره، يعني لو شاء الله أن يظلم لظلم لكنه، مستحيل لغيره، ما هو الغير؟
كمال عدل الله، كمال عدل الله هو الذي منع أن يقع الظلم من الله سبحانه وتعالى.
ولهذا نقول: لو شاء الله لظلم العباد، فأهدر أعمالهم الصالحة وأضاف إليهم أعمالًا سيئة لم يعملوها، لكن لكمال عدله لا يمكن أن يقع منه ذلك سبحانه وتعالى، إذن فالظلم محال؟
* طالب: محال بالنسبة لله عز وجل، محال لغيره.
* الشيخ: نعم، والقول الثاني؟
* الطالب: أنه محال لذاته.
* الشيخ: أيما أدل على الكمال، على القول الأول ولَّا الثاني؟
* الطالب: الأول إذا كان محالًا لغيره.
* الشيخ: نعم الأول؛ لأنه لو كان محالًا لذاته لم يكن فيه مدح لله عز وجل، المحال ما يمكن أن يقع فليس فيه مدح لله، المدح: أن يكون قادرًا عليه ولكن تركه لكمال العدل.
وأضرب لكم مثلًا يبين الأمر: لو أن رجلًا عنينًا دعته امرأة إلى نفسها، لكن الرجل عنين، عنين يعني لا يقدر على الجماع، قال: والله ما لي رغبة، نمدحه؟ ما نمدحه، ليش؟ لأنه غير قادر على ذلك، لكن رجل شاب ممتلئ شبابًا وعنده قدرة، دعته امرأة لنفسها فقال: إني أخاف الله. ولو شاء لأجابها وفعل، هل يمدح؟ نعم يمدح؛ لأنه قادر.
فإذا قلنا: إن الظلم بالنسبة لله مستحيل ولا يمكن أن يقع منه صار عدم ظلمه ليس فيه مدح، وصار تمدح الله به لغوًا لا فائدة منه.
إذن فالله تعالى نفى عن نفسه الظلم لكمال عدله، فلعدله لا يمكن يقع منه ظلم.
* من فوائد الآيتين: إثبات أن الله تعالى موصوف بالنفي كما هو موصوف بالإثبات، صح؟ وصف الله بالإثبات كثير في القرآن، وصفه بالنفي أقل، لكنه موجود.
هذا النفي الذي وصف الله به نفسه هل هو نفي محض مجرد؟ لا، بل هو نفي متضمن لثبوت، وهو كمال ضد ذلك الشيء، فإذا قال الله عن نفسه: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ [فصلت ٤٦] قلنا: لكمال عدله، وإذا قال: ﴿وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾ [البقرة ١٤٤] لكمال مراقبته، وإذا قال: ﴿وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ﴾ [ق ٣٨] لكمال قوته وقدرته... وهلم جرا، لا يمكن أن يوجد في صفات الله نفي محض، بل هو نفي لثبوت ضده على وجه الكمال.
يقول العلماء رحمهم الله: ولا بد من هذا التقدير، أيش التقدير؟ إثبات كمال الضد.
قالوا: لأن مجرد النفي إن كان لعدم القابلية فلا مدح فيه، وإن كان للعجز عن المنفي فهو نقص. إن كان لعدم القابلية فلا مدح فيه مثل لو قلنا: الجدار لا يظلم، الجدار لا يغدر بالوعد، بالعهد، لا يخلف الوعد، أيش الكلام هذا؟ هذا لغو، كل الناس يعرفون هذا، فما مثلك إلا كمثل الذي قال: السماء فوقنا والأرض تحتنا، أو قال: كأننا حول المدرس طلبة يدرسون، أيش الفائدة من هذا؟! فيه فائدة هذا؟!
فإذا كان غير قابل لهذا المنفي عنه فإن وصفه به لغو لا فائدة منه، وإن كان هذا النفي لعجزه عن تحقيقه صار نقصًا، لو قلنا: إن الله لا يظلم لأنه ما يستطيع أن يظلم، لا شك أنه نقص.
إذن فالقاعدة فيما وصف الله به نفسه من النفي أنه ليس نفيًا محضًا، بل هو متضمن لإثبات كمال، ما الكمال؟ كمال ضد ذلك المنفي.
ثم قال: ﴿وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾.
* يستفاد من هذه الآية: أن نفس الإنسان عنده أمانة يلحقها ظلمه وغشمه، ويلحقها بره وإحسانه، فالإنسان عند نفسه أمانة يجب أن يرعى هذه الأمانة حقها، وإذا كان يجب على الإنسان أن يرعى الأمانة في ولده وأهله ففي نفسه من باب أولى، ولهذا قال الله عز وجل: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ [البقرة ١٩٥] هذه وصية منه تعالى لنا بأنفسنا، وقال: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ﴾ [النساء ١١]، فأوصانا الله بأولادنا وصية منه لنا بأولادنا، والولد بضعة من أبيه.
* طالب: شيخ، أحسن الله إليك، بالنسبة لنفي السِّنة ونفي الجهل عن الله تعالى، نقول: مثل الظلم في أنه محال لغيره؟
* الشيخ: أما السنة والنوم فهذا محال لغيره، وقد يقال: إنه محال لذاته؛ لأن السنة والنوم ليست فعلًا، بل هي انفعال وحال تطرأ على النائم والناعس، فقد يقال: إنها محال لغيره، ولو شاء لنام وأخذته السنة، وقد يقال: محال لذاته؛ لأن في ذلك نفيًا لكماله، ولأن هذا ليس فعلًا، بل هو انفعال، فبينه وبينها في الظلم فرق.
* طالب: شيخ، هل يمكن أن يغني عن الكافر أشياء أخرى غير المال والولد؟
* الشيخ: لا، ما يمكن، لكن ذكر المال والولد لأن هذا هو الغالب أن الإنسان ينتفع بماله وولده.
* الطالب: حال أبي طالب؟
* الشيخ: لا، هذه خاصة لسبب، وهو حمايته للرسول عليه الصلاة والسلام وعنايته به.
* طالب: شيخ، الرسول ﷺ قال: «نَارُكُمْ هَذِهِ فُضِّلَتْ عَلَيْهَا نَارُ الْآخِرَةِ»[[متفق عليه؛ البخاري (٣٢٦٥)، ومسلم (٢٨٤٣ / ٣٠) من حديث أبي هريرة، بنحوه. ]]، يشير إلى نار الصحابة، الآن وجد أشياء تحبس الأشياء ثم تطلقها بقوة، فيعني تتفاضل النار، مثلًا بعضها تكون توصل لدرجة مئة في الحرارة وأكثر، وبعضها ضعيفة، هل تشمل هذا كله؟
* الشيخ: إي نعم؛ لأن في بعض الألفاظ: «عَلَى نَارِ الدُّنْيَا»، وقوله: «نَارُكُمْ» هنا الضمير ليس للتعيين، يعني ليس مضافًا إلى قوم معينين، إنما هو مضاف إلى الجنس.
* طالب: قال الله عز وجل: ﴿فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ﴾ [النحل ٧٤] الآن نجد بعض الدعاة وكذا يضرب مثلًا أمثلة وإن كانت يعني لبعض أفعال الله أوكذا يقول مثلًا: لو أنت تسير في طريق معين، أمرك هذا الضابط أن تسير في طريق معين، أي أجبرك على هذا كالجبرية يعني، ثم خالفك، قال: لماذا تسير في هذا الطريق، مع أنه لا يوجد غير هذا الطريق، طيب، بعد أن كان طريقين فرعيين كان طريقًا واحدًا، فهنا ليس من حقه، كما أن الله عز وجل يعني لا يظلم أو كذا، فهذه الأمثلة مثلًا اللي يضربها بعض الدعاة وكذا هل يعني هي جائزة أو مثلا المثال الذي ذكرته قبل قليل يعني ليس لله لكن للنفي، يعني بعدم قدرة هذا الرجل، فهل يعني يجوز هذا الشيء؟
* الشيخ: إي نعم، والنهي عن ضرب الأمثال المساوية؛ لأن الأمثال جمع مثل، والمثل هو الشبيه والنظير، يعني لا تجعلوا لله أحدًا يشبهه أو يماثله، وقد ضرب النبي عليه الصلاة والسلام المثل في رؤية الله، قال: «إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ»[[متفق عليه؛ البخاري (٥٥٤)، ومسلم (٦٣٣ / ٢١١) من حديث جرير بن عبد الله. ]]، وقال في الصدقة: «يَأْخُذُهَا بِيَمِينِهِ فَيُرَبِّيهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ»[[متفق عليه؛ البخاري (١٤١٠)، ومسلم (١٠١٤ / ٦٤) واللفظ له، من حديث أبي هريرة.]].
{"ayahs_start":116,"ayahs":["إِنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ لَن تُغۡنِیَ عَنۡهُمۡ أَمۡوَ ٰلُهُمۡ وَلَاۤ أَوۡلَـٰدُهُم مِّنَ ٱللَّهِ شَیۡـࣰٔاۖ وَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ أَصۡحَـٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِیهَا خَـٰلِدُونَ","مَثَلُ مَا یُنفِقُونَ فِی هَـٰذِهِ ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَا كَمَثَلِ رِیحࣲ فِیهَا صِرٌّ أَصَابَتۡ حَرۡثَ قَوۡمࣲ ظَلَمُوۤا۟ أَنفُسَهُمۡ فَأَهۡلَكَتۡهُۚ وَمَا ظَلَمَهُمُ ٱللَّهُ وَلَـٰكِنۡ أَنفُسَهُمۡ یَظۡلِمُونَ"],"ayah":"إِنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ لَن تُغۡنِیَ عَنۡهُمۡ أَمۡوَ ٰلُهُمۡ وَلَاۤ أَوۡلَـٰدُهُم مِّنَ ٱللَّهِ شَیۡـࣰٔاۖ وَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ أَصۡحَـٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِیهَا خَـٰلِدُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق