الباحث القرآني
قوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ﴾، هذا لام قسم، ﴿مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا﴾ الجواب؛ جواب القسم: ﴿لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ [العنكبوت ٦3]. ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ﴾، (مَن) هذه اسم موصول مبْتَدَأ، وصِلَةُ الموصول قوله: ﴿نَزَّلَ﴾، وجواب القسم: ﴿لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾، الإعراب صواب ولَّا لا؟
* طلبة: لا، خطأ.
* الشيخ: خطَأ، (مَن) اسم استفهام؛ لأنَّه وقع بعد السؤال، ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ﴾، وعلى هذا فـ ﴿مَنْ﴾ مبتدأ، و﴿نَزَّلَ﴾ الجملة خبَر المبتدَأ، وقوله: ﴿مَنْ نَزَّلَ﴾ بالتشديد، وفي بعض الآيات: ﴿أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ﴾ [الأنعام ٩٩]، والفرق بين (نَزَّل) و(أَنْزَل) أنَّ (نزَّل) تفيد نزول الشيء شيئًا فشيئًا، كما قال الله تعالى في القرآن: ﴿وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا﴾ [الإسراء ١٠٦].
وقولُه: ﴿نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ﴾؛ لأن فيه النزول يكون مِن أعلى، والمرادُ بالسماء هنا العُلُوّ، وليس السَّماء السَّقف المحفوظ، بدليل قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ﴾، بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ، ﴿وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ﴾، والمطَر ينزِل مِن السَّحَاب، ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ﴾ [النور ٤٣]، فبهذا عرَفْنا أنَّ المرادَ بالسماء هنا أيش؟ العُلُوّ، وكُلُّ ما علَاكَ فهو سَمَاءٌ؛ لأنَّه مِن (سمَا، يسمو) إذا عَلَا وارتفع.
وقوله: ﴿مِنَ السَّمَاءِ مَاءً﴾ الحكمة في نزوله مِن السماء؛ لأنَّه إذا نزَل مِن السماء شمَل النَّازِل والعَالي، ولو كان يجرِي مِن الأرض لكان لا يصِل إلى العالي حتى يُدَمِّر النازل، ولكن مِن حكمة الله أنَّه كان ينْزِلُ مِن أعلى.
قال: ﴿مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ﴾ الفاء هنا تدُلّ على الترتيب والتعقيب لكنها إذا كانت متَّصِلَة بجملة فإنها تفيد أيضًا السَّبَبِيَّة مع الترتيب والتعقيب، بخلافِها إذا دخَلت على اسْمٍ فإنَّها لا تدل على السببية، تقول: قام زيد فعمرو، لا يعني أنَّ قيامَ زيد سببٌ في قيام عمرو، لكن يعني أنَّ قيام عمرو بعد قيام زيد، أمَّا إذا اتصلت بالفعل فإنها في الغالب تكونُ مع التَّرْتِيب للسببية، فعليه يكون قولُه: ﴿فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ﴾، يكون الماءُ سببًا لِإحياء الأرض، وقوله: ﴿فَأَحْيَا بِهِ﴾ هل الأرض تحيا في الحال أو بَعْد؟
* طلبة: بعد.
* الشيخ: بعد، لكن لَمَّا كان السبب مؤَثِّرًا صار الأثَر مترَتِّبًا عليه فورًا، كقوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً﴾ [الحج ٦٣]، مَا تُصْبِحُ الأرض مخضَرَّة بمجرَّد نُزُول الماء في الليل، لكنَّ هذا سبب مُوجِب، فلما كان سببًا موجِبًا صار كأنَّ المسَبَّب موجُودٌ في الحال، قالوا: ومِن ذلك قولُهم: تزوَّج فلانٌ فوُلِدَ له، وإن كان هذا أضعَف مِن الذي معنا، لكن قوله: فوُلِدَ له، نحن نعلم عِلم اليقين أنَّه ما هو بيُولد له ليلة زواجه أو لا؟ ما فيها إشكال، لكن الزواج سببٌ للولادة، ويكون الترتيب بحسبِه، ما هو لازم أن يكون معقِّبًا، لكن إذا كان السبب موجِبًا، ولا بُد صارَ كأنَّ المسبَّبَ مُعْقِبٌ للسبب.
وقوله: ﴿فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا﴾، (أحيَا) و(مَوْت) الجماد، إذن يحيا ويموت أو لا؟ الجماد يحيا ويموت وكلّ شيء حياتُه وموتُه بحسبِه، ولا تظُنَّ أنَّ الحياة والموت لا تُضَاف إلَّا ما يمكن أن يكونَ متحرِّكًا، فهذه الأصنام يقول الله تعالى فيها: ﴿وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (٢٠) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ﴾ [النحل ٢٠، ٢١]، أموات غير أحياء، فكُل شيء لا حركَة فيه ولا نُمُوَّ فيه يمكن أن يسَمَّى ميتًا وإن كان مما لا تحلُّه الحياة.
وقوله: ﴿أَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا﴾ هل المرادُ بالأرض هنا النبَات، أو أنَّها نَفْسُ الأرض؟ قيل: إنَّ المراد نفسُ الأرض، وأنَّها باخْتِلَاط الماء فيها تكون حَيَّةً، وبيُبْسِها تكُون مَيِّتَة، وقيل: المراد ما عليها مِن العشب والزّرَع ونحو ذلك، يعني النبات، وأنَّ الأرض لا تكون أرضًا في الحقيقة ينتَفِعُ بها الناس إلَّا بالنبات الذي فوقَها، فتكونُ حياتُها وموتُها، أي حياةُ نباتِها وموتُ نباتِها.
وقوله تعالى: ﴿لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾، نقول فيها ما سبق؛ أن اللام واقِعَة في جواب القسم، و(يقولُنَّ) أصله (يقولُونَنَّ) شوفت؟ قال النحويون: فحُذِفت النون الأولى؛ لِتوالي الأمثال، لماذا لا نقول: حذفت إحدى النونين مِن نون التوكيد؟ قالوا: لأنَّ نون التوكيد جيءَ بها لغرَض وهو التوكيد، ونونُ الرفع دائمًا تُحذَف في حال النَّاصب والجازم والتَّخفيف، وما أشبه ذلك، فكانت أولى بالحذْف، فحَذَفْنا نونَ الرفع لِتوالي الأمثال، ما سببُ حذف الواو؟ لالتقاء الساكنين؛ لأنَّ نونَ التوكيد المشددة مكَوَّنَة مِن حرفين: أولُهما ساكن، فإذا كان ساكنًا حُذِفَ حرف العلة حرفُ اللَّيْن الذي قبله كما قال ابن مالك:
؎............................... ∗∗∗ وَإِنْ يَكُــــــــــــنْ لَيْنًافَحَذْفَـــــــــــهُ اسْتَحَـــــــــقْ
وقوله: ﴿اللَّهُ﴾ نقول: خبر مبتدأ محذوف، أو مبتدَأ خبرُه محذوف.
* طالب: وجه (...).
* الشيخ: الله أعلم، ما ندري عاد كيف هم يقولون: اختلاطُ الماء به حياة، هم يقولون بعد أنَّ هذه حياة تليقُ بها، وحقيقةً كما قلت قبل قليل: إن الحياة والموت في النبات أظْهَر؛ لأنَّه محَلُّ الانتفاع، وربما يستشهد له بقوله تعالى: ﴿أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ [البقرة ٢٥٩]، والخَاوي على العُرُوش النَّبَات ولَّا الأرض؟ النبات، فـ﴿قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ فجعل الموت للنبات، يعني هذا مما يؤيد أنَّ المراد بحيَاة الأرض ونباتِها حياةُ نباتِها وموتُه.
* طالب: قوله تعالى: ﴿تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ﴾ [فصلت ٣٩].
* الشيخ: إي، قال بعض العلماء: تهتَزُّ هي الأرض نفسها، وتربُو أنه مع الماء ترتَفِع، هي المسألة فيها هذا، لكن الظاهر -والله أعلم- أنَّ القول الأقرب أنَّ المراد النبات.
قوله: ﴿لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾، ﴿قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ ما قال: فأنى يُؤفكون، هناك قال: ﴿فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾؛ لِظهور دلالة الخلق والتدبير على الرُّبُوبية المستَلْزِم للإقرار بالألوهية، وهنا قال: ﴿قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾؛ لأنَّ إقرارَهم بالأول وبالثاني، وأنَّ الأمرَ كلَّه بيد الله يسْتَلْزِم لا أنَّ الله موجود فقط، بل أنَّ الله مستَحِقٌّ لأن يُثنَى عليه، ولهذا قال: ﴿قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾، الحمد لله ظهرَت عليكم الحُجَّة، وقامَتْ عليكم البينة، وظهر كمالُ الله عز وجل، عرفْتم؟ فالأول فيه تخلِية، والثاني فيه تَحْلِية، إثبات كمال الله عز وجل يعني: الحمد لله على قيامِ البيِّنَة عليكم وظهور الحجة ووضوحِها.
أما يقول المؤلف: (فكيف يشركون به)، فهذا أتى به على حدِّ قوله في الآية الأولى: ﴿فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾، ولكِن عندي أنَّ الآية الثانية فيها إقَامَة حجة على أمْرٍ آخر هم ينكرونه، وهو البَعْث، فإنَّهم ينكرُونه، فحقيقة الأمر أنَّ مُنْكِر البعث سيُشْرِك بالله وسيَعْمَل ما شَاء؛ لأنَّ مُنكرَ البعث يعتقد أنَّه ما فيه جزاء ولا حساب، ومَن اعتقد كذلك هل يعمَل؟ ما يعْمَل، ولِهذا كما ترون يجمَع الله سبحانه تعالى دائمًا في القرآن بين الإيمان به وباليوم الآخر، دائمًا يجْمَع بينهما؛ لأنَّ الإيمان باليوم الآخر هو الحادِي للإنسان على العمَل؛ إذْ مَن لا يعتَقِدُ أنَّ هناك جزاءً، فكيف يعمل، فالذي يظْهَرُ لي أن الآية الثانية سِيقَت لإلزامِهم بالإقرار بالبَعْث.
* طالب: بعض الآيات ﴿فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ [البقرة ١٦٤].
* الشيخ: إي نعم، ومِن بعد موتها، إي نعم، الفائدة: أنَّ هذا الإحياء قد يكونُ قريبًا مِن مَوْت الأرض، بمعنى أنَّ المطر ينزل قريبًا مِن الجدب، وأحيانًا يكون متأخِّرًا، فـ (مِن) للمتأخر.
قال: ﴿قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ على ثُبُوتِ الحُجَّةِ عليكم. طيب ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ ما هو الحمد؟ هو الثَّنَاء كذا؟ يقول أكثر الناس: هو الثَّنَاءُ بالجميل، وهذا غَير صحيح، فإنَّ الثناء غير الحمد؛ لقولِ النبي ﷺ، بل لِقول الله تعالى، إنّ الثناء غير الحمد في الحديث القدسي؛ حديث أبي هريرة أن الله سبحانه وتعالى قال: «قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، فَإِذَا قَالَ:» ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الفاتحة ٢]«، قَالَ: حَمِدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ:» ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ [الفاتحة ٣]«، قَالَ: أثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ:» ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ [الفاتحة ٤]«، قَالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي»[[أخرجه مسلم (٣٩٥ / ٣٨) من حديث أبي هريرة.]]، وهذا دليلٌ واضح على أنَّ الثناء غير الحمد، وإلَّا لكان تكرارًا، وأيضًا المعنى يقتضي ذلك؛ لأنَّ الثناء من الثَّنْي وهو الرُّجُوع، فإنَّك إذا ثَنَيْت العصا رجَع طرَفُه إلى طرَفِه، ومنه أيضًا لفظ اثنين، يعني واحد وواحد ففيه رجوع، فالمهم أنَّ الحمد لا يصِحُّ تفسيره بالثناء، إذن فما هو؟ نقول: وصفُ المحمود بالكمال، لكن نزِيد أيضًا: معَ المحبة والتعظيم، حتى يخرُجَ بذلك المـَدْح، فإنَّ المدْح وصف الممدُوح بالكمال، لكن قد يكون لِمحبَّة وتعظيم، وقد يكون لِخَوْف لا لِمحبة، فهذا الرجل الذي وقَف أمام ملِكٍ ظَالِم ٍجَبَّار وقال: أنت الملكُ الكرِيم المحسِنُ العادِل الذي لا تظْلم أحدًا، هذا مدْح ولَّا لا؟ مدْح، لكن عن محبَّة وتعظِيم؟ أبدًا، هو كَذِب، نعم فنقول: إنَّ الحمد وصف المحمود بالكمال مع المحبة والتعظيم، ثم إنه أيضًا يُفَرَّق بينه وبين المدح أنَّ المدح قد يكون موافِقًا للواقع، وقد يكون غير موافق، والحمد لا بد أن يكون موافِقًا للواقع.
قال: وقوله: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ يقول العلماء: إن (أل) في الحمد أنَّها للاستغراق، فجَمِيع المحامد لله، واللام في قولِه ﴿لِلَّهِ﴾ هل هي لِلتمليك ولَّا لِشِبْهِه؟ ابن مالك يقول:
؎وَالـــــــــــــلَّامُ لِلْمِـــــــــــــــــلْكِوَشِبْهِـــــــــــــــــهِ ∗∗∗ ..........................
* طالب: لشبهه.
* الشيخ: لِشِبْهه، فالحمْد مسْتَحَقٌّ ومختَصٌّ بالله، والمرَاد به الحمدُ الكامِل، أمَّا مجردُ الحمد فلا يختَصُّ بالله، قد يُحمَد الإنسان على خصْلَةٍ مِن الخصال بقدرِ هذه الخصلة، لكن الحمْدُ الكامل الواسع مستَحَقٌّ لله وحدَه، ومختَصٌّ بالله وحدَه.
﴿قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ﴾ لا يعلمون تناقُضَهم في ذلك، (بل) هنا للإضراب الانتقالي أو الإبطالي؟
* طالب: الانتقالي.
* الشيخ: الانتقالي، يعني: فبعْدَ أن ثَبَت الأمر وقامت الحجة، واستَحَقَّ الباري الثنَاء أو الحمد، حينئِذٍ يصِحُّ أن يُسَجَّل عليهم الجهل، وهو قوله: ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾، أكثَر هؤلاء لا يعْقِلُون، يعني عندَهم مِن السَّفَه ما هو ظاهِر؛ لأنَّه لو كان عندهم عُقُول لكان إقرارُهم بما أقَرُّوا به مُلْزِمًا بِإقرارهم لما أَنْكروه، أو لا؟ نعم، لو كان عندَهم عقول حقيقِيَّة راشدة لكان إقرارهم بما أقَرُّوا به ملْزِمًا لِإقرارهم بما أنكروه، وهم أقَرُّوا أنَّ الذي خلق السماوات والأرض وسخَّر الشمس والقمر هو الله، والذي نزَّل من السماء ماء فأحيَا به الأرض بعد موتها هو الله، إذن أين العقل وأنتم تُنكِرُون البعث وتُشْرِكُون بالخالق؟! فهنا لا عقْل.
ومِن هنا نأخذ أنَّ أولئك الذين يدَّعون أنَّهم العقلاء ثم يُنكِرُون بعض صفاتِ الله عز وجل محتَجِّين أنَّ العقل لا يقِرُّها، نأخُذ منه أنَّهم ليس عندهم عقْل؛ لأنَّ العقل يُلْزِمهم أن يُقِرُّوا بما أنكَرُوه نظيرَ إقرارِهم بما أقَرُّوا به.
فمثلًا -نضْرِب مَثَلَيْن فقط- يقول الأشاعرة والكلام معهم ومَن سواهم مِن باب أولى، يقولون: نحن نثبت لله الإرادَة، ونُنْكِر الرحمة، ما لله رحمة، ليش يا جماعة؟ قالوا: نعم؛ لأنَّ الإرادة دَلَّ عليها العَقْل، والرَّحْمَة دَلَّ العقلُ على بطلانِها، شوف ما يقولون، ما دل عليها العقل، يقولون: دل العقل على بطلانها.
طيب فَسِّر، قال: الإرادة دَلَّ عليها العقْل بالتَّخْصِيص؛ تخصيص كونِ السماء سَمَاءً، والأرض أرضًا، والإنسان بشرًا، والحمار حيوانًا، ومَا أشبه ذلك، يعني حيَوان غير ناطق، هذا يدُلّ على أيش؟ على الإرَادَة، أراد أن يكون الحمارُ حمارًا، فكان حمارًا، وأن يكون الإنسان إنسانًا، فكان إنسانًا، وأن تكون السماء سماء، فكانت سماءً، إلى آخره.
وهذا دليل ولا بد على الإرادة، دلِيل واضح هذا ولَّا غير واضح؟ واضِح، طيب الرحمة؟ يقولون: دل العقل على إنكارِها، لِماذا؟ قال: لأن الرحمة لِينٌ ورِقَّة، والله جل وعلا ما يُوصَف باللين والرقة.
قلنا لهم: أنتم استدلْلَتم بالوَاقِع على الإرَادة، نحن نسْتَدِلُّ عليكم بالواقع على الرحمة، ودلالَةُ الواقع على الرَّحْمة أعظم مِن دلالة الواقع على الإرادة، لو تيجي للعامي تقول: أيش دليل الإرادة عقلًا عندك؟ والله ما أدري، العامي يُدرك أنَّ التخصيص دليل على الإرادة؟
* طالب: لا.
* الشيخ: طيب، لكن العامي لو تقُول له: إنزَال الله المطر بعد الجَدْب حتى تُخصِب الأرض، ورِزْق الله للفقير المال، فأصبح غنِيًّا بعد الفقر، مو هذا يدُل على أنَّ الله رحيم ولَّا لا، أيش يقول؟ يقول: نعم، فدلالَةُ الواقع الذي لا يُحصَى مِن نِعَمِ الله على رحمةِ الله أبلَغ مِن دلالة التخصيص على الإرادة، واضِح؟ وهذا واضح جدًّا.
فإذن في الحقيقة لو كان عندهم عقْل كما يزعمون أنَّهم أهْل العقل لكان استدلالُهم على الرحمة بالواقع أبلَغ مِن استدلالِهم على الإرادَة بالواقِع، واضح؟ لكن العلة والبلاء اللي هم جابوا، قالوا: إنَّ الرحمة معناها اللين والرِقة، والله عز وجل منَزَّه عن ذلك؟
جوابنا على هذا مِن ثلاثة أوجه؛ الوجه الأول: أن نقول: هذا اللازم إنَّما هو في رحْمَةِ المخلُوق، ورحمَةُ الخالق غير رحْمَة المخلوق، ما نُشَبِّهها، هذه واحدة.
وثانيًا: أن نقول: مَن يقول: إنَّ اللين والرقة منفِيَّة عن الله، ما هو إلا مجرد (...)، واللين لِلغير لإِيصال الإحْسَان إليهم ما هو صِفَة نقْص.
الوجه الثالث: أن نقول: إنَّ الرحمة ليست هي اللِّين والرقة، فقد يكون هذا المـَلِك يرحَم مثلًا أحدًا مِن رعِيَّتِه ويعطِف عليه وهو على عزَّتِه وعلى مُلكيته، ولا يشعر بنفسه أنه في هذه الحال انْحَطّ عن رتبة القوة والحزم، أليس كذلك؟ قولوا، لَا ولَّا نعم؟!
* الطلبة: نعم.
* الشيخ: يرْحَم مثلًا هذا الملِك القَوِيّ في سلطانه، يرحَم الفقير مِن أفراد أمته وهو يشعُر بأنَّه باقٍ على عِزَّتِه ولم يلحَقْه في ذلك شيء، فحينئِذٍ نقول: عقْلًا ..
(ما) نافية وليسَتْ حِجازيةً هنا؛ لأنَّ النفي انتَقَض بـ (إلا). وابن مالك يقول:
؎إِعْمَالَ لَيْسَ أُعْمِلَتْ مَا دُونَ إِنْ ∗∗∗ مَعَ بَقَا النَّفْيِ ...................
وهنا النفي لم يبْقَ.
وقوله: ﴿وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ [العنكبوت ٦٤]، الإشارَةُ هنا للتَّحْقير ودُنُوِّ مرتَبَتِها. والإشَارة للتحقير واردة في اللغة العربية، كما في قوله عن الكفار: ﴿أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ﴾ [الأنبياء ٣٦]؛ يعني: ويش هو هذا الحقير الذليل الذي يسُبُّ الآلهة وهي عظيمة وعالية، وما أشبه ذلك.
وقوله: ﴿الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ هي الدار التي نحن فيها، ووُصِفَت بالدنيا لِسببَيْن: لِدُنُوِّها زمنًا، ودُنُوِّهًا مرتَبةً.
وقوله ﴿الْحَيَاةُ﴾ جاءت هنا لِيُقَابِل بها الحياة الثانية.
وقوله: ﴿إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ﴾ صحيح هذَا الحصْر حقِيقي، الدُّنيا التي هي الدنيا تنْحَصِر في هذين الأمرين: في اللهو واللَّعب، والفرق بينهما قيل: إنَّ اللعب بالجوارح، واللَّهْو باللسان؛ لقوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [لقمان ٦]. وقال تعالى: ﴿الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ﴾ [الطور ١٢].
وقيل: إنَّ اللهو في القلْبِ وهو غفْلَتُه وانطِلَاقُه في الملاهي وفيما يلْهِيه عن طاعَةِ الله، واللَّعِب في الجَوَارح مِن اللسان وغيرِ اللسان، وهذا أقرب؛ أنَّ اللهوَ في القلوب واللعب في الجوارح، هذا هو الأقرب.
وعليه فحاصِلُ الدنيا أنَّها لَهْو يلهو به الإنسان؛ غفَلَات وسَرْح يمينًا وشمالًا، وكذلك لَعِب حتى الأمور الجِدِّيَّة التي للدنيا هي لَعِب؛ لأنَّها تَذْهَب ولا تَبْقَى، أو يَذْهَب عنها صاحبُها، فهي كلعب الأطْفَال يتَسلَّوْن بها ما داموا أطفالًا، ثم يهجُرونها إذا كبروا وعقَلوا وعرَفوا ما هم عليه.
قال المؤلف: (فأما القُرَب فمِن أمور الآخرة لِظُهور ثمرَتِها فيها)
قوله: (فأما القُرب) هذا جواب عن سؤال مقدَّر، كأنَّ قائلًا قال: كيف تكون الدنيا لهوًا ولعبًا مع أنَّ الإنسان يعمل فيها عملًا صالحًا؛ يصلي ويزكي ويصوم ويحُجّ ويبر والديه ويصِل رحمه وما أشبه ذلك؟ فهل هذا لعب؟
* طالب: لا.
* الشيخ: يقول المؤلف: ليس بلَعِب. طيب أليس هذا في الدنيا؟ قال: بلى هو في الدنيا، لكن ظُهُور ثمرتِه في الآخرة؛ ولهذا قال: (أمَّا القُرَب) -وهي مِن الدنيا- (فمن أُمور الآخرة لظهور ثمرتِها فيها). وصدَقَ المؤلف، فإنَّ الأعمال الصالحة ما هي مِن أعمال الدنيا؛ ولهذا لو أرَاد بها الإنسان الدنيا لَبَطَلَتْ ولم يكُن له أجْر فيها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: مَن حَجَّ ليَأخذ فليس له في الآخرة مِن خلاق؛ يعني مِن نَصِيب، ويشهَد لهذا الكلام الذي قالَه الشيخ يدُلّ له قوله تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (١٥) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٦)﴾ [هود ١٥ - ١٧].
ويدُلّ له أيضًا قولُه ﷺ:« «تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ، تَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ»[[أخرجه البخاري (٢٨٨٦) من حديث أبي هريرة.]] إلى آخره. والحاصِل أنَّ أعمال الآخرة ليست مِن أعمال الدنيا، بل إذا أُرِيد بها أعمالُ الدنيا بطَلتْ.
قال: ﴿وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ﴾ هذه الجملة مؤَكَّدَة بثلَاثة مؤكِّدَات، أقول: بيِّن لنا المؤكِّدَات في هذِه.
* طالب: الواو.
* الشيخ: الواو ما هي للتأكيد، ما هي الواو مِن أدوات التأكيد.
* الطالب: (...).
* الشيخ: ﴿وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ﴾.
* طالب: (إنَّ)، واللام، والضمير.
* الشيخ: وضمير الفصل: ﴿لَهِيَ الْحَيَوَانُ﴾. شف أكَّدَ الله عز وجل أنَّ الحيَوان يعني الحَيَاة، لكنَّها جاءَت على هذا الوزن لِلمُبَالغة؛ (حيوان): فَعَلَان للمُبالغة، وإلا فالحَيوان بمعنى الحياة، ووَزْن (حَيَوَان): فَعَلَان، ففيها زيادَةُ الألف والنون لِلمبالغة.
وقوله: ﴿وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ﴾: هي ما يكُون يوم القيامَة.
﴿لَهِيَ الْحَيَوَانُ﴾ قال: (بمعنى الحياة)، ولكن زِيدَت الألف والنون فيها لِلمبالغة؛ يعني هي الحياة الحقيقية؛ ولهذا يقول الكافر يوم القيامة يقول: ﴿يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي﴾ [الفجر ٢٤] حياته الدنيا مُقَدِّمٌ لها، بل هي جنَّتُه، لكن الحياة الحقيقية هي حَيَاةُ الآخِرة؛ لأنَّ حياة الدنيا في الحقيقة ليست بِحياة؛ أولًا: لأنَّها مُنَغّصَة، كل صَفْوِها له كَدَر. وثانيًا: أنَّها غير باقِية أليس كذلك؟ وثالثًا: أنَّ الإنسان مُهَدَّدٌ فيها، فلا يدْري متى يأتِيه أجلُه صباحًا أم مساءً، وكم مِن إنسانٍ خرَجَ من أهله ولم يرجِع إلا جُثَّتُه، وكم مِن إنسان على كرسِيِّه فما أكمَل الكتابة التي يخُطُّها بيمينه، هذه حياة؟ الجواب:
* طالب: لا.
* الشيخ: لا، ما هي حياة في الحقيقة؛ ولهذا يقول الشاعر:
؎لَا طِيبَ لِلْعَيْشِ مَا دَامَتْ مُنَغَّصَةً ∗∗∗ لَذَّاتُــــــــهُ بِادِّكَـــــــارِالْمَـــــــــــوْتِ وَالْهَــــــــــــرَمِ
مهما طاب لك العيش إذا تأَمَّلْت سوف تهْرَم وتدَع هذا العيش ولا يطِيب لك، وسوف تموت فلا تبْقى للعيش أصلًا.
والحاصل أنَّ الدار الآخرة -صدَقَ ربُّنا جل وعلا- هي الحيوان، فهي التي ينبغي للإنسان العاقل أن يسْعَى لها، والغريب أنَّه إذا سعى للآخرة حَصَّل الدنيا والآخرة، وإذا سَعَى للدنيا فقط فاتَتْهُ الدنيا والآخرة، الدليل: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ﴾ [الشورى ٢٠] أيش معنى ﴿نَزِدْ لَهُ﴾؟ يعني: نُعْطِيه حرث الآخرة مع الدنيا؛ لِقولِه تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ [النحل ٩٧] هذا جزاءٌ عاجل ﴿وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ هذا الجزاء الآجِل، و﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ﴾.
* طالب: (...).
* الشيخ: لا، نؤتيه منها ولا نعطيه اللي هو يبغي ﴿نُؤْتِهِ مِنْهَا﴾ [آل عمران ١٤٥] وهذا الوَعْد أيضًا مقْرُون بالمشِيئَة كما في آية الإسراء: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ﴾ [الإسراء ١٨]، ما هو بالذي يريد ولا بعْض الذي يُريد ﴿مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا﴾، إذن الحَيَوان حقِيقة هي الآخرة.
والحيوان الواو هنا هي أصلِيَّة ولَّا منقَلِبَة؟ قيل: إنَّها منْقَلِبَة عن يَاء وأَنَّها قُلِبَتَ واوًا؛ لِئَلَّا يلْتَبِس بالمـُثَنَّى، خلوا بالكم يا أهل النحو! وأنَّه لو قال: وإنَّ الآخرة لهي الحيَيَان؛ لكان يلْتَبِس بالمثنى فقُلِبَت واوًا، وهذا رأيٌ لِسيبويه بناءً على أنَّ الحيَاة يائِيَّة مِن حَيِيَ يَحْيَى.
وقيل: إن الواو أصلية، وإنَّ الواو في الحياة هي الأَصْل، لكن قُلِبَت ياء في حَيِيىَ ليش؟ لِتَحَرُّكِها وانكسار ما قبلها فقُلِبَت ياء، وهذا على كل حال تصريف، هذا بحث تصْرِيفي مَحْض.
وقولُه تعالى: ﴿لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ هذه جملَة مستَأْنَفة ليست ﴿لَوْ﴾ هنا صِلَة تتَعَلَّق بما قبلها، ولكنَّها مسْتَأْنَفَة فهي شَرْطِيّة، وجواب الشرط محذوف قدره المؤلف بقوله:
(﴿لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ ذلك ما آثَرُوا الدنيا عليها)
والحقيقة أنَّ قولَه: (ما آثروا الدنيا عليها) صحيح أنَّه يصِحُّ أن يكون جوابًا، لكنَّ الجواب أبلَغ مما قدَّرَه المفسر؛ ولِهذا حذَفَهُ الله لأَجْل أن يبلُغَ الذهنُ في تقديرِه كُلَّ مبْلَغ؛ علشان الذهن يقدر كل شيء ﴿لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ لَعَمِلُوا لها ليلًا ونهارًا مو فقط ما آثروا الدنيا لكان عملُهم لها فقط دون الدنيا، ومعناه أنَّ مَن قَدَّم الدنيا على الآخرة فليس عنده عِلْم، لو كان يعلم حقيقة ومن ذوي العلم والأفهام ما قدَّمَها.
﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ [العنكبوت ٦٥] ﴿إِذَا رَكِبُوا﴾ الضمير يعود على المشركين يعني سَلْ هؤلاء عن آلِهَتِهم هل هم يرجعون إليها عند الشدائد ولَّا هم يعترفون بأنَّه لا يفرج الشدة في الشدة إلا الله؟ الجواب: الثاني هم مُعْتَرِفُون بأن أصنامهم لا تنفعُهم واعتَرَفوا فيما سبق بأنَّ الذي خلق السماوات والأرض مَن؟ الله وأنَّ الذي ينزل مِن السماء ماء الله، وأنَّ الذي سخَّر الشمس والقمر الله، وأن الذي يدفَع الضَّرورة بناءً على ما ذُكِر في الآية هذه مَن؟ الله.
﴿إِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ﴾ والفُلْك السُّفُن أو السفينة؟ يصلُح لأنَّه صالحٌ للجمع والمفْرَد، قال الله تبارك وتعالى: ﴿حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ﴾ [يونس ٢٢] هذا جمْع، والمفرَد؟
* طالب: إذا ركبوا (...).
* الشيخ: لا.
* طالب: (...).
* الشيخ: لا، على الفُلْك؟
* الطالب: على الفُلْك.
* الشيخ: وهو واحد؟
* الطالب: إيه.
* الشيخ: طيب. قال: ﴿إِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ ﴿دَعَوُا اللَّهَ﴾ ﴿دَعَوُا﴾ هذه جواب ﴿إِذَا﴾ وهي مرُكَّبَة مِن فِعْلٍ وفَاعِل، وهنا فيه إشكال وهو أنّه تقدَّم لنا أنَّ الفعل الماضي إذا اتَّصَلَتْ به واو الجماعة فإنه يُبْنَى على الضَّمّ وتُسَكَّن واو الجماعة، وهنا ما بُنِي على الضم ولا سُكِّنَتْ واو الجماعة، تقول: قَامُوا اللي قبل واو الجماعة مضْمُوم، وواو الجماعة؟ مُسَكَّنَة، وهنا ﴿دَعَوُا﴾ لا ضُمَّ ما قبل الواو ولا سُكِّنَت الواو، فكيف المخرَج مِن هذا الإشكال؟
* طالب: (...).
* الشيخ: لا (...) قَبْل الواو، الآن هو إذا اتَّصل واو الجماعة في الفعل الماضي ضُمَّ ما قبلَها وسُكِّنَت.
* الطالب: (...).
* الشيخ: هَالْحِين اللِّي عندنا بالعكس.
* الطالب: دَعَوُا.
* الشيخ: ﴿دَعَوُا اللَّهَ﴾.
* الطالب: (...).
* الشيخ: لا.
* الطالب: (...).
* الشيخ: واحدة.
* الطالب: (...).
* الشيخ: لا. اللي عندنا الآن واحدة.
* الطالب: (...).
* الشيخ: يعني والواو الموجودة ويش هي؟
* الطالب: (...).
* الشيخ: أو واو الفعل.
* الطالب: واو (...).
* الشيخ: يعني واو الفعل، طيب هذا جواب.. نعم.
* طالب: (...) واو (...) واو الفاعل (...) لأن الواو واو الفاعل (...).
* الشيخ: حذفت الواو.
* الطالب: واو (...).
* الشيخ: طيب والفَتْح ويش اللي جابه؟
* طالب: بقِي على الأصل أن الضمة أصل الواو (...).
* الشيخ: وهذا الجواب؟ نعم.
* طالب: (...) واو الجماعة أنه يُحذف ويُفتح ما قبل واو الجماعة (...) دَعَوْا، أصل الفعل: (دعا) (...) حرف العلة (...) فحذفت (...) قبله.
* الشيخ: وبقِيَت الفتحة؟
* الطالب: علامةً عليها.
* الشيخ: دليلًا عليها على ذلك، طيب ضمّ الواو ﴿دَعَوُا﴾؟
* طالب: (...).
* الشيخ: (قَامُوا) ما هُو (...) مُسَكَّنَة.
* طالب: (...).
* الشيخ: طيب:
؎............................... ∗∗∗ وَإِنْ يَكُـــــنْ لَيْنًا فَحَذْفُـــــــــهُاسْتَحَـــــــــقَّ
* طالب: (...).
* الشيخ: (...).
* طالب: (...).
* الشيخ: جوابُه صحِيح الأول ولَّا لا؟
* طالب: (...).
* الشيخ: إيه إنه حُذِفَت الألف، محذُوف مِن الفعل الأَلِف؟
* طالب: (...) الألف ألف الفعل (...).
* طالب آخر: (...).
* الشيخ: لا، ما يتكلم أحد يا جماعة إلا المسؤول.
* طالب: (...).
* الشيخ: ما هو صحيح.
* الطالب: (...).
* الشيخ: اللي هو الضَّمِير؟
* الطالب: إيه، وحُذِف لالتقاء الساكنين.
* الشيخ: الظَّاهِر إنه بيصير فيه خلاف بينكم، لعلنا نقطَع الطريق.
* طالب: (...).
* الشيخ: لا، الصحيح: أصله أنّه محذوفة الألف حُذِف ألِفُ الفعل وبَقِيت الفتحة دليلًا عليها، والواو الموجودة واو الضمير لكن حُرِّكت بالضَّم لالْتِقَاء الساكِنَين، وين الساكِنَان؟ لو بَقِيَت الواو ساكِنَة وهمزة (أل) ساكنة ما يستقيم، فإذا قال القائل: القاعدة أنك تحذف الواو لأن:
؎.............................. ∗∗∗ وَإِنْ يَكُـــــــنْ لَيْنًا فَحَذْفُــــــــهُاسْتَحَـــــــقَّ
قلنا: حذف الواو هنا غير مُمكن، لو حَذَفْنا الواو اسْتَلْزَمَ ذلك إرجَاع ألف الفعل، ثم إذا رَجعْنَاه لم يكن لدينا دليل على الضَّمِير فصارَ وجود الضمير لا بُدَّ منه، وحُرِّك بالضم لأنَّه الـمُجَانس للواو إذْ أنَّ ظُهُور الكَسْرَة على الواو ثَقِيل جِدًّا، والضَّمَّة أقْرَب لمجانَسَتِها الواو، وهذه موجودة في القرآن، بهذا عدة أمثلة.
وقوله: ﴿دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ [العنكبوت ٦٥] ﴿دَعَوُا﴾ دُعاء عبادة ولَّا مسألة؟
* طالب: مسْأَلَة.
* الشيخ: مسْأَلَة. وقوله: ﴿مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ حالٌ مِن فاعل ﴿دَعَوُا﴾، والإخلاص: تنْقِيَةُ الشيء عما يشُوبُه، فمعنى ﴿مُخْلِصِينَ لَهُ﴾ أي: لا يجعلون مع هذا الدعاء دعاءً لِشيءٍ من الأصنام.
وقوله: ﴿لَهُ الدِّينَ﴾ قال المؤلف: (أي الدعاء)؛ لأنَّ الدعاء عبادة، فهو مِن الدِّين؛ فلِهذا قال:
(﴿مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ أي: لا يدْعُون معه غيرَه؛ لأنهم في شِدَّةٍ لا يكشِفُها إلا هو).
وهم بذلك معتَرِفون ومضطرون، لا يمكن أن يدعو الواحد منهم صنمًا في هذه الحال؛ لأنه يعلم أنَّ الصنم لا ينفَعه، فلا يدعُون إلا الله، وهذه حُجَّةٌ ثالثة عليهم بل رابعة.
الحجة الأولى: خلق السماوات والأرض. والثانية: تسخِير الشَّمْس والقمر. والثالثة: إنزَال الماء مِن السماء وإحيَاء الأرض أربعة (...). والخامِسة: إخلاصُهم الدعاء في حالِ الشِّدَّة لله.
* طالب: أكبر الحُجَج عليهم هذه.
* الشيخ: إي نعم، هذه مِن أكبر الحُجَج عليهم.
قال: ﴿فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ﴾ ﴿لَمَّا﴾ هذه شرْطِيَّة. فعل الشرط: ﴿نَجَّاهُمْ﴾، وجوابه: ﴿إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ﴾. و﴿إِذَا﴾ يسَمِّيها النحويون فُجَائِيَّة، والفُجَاءَة الشيء الذي يأتي بغتة، والمعنى: أنَّهم إذا نُجُّوا إلى البَرّ فَاجَؤُوا وبادَرُوا ويش هو؟ بالشِّرك، أعوذ بالله، جزاء النعمة أن يكفُروا.
﴿فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ﴾ نجَّاهُم مَن؟ الله، يعني أنقَذَهم مِن الشِّدَّة التي هم فيها ﴿إِلَى الْبَرِّ﴾ الذي هو شاطئ السلامة.
(﴿إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ﴾ به).
﴿هُمْ يُشْرِكُونَ﴾ هذه جملة اسمية تفيد أنَّ هذا يكُون كالصفة اللازِمة لهم يسْتَمِرُّون -والعياذ بالله- على الشرك مُبادرِين به، وهذا غاية ما يكون مِن اللُّؤْمِ؛ لأنَّ الإنسان بطبِيعَتِه وفطْرَتِه لا يكْفُر بِمَن أنعم عليه، بل يشْكُر مَن أنْعَم عليه.
أمَّا هؤلاء فإنهم بمجَرَّد النعمة يشركون والعياذ بالله، وهذا يُشبهه قولُ مَن يتَرَنَّم في بعض الإذاعَات العرَبِيَّة في الحَرْب التي يسمونها حرْب الأيَّام السِّتَّة تعرفونها هذه؟ حَرْب مع اليهود، حارَبَتْ سُورْيَا والأُرْدُن ومِصْر، حَرْبٌ قَضَتْ -والعياذ بالله- على معنوياتهم وأخذَتْ أراضِيَهم، لكن في أيام المعركة كان أحَدُ المذيعين يقول: سندخل تلَّ أبيب غدًا وتُغَنِّينَا أمُّ كلثوم، لكن أمَّ كُلْثُوم غنَّتْ على رُفَاتِهم.
هذا في الحقيقة وعْدٌ بِالكُفْر بِكُفْر النعمة ولَّا لا؟ الرسول عليه الصلاة والسلام دَخَل مكَّة حين الفتح مطَأْطِئًا رأسَه خاضِعًا لله عز وجل[[أخرجه أبو يعلى (٣٣٩٣)، والحاكم في المستدرك (٤٤١٣) من حديث أنس بن مالك.]]، نعم فرْق بين هذا وهذا، إنما هذه الحال كونه مثلًا إذا فتحْنا بلاد الكفار تُغَنِّينَا القِيَان تعْزِفُ علينا، هذا يُشْبِه ﴿فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ﴾.
قال الله تعالى: (﴿لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ﴾ [العنكبوت ٦٦] مِن النعمة، ﴿وَلِيَتَمَتَّعُوا﴾ باجتِمَاعهم على عِبَادَةِ الأصنام، وفي قراءةٍ بسكون اللام: أمْر تَهْدِيد).
قولُه: ﴿لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ﴾ اللام هنا لِلأمْر أم لِلتعليل؟
* طالب: للتعليل.
* الشيخ: نعم فيها قراءتان، إنْ سكَّنَّا اللام في قولِه: ﴿وَلْيَتَمَتَّعُوا﴾ -وهي القراءة الثانِية- صارَت اللام للأمر أمْر تهديد؛ لأنَّ الله ما يأمُر بالكفر أمْر إرشاد ولا أمْر إِلْزَام، وإذا كسَرْنا اللام الثانية: ﴿وَلِيَتَمَتَّعُوا﴾ صارَتِ اللام لام (كَي).
ثم هل اللام في قولِه: ﴿لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ﴾ على أنَّها إذا لم تكن للأمْر هل هي لامُ التعليل ولَّا لام العاقبة؟ الجواب: أنَّها لام العاقبة؛ لأَنَّ الله ما نَجَّاهم إلى البَرّ فأشركوا لأجْل أن يَكفروا، لكن صَارَت عاقبتُهم الكفر، هل لام العاقبة معروفَة في اللغة العربية؟ نعم معروفة، قال الله تعالى: ﴿فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا﴾ [القصص ٨].
لو سأَلَنَا سائل: هل آلُ فرعون التَقَطُوا مُوسى لِهذا الغرض؟ لقلنا: لا، لكن صارت العاقِبة هذه، لو أنَّهم عَلِموا أنه يكون عدوًّا لهم وحزنًا..
* طالب: ما التقطوه.
* الشيخ: إيه أو التقطوه فأهْلَكُوه، إنَّما ما يلتقطونه لِهذا الغرض، لكن صارت للعاقبة، فهنا العاقبة أنَّهم كفروا بما آتينَاهم.
وقوله: ﴿بِمَا آتَيْنَاهُمْ﴾ الباء للسببية أم إنَّ البَاء مُعَدًّى بها الفعل مثل كَفَر به؟ نعم هذا هُو الأقرب؛ يعني: ﴿لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ﴾ أي أنَّ الفعل (كَفَرَ) تعدَّى إلى مفعولِه بالباء، والمعني: مثل كفَر بالله وكفر بالرسول وكفر بكذا، وقوله: ﴿بِمَا آتَيْنَاهُمْ﴾ أي بما أعطيناهم مِن النعمة ويش هي النعمة؟ إنْجَاؤُهم مِن الغرق.
﴿وَلِيَتَمَتَّعُوا﴾ قال: (باجْتِمَاعهم على عبادة الأصنام)
ويمكن أن يقال: ﴿وَلِيَتَمَتَّعُوا﴾ بالنعم أيضًا، بالنعم التي أُعْطُوها، فهم كفروا بها فلم يشكُرُوها وتمتَّعُوا بها إلى مآلِهم ومصيرِهم.
يقول المؤلف: (وفي قراءة بسكون اللام أمرَ تهديد): ﴿وَلْيَتَمَتَّعُوا﴾ . وعلى هذا العامة الآن يقرَؤُونها ﴿وَلْيَتَمَتَّعُوا﴾ نرُدّ عليهم ولَّا لا؟ نرُدّ عليهم؟
* طالب: (...).
* الشيخ: نرد عليهم.
* طالب: (...).
* الشيخ: إيه؛ لأنَّ القراءة قراءة غلط، نرد عليهم لأنَّهم يقرؤونها قراءة غلط؛ إذ إنه لو تقول (...) ﴿وَلْيَتَمَتَّعُوا﴾ وين ترجعون إليه؟ نرجِع إلى المصحف، إذا رجعنا إلى المصحف وجدْناها مكسورة، فقراءَتُهم إيَّاها بالسكون ليس عن عِلم بل هو عن خطأ وعدم معرفة، أمَّا لو جاء طالبُ علم فقرأها ﴿وَلْيَتَمَتَّعُوا﴾ فإننا لا نردُّ عليه؛ لأن طالب العلم قد يكون قرأَها على هذه القراءة.
* طالب: (...).
* الشيخ: إذا كان في واقع الأمر أنها صحيحة لكن ما أراد لام الأمر فهي ما هي بصحيحة، قراءته خطأ وهو ما أراد لام الأمر.
* طالب: (...) لام الأمر (...) اللغة العربية (...).
* الشيخ: إيه، لكن هم أرادوا ما تدُلُّ عليه اللغة العربية، وهي: أشهد أن محمدًا رسولَ الله، ويش أرادوا أن تكون رسول؟
* الطالب: خبرًا.
* الشيخ: خبرًا، فهم أرادوا ما تقتضيه اللغة العربية الأخرى.
* الطالب: وهذا؟
* الشيخ: لا، هذا ما أراد الأمر.
* الطالب: ما يدري.
* الشيخ: ما يدري؛ لكن هو أراد الذي في المصحف، إن نرُد عليه نقول: لأنَّك الآن تريد القراءة التي في المصحف فغَلِطت، أمَّا لو قال: نعم أنا سكنْتُها لأنِّي على الوجه الثاني في القراءة، قلنا: ما نرد عليه.
* طالب: رجل لو صار يقرأ في قراءة ورش وجاته آية مثل هذه وقرأها بالقراءة الثانية ما نرد عليه هو يعني قاصدها.
* الشيخ: لا إذا قصدها ما نرُدّ عليه إلَّا مثل ما قلت لكم سابقًا؛ إنه أَمامَ العامة ما ينبغي أن نقرأ خلاف القراءة التي بين أيديهم؛ لأنَّ هذا يوجب التشويش عليهم، ويوجب أنه بدَل ما كان القرآن محترمًا في نفوسهم تعرف العامي ما يقدّر هذه الأمور، يرى أن هذا فيه نقص في القرآن الكريم يقول: أيش لون هذا يتغير؟
إحنا ذكرنا أن القراءات طالب العلم ينبغي أن يقرأَها بنفسه فيما بينه وبين نفسه، ينبغي أن يقرَأ بكل القراءات لأنَّها كلها سنة، ولكن بالنسبة للعامة ما ينبغي أن تقرأ عندهم خلاف ما كان معروفًا بينهم.
* طالب: تسمية الدعاء دينًا.
* الشيخ: وجه تسمية الدعاء دينًا؛ لأنَّه من العبادة، الإنسان الذي يدعو ربه متعبدٌ له بهذا الدعاء؛ ولهذا خصوصًا العارف يشعر بأنه سيُثَاب على هذا فيكون دينًا.
وقوله: ﴿فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾: (﴿فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ عاقبة ذلك).
(سوف) يقول النحويون: إنَّها تفيد التوكيد لكن بمُهلة؛ ولهذا يقولون: التَّسويف، بخلاف السين فإنَّها تفيد التحقيق بقرب.
وقوله: ﴿فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ الجملة خبرية ويُراد بها التهديد كقوله تعالى: ﴿كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ [التكاثر ٣، ٤] في سورة (ألهاكم). وقال تعالى في سورة النبأ: ﴿كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (٤) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (٥)﴾ [النبأ ٤، ٥]. فالعذَاب والعياذ بالله نازِلٌ بهم لا محالة.
﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا﴾ [العنكبوت ٦٧]، ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا﴾ تقدم الكلام على مثل هذا التركيب وأنَّ الهمزة للاستفهام والواو حرف عطف، وهل الهمزة مقدَّمَة عن مكانها أو لا؟ ذكرْنا أنَّ في ذلك خلافًا، وذكرْنا أنَّ القول الأسهل أنَّ الهمزة للاستفهام وأنَّ الواو عاطفة على ما قبلَها.
وقوله: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا﴾ يقول المؤلف: (يعلموا) وذلك لأنَّ الرؤية نوعان: عِلْمية وبصرية، إن تعَدَّت إلى مفعولين فهي عِلْمية كقولك: رأيت العلم نافعًا، وإلى مفعولٍ واحد فهي بصرية كقولك: رأيتُ فلانًا.
من الرؤية العلمية في القرآن كثير ومنه قوله تعالى: ﴿إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (٦) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (٧)﴾ [المعارج ٦ - ٨] نعلَمُه قريبًا، و﴿يَرَوْنَهُ﴾ الأولى رؤية ظَنّ ﴿إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا﴾.
وقوله تعالى: (﴿أَوَلَمْ يَرَوْا﴾ أي: يعلموا ﴿أَنَّا جَعَلْنَا﴾ في بلدهم مكة ﴿حَرَمًا آمِنًا﴾ ).
لِماذا خصَّه بأهل مكة؟ لقولِه: ﴿وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ﴾.
﴿جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا﴾ الحرم ما لَهُ حرمةٌ أي تعظِيم، وسُمِّي التعظيم حرمة لأنه يُمنَع بهذا التعظيم ما كان سائغًا لولاه، أيش مِن جملة حُرُمَات مكة؟
* طالب: تحريم قتل الصيد.
* الشيخ: تحرِيم قتل الصيد، والقتال فيها، وقَطْع الشجر، وحَشَّ الحشيش وغير ذلك، حتى الحيوانات غير المؤذية يجب أن تكون آمِنَة.
قوله: ﴿حَرَمًا آمِنًا﴾ أهل المجاز يقولون: آمِنًا مَن فيه، والصواب أنَّ الحرم نفسه آمِن؛ ولهذا عصَمَهُ الله سبحانه وتعالى مِن كل أحد كما قال الله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ﴾ [الفيل ١]، وحرَّم النبي عليه الصلاة والسلام القتال فيه[[متفق عليه؛ البخاري (١٨٣٤) ومسلم (١٣٥٣ / ٤٤٥) من حديث عبد الله بن عباس. وفي الباب: عن أبي هريرة، وعمرو بن سعيد وغيرهما.]]، فهو نفسُه آمِن، وإذا أَمِن نفسه أَمِن مَن فيه.
وقوله: ﴿وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ﴾ يقول المؤلف: (قتلًا وسبيًا دونَهم): في عهْد الجاهلية، غيرُ أهل الحرم ليسوا بأمَان، يُغار عليهم فيُقْتَلون ويُسْبَوْن وتُؤخذ أموالُهم ونساؤُهم، لكن أهل مكة آمنون حتى إنَّه يجِد الإنسان قاتِلَ أبيه في الحرم ولا يقتلُه، قاتل أبيه مع شِدّةِ الحَمِيَّة عندهم لا يقتلُه، لكن اخرج عن الحرم تجِد القتل والسبي والنَّهب وكُل شيء.
هذه نعمة مِن الله عظيمة على قريش، وكان عليهم أن يُقابلوا هذه النعمة بالشُّكْر والتصديق للرسول ﷺ، مع أنَّ الرسول عليه الصلاة والسلام منهم يعرفونَه ويسَمُّونَه قبل أن يأتي بالرسالة يسَمُّونَه الأمِين، ويحتكمون إليه أحيانًا، لكن لَمَّا بُعِثَ بالرسالة -والعياذ بالله- وخالف أهواءَهم كفروا به.
* طالب: (...).
* الشيخ: يقال فيه: إنَّ الحرم نفسه ما تغيَّر، وأَخْذُ الحجر منه ما بقِي، ولا تعَطَّل الناس مِن الحج، حتى وهو (...).
مِن الفوائد:
* طالب: (...) ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ﴾ (...).
* الشيخ: أي: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ﴾ مَن نزَّل ولَّا من خلق؟
* طالب: من نزَّل.
* الشيخ: قال الله تعالى: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ [العنكبوت ٦٣].
* مِن فوائِد هذه الآية: أولًا: حكمة الله سبحانه وتعالى في إنزال المطر مِن السماء.
* ومن فوائدها: أنَّه لا يقدر على إنزال المطر من السماء إلَّا الله، ومهما حاول هؤلاء الذين أعطاهم الله ما أعطاهم مِن الصنائع فإنَّهم لن يستطِيعوا أن يُنَزِّلوا المطر مِن السماء؛ لأن هذا خاص بالله عز وجل.
* ومِن فوائد الآية: قُدرَة الله سبحانه وتعالى على إحياء الموتى: ﴿فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا﴾.
* ومِن فوائدها: أنَّ الجماد يُوصَف بالحياة والموت ﴿أَحْيَا بِهِ﴾ ﴿مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا﴾، وذكرنا مثالًا آخر في هذه المسألة في الأصنام: ﴿وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (٢٠) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ﴾ [النحل ٢٠، ٢١].
* ومِن فوائدها: قياس الغائب على الشاهد.
* طالب: الغائب هو البعث أو النشور مرة أخرى، والشاهد هو إحياء الأرض؟
* الشيخ: إي الغائِب إحياءُ الناس بعد الموت، والشاهد إحْيَاء الأرض.
* ومِن فوائدها: ثُبوت القياس الصحيح أو اعتبار القياس الصحيح خِلافًا لمن أنكرَه أو غَلا فيه؛ لأنَّ الناس انقسموا إلى قسمين: مِنهم مَن غَلَا، ومِنهم مَن دنا؛ يعني منهم مَن أنكر القياس مطلقًا كابن حزم وهو ينكِرُه ويقِيسُ أحيانًا، ومنهم مَن غلا فيه وتجَاوز الحد حتى بلَغ بهم إلى أن يقِيسُوا صِفَاتِ الخالق بصِفَات المخلوق كالمشَبِّهَة مثلًا.
* ومِن فوائد الآية: حُسْنُ مناظرة القرآن ومجادلَتِه، وأنَّ مناظرَاته ومجادَلَاته تكون مُلْزِمَة، وجه ذلك أنَّ إقرارهم بهذا الشيء ملْزِمٌ لهم أن يقروا بتوحيد الألوهية وكمالِ صفات الله.
* ومنها: وُجُوب إعلَان الثناء والحمد لله عز وجل أمام المشركين؛ لقوله تعالى: ﴿قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾.
* ومنها: أنَّ إقرارَ المشركين بما يختَصُّ به الله تعالى مِن القدرة هو في الحقيقة كمالٌ لله عز وجل؛ ولهذا أمَر الله نبيه أن يُثْنِي عليه بالحمد أو أن يصفَه بالحمد لَمَّا قال: ﴿لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾، * فيُستفاد منه أن إقرار المشركين بما يختَصُّ به الله من صفات يُعتبر مِن كمالِ صفات الله التي يستَحِقُّ عليها الحمد.
* ومنها: أنَّ أكثرَ هؤلاء المشركين جُهَّال؛ لقوله: ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [النحل ٧٥]، المعنى: لا يعلمون ما يستَحِقُّه الله تعالى مِن أوصاف الكمال.
* طالب: ﴿لَا يَعْقِلُونَ﴾.
* الشيخ: ﴿لَا يَعْقِلُونَ﴾ نعم صح، أكثرهم سُفهاء، إن أكثرهم سفهاء لا يعقلون، لو كانوا عقلاء لَعرفوا اللازِم وملْزُومَاتِه وأقروا بها.
* ومِن فوائد هذه الآية: أنَّ الأشاعِرة ونحوهم ليس عندَهم فيما ذهبُوا إليه مِن إثبات بعض الصفات وإنكار بعضِها ليس عندهم معقول ولا أثَرٌ منقُول، أمَّا الأثر المنقول فظاهِر، ما عندهم دليل. وكذلك أيضًا ليس عندهم نظر معقول، فإنهم ينكرون ما يقِرُّون بمثله أو دونَه ولَّا لا؟ ومَرَّ علينا أمثلة لهذا فيما سبق.
إذن نقول: كُلُّ مَن أقَرَّ بشيء مِن صفات الله تعالى وأفعاله وأنكَر آخر فهو دليلٌ على قِلَّةِ عقْله، وليس المرادُ بالعقل هنا عقْل الجنون لا ما هو الجنون، لكن عقل الرشد والهداية.
* طالب: كيف يوصف البعض بالعقل؟
* الشيخ: إي نعم؛ لأنَّ البعض أقَرّ وآمَن.
* الطالب: هو الآن يحكي عنهم يتكلم عنهم..
* الشيخ: هم على سبيل العموم، والذي عنده عقْل ثم فَكَّر ونظَر آمَن ورَجَع.
﴿وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ [العنكبوت: ٦٤].﴾
* مِن فوائد هذه الآية: بيَانُ حَقَارَةِ الدنيا وأنَّها ليست بشَيْءٍ مطلقًا ولَّا بالنسبة للآخرة؟
* طالب: بالنسبة للآخرة.
* الشيخ: ظاهر الآية أنه مطلق، إن ما هي إلا لهو ولعب، كل ما فيها لهو ولعب، فيمكن أن نقول: إنها على سبيل الإطلاق، ويمكن أن نقول: إنَّه على سبيل المقارنة بالآخرة؛ لقوله: ﴿وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ﴾.
* طالب: (...) يعني تُقيَّد؛ لأن فيها أشياء كالصلاة مثلًا..
* الشيخ: هذه أجاب عنها المؤلف قال: (إنَّ القُرَب مِن أعمال الآخرة لظهور أثرِها فيها). نفس المؤلف أجاب عن هذا، فما كان مِن أعمال الآخرة فليس داخلًا في أعمال الدنيا.
* ومِن فوائد الآية: أنَّه لا يجوز أن يُقصَد بأعمال الآخرة شيءٌ من الدنيا، وجه ذلك؟ هذه فائدة ما هو سؤال، قلنا: يستنبط مِن هذه الآية أنَّه لا يجُوز أن يُقْصد بها الدنيا، ما وجهُ الدلالة؟
* طالب: (...).
* الشيخ: لا.
* طالب: لأن الدنيا (...) والدار الآخرة (...).* الشيخ: لأن هذه المسائل يقصد بها الآخرة، فلا يجوز أن تأخذ عنها عِوَضًا من الدنيا، والمسألة هذه عاد فيها خلاف بين أهل العلم في باب الإجارة.
* ومِن فوائد هذه الآية: كمال حياة الآخرة؛ لقوله: ﴿وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ﴾، وهو كذلك؛ لأنَّ الدار الآخرة دائِمة إما على الخير وإمَّا شر.
* ومِن فوائد الآية: الحث على العلم؛ لقوله: ﴿لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾.
* ومنها: أنَّ مِن العلم بل مِن أفضَل العلوم التَّفريق بين الأمور النافعة والأمور الضارة، وهذا التفريق مِن أعظم ما يكون، إذا أُوتِيَه الإنسان حقيقة أوتِيَ خيرًا كثيرًا، إذا أوتي معرفة الفرق بين الأمور النافعة والضارة ومعرفة الفرق بين الأمور المتشابهة في العلم فهو ينالُ خيرًا كثيرًا.
وقد صنَع بعض أهل العلم شيئًا مِن ذلك، فصاروا يؤَلِّفُون كتبًا اسمُها: الفروق والتقاسيم، مثلًا يذكرون: الفرق بين الفرْض والنفل، الفرق بين الأذان والإقامة، الفرق بين الجَعَالة والإجارة، الفرق بين العطِيَّة والوصِيَّة، الفرق بين كذا وكذا ويذكرون الفروق، وهذه مفيدة لطالب العلم، وهنا قال: ﴿لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾: الفرق بين الدنيا والآخرة ما آثروا الحياة الدنيا على الآخرة.
* طالب: (...).
* الشيخ: في مؤلَّفات.
* الطالب: (...).
* الشيخ: لا ما نعرف، أنا ما أعرف، لكنه دائمًا في الإنصاف: ذكرَه فلان في الفروق والتقاسيم وما أشبه ذلك، الشيخ عبد الرحمن له رسالة صغِيرة في هذا الموضوع لكن ما استوعبه، إنَّما مفيدة في هذا الباب.
* طالب: كتاب القرافي؟
* الشيخ: القرافي؟ إي نعم ما رأيْته.
* طالب: رسالة الشيخ؟
* الشيخ: رسالة الشيخ اسمها القواعد، صغيرة ما هي كبيرة، القواعد والتقاسِيم، هذا..
* طالب: (...) الحروف والقواعد.
* الشيخ: إي نعم.
قال: ﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ﴾ إلى آخره [العنكبوت: ٦٥]
* طالب: يا شيخ، بالنسبة لقصد الدنيا وقَصْد الآخرة ترى الذين يُسَمُّون أنفسهم العارفين يقولون مثلًا: لا أعمل لأجل الجنة ولا خوفًا مِن النار، ويسمون هذه عبادة العبيد أو (...).
* الشيخ: (...) ﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ إلى آخره.
* مِن فوائد هذه الآية: بيَان أن المشركين -فيما سبق- يُخلِصُون في حال الشدة.
* ومِن فوائدها: اعتراف المشركين ضِمْنًا بأن آلهتَهم لا تنفعهم، لو كانوا يعتقدون نفعَها لدَعَوْها في هذه الحال، لكن هم يعرفون أنها ما تنفَعُهم.
* ومن فوائدها: أنَّ إشرَاكَ السابقين أهوَن مِن إشراك مَن أشْرَك مِن هذه الأمة ولَّا لا؟ لأنَّ المشركين مِن هذه الأمة ما هم يدعون الله، يدعُون أولياءَهم والعياذ بالله ومَن اتخَذُوهم أندادًا مع الله، يقولون مثلًا الرافضة يدْعُون عليًّا، يا علي! يا علي!
* طالب: عند الكعبة (...).
* الشيخ: إي نعم، وسمعت رجلًا منهم يدعُو عند المقام ويرفع صوته: يا علي يا علي! يرفَع صوتَه (...)، فجاءَه أحدُ رجال الحسْبَة فزجَرَه وقال: تُشْرِكُ تحت الكعبة! اخرُج. فقال: إنَّما أنا أقول: يا عليُّ، والله يقول في القرآن: ﴿وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾ [البقرة ٢٥٥] يعني أنَّه ينادِي الله، وهذا مِن التقية اللي هم يتَّخذُونَها وهي سَبِيلُ المنافقين.
فهذا لا شك -فيما يظهر لي والله أعلم- أنَّه ما يريد الله، إنما يُريد عليًّا؛ لأنَّه لو كان يُريد الله لقال: يا ربِّ، أو: اللهم، أو ما أشبه ذلك، لكن لَمَّا وقَع في شَرَك العَدْل والتوحيد (...) الكلام ادَّعى هذه الدعوة، والحاصل أنَّ شِركَ مَن أشرك في هذه الأمة أعظَم مِن شرك المشْرِكين فيما سبق.
* ومِن فوائد الآية: أنَّ اللجوءَ إلى الله عز وجل أمرٌ فِطْرِيٌّ غريزِيّ؛ بدليل أنَّ هؤلاء غلبَتْهُم الفطرة حتى ﴿دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾.
* ومِن فوائد الآية: أنَّ الدعاءَ مِن الدين؛ لقوله:
(﴿دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ أي: الدُّعاء)
ولا شكَّ أن الدعاء مِن الدين والعِبادة؛ لأنَّ فيه غاية الذل والاعتِرَاف بالكمال لله عز وجل، أليس كذلك؟ فيه غاية الذل والاعتراف بالكمال لله عز وجل، وهذه هي العبادة.
أنت عندما تقول: يا رب، معنَاها أنك مُفْتَقِر إلى الله عز وجل، ومعناها أنَّ الله كامل ولَّا لا؟ إي نعم؛ ولهذا بايَع الصحابة رضي الله عنهم النبي ﷺ على ألَّا يسألُوا الناس شيئًا، فكان الرجل يسْقُطُ سوطُه مِن بعيرِه فينْزِل ويأخذُه ولا يقول: ناولْنِي إيَّاه يا فلان[[أخرجه مسلم (١٠٤٣ / ١٠٨) من حديث عوف بن مالك الأشجعي.]].
بينما إنه مع الأسف الآن في وقتِنا تجِد الإنسان يتذَلَّل غايَة الذُّلّ في سُؤَال المـَال وهو غير مُحتاجٍ إليه، هؤلاء يأتون يومَ القيامة وما في وجوهِهم مُزْعَةُ لَحْمٍ والعياذ بالله، فالمهم أنَّ الدعاء تذَلُّل؛ ولهذا كان مِن العبادة.
* ومن فوائد هذه الآية الكريمة: أنَّ هؤلاء المشركين إذا نجَوْا مِن الشدة كفَرُوا بالنِّعْمَة: ﴿لَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ﴾.
* ومِن فوائدِها: سفَهُ مَن يجْعَلُ النِّعَم سببًا للأَشَر والبَطَر، فإنَّ هذا فيه مِن مشابهة المشركين ما هو ظَاهر، اللي يجعلون النِّعْمة سببًا للأشر والبطر هؤلاء الْمُشابهون للكفار؛ لأنَّ الواجب على مَن أنعَمَ الله عليه نعمَة أن يزدادَ عبادة لله سبحانه وتعالى؛ لأنَّ العبادة مِن الشكر، فإذا أنعم الله عليك بالنعمة فازْدَدْ له شُكْرًا.
ولهذا: «كانَ الرسولُ ﷺ لما دخَل مكة فاتحًا قد طَأْطَأَ رأسَهُ حتى إنَّه ليُصِيب مَوْرِكَ رحلِه»[[أخرجه أبو يعلى (٣٣٩٣)، والحاكم في المستدرك (٤٤١٣) من حديث أنس بن مالك.]] عليه الصلاة والسلام، كُلّ هذا مِن أجل التَّذَلُّل لِلمُنْعِم سبحانه وتعالى، فلا تجْعَل نِعَمَ الله عليك سببًا للأشر والبَطر، بل اجعلْها سببًا للشُّكْر والذُّلِّ لله سبحانه وتعالى، حتى تزدادَ هذه النِّعَم وتكونَ نِعَمًا حقِيقِيَّة.
وقوله: ﴿لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ [العنكبوت ٦٦] نُفَسِّر هذه الآية على أنَّها للأمر.
* فيستفَاد منها: تَهديد أهل الكفر والتَّمَتُّع المحرَّم؛ لأنَّ الأمر هنا للتَّهْدِيد؛ إذ لا يأمُرُ الله أحَدًا أن يكفر، ولا أن يتمَتَّعَ تمتعًا محرَّمًا.
* ويستفاد منها على قراءَة اللام التي للتعليل: أنَّ هؤلاء الذين أشركوا صارَت عاقبة أمرهم أيش؟ الكفر والتمَتُّع الزَّائِل؛ ولهذا قال بعدَه: ﴿فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾، * فيستفاد منه: تهديد هؤلاء الكفار الذين ليس لهم إلَّا هَمُّ التمَتُّع بالدنيا.
* ومِن فوائدِها: الحَذَرُ الشديد مما كان عليه بعض المسلمين اليوم حيث صارَ ليس لهم هَمٌّ إلا أيش؟ التَّمَتُّع بالدنيا فقط، تجِد أكثر ما يتكَلَّمون عليه: الرَّفَاهِية والتَّرْفِيه وما أشبه ذلك، لكن أمراض القلوب وعلل القلوب وانحرافات القلوب قَلَّ مَن يتكلم عليها مع أنَّها هي الأصل.
ترفِيهُ الأبدان إذا مرضت القلوب ويش الفائدة منه؟ ما فيه فائدة إلَّا أنَّه إذا نزَلَت النِّقْمَة مِن الله ازدَاد الإنسان حَسْرَة والعياذ بالله، لكن ترفيه القلب بطَاعَةِ الله عز وجل هذا هو الذي فيه الفائِدَة للبَدَن ولِكُلِّ شيء: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النحل ٩٧].
ثم قال الله تعالى مُذَكِّرًا هؤلاء الكفار بنعْمَةٍ عظيمة لا ينَالُها أحدٌ سواهم فقال:
(﴿أَوَلَمْ يَرَوْا﴾ [العنكبوت ٦٧]: يعلَمُوا)
وسبق لنا الكلام على إعراب مثل هذا التركيب: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا﴾، وقلنا: إنَّ في ذلك لأهل العلم..
* طالب: (...).
* الشيخ: (﴿وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ﴾ قتلًا وسبيًا دونَهم) قال تعالى: (﴿أَفَبِالْبَاطِلِ﴾ الصنم ﴿يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ﴾ بإشراكِهم؟)
الاستفْهَام هنا لِلتوبيخ: ﴿أَفَبِالْبَاطِلِ﴾، وهو يقال فيه كما يقال في: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا﴾؛ بمعنى أنَّ الهمزة هل هي بعد الفاء وأُخِّرَت الفاء، أو إنَّها في مكانِها والعطف على الجمل السابقة؟
﴿أَفَبِالْبَاطِلِ﴾ قال المؤلف: (الصنم) وفي هذا نظر إلَّا إذا قصد المؤلف التَّمْثيل، وأنَّ مِن جُملة الأشياء الباطِلة الأصْنَام، وإلَّا فإنها تشْمَل كُل ما لا خَيْرَ فيه مِن صنم أو دُنيا أو رئاسة أو غيرِه، كلُّ شيء سوى الحق فهو باطِل. قال النبي عليه الصلاة والسلام: «أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشَّاعِرُ كَلِمَةُ لَبِيدٍ: أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللهَ بَاطِلُ»[[متفق عليه؛ البخاري (٣٨٤١) ومسلم (٢٢٥٦ / ٣) من حديث أبي هريرة.]] فعلى هذا نقول: الباطل أعَمُّ مما ذكر المؤلف.
وقوله: ﴿يُؤْمِنُونَ﴾ أي يصَدِّقُون ويطمَئِنُّون إليه، فهم تجِدُهم في الأمُور الباطلة مُطْمَئِنِّين مصَدِّقِين مُتَّبِعِين، لكن بنعمة الله يكْفُرون: ﴿أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ﴾.
وقوله: ﴿بِنِعْمَةِ اللَّهِ﴾ أي: بما أنعم عليهم مِن المال والجَاه والرئاسة وغيره ﴿يَكْفُرُونَ﴾؛ لأن هذه النعم تحتاج إلى أي شيء؟ إلى شكر؛ بالرُّجوع إلى طاعة الله، فإذا بَقِي الإنسان على معصية الله مع إدْرَار النِّعَم عليه صارَ بذلك كافِرًا.
وممكن أن نقول بالنسبة للمسلمين: ﴿بِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ﴾ النِّعمة المادية الجسَدِيَّة، والنعمة المعنوية القلبِيَّة، فالإسلام أكبَر النعم علينا ولَّا لا؟ إذا كفر به الإنسان ولم يقُم بواجباتِه فإنَّه يُوَبَّخ على هذا، يقال: ألسْتَ مسلمًا؟ فسيقول: بلى. طب لماذا لم تُصَلِّ؟ لماذا لم تُزَكِّ؟ لماذا لم تصُمْ؟ لماذا لم تفعل كذا وكذا مِن الواجبات؟
فشُكْرُ نعمة الله بالإسلام واجب، كما أنَّ شكرَ نعمة الله تعالى علينا بالمال والبَنِين والأمن والراحة وما أشبه ذلك واجبٌ، بل الشكر على الإسلام أوجَب، وكُفْرُ الإسلام أخطَر؛ لأنَّ الله يقول: ﴿وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾ [محمد ٣٨]، ويقول: ﴿فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ﴾ [الأنعام ٨٩]. يمكِن أن ينزِع الله الإسلام مِن قومٍ لا يقومُون بواجباتِه، مثل ما ينزع الأمْن والرَّخاء مِن قومٍ لا يشْكُرون هذا الأمْنَ والرخاء، النعم واحِدَة، وسبيلُها واحد.
وقوله: ﴿وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ﴾ ذي واحدة ولَّا كثيرة؟
* طلبة: كثيرة.
* الشيخ: طيب وليش أنه قال: نعمة الله؟
* طالب: مُفْرَد مُضَاف.
* الشيخ: مُفْرَد مُضَاف فيَعُمّ، الدليل قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ﴾ شوف ﴿تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾ [النحل ١٨] ولو كانت واحدة ما تبغي عَدًّا ولا إحصاءً معروفة.
* طالب: (...).
* الشيخ: لا ما تُثَنى إلا باعتبار النوع، ما تثَنَّى، قال: ﴿وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ﴾. أين يتعلق قولُه: ﴿بِنِعْمَةِ اللَّهِ﴾؟
* طالب: بـ ﴿يَكْفُرُونَ﴾.
* الشيخ: بـ ﴿يَكْفُرُونَ﴾. فقُدِّمَت لِإفادة الحصر، كأنَّهم لا يكفرون بشيءٍ إلَّا بنعمة الله، وهذه فائدة معنوية. * وفيها أيضًا فائدة لفظِيَّة: وهي مراعَاة الفَوَاصل.
{"ayahs_start":63,"ayahs":["وَلَىِٕن سَأَلۡتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ ٱلسَّمَاۤءِ مَاۤءࣰ فَأَحۡیَا بِهِ ٱلۡأَرۡضَ مِنۢ بَعۡدِ مَوۡتِهَا لَیَقُولُنَّ ٱللَّهُۚ قُلِ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِۚ بَلۡ أَكۡثَرُهُمۡ لَا یَعۡقِلُونَ","وَمَا هَـٰذِهِ ٱلۡحَیَوٰةُ ٱلدُّنۡیَاۤ إِلَّا لَهۡوࣱ وَلَعِبࣱۚ وَإِنَّ ٱلدَّارَ ٱلۡـَٔاخِرَةَ لَهِیَ ٱلۡحَیَوَانُۚ لَوۡ كَانُوا۟ یَعۡلَمُونَ","فَإِذَا رَكِبُوا۟ فِی ٱلۡفُلۡكِ دَعَوُا۟ ٱللَّهَ مُخۡلِصِینَ لَهُ ٱلدِّینَ فَلَمَّا نَجَّىٰهُمۡ إِلَى ٱلۡبَرِّ إِذَا هُمۡ یُشۡرِكُونَ","لِیَكۡفُرُوا۟ بِمَاۤ ءَاتَیۡنَـٰهُمۡ وَلِیَتَمَتَّعُوا۟ۚ فَسَوۡفَ یَعۡلَمُونَ","أَوَلَمۡ یَرَوۡا۟ أَنَّا جَعَلۡنَا حَرَمًا ءَامِنࣰا وَیُتَخَطَّفُ ٱلنَّاسُ مِنۡ حَوۡلِهِمۡۚ أَفَبِٱلۡبَـٰطِلِ یُؤۡمِنُونَ وَبِنِعۡمَةِ ٱللَّهِ یَكۡفُرُونَ"],"ayah":"أَوَلَمۡ یَرَوۡا۟ أَنَّا جَعَلۡنَا حَرَمًا ءَامِنࣰا وَیُتَخَطَّفُ ٱلنَّاسُ مِنۡ حَوۡلِهِمۡۚ أَفَبِٱلۡبَـٰطِلِ یُؤۡمِنُونَ وَبِنِعۡمَةِ ٱللَّهِ یَكۡفُرُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق