الباحث القرآني
﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾ قوله: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ﴾ يحتمل أنها جملة استئنافية، وأنها متعلقة بمحذوف تقديره: اذكر يوم تبيضّ وجوه وتسود وجوه؛ يعني واذكر هذا اليوم الذي ينقسم فيه الناس إلى هذين القسمين، ويحتمل أنها متعلقة بالخبر لقوله: ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ يعني لهم عذاب عظيم في ذلك اليوم.
وقوله: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ﴾ الابيضاض معروف أي: تكون بيضاء، وهذه الوجوه التي تكون بيضاء هي وجوه المؤمنين، وتختص هذه الأمة بأنها يكون لابيضاضها نور تُعرف به يوم القيامة كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: «سِيمَا لَيْسَتْ لِغَيْرِكُمْ تُدْعَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ أَثَرِ الْوُضُوءِ»[[أخرجه مسلم (٢٤٧ / ٣٦) من حديث أبي هريرة.]].
وقوله: ﴿تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾ قد يبدو للإنسان من أول وهلة أن هذين القسمين متساويان؛ لأنه قال: ﴿تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾ ولكن هذا غير مراد؛ وذلك لأن أكثر بني آدم من أهل النار وجوههم مسودة والعياذ بالله، «فإِنَّ مِنْ بَنِي آدَمَ تِسْعَ مِئَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ كُلُّهُمْ فِي النَّارِ وَوَاحِدٌ مِنَ الْأَلْفِ فِي الْجَنَّةِ. »[[متفق عليه؛ البخاري (٣٣٤٨)، ومسلم (٢٢٢ / ٣٧٩) من حديث أبي سعيد الخدري.]] كما صح بذلك الحديث عن رسول الله ﷺ.
قوله: ﴿وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾ أي تكون سوداء، وسبب هذا الابيضاض والاسوداد -والله أعلم- أنه مما يبشّر به هؤلاء ويوبّخ به هؤلاء، فإن المؤمنين يبشَّرون إذا بعثوا من قبورهم برحمة الله عز وجل: ﴿وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾ [الأنبياء ١٠٣] وأما الكافرون فبالعكس، ومن المعلوم أن الإنسان إذا بشّر بما يسرّه يستنير وجهه ويظهر عليه علامة السرور.
قال: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ﴾ الفاء للتفريع وأما للتفصيل؛ لأنه قال بعدها: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ﴾.
قوله: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ﴾ بدأ بذكر الذين اسودّت وجوههم مع أنه أخّر ذكرها فيما قبل؛ لأنه قال: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ﴾ ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ﴾ وكان المتوقّع أن يقول: فأما الذين ابيضت وجوههم؛ لأن هذا هو الترتيب، ولكنه كان الأمر بخلاف المتوقّع. ويسمي علماء البلاغة هذا النوع من السياق لفًّا ونشرًا مشوشًا، أو أحسن نقول: غير مرتّب.
﴿فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ جواب (أما) محذوف والتقدير: فيقال: أكفرتم، وأما الجملة: ﴿أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ فهي مقول للقول المحذوف أي: فيقال أكفرتم. ومَن القائل؟ يحتمل أن القائل هو الله عز وجل، ويحتمل أن يكون القائل الملائكة، وعلى كل تقدير فالمراد بالاستفهام هنا التوبيخ والتنديم، يقال لهم: ﴿أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ﴾ فهذا الاستفهام للتوبيخ أي: أن هؤلاء يوبّخون فيُجمع لهم بين الألم البدني والألم القلبي النفسي؛ وذلك لأن العذاب قد يكون على البدن وقد يكون على النفس وقد يكون عليهما جميعًا، من الناس مثلًا من تضربه ولا توبّخه نقول: هذا العذاب على أيش؟
* طلبة: البدن.
* الشيخ: ومن الناس من يوبّخه في مقام يرى فيه الإكرام والاحترام فتهينه، فهذا عذاب نفسي قلبي، ومن الناس من يُجمع له بين الأمرين كالكفار، فإن الكفار يوبّخون في عرصات القيامة ويوبخون عند دخول النار ﴿كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (٨) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ﴾ [الملك ٨، ٩] ويوبّخون أيضًا بعد ذلك كما في قوله تبارك وتعالى: ﴿قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ﴾ [المؤمنون ١٠٨] فإنهم يُوبخون أيضًا في حال دخولهم النار ومكثهم فيها ما شاء الله، وطلبهم أن ينجو منها.
قوله: ﴿أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ المراد بالإيمان هنا إيمان الفطرة؛ لأن كل مولود يولد على الفطرة، كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ»[[متفق عليه؛ البخاري (١٣٨٥)، ومسلم (٢٦٥٨ / ٢٢) من حديث أبي هريرة.]]. ويحتمل أن يكون المراد بالإيمان الإيمان الفطري الاختياري، وتكون الآية في سياق من ارتدوا بعد إيمانهم، لكن الأول أولى؛ لأنه أعم.
قال: ﴿فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ ذوقوا العذاب أي عذاب؟ البدني والنفسي؟
وقوله: ﴿فَذُوقُوا الْعَذَابَ﴾ أي: مسه، والذوق هنا ليس ذوقًا باللسان، بل هو ذوق بالبدن كله؛ لأن الذوق قد يكون باللسان وقد يكون بالقلب، وقد يكون بالبدن، فقول الرسول علية الصلاة والسلام: «ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا»[[أخرجه مسلم (٣٤ / ٥٦) من حديث العباس بن عبد المطلب.]] المراد به؟
* طلبة: القلب.
* الشيخ: ذوق القلب لا ذوق اللسان، وإذا قيل: ذاق الثمرة، فهذا ذوق اللسان، ذاق العذاب، هذا ذوق البدن، فلكل مقام مقال.
قوله: ﴿فَذُوقُوا الْعَذَابَ﴾ أي: يقال لهم أيضًا: ذوقوا العذاب؛ وهو العقوبة على الذنب. ﴿بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ أي: بسبب كفركم، (الباء) هنا للسببية، و(ما) مصدرية؛ أي: بكونكم تكفرون بالله.
وأما ﴿كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ فإعرابها ظاهر: كان واسمها وخبرها لكن خبرها جملة.
وقوله: ﴿بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ بمن؟ تكفرون بالله وبما يجب الإيمان به.
* في هذه الآية من الفوائد، أولًا: وجوب التذكير بهذا اليوم العظيم الذي ينقسم فيه الناس إلى قسمين لقوله: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ﴾ وهذا على تقدير قولنا أيش؟ اذكر يومًا، أما إذا جعلناه متصلًا بما قبله فإنه لا يُستفاد منه هذه الفائدة، ولكن يستفاد منه: التذكير بهذا اليوم؛ يعني أن الله يُذكِّرنا بهذا اليوم.
قوله: ﴿ذُوقُوا الْعَذَابَ﴾ [آل عمران ١٠٦] أي: يقال لهم أيضًا: ذوقوا العذاب، وهو العقوبة على الذنب، ﴿بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ [آل عمران ١٠٦] أي: بسبب كفركم، الباء هنا للسببية، و(ما) مصدرية، أي: بكونكم تكفرون بالله، وأما ﴿كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ فإعرابها ظاهر: (كان) واسمها وخبرها، لكن خبرها جملة، وقوله: ﴿بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ بمن؟ تكفرون بالله وبما يجب الإيمان به.
* في هذه الآية من الفوائد، أولًا: وجوب التذكير بهذا اليوم العظيم الذي ينقسم فيه الناس إلى قسمين؛ لقوله: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ﴾ [آل عمران ١٠٦] وهذا على تقدير قولنا أيش؟ اذكر يومًا، أما إذا جعلناه متصلًا بما قبله فإنه لا يستفاد منه هذه الفائدة، ولكن يستفاد منه التذكير بهذا اليوم، يعني أن الله يذكّرنا بهذا اليوم.
* ومن فوائد الآية الكريمة: إثبات البعث والجزاء، وهو أحد أركان الإيمان الستة، أحد أركان الإيمان أن تؤمن باليوم الآخر، والإيمان باليوم الآخر ليس معناه أن يؤمن الإنسان بأن الناس يُبعثون فقط، بل قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في العقيدة الواسطية قال: ومن الإيمان باليوم الآخر الإيمان بكل ما أخبر به النبي ﷺ مما يكون بعد الموت. فالإيمان بفتنة القبر ونعيمه وعذابه هو من الإيمان باليوم الآخر، والإيمان بالصراط والميزان والشفاعة كله من الإيمان باليوم الآخر.
* ومن فوائد هذه الآية: أن الناس ينقسمون في ذلك اليوم إلى قسمين؛ قسم مُبْيَضَّة وجوههم وهم أهل الإيمان والطاعة، وقسم مُسْوَدَّة وهم أهل الكفر والعصيان.
فإذا قال قائل: الآية هنا بيّنت أن الوجوه تسوَدّ، وفي آية أخرى كذلك: ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ﴾ [الزمر ٦٠]، وفي آية أخرى: ﴿وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا﴾ [طه ١٠٢]، فكيف نجمع بين الآيتين اللتين تثبتان اسوداد الوجوه والآية التي تثبت أنهم يُحشرون يوم القيامة يُحشر المجرمون زرقا؟ قال أهل العلم في الجمع بين هذا وأمثاله: إن يوم القيامة ليس زمنًا متحدًا قصيرًا تتعارض فيه الأحوال، لكنه زمن طويل مقداره خمسون ألف سنة، فيمكن أن تكون الوجوه في وقت من هذا اليوم مسودة، وفي وقت آخر مزرقة، زرقًا، هذا جمع.
الجمع الثاني: أن المراد بالزرقة السواد، بل المراد بالسواد الزرقة؛ لأن الزرقة كلما اشتدت مالت إلى السواد، وحينئذ يكون (زرقًا) و(اسودت) بمعنى واحد.
الجمع الثالث: أن الناس يختلفون في الجرم والكفر، فتسود وجوههم أو تزرق بحسب كفرهم وجرمهم، فمنهم من يكون جرمه شديدًا عظيمًا فتسود وجوههم، ومنهم من يكون أخف فتكون زرقاء.
الوجه الرابع: قالوا إنهم سود البشرة زرق العيون، فـزرقًا باعتبار أعينهم، واسودادُ الوجوه باعتبار لون البشرة، وأن هذا أعظم في القبح، إذا كان وجهه أسود والعين زرقاء صار هذا أقبح منظرًا، على كل حال هذه أوجه جمع العلماء بها بين هذا الظاهر الذي يظهر أنه متعارض، وهنا نقف لنقول: إنه ليس في القرآن شيء متعارض لا يمكن الجمع بينه وبين الآخر؛ لأن التعارض يقتضي أن يكون أحد المتعارضين حقًّا والثاني باطلًا؛ لأنه ليس معنا إلا حق وضلال، ﴿فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ﴾ [يونس ٣٢]، ولا يمكن أن يكون شيء في كتاب الله باطلًا ضلالًا، كما قال الله تعالى: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ [النساء ٨٢] نعم يمكن أن يتعارض النصان ولكن يكون أحدهما ناسخًا للآخر كقوله تعالى: ﴿إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ﴾ [الأنفال ٦٥]، ثم قال: ﴿الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ﴾ [الأنفال ٦٦]، والنسخ يكون إبطال المنسوخ من عند مَن؟ من عند الله، فلا يكون هناك تعارض، فإن وُجِد من القرآن ما ظاهره التعارض فلا بد أن يكون هناك انفكاك بين النصين ينتفي به التعارض، وأما أن يبقى متعارضًا فهذا شيء ممتنع، ومن أحسن ما أُلِّف في الجمع بين الآيات المتعارضة كتاب الشنقيطي رحمه الله المسمى دفع إيهام الاضطراب في آي الكتاب، وهو كتاب جيد مفيد لطالب العلم.
* من فوائد هذه الآية: أنه يُجمَع لهؤلاء الكافرين بين العذاب البدني والعذاب النفسي، كيف نأخذه؟ من أين نأخذه؟
* طالب: ﴿فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾.
* الشيخ: من ﴿فذوقوا﴾ فقط؟
* الطالب: من قبل ﴿أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ﴾.
* الشيخ: كيف نأخذها من هذه؟
* طالب: قدمنا العذاب يكون حسيًّا ومعنويًّا.
* الشيخ: لا، العذاب النفسي حسي، نعم.
* طالب: قوله: ﴿أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ هذا عذاب نفسي.
* الشيخ: إي؛ لأن التقدير يقال لهم: أكفرتم، فهذا العذاب النفسي، طيب، أحسنت.
* من فوائد هذه الآية: شدة التنكيل بهؤلاء المكذِّبين، حيث يُجمع لهم بين العذابين البدني والنفسي، ثم يقال: ﴿ذُوقُوا الْعَذَابَ﴾ فهذا لا شك أنه من أشد ما يكون تنكيلا بهم.
* ومن فوائد هذه الآية: إثبات الأسباب، من أين يؤخذ؟ من قوله: ﴿بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾؛ لأن الباء للسببية، والناس في إثبات الأسباب طرفان ووسط، منهم من أنكر الأسباب رأسًا، وقال: إن الأسباب ليس لها تأثير إطلاقًا. ومنهم من أثبت تأثير الأسباب بنفسها، ومنهم من توسط وقال: إن الأسباب مؤثرة لا بنفسها ولكن بما أودع الله فيها من القوى المؤثرة، وهذا القول هو الصحيح، وهو الحق، مثال ذلك: لو أن شيئًا ألقي في النار فاحترق بها، فالذين أنكروا الأسباب قالوا: إن هذا الاحتراق لم يحصل بالنار إنما حصل عندها، حين ملامسة النار احترق، أما النار نفسها فإنها لا تحرق. ومنهم من قال: بل النار أحرقت بطبيعتها، فهذه هي الطبيعة، ومنهم من قال: بل أحرقت النار ما يلقى فيها بما أودعها الله تعالى من القوى المحرِقة، وهذا الأخير هو الحق بلا شك، ويدل لهذا أن النار التي ألقي فيها إبراهيم لم تحرقه، بل كانت بردًا وسلامًا عليه، ولو كانت الأسباب مؤثرة بطبيعتها لأحرقته بكل حال، والذين أنكروا الأسباب هم في الحقيقة طاعنون في حكمة الله، مدعون أن الله ليس له حكمة، لأن ربط المسببات بأسبابها هو عنوان الحكمة. فإذا قيل: إنه ليس هناك سبب يؤثر، فهذا طعن في حكمة الله عز وجل، والعجيب أن هؤلاء أنكروا الأسباب ظنًّا منهم أن إثباتها يستلزم الإشراك بالله، يقول: إنك إذا أثبت أن السبب فاعل أو أن السبب مؤثر فقد جعلت مع الله خالقًا، وهذا شرك؛ لأنك مثلًا إذا قلت: النار هي اللي أحرقت، معناه: إن النار فاعلة، فاعلة للإحراق، فيكون هذا شركًا بالله عز وجل، فيقال: نحن لا نقول إن النار مستقلة بالإحراق، بل هي محرقة بأيش؟ بما أودع الله فيها من قوة الإحراق، لا أنها بنفسها هي المحرقة. لكن لو نقول: لم تحرق، ضحك عندنا حتى السفهاء، حتى السفهاء الصغار يضحكون. قالوا: لو أنك رميت زجاجة بحجر فانكسرت الزجاجة، فلا تقل: إن الحجر كسر الزجاجة؛ لأنك لو قلت هذا صرت مشركًا، أشركت بالله، طيب كيف؟ قال: حصل الكسر عندها لا بها - سبحان الله- عندها، لو تضع حجرًا من أكبر الأحجار على زجاجة ما كسرها، ما يكسرها إلا بالصدمة. إذن فالسبب معلوم ولا فيه إشراك، المشرك اللي يقول: إن الأسباب تؤثر بطبيعتها، بمقتضى طبيعتها، ويقطع صلتها بالله، هذا لا شك أنه مشرك، لكن الذي يقول: إنها تؤثر بما أودع الله فيها من القوى، هذا هو الموافق للمعقول والمنقول. هل يمكن أن يؤخذ من هذه الآية أن الجزاء من جنس العمل؟ ﴿ذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ كيف؟
* الطلبة: السببية.
* الشيخ: نعم؛ لأن المسبَّب يتقدر بقدر السبب.
* من فوائد الآية أيضًا: أن من فيه خصلة من خصال الكفر فله من عذاب الكافرين بقدرها، كيف ذلك؟ لأن لدينا قاعدة وهي أن الحكم المعلَّق بوصف يقوى ويضعف بحسب ذلك الوصف، إن وُجد فيه جملة كبيرة من الوصف استحق من الحكم الذي رُتب عليه بقدر هذه الجملة الكبيرة وإلا فبحسبها.
* طالب: قوله: ﴿أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ هناك إذن كفار لم يؤمنوا، هل يعني أن المراد أخذ الميثاق ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ﴾ [الأعراف ١٧٢]؟
* الشيخ: وأين أنت؟ تكلمنا على هذا.
* طالب: شيخ، إذا كانت الغرة من سيما أهل السنة والجماعة يا شيخ.
* الشيخ: لا، من سيما هذه الأمة.
* الطالب: من سيما هذه الأمة، فهل يقال بأن ما يوجد في أثر الجبهة من السواد دليل على صلاح العبد وكثرة علمه؟
* الشيخ: أبدًا أبدًا، ما هو صحيح، فيه ناس كثيرو السجود وليس في جباههم شيء، وفيه ناس قليلو السجود ويكون في جباههم هذا الأثر، وليس هذا بدليل، هذا الظاهر أنها تعتمد على نفس الجلد اللي على الجبهة.
* طالب: قراءة ﴿تَبْيَضُّ﴾ بالكسر صحيحة؟
* الشيخ: ويش لون؟
* الطالب: يعني ﴿تَبْيَضُّ﴾.
* الشيخ: ﴿تَبْيَضُّ﴾ بفتح الياء؟
* الطالب: أنا قرأت في فتح القدير اليوم في قراءة ثانية (تِبْيَضّ).
* الشيخ: (تِبْيَضُّ) بكسر التاء يعني؟
* الطالب: إي نعم، (تِبْيَضُّ).
* الشيخ: ما أظنها سبعية؛ لأنها ما هي بعندنا، هذا المصحف مكتوب فيه القراءات السبعية، ما هي موجودة.
* طالب: يا شيخ، أحسن الله إليك، بعض الكتب الطبيعية بحيث تتكلم عن علوم الطبيعة، تقول: ما يرد شيء ضرر، أو مثلًا: شاءت الطبيعة أو الطبيعة أرادت.
* الشيخ: إي هذا ما يجوز.
* طالب: هل يعد من الشرك؟
* الشيخ: إي، كيف! لكن بس إذا كاتبه مسلم يعد هذا المسلم تلقى الكلمة هذه عن الطبائعيين وهو ما يعرف أيش معناها، جاهل.
* طالب: يا شيخ، كيف يكون الطفل يولد على الفطرة وهو مؤمن، وهو لم يتلقّ أو يُكَلَّف بأمور الإسلام؟
* الشيخ: إي نعم؛ لأن الطبيعة التي خلق الله عليها البشر هي الإيمان، قال الله تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾ [الروم ٣٠]، وأخبر النبي عليه الصلاة السلام أنه: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلَّا عَلَى الْفِطْرَةِ»[[متفق عليه؛ البخاري (١٣٥٩)، ومسلم (٢٦٥٨ / ٢٢) من حديث أبي هريرة.]]، هذا من نعمة الله حتى تقوم الحجة على الإنسان، إذا أنت الذي انصرفت عن مقتضى الفطرة، ولَّا مقتضى فطرتك أنك مؤمن.
* طالب: بالنسبة للذين ينكرون الأسباب إذا قالوا: ذكر الله ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ﴾ [الأنفال ١٧] كيف الرد عليهم؟
* الشيخ: كيف الرد عليهم؟ واضح؛ لأن قوله: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ﴾ لما كان قتلهم أمرًا خارجًا عن المعتاد نسبه إلى الله كقوله: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى﴾ [الأنفال ١٧]، معلوم أن الرسول هو الذي أخذ الكف من تراب ورمى به هؤلاء، ومع ذلك هو رمي غير معتاد؛ لأن العادة أن مثل هذا الرمي لا يصل إلى أعين المشركين كافة، فلما كان هذا السبب الوارد من الإنسان سببًا غير معتاد نسبه الله إليه.
{"ayah":"یَوۡمَ تَبۡیَضُّ وُجُوهࣱ وَتَسۡوَدُّ وُجُوهࣱۚ فَأَمَّا ٱلَّذِینَ ٱسۡوَدَّتۡ وُجُوهُهُمۡ أَكَفَرۡتُم بَعۡدَ إِیمَـٰنِكُمۡ فَذُوقُوا۟ ٱلۡعَذَابَ بِمَا كُنتُمۡ تَكۡفُرُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق