الباحث القرآني

قال تعالى -نبدأ الدرس الجديد-: ﴿وَلَقَد تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [العنكبوت ٣٥]. الجملة في قوله: ﴿وَلَقَد تَرَكْنَا﴾ مؤكَّدة بثلاثة مؤكِّدات: وهي القسم، و(اللام)، و(قد). ﴿تَرَكْنَا مِنْهَا﴾ أي: أبقَيْنا منها، الترك هنا بمعنى الإبقاء، وهو ظاهر في اللغة العربية، تقول: أخذت هذا، وتركت هذا، يعني: أبقَيْت، ﴿تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً﴾ يعني: أبقينا من هذه القضية ﴿آيَةً بَيِّنَةً﴾. ﴿آيَةً﴾ بمعنى: علامة، و﴿بَيِّنَةً﴾ بمعنى: ظاهرة واضحة. قال المؤلف: (ظاهرة هي آثَارُ خرابها). (...) نعم، في الصافات: ﴿وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (١٣٧) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [الصافات ١٣٧، ١٣٨] فكان العرب يمرون على هذه القرى ذاهبين وجائين إلى الشام، فَيرَوْن من آثار العذاب ما هو ظاهر، لكنهم لا يستبصرون؛ ولهذا قال: ﴿لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾. قال المؤلف: (يتدبرون). هذه ﴿لِقَوْمٍ﴾ متعَلِّقَة بـ﴿تَرَكْنَا﴾، ولا بـ﴿بَيِّنَةً﴾؟ * طالب: بـ ﴿بَيِّنَةً﴾. * الشيخ: يجوز الوجهان، يجوز أن يكون المعنى: بينة للعاقلين، ويجوز المعنى: تركناها للعاقلين. وقوله: ﴿لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ العقل سبق لنا أنه ينقسم إلى قسمين: عقل يُراد به الإدراك، وعقل يراد به: الرُّشد؛ العقل الذي يراد به الإدراك هو مناط التكليف، الذي يقول الفقهاء: من شروط هذه العبادة مثلًا: التمييز، والعقل. وعقل الرُّشد: هو مناط المدح والذم، يعني: الذي يُمدَح عليه الإنسان ويُذَمّ، والذي يُوجَد في القرآن غالبًا هذا ولَّا الأول؟ هذا، لكن في كلام أهل العلم يُراد بالعقل المعنى الأول الذي هو الإدراك. أقول: إن العقل الثاني: الرُّشد، وهو مناط المدح والذم، ومعنى ذلك: أن يكون الإنسان حسن التصرف، بحيث يعقِلُه ما معَه من الإدراك عمَّا يضُرُّه إلى ما ينفعه. هذا هو الذي يراد هنا في هذه الآية ﴿لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ المراد به عقل الرشد الذي يحْجِزُك عما يضُرُّك إلى ما ينفعك. وقول المؤلف: (يتدبرون)، هذا في الحقيقة ليس تفسيرًا مطابقًا للَّفظ؛ لأنَّ التدبُّر هو سابق على العقل، فالإنسان يتدَبَّر أولًا، ويعرف النافع والضار، ثم يعقل، فيتبع ما ينفعه، ويدع ما يضُرُّه. ﴿تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ يعني: وأمَّا من لا يعقلون فإنَّهم لا ينتفعون بالآيات ولا يتعظون بها. * طالب: هل هذا ما نقول بأنهم يعقلون؟ * الشيخ: ﴿يَعْقِلُونَ﴾ المراد بعَقْل الرُّشد ما هو معناها اللي..؛ لَأن العاقل إذا مَرّ بها وهو غير مجنون رآها، لكن ما ينتفع بها، ما تكون عنده آية بينة. * طالب: ما قال ابن مسعود: ولا (...). * الشيخ: لا لا، ﴿يَعْقِلُونَ﴾ يعني: يُحسنون التصرف ويرشُدون بذلك؛ لأَنَّ الآية إذا لم تنفع فليست بآية. * طالب: بالنسبة (...). * الشيخ: هذا مبْنِيٌّ على ما سبَق في تفسير..؟ * طالب: (...). * الشيخ: لا. يقول: هل المراد من شاهدها، أو من بلغه علمها؟ إحنا سبق أن ذكرنا في تفسير كلمة في القرآن ما يدل على هذا؟ * طالب: في البقرة. * الشيخ: في البقرة ويش هي؟ * طالب: ﴿وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً﴾ [الذاريات ٣٧]. * الشيخ: لا، السير في الأرض الذي أمَرَ الله به هل هو سير بالقدم، أو سير بالقلب، أو بهما؟ * طالب: بهما. * الشيخ: يعني: بهما على انفراد، وعلى اجتماع، واضح؟ فهنا نقول: ﴿تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ يشمل مَن رآها وشاهدَها، ومَن سمع بها وبلغته. * * * ثم قال تعالى: ﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا﴾ [العنكبوت ٣6]. يقول المؤلف: (وأَرْسَلْنَا ﴿وَإِلَى مَدْيَنَ﴾ ). فعلى هذا يكون ﴿أَخَاهُمْ﴾ مفعول لِفعل محذوف تقديرُه: أرسلنا، وقال: ﴿أَخَاهُمْ﴾، ولم يقل: أخوهم، ليش؟ * طالب: اسم من الأسماء الخمسة. * الشيخ: لأنه اسم من الأسماء الخمسة؛ إن كنَّا من أهل الآجرومية، أو السِّتَّة لِأهل الألفية. ﴿أَخَاهُمْ شُعَيْبًا﴾ الأُخُوة هنا ليست في الدين قطعًا؛ لأنَّ الكفار ليسوا إخوة للمؤمنين، إذن فهي أخوة قيل: عند بعض الناس أُخُوَّة إنسانية، وقالوا: إن الكافر والمؤمن أخَوَان في الإنسانية؛ لأنَّ هذا ليس حِمارًا وهذا بشر، كلُّهم بشَر، فالمراد بالأُخوة: الإنسانية. وقال: إنه يجوز أن تقول: إنَّ هذا أخِي –للكافر-؛ لأنَّك مشترك معه في الإنسانية، ما رأيكم في هذا؟ * طلبة: باطل، هم شر البرية. * الشيخ: إي نعم، المهم على كُل حَال، يعني: بدون عاطفة، نحن نُريد أن نبحَها بعقل بدون عاطفة، العاطفة لا شك أنَّنا نُنكر هذا من أول وهْلَة، لكن لو قال: أخي في الإنسانية؛ لأنَّنا سمعنا واحدًا يتكلم في مسجد من المساجد يعظ الناس، ويقول: هؤلاء إخوتنا في الإنسانية، ما ينبغي أن نُغَلِّظ عليهم ونفعل ونفعل. * طالب: يُرَدّ عليهم، أولًا من سورة البينة: المؤمنون خير البرية، والكافرون شَرُّ البرية، وهم إخوة للقردة والخنازير، فكيف يكونون إخوة لنا؟ قوله تعالى في سورة الممتحنة عن إبراهيم: ﴿كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ﴾ [الممتحنة ٤] كيف تكون أُخُوَّة وهو قد كَفَر بهم، وبَدَا بيننا وبينهم العداوة. ويقول تعالى: ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ﴾ [الأنفال ٢٢] * الشيخ: ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [الأنفال ٥٥]. * طالب: قد يقولون: ليس المراد الأخوة المعروفة التي تتعلق بالله عز وجل، وإنَّما المراد بها: الأخوة التي تتعلق بالناحية البشرية بمعنى المساواة. * الشيخ: يعني: مطلق الموافقة والمشابهة، على كل حال نرد عليهم فنقول: هذا شعيب عليه الصلاة والسلام قال الله هنا: ﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا﴾، وقال في سورة الشعراء: ﴿كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (١٧٦) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ﴾ [الشعراء ١٧٦، ١٧٧]، ما قال: أخوهم، ﴿قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ﴾، قال أهل العلم: لأنَّ أصحاب مدين كان شعيب منهم، وهو أخوهم في النسب، وأصحاب الأيكة ليس منهم، فهي قرية حول مدين أرسله الله إليهم؛ ولهذا لم يقل: أخوهم، بل قال: ﴿إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ﴾، ولو كانت الأخوة هي الإنسانية في مثل: ﴿إِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا﴾ [الأعراف ٦٥]، ﴿وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا﴾ [الأعراف ٧٣]، وما أشبه ذلك، لو كان المراد بالأخوة الإنسانية لكان يُقال أيضًا في أصحاب الأيكة: إنَّه أخوهم. ثم إنَّ الأخوة في اللغة العربية ما هي بمطلق الموافقة في البشرية، إذا تتبعناها وجدنا أنها: إما في النسب، يكون الأصل الجامع بينهما نسبًا، وهذا واضح. وإما أن يكون الأصل الجامع بينهما هدفًا واحدًا يسعى إليه الجميع، ومعلوم أن الكافر والمسلم مختلفان في الهدف، ولا يمكن أن يكون أحدهما موافقًا للآخر في الهدف، لا نوافق على هذا القول مهما كان الأمر؛ لأنه في الحقيقة يؤدي إلى أن أي إنسان يقول: إن هذه الكافر أخوه، يحصل له رِقَّة، ولين، وموافقة، ويسهل ما في النفوس من بغض الكفار. كنا كما يعرف الكثير منكم إذا قيل: نصراني، ويهودي، يقف الشعر، ويتخوف الإنسان، ويتهَيَّب، لكن الآن صارت المسألة تمر على القلب مرور الماء البارد، ولا أحد يتأثر إلَّا من شاء الله، وهذا له خطره العظيم -نسأل الله السلامة-. * طالب: إذا قال: هذا قريني؟ * الشيخ: والله أنا أحب أنه يتحاشى من كل لفظ يدل على الموافقة. * طالب: قربه منه * الشيخ: لا ما قلنا: قربه. * طالب: يحدث مثلًا بالأخوة.. * الشيخ: هو على كل حال القرين هذا الشيطان، قرين للإنسان وهو عدوه، لكن في الوقت الحاضر تَدُلّ على المصاحبة، والموافقة، والمرافقة، فالأَوْلى البعد عن كل لفظ يدل على الاتفاق مع هؤلاء. * طالب: أخوة شعيب لمدين أخوة قريب لهم قومه، إذا قالوا: نحن نجتمع معكم في آدم، فالنسب قد جمع. * الشيخ: نعم، إذا ردونا إلى آدم قلنا: أنتم إخوتنا، وعلى كل حال نحن ذكرناها؛ لأن حقيقةً هذه وقعت، وأحد الإخوان تكلَّم، الإخوان اللي نعرف منهم الغَيْرَة يعني هو رجل طيب لكنه تكلم في هذه المسألة، وقال: إنهم إخوة، وزعم أنها الأخوة البشرية. ﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا﴾، طيب (مدين) هو اسم للقبيلة ولَّا اسم للبلد؟ * طالب: البلد؛ لقوله تعالى: ﴿وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ﴾ [القصص ٢٢]. * الشيخ: هل شعيب أخ للبلد؟ * طالب: يقصد (...). * الشيخ: هنا يُقال: قرى مدين، أو يُقال: مدين؟ * طالب: هم أصحاب مدين الذين (...) المكان. * الشيخ: ويش يعني: أصحاب مدين؟ * الطالب: أصحابه من قرية ثانية. * الشيخ: ويش الآية؟ * الطالب: ﴿وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (٤٢) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (٤٣) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى﴾ [الحج ٤٢ - ٤٤] * الشيخ: إي نعم، هذه قرينة ظاهرة أن المراد بها المكان. يبقَى ﴿أَخَاهُمْ﴾ نقول: هذا من باب إطلاق القرية وإرادة الأهل، وكذلك الآية التي ذكرها الأخ ﴿وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ﴾ [القصص ٢٢]، مع أنها ما هي صريحة الآية ﴿تِلْقَاءَ مَدْيَنَ﴾ الإنسان يتوجه أيضًا تلقاء القوم. * طالب: شيخ، ما أحسب أن البلد سُمِّيَت باسمها قرينة.. * الشيخ: إي نعم، فيه احتمال، وإذا قلنا بهذا أيضًا هو يخف الإشكال. ﴿أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ﴾، ﴿يَا قَوْمِ﴾، (يا) هذه نداء، و﴿قَوْمِ﴾ مُنادى مبني ولَّا مُعْرَب؟ * طالب: مُعْرَب. * الشيخ: منادى منصوب على النداء، وعلامة نصبه كسرة ظاهرة في آخره. * الطالب: فتحة مقدَّرة. * الشيخ: فتحة مقدَّرة على الياء المحذوفة.. * طالب: لالتقاء ساكنين. * الشيخ: لالتقاء ساكنين، إذن فتحة مقدَّرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة لالتقاء الساكنَين، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة المناسَبة، أعد الإعراب، ﴿قَوْمِ﴾ مُنادى.. * طالب: منادى. * الشيخ: منصوب. * الطالب: منصوب. * الشيخ: فتحة. * الطالب: فتحة مقدَّرة. * الشيخ: على ما قبل الياء. * الطالب: على ما قبل الياء. * الشيخ: المحذوفة. * الطالب: المحذوفة. * الشيخ: للتخفيف. * الطالب: للتخفيف لالتقاء الساكنين. * الشيخ: منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة المناسبة. قال: ﴿يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ﴾، ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ﴾ أي: تذلَّلُوا له بالطاعة؛ لأن العبادة مأخوذة من التَّذَلُّل، ومنه قولهم: طريق مُعَبَّد، أي: مُذَلَّل للسالكين، فالعبادة إذن التذلل لله تعالى بطاعته، والطاعة: هي امتثال الأمر واجتناب النهي -عند الإِطلاق- أما إذا قُرنت فقيل: طاعة، ومعصية، صارت الطاعة في الأوامر، والمعاصي في النواهي. قال: ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ﴾ أي: أَخْلِصُوا له العبادة وحدَه؛ لقوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء ٢٥]، فالمراد هنا بالعبادة أي: إخلاص العبادة لله سبحانه وتعالى. ﴿وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ﴾ قال: (اخشوه، وهو يوم القيامة). الرجاء يُطلَق على الطمع في المحبوب، أو لا؟ صحيح، هذا هو الأصل، الطمع في المحبوب؛ ولهذا يُقال: التمني والرجاء. ويطلق الرجاء بمعنى: الخوف، فهو إذن من باب الأضداد؛ لأن في اللغة العربية كلمات تدل على المعنى وضده تسمى الأضداد، وألَّف علماء اللغة في هذا كتبًا تجدها كلمة واحدة تصلح لهذا ولهذا للشيء ولضده. فهل هنا الرَّجَاء بمعنى الخوف، ولَّا الرجاء بمعنى الطمع في المحبوب؟ المؤلف حملها على أن المراد بها الخوف؛ وذلك لأنَّ المقام مقام إنذار، ويحتمل أن يكون المراد بها أيش؟ الرجاء الذي هو الطمع في المحبوب؛ لأنَّ اليوم الآخر فيه محبوب، وفيه مكروه، ولَّا لا؟ قال الله تعالى: ﴿فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (١٠٥) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ﴾ [هود ١٠٥، ١٠٦]، ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ﴾ [هود ١٠٨]. لو قال لنا قائل: ألَا يجوز أن نحمله على المعنيين جميعًا؛ ارجُوه خوفًا من العقاب، وطمعًا في الثواب، ما يصلح؟ يصلح أن يكون شاملًا للأمرين، وقد تقدم لنا أن القول الراجح عندي -وهو قول لبعض العلماء- هو جواز استعمال المشترَك في معنيَيْه إذا لم يحصل تنافٍ، بحيث نقول: اللفظ المحتمل لهما على وجه لا يتناقض، فما المانع من أن يُستعمل في معنييه، والله أعلم. * طالب: قوله تعالى (...). * الشيخ: تفسير أو بيان لما أُرْسِل به. وفي قوله: ﴿يا قَومِ﴾ من التلطف ما هو ظاهر؛ لأن قوم الرجل لا بد أن ينصروه، ويقبلوا ما جاء (...). .. واجتنابًا للنهي. وقوله: ﴿وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ﴾ [العنكبوت ٣٦] قال: (اخشوه)، ويحتمل أنَّ المعنى: اطمعُوا بما فيه مِن الأجر والثواب، فهو صالحٌ لهذا وهذا، وهو من أسماء الأضداد الذي يدُل على الشيء وعلى ضدِّه. وقوله: ﴿الْيَوْمَ الْآخِرَ﴾ هو يوم القيامة، وسُمِّي بالآخِر؛ لأنَّه لا يومَ بعدَه؛ إذ إنَّ الناس لهم أرْبَع مراحِل: مرْحَلَة أُولَى في البطن، والمرحلة الثانية في الدنيا، والمرحلة الثالثة في القبور، والمرحلة الأخيرة متى؟ يوم القيامة؛ ولهذا سُمِّي باليوم الآخر؛ إذ إنَّه آخِرُ شيء، آخر مرحلة تكُون لِلإنسان هو هذا اليوم؛ فلِذلك سمي باليوم الآخر. ﴿وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ ﴿لَا تَعْثَوْا﴾ لا تُفْسِدوا، وعلى هذا فـ﴿مُفْسِدِينَ﴾ قال المؤلف فيها: (حال مؤكِّدَة لعاملِها)، ويش معنى مُؤكدة له؟ أي: بمعناه، وهذا التأْكيد لفْظِي أو معنوي؟ أجيبوا. * طالب: معنوي. * الشيخ: لأيش؟ * طالب: مو من ليس منها.. * الشيخ: ليس مِن مادَّة الفعل، لو قال: ولا تعثَوْا في الأرض عاثِين لكان لفظيًّا، أمَّا هنا فإنه معنى؛ لأنَّه أكده بالمعنى؛ إذ إن العُثُوَّ يقول المؤلف: (مِن عَثِي بكسر المثَلَّثَة: أفسَد)، يقال: (عَثِي يعثَى) كـ(فرِح يفرَحُ) أنتم ما تعرفون الأبْواب، أبواب التصريف كم هي؟ * طالب: ثمانية. * الشيخ: ستة؛ منها: باب (فَعِلَ يَفْعَلُ؛ كفرِحَ يفْرَح، ورَضِي يرضَى)، وعَثِيَ على رأي المؤلف: يعثَى، ويجوز أن تكون مِن باب (فَعَلَ يَفْعُلُ؛ عَثَى يَعْثُو)، وكلاهُما بمعنى: أفسد؛ ولهذا قال المؤلف: (أفْسَد). وقوله: ﴿وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ النهي هنا واضِح؛ ولهذا جُزِم الفعل بحذف النون ﴿لَا تَعْثَوْا﴾، بماذا يكُون الإفساد؟ هل المراد الإفسادُ الحسي؛ كهدم البناء وإفساد الأنهار وقطْعِ الأشجار، ونحو ذلك، أو أنَّ المراد الإفساد المعنوي، أو كلاهما؟ * طلبة: كلاهما. * الشيخ: كلاهما، فلَا يجوز الإفساد حتى في الأمور المادية؛ ولهذا «نَهَى النبي ﷺ عن إضَاعَة المال». أقول: إنَّ الإفساد في الأرض يشمَلُ الإفساد بالمعاصي والإفساد الحِسِّي المادِّي، والدليل على هذا «أنَّ النبي ﷺ نهَى عن إضاعَة المالِ»[[متفق عليه؛ البخاري (١٤٧٧)، ومسلم (٥٩٣/١٢) من حديث المغيرة بن شعبة.]]، وروى أبو داود[[لم نقف عليه.]] : «أنَّهم كانوا مع النبي عليه الصلاة والسلام في سفر فنزلوا أرضًا، فنَهَاهم عن قطْعِ أشجارِها»؛ لأنَّها للاسْتِظْلَال فهو إفسادٌ لها. ما هي مقابلة هؤلاء القوم لِهذه الدعوة التِي تدعو إلى الخير وتنهى عن الشر؛ تدعو إلى الخير في قوله: ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ﴾، وتنهى عن الشر في قوله: ﴿وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾؟ الردّ: ﴿فَكَذَّبُوهُ﴾ [العنكبوت ٣7]. هنا قال: ﴿فَكَذَّبُوهُ﴾ مع أنَّ التكذِيب إنَّما يكون في الخبر، وهو قال: ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ﴾ ﴿وَارْجُوا﴾ ﴿وَلَا تَعْثَوْا﴾، وكُلُّ هذه الجمل الثلاث إنشَائِية وليست خبرية، وكان مُقتَضَى الظاهر أن يقول: فعصَوْه، وهنا قال: ﴿فَكَذَّبُوهُ﴾؟ الجواب: أن يُقال: إنَّه قال لَهم هذه الأوامر أو هذَيْن الأمرَين والنَّهْي باعتباره رسولًا مِن عند الله، ﴿فَكَذَّبُوهُ﴾ أي: بِدَعْوى الرِّسالَة، وهذا أبْلَغ مِن العصيان؛ لأنَّهم أنكَرُوا رسالتَه رأْسًا، ما أقَرُّوا بالرسالة، ثم قالوا: نعصيك في هذا الشيء، بل كذَّبوا بالرسالة رأسًا، فكان هذا أبلغ مِن قوله: فعصوه، فهمتُم هذا ولَّا لا؟ * طالب: واضح. * الشيخ: قال: ﴿فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ﴾ والفاءات؛ هذه الفاء في قولِه: ﴿فَكَذَّبُوهُ﴾ للتعقيب؛ تعقِيب هذه الجملة لِما سبقها. وفي قوله: ﴿فَأَخَذَتْهُمُ﴾ يحتمل أن تكون الفاء للتعقيب، وأن تكون للسببية، فإن قلنا: للتعقيب فهو دليل على أنَّه بمجرَّد تكذيبِهم عوقبوا، وإن قلنا: إنها للسببية فإنه لا يلزم مِن ذلك أن تكون عقوبتُهم قريبَةً مِن تكذيبِهم؛ لأنَّه يجوز أنَّ الله أمهلهم بعد التكذيب، ثم أخذَتهم، على أنَّنا إذا جعلناها للسَّبَبِيَّة لا تنافي أو لا تمنع أن تكون العقوبة مباشَرَةً، وعلى هذا فنقول: إِنَّ الأولى أن تكون للسببية، فتكون للسببية أولى من وُجوهٍ ثلاثة: الوجه الأول: دلالتها على حِكْمَةِ العقُوبة وهي التكذيب. وثانيًا: أنَّها أوسَعُ دلالةً مِن أن تكون (الفاء) للترتيب؛ لأنَّها تشمَل ما أعْقَب التكذيب وما تأخَّرَ عنه. وثالثًا: أننا نسْلَم مِن دعوى أنَّ الله سبحانه وتعالى لم يُمهِلْهُم، وليس عندنا علمٌ بذلك، فيكون اختيار أن تكون (الفاء) هنا للسببية أولَى. وقوله: ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ﴾ (أخذتهم) أبلَغ مِن قوله: أصابتْهُم؛ لأنَّ الأخْذ دليل على أنَّه لا هوادَة فيه وأنَّه مُدَمِّر، والرَّجْفَة يقول: (الزَّلْزَلَةُ الشَّدِيدَة)، ما فيه آية ثانِيَة تدُلّ على أنَّها أخَذتهم الصيحة؟ * طالب: إي نعم، ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ﴾ [الحجر ٨٣]. * الشيخ: لا. * طالب: ثمود، ورد فيهم الصيحة والرجفة، أمَّا هنا شعيب ما ورد. * طالب آخر: في سورة هود يا شيخ. * الشيخ: في سورة هود، أخذتهم الصيحة ﴿فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (٩٤) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ﴾ [هود ٩٤، ٩٥]. إذن ﴿أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ﴾ و﴿أَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ﴾ لا تنافِيَ بينهما؛ لِإمكانِ اجتماعهما؛ إذ يكُون العذاب صَيْحَة؛ صِيحَ بهم فسَمِعُوا، ورَجَفَتْ بهم الأرض، فيكُون عُوقبوا بالصَّوت، وعُوقِبُوا بالفعل، بالأمرين جميعًا. * طالب: إذا قلنا: إن (الفاء) للسببية يكون التكذيب بعد أخذنا يا شيخ، أو يكون السبب؛ يعني سبب الفعل محذوف؛ يعني: فكذبوا بسبب إيه؟ * الشيخ: لا، ما هو معنَاه أنَّ السَّبَب هو ما بعدها، إذا قِيل: للسببية، فقد يكون السبب ما بعدَها، وقد يكون ما بعدَها مسبَّبًا؛ يعني: فبسبَب تكذيبهم أخذَتْهم، فيكون السبب سابقًا، إذا قلنا: للسببية ما هو معناها أنَّها تدخُل على السبب فقط، قد تدخُل على السبب، وقد تدخُل على المسَبَّب. قال: ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا﴾ والفَاء هنا نقول: إنَّها عاطفة أو سببية، تصلُح هذا وهذا، ﴿أَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ﴾ ﴿جَاثِمِينَ﴾ بالنصب خبرًا لـ(أَصْبَح)، وقوله: ﴿فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ﴾ وفي آية أخرى: ﴿فِي دِيَارِهِمْ﴾ [هود ٦٧] ولا منافاة؛ وذلك لأن (دار) مفرد مُضَاف، والمفرد المضاف، أقول: (ديار) و(دار) لا تنَافِي بينهما؛ لأن (دار) مفرد، والمفرد المضاف يعُمّ، ونطلب مِن الأخ مثالًا يدُل على أنَّ المفرد المضاف يعُم مِن القرآن، ما أحد منكم يسْتَحْضِر؟ * طالب: قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾ [النحل ١٨]. * الشيخ: قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾ (نعمَة) مفرد، لكن يقينًا المراد به هنا الجمع، بدليل قوله؟ * طالب: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا﴾. * الشيخ: لا، ﴿لَا تُحْصُوهَا﴾؛ لأن الواحد يُحْصَى، إذن (دار) و(ديار) لا فرق بينهما مِن حيث المعنى. وقوله: ﴿جَاثِمِينَ﴾ قال المؤلف: (بارِكِين على الرُّكَب مَيِّتِين) أعوذ بالله، هذا الجاثِم لِشِدَّة ما نزل بهم بَرَكُوا على ركبِهم، ثم همَدُوا وصاروا جاثمين. قال تعالى: (﴿وَ﴾ أهلكنا ﴿عَادًا﴾ ﴿وَثَمُودًا﴾ [العنكبوت: ٣8] بالصَّرْف وتركه). الصَّرْف، ما هُو الصرف؟ التَّنْوِين؛ قال ابن مالك: ؎الصَّـــــــــــــــــرْفُتَنْوِيـــــــــــــــــــــنٌ أَتَـــــــــــى مُبَيِّنَــــــــــا ∗∗∗ مَعْنًى بِــــــــهِ يَكُــــــــــونُ الِاسْـــــــمُأَمْكَنَــــــــــــا فهنا يجوز الصرف ﴿ثَمُودًا﴾ ويجوز تركُ الصرف، وهما قراءتان: ﴿ثَمُودَ﴾، وهكذا كُلُّ أسماء القبائل يجُوز فيها مِن حيث الأصل الصَّرْف وعدمه، فالصرف باعتبار الحَيّ، وهو مُذَكَّر، وعدم الصرف باعتبار القبيلة، وهي مؤنَّثَة. فعليه، إذا قلنا: (ثَمُودَ) بدون صرف نقول: معطوف على (عَادًا)، والمعطوف على المنصوب منصوب، ولم يُنَوَّن؛ لأنَّه لا ينصرف، والمانِع لَه من الصَّرف العلَمية والتأنيث باعتبَارِه قبيلة، وعلى (ثمودًا) نقول: (ثمودًا) معطوف على (عادًا)، والمعطوف على المنصوب منصوب، ونُوِّنَ؛ لأنَّه مذكر باعتبار الحي. وقوله: ﴿عَادًا وَثَمُودَ﴾ مفعولان لفعل محذوف، التقدير كما قال المؤلف: (أهلكنا عادًا وثمودًا). عاد أين محلُّهم؟ بالأحقاف؛ لقوله تعالى: ﴿وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ﴾ [الأحقاف ٢١]، وثمود قومُ صالح بالحِجْر، ديار ثمود معروفة إلى الآن. قال تعالى: (﴿وَقَدْ تبيَّن لَكُمْ﴾ إهلاكهم، ﴿مِنْ مَسَاكِنِهِمْ﴾ بالحجر واليمن) ﴿قَدْ تبيَّن﴾ ظهَر، ﴿لَكُمْ﴾ الخطاب لِمَن؟ * طالب: لقريش. * الشيخ: نعم، لقريش؛ لأنَّهم تبين لهم هذا ويعرفونه. وقوله: ﴿مِنْ مَسَاكِنِهِمْ﴾ (من) على تقدِير المؤلف تكون سبَبِيَّة؛ أي: تَبَيَّن لكم إهلاكُنا إياهم بسبب رؤيتِكُم مساكِنَهم، تكون للسببية. أفلا يجوز أن نجعل (من) للتبعيض، ويكُون المعنى ﴿تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ﴾ أي: بعض مساكنهم؟ يمكن، لكني ما رأيت أحدًا أعربها هذا الإعراب؛ أي: يمكن أن نجعل (من) تبعيضية؛ أي: تبيّن لكم البعض والبعض قد زال، فإنَّ المشاهد الآن بعض هذه المساكن والآثار. أمَّا على تقدير المؤلف فيقول: إن فاعل ﴿تبيَّن﴾ محذوف، التقدير: إهلاكُهُم. نسينا نقول: فاعل محذوف ولَّا نقول: فاعل مستَتِر؟ * طالب: محذوف. * الشيخ: الفاعل هو يحذف ولَّا يستتر؟ * طالب: يحذف، ما يستتر؛ لأنه عمدة. * طالب آخر: يستتر. * طالب آخر: عمدة ما يستتر. * الشيخ: وما يُقَال: يحذف إلا في مكان لا يُمكن أن يُقَدَّر فيه كالمصدر مثلًا، كما قالوا في قوله تعالى: ﴿أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (١٤) يَتِيمًا﴾ [البلد ١٤، ١٥] قالوا: إن الفاعل هنا محذوف؛ لأنه ما يمكن استتاره بمصدر، أمَّا إذا كان يمكن استتَارُه فإنَّه يقال: مستَتِر، والمحذوف قد يكون عُمدة، وقد يكون فَضْلة، لكن الحقيقة أنَّ المؤلف كلامه يوهِم بأنَّه محذُوف، لو قال المؤلف: وقد تبيَّن؛ أي: إهلاكُهم، وجعلَها مُفَسِّرَة للمحذوف لكان أولى. (﴿مِنْ مَسَاكِنِهِمْ﴾ بالحجر واليمن) ، هذا (الحجر واليمن) لفّ ونَشْر مرتب ولَّا مُشَوَّش؟ * طلبة: مشوش. * الشيخ: لأن (بالحجر) يعود على ثمود، وهو متَأَخِّر في القرآن، (واليمن) يعود على عَاد، ومثل هذا لا ينبغي؛ يعني: لا ينبغِي للمفَسِّر أو الشارح لِكلام أحد لا ينبغي أن يشرَحَهُ على هذا الترتيب؛ لأن الجاهل الذي لا يدري، لو نحن ما ندري عن مكانِهم لقلنا: إنّ الحجر مين هو له؟ * طلبة: لِعادٍ. * الشيخ: لعادٍ، وقلنا: إن اليمن لثمود، إي نعم. قال: ﴿وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ﴾ هذه على تقدير (قد)؛ يعني: وقد زين لهم الشيطان أعمالهم مِن الكفر والمعاصي، زَيَّن بمعنى: حَسَّن وجمل، فحَسَّن لهم -والعياذ بالله- الأعمال مِن الشرك والمعاصي، وقال: إن الشرك حسَن؛ لأنَّكم تعبدون هذه الأصنام لِتُقَرِّبَكُم إلى الخالق، ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾ [الزمر ٣]. ثم إنَّكم ترجُونَها وتدعُونَها فيحصُل لكم المقصود؛ لأنَّ الله تعالى قد يبتَلِي العابدين، فيحصُل لهم مقصُودُهم عند هذا الشيء، لا بِه، إحنا الآن نقول: عنده لا به؛ يعني: قد يدعُو الصنم، قد يدعو النبي ﷺ، قد يدعُو ملكًا مِن الملائكة، فيقدِّرُ الله ابتلاءً وامتحانًا أن يكونَ هذا السبب عند دعائه له، نحن المؤمنين نعلم بأنَّه ما حصَل به، لكنه حصَل عندَه امتحانًا، والله سبحانه وتعالى قد يبتلي الإنسان بالامتحَان بالمعصية، فتُسَهَّل له وتُزَيَّن له. وقد مرَّ علينا أنَّ الله امتحَنَ اليهود بأيش؟ بالحِيتَان؛ تأتِي يومَ السبت ولا تأتِي في غيره، وابتلى الله الصحابة رضي الله عنهم بالصَّيْد تنَالُه أيديهم ورماحُهم وهم محرِمُون، وهكذا أيضًا قال النبي عليه الصلاة والسلام: «رَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ»[[متفق عليه؛ البخاري (١٤٢٣)، ومسلم (١٠٣١ / ٩١) عن أبي هريرة.]]، ما عندهم أحد؛ لأنه لو كان عندهم قال: أخاف من الناس، لكن قال: أخاف الله، فالإنسان قد يُبتلى بالمعصية امتحانًا. كذلك أيضًا يقول الشيطان لهم: هؤلاء الأصنام إذا عبدتُّمُوها تُقَرِّبُكم إلى الله وتكُون وسيلة ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ﴾ [الزمر ٣]، أمَّا المعاصي فكذلك أيضًا يُزَيِّنُها الشيطان للإنسان ويسَهِّلُها عليه، ويقول: أنت اعمل والرب غفور رحيم، اعمَل وتتوب، الدنيا أمامك، ما دُمت لم يتِمَّ لك أربعون سنة فإنَّها لا تجِب عليك الصلوات ولا الصيام، إذا تميت أربعين سنة وبلغْتَ أشدك حينئذٍ تجِب عليك الصلاة والصيام، هذا موجود الآن عند بعض المسلمين الجهال. وقوله هنا: ﴿زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ﴾ الشيطانُ ويش وزن (الشيطان)؟ * طالب: من فاعل (شطَن). * الشيخ: هو في الحقيقة ما له وزْن، ما له قيمة، لكن وزنُها اللفظي؟ * طالب: (فعلان). * طالب آخر: حسب الأصل أو اختلاف الأصل؛ يعني: بعضهم يقول: أصلها (شطن)، فيكون بهذا المعنى على وزن (فَعْلان) شيطان، وبعضهم يقول: أصلها (شاط) (...). * الشيخ: إذا جعلناها مِن (شطن) فهي على وزن؟ * طالب: على وزن (فيعال)، أما إذا كان وزنها (شَاط) فتكون على وزن (فعلان). * الشيخ: (فعلان) بالنون. * طالب: والراجح (شاط)، والله أعلم. * الشيخ: (شطن) بمعنى (بَعُدَ). * طالب: لا، (شاط) من.. * الشيخ: (شاط)، لو كانت (شاط) لكانت النون؟ * طالب: النون زائدة. * الشيخ: إذا كانت زائدة ينصَرِف ولَّا ما ينصرف؟ * طالب: إذا كانت زائدة ممنوعة من الصرف. * الشيخ: واللي بالقرآن ﴿حَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ﴾ [الحجر ١٧] مُنصَرِفٌ ولَّا لا؟ * طالب: منصرف. * الشيخ: هو منصرف، لكن قد تقولون: إن هذا مُنَكَّر، وما فيه الألف والنون، إذا كان مُنَكَّرًا فإنَّه ينصَرِف؛ لأن اللي فيه الألف والنون يُمنَع إذا كان وصفًا أو علمًا، و(شيطان) ما هو وصف، على كل حال الأقرب أنَّها مِن (شَطَن)؛ إذا بَعُد عن رحمة الله. * طالب: (الشيطان) ما هو بعَلَم؟ * الشيخ: لا، وقد يُراد به الجنس، الكلبُ الأسود شيطان، ما هو عَلَم هذا؛ يعني: شيْطَانٌ مِن الشياطين؛ ولذلك نقول في عبارةٍ للفقهاء قالوا: لا يجوز تأخيرُ القضاء إلى رمضانَ آخَر، أو: إلى رمضانٍ آخر؟ * طلبة: رمضانَ. * الشيخ: لا، إلى رمضانٍ آخر؛ لأنَّه نكرة، ما هو عَلَم. * طالب: مثل الآية ﴿وَحَفِظْنَاهَا﴾ [الحجر ١٧]. * الشيخ: إي نعم، المهم على كل حال أن الذي يظهر أنَّ الشيطان مِن (شَطَن)؛ إذا بَعُد. وقوله: ﴿زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ﴾ [الأنفال ٤٨] هنا أضَاف التزيين إلى الشيطان، وفي آية أخرى أضَاف التزيين سبحانه وتعالى إليه نفسه، فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ﴾ [النمل ٤]، فكيف نجمَع بين الآيتين؛ أن يُضيفَ الله سبحانه وتعالى التزْيين مرةً إليه ومرةً إلى الشيطان؟ * طالب: باعتبار السبب، وباعتبار الفاعِل الحقيقي، فالفاعل الحقيقي هو الله سبحانه وتعالى، والسبب هو الشيطان. * الشيخ: المزَيِّن هو الله؟ * طالب: المزَيِّن الفاعل الحقيقي للتَّزْيين هو الله. * الشيخ: أيُّهم الذي باشَر التزيين؟ * الطالب: الشيطان. * الشيخ: إذن هو الحقيقي. * الطالب: هو سبب فقط؛ لأنه كله بقدر الله سبحانه وتعالى. * الشيخ: معناه أنه أُضِيف التَّزيين إلى الله؛ لأنَّه بقضائه وقدره، وأضيف التزيين إلى الشيطان؛ لأنَّه مباشِرٌ له، كذا؟ وهو كذلك، فيُضاف إلى الله تعالى خَلْقًا وتقدِيرًا، ويضافُ إلى الشيطان مباشرةً. قال: ﴿زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ﴾ ﴿صَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ﴾ أي: صَرَفَهم، وهذا مِن استعمال (صدَّ) متَعَدِّيًا؛ لأن (صدَّ) تكون لازمًا ومتعديًا، إذا قلت: صدَّ الرجلُ عن سبيلِ الله فضَلَّ، لازم ولَّا متعدٍّ؟ * طالب: لازم. * الشيخ: صدَّ الرَّجل عن سَبِيلِ الله فضَلَّ، هذه لَازِمة، ومثل هذه الآية ﴿فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ﴾ صرفَهم، هذه متعَدِّيَة، قال: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا﴾ [النساء ٦١] المصدَر الآن على وزْن (فُعُول) قال ابن مالك: ؎وَ(فَعَـــــــــــــلَ) الـــــــــلَّازِمُمِثْـــــــلُ (قَعَــــــدَا) ∗∗∗ لَهُ فُعُولٌ.......................... لكن (صدَّ) المتعدي ويش مصدره؟ * طالب: (صدود). * الشيخ: لا، (صَدَّ) المتعدي مصدرُه (صَدًّا)؛ لقول ابن مالك: ؎(فَعْـــــــــلٌ) قِيَــــــاسُ مَصْــــــدَرِالْمُعَـــــدَّى ∗∗∗ مِنْ ذِي ثَلَاثَةٍ...................... وأنا الحقيقة ليتني ما استشهدت بهذا؛ لأنَّكم ستقولون: إنه صار له فائدة، على كل حَال (صد) تأتي لازمة ومتعَدية. ما تقولون في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ﴾ [محمد ١] هل هي مِن اللَّازم ولَّا مِن المتعدي؟ * طالب: هذه لازِمَة ومتعدية، المتعدية أعم، إن قدَّرنا فهي متعدية، لكن.. * الشيخ: هي متعدية، الظاهر؛ لأن ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ هذا صدُّهم هم، اللازم يدُلُّ عليه ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ فهي ﴿صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أي: غيرَهم، هذا هو الأقرب. يقول: ﴿فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا﴾ عن السبيل (أل) في قولِه: ﴿السَّبِيلِ﴾ للعهد الذهني المعلُوم، وهو سبِيل الحق؛ ولهذا قال المؤلف: (سبيلِ الحق)، وهو سبيلُ الله عز وجل، وسُمِّيَ سبيل الله؛ لأنَّه يوصِل إليه؛ ولأنَّه هو الذي وضعَه لِعبادِه، كما في قوله تعالى: ﴿صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ﴾ [الشورى ٥٣]، وقد يُضاف إلى المؤمنين، كقوله تعالى: ﴿وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِين﴾ [النساء ١١٥]، فكيف نجمَع بينهما؟ السَّبِيل أحيانًا يضيفه الله إلى نفسِه، كما في قوله: ﴿وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [النساء ١٦٧]، وأحيانًا يضيفه الله إلى المؤمنين، كما في قوله: ﴿وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِين﴾ [النساء ١١٥]، كيف تجمع بينهم؟ * طالب: كله في سبيل الله، سبيل المؤمنين هو سبيل الله. * الشيخ: هو سبيل الله، لكن لماذا أُضِيف إلى المؤمنين مرَّة وإلى الله مرَّة؟ * طالب: لأنَّ المؤمنين هم المتبعون. * الشيخ: أحسنت، تمام، وأُضيف إلى الله -مثلما قلنا قبل قليل- لأنَّه يوصل إليه، وهو الذي شرعَه لعباده وبيَّنَه وجعلَه لهم. قال: ﴿فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ﴾ (ذَوي بصَائِر)؛ يعني أنَّه سبحانه وتعالى أعطَاهم مِن العقول والبصائر ما يمكِنُهم الاهتداءُ به، وقد ذكر الله ذلك في قوم صالِح صريحًا، فقال: ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى﴾ [فصلت ١٧] فهم عندهم بصَائِر وعندَهم عِلْم، لكنَّهم كانُوا مستكْبِرِين، والعياذ بالله، فهم صدَّهم عن السبيل مع أنَّ الله أعطَاهم ما يتمكنون به مِن مُدَافَعَة الشيطان، ولكن غُلِبُوا على أمرِهم بما زَيَّن لهم الشيطان. * طالب: شيخ، الآيات في الكفار اللي قلنا: ﴿لَا يَفْقَهُونَ﴾، ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ [البقر ١٧١]؟ * الشيخ: ما قلنا: إن العقل عقلان؟ * طالب: هنا ﴿مُسْتَبْصِرِينَ﴾. * الشيخ: إي، ﴿مُسْتَبْصِرِينَ﴾ معناها: أن عندهم بصيرة؛ يعني: عندهم عقول يدركون بها، لكن ليس عندهم عقول يهتدون بها؛ بمعنى أنهم اهتدوا بها، ما انتفعوا بها، فهم عندهم بصائر ومعرفة، لكنهم ما انتفعوا بها. * طالب: عندهم بصيرة وهم لم ينتفعوا بها؟ * الشيخ: إي نعم، يكون عنده بصيرة، لكن ما عنده اهتداء بهذه البصيرة. * طالب: شيخ، تكون بصيرة في ضعف الوسائل لها؟ * الشيخ: إي نعم، ما اهتدوا بها، يكون المعنى: أنهم عندهم علم وبصر يدركون به الأشياء، لكنهم ما انتفعوا به. وقال تعالى: ﴿وَ﴾ أهلكنا ﴿قَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ﴾ [العنكبوت: ٣9]، المؤلف قال: (أهلكنا)، وهذا التقدير باعتبار السِّيَاق؛ يعني أنَّ السياق يَدُلُّ على أنَّ هناك شيئًا مضمرًا هو (أهلكنا). قارون رجلٌ تاجر مِن بني إسرائيل، ولكنَّه كما قال الله عز وجل: ﴿بَغَى عَلَيْهِمْ﴾ [القصص ٧٦]، وقد أعطاه الله تعالى مالًا عظيمًا حتى إنَّ مفاتِحَه تثقُل بالعصبة؛ بالجماعة مِن الناس، هذه المفاتِح مفاتِحُ الخزائن؛ ولهذا ما آمَن بموسى اغتَرَّ بمالِه، والعياذ بالله، فلم يُؤْمِن بربّه. وفرعون معروف هو مَلِك مِصْر الذي ادَّعى أنه الرب وقال: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾ [النازعات ٢٤]، وهامَان وزيرُه. وإنَّما قَدَّم قارون؛ لِعُلُوِّ نسبِه؛ لأنَّه مِن بني إسرائيل، وهم أشرَف مِن الأقباط، وقدَّم فرعون على هامَان؛ لعلُوِّ مرتبتِه عليه. وقوله: ﴿وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ﴾ لو قال قائل: أليس هذا الترتيب مِن بابِ البداءَة بالأدنى؟ الجواب: لا، لو كان مِن باب الأدنى لقال: قارُون وهامَان وفرعون. * طالب: (...) آمن به، يرد على من قال: نافق، كان يقرأ التوراة. * الشيخ: من؟ * الطالب: بعضهم في قارون، قال: إن قارون كان مِن أحسن الناس صوتًا في التوراة، لكن اغتَرَّ بماله. * الشيخ: ما ندري عن هذا، إذا ما جاء به نَصّ ما نعلم عنه. ﴿وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى﴾ كل هذه: قارون وفرعون وهامان لا تنصَرِف، المانع منِ الصَّرْف؟ * طالب: العلمية والعجمة. * الشيخ: العلَمِيَّة والعجمة. (﴿وَلَقَدْ جَاءَهُمْ﴾ مِن قبلُ، ﴿مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ﴾ بِالحُجَج الظاهرات، ﴿فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ﴾ ) ﴿وَلَقَدْ جَاءَهُمْ﴾ هذه الجملة -كما تمُرّ علينا كثيرًا- مؤكَّدة بثلاثة مؤكدات؛ وهي القسَمُ المقَدَّر، واللام، و(قد). وقوله: (﴿وَلَقَدْ جَاءَهُمْ﴾ مِن قبلُ، ﴿مُوسَى﴾ )، قبْل أيش؟ * طالب: قبل الهلاك. * الشيخ: قبل الهلاك ولَّا قبل عاد وثمود؟ * طالب: قبل الهلاك. * الشيخ: نعم، ﴿مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ﴾ الباء هنا للمصاحبة؛ يعني: أتاهم إتيانًا مصحوبًا بالبَيِّنَات؛ لأنَّ الله تعالى لا يُرسل رسولًا إلَّا أعطاه مِن البينات ما يؤمِنُ على مثله البشَر؛ لأنَّها الحكمة والرحمة تقتضِي هكذا؛ إذْ ليس مِن المعلُوم وليس مِن الحكمة أن يُرسَل رجلٌ من الناس إلى الناس ويقول: إني رسول الله بدون بَيِّنَة، ولَّا لا؟ فلا بُدَّ مِن بينة آية واضِحَة تدُلُّ على أنَّه رسول؛ ولهذا قال: ﴿بِالْبَيِّنَاتِ﴾ أي: بالآيات البينات. قال المؤلف: (الحجج الظاهرات) منها مثلًا العصَا، ومنها اليَد، وكذلك السِّنِين التي أُخذُوا بها، ولكن مع هذا ما انتفعوا، نسأل الله العافية. قال: ﴿فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ﴾ ﴿اسْتَكْبَرُوا﴾ بمعنى تكَبَّرُوا وعلَوا وارتَفَعُوا على الحقّ ولم يقبلوا، وتعرفون ما جرى لموسى مع فرعون مِن المناظرة والتَّهديد، حتى وصَل به الحال إلى أن قال: ﴿لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ﴾ [الشعراء ٢٩]. (﴿فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ﴾ فائتين عذابنَا) يعني: ما كانوا سابقين لنا، لم يسبِقُونا، والسَّبْق بمعنى الفَوات، فأنت إذا مثلًا سابقْتَ إنسانًا وسبقَك -أي: فاتَك- وعجَزْتَ عنه، هؤلاء مع استكبارهم وعظمتهم وعلوهم ما سبقوا الله عز وجل أبدًا. أمَّا قارون فخسَفَ الله به وبدارِه الأرض، وبقِيَ فيها إلى يوم القيامة، وما نفعَه لا بيتُه الذي احتَمَى به، ولا مالُه الذي كنَزَه. وأمَّا فرعون وهامان فأغرقَهم الله عز وجل بِما كان فرعون يفتخِرُ به، قال لقومه: ﴿يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ﴾ [الزخرف ٥١]، فأخرجَه الله مِن مصر وأهلكه بمثلما افتخَر به، افتخَر بالأنهار فأُهلِك بأيش؟ أهلك بالماء، فأهلكَه الله، فمَا فاتَه الله عز وجل، مع أنَّ فرعون حين إهلاكه كان يظُنُّ أنه منتصر؛ لأنَّه أرسل في المدائن حاشِرين، فجمعوا الناس واتَّبعُوا موسى وقومَه على أنَّهم أمْر يسير في قبضتهم؛ لأنهم قالوا: ما لهم إلَّا البحر؛ إمَّا يسقطوا في البحر، أو نأخذهم أخذًا لا هَوادَة فيه، فكان الأمر -والحمد لله- بالعكس؛ أهلَكَ الله فرعون وقومه، وأنجَى موسى وقومَه. قال سبحانه وتعالى: (﴿فَكُلًّا﴾ مِن المذكورِين ﴿أَخَذْنَا بِذَنْبِه﴾ [العنكبوت: 40]). * طالب: كما كانوا سابقين لغيرِهم؛ يعني: غيرهم سبقهم إلى هذا العمل. * الشيخ: لا، يعني بيقصد في الزمن يعني؟ * الطالب: نعم. * الشيخ: لا، هم سابقون أيضًا بالزمن متقدمون كثيرًا. * طالب: الواو هذه واو الحال ﴿وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ﴾؟ * الشيخ: إي، ﴿فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ﴾، لا، الظاهر أنها الاستئناف أحسن. * الطالب: ﴿وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ﴾؟ * الشيخ: إي نعم، أحسن. ﴿فَكُلًّا﴾ قال المؤلف: (مِن المذكورين)، والمعروف أن يقدر: فكلّ أحد، لكن المؤلف منعَه مِن تقدير (أحد) أنَّ (كُلًّا) منونة، وهو لا يُحب أن يغيِّر لفظ القرآن؛ ولهذا قال: (مِن المذكورين)، والتنوين في (كل) هنا يقول النحويون: إنَّه تنوين عوضٍ عن؟ * طالب: عن نون. * الشيخ: تنوين عوض عن كلمة؛ أي: فكلُّ واحد، والتنوين -كما هو معرُوف لكم- قد يكون عوضًا عن كلمة، كما هنا، وقد يكون عوضًا عن حرف، كما في: (جوارٍ) و(غواش)، وقد يكون عوضًا عن جملة، كما في (إذٍ) ﴿وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ﴾ [الواقعة ٨٤]، و(يومَئِذٍ)، وما أشبهَها. قال: ﴿فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ﴾ يعني: كُلًّا مِن هؤلاء أخذَه الله عز وجل بذنبِه، والباء في قوله: ﴿بِذَنْبِهِ﴾ تكون سبَبِيَّة ومعاوضة ومقابلة؛ يعني: أنَّهم بسبب ذنوبِهم أُخذُوا، وعلى قدرِ ذنوبهم أخذُوا أيضًا، فالباء هنا سببية وعِوَضِيَّة؛ أي: أنَّهم أُخذُوا بسبب الذنب، لكن ما تجَاوز الله بِهم أكثر مما يستَحِقُّون، بل بالسَّبب والقدْر. وقوله: ﴿بِذَنْبِهِ﴾ في القرآن الكريم جاءت أيضًا: ﴿أَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ﴾ [الأنعام ٦]، والجمعُ بين الجمع والإفراد يسِير؛ أن يُقال: إنَّ الإفراد هنا مُضَاف فيَعُمّ؛ أي: بذُنُوبهم، والذنوب هي المعاصي، سواءٌ كانت كبيرة أو صغيرة، وهي هنا بلا شك مِن أكبَر الكبائر. ﴿فَمِنْهُمْ﴾ هذا التفصيل؛ لأن قوله: ﴿بِذَنْبِهِ﴾ مجمل فُصِّل بقوله: ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا﴾ ﴿أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ﴾ ولم يقل: إليه؛ لأن هنا إرسال عذاب فهو عالٍ عليهم، وليس إرسال خطاب حتى نقول: إنَّ غايَة هذا الخطاب المرسَل إليه، فهو إرسالُ عذابٍ. (﴿أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا﴾ ريحًا عاصفة فيها حصباءُ كقوم لوط). * طالب: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا﴾ [القمر ٣٤]. * الشيخ: إي، بس هذا فيه نظَر؛ لأنَّ المفهوم من قوم لوط أنَّ الذي أُرسِل عليهم مِن السماء أو لا؟ حاصبًا من السماء، وهي حجارة مِن سجيل، مثل الذي أُرسِل على أصحَاب الفِيل أو لا؟ وليست هي مِن الحصباء التي تثيرُها الرياح، ولا علِمْنَا أنَّ الله تعالى أرسل الرياح على قوم لوط، ولو كانت رياحًا تحمل الحصباء لبيَن الله عز وجل، فيقال: إننا أرسلنا عليه حاصبًا كقوم لوط، صح؟ فإنَّ الله تعالى أرسَل عليهم حاصبًا مِن السماء تحصبهم؛ حجارة من سجيل. ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ﴾، مثل؟ * طلبة: ثمود. * الشيخ: يقول المؤلف: (كثمود) قوم صالح، وشُعيب أصحاب مدين ما أخذتهم الصيحة؟ * طلبة: إي نعم. * طالب: ما أخذَتْهم الرجفة يا شيخ. * الشيخ: أيهم؟ * الطالب: (...). * الشيخ: هنا لكن في آية أخرى ﴿أَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ﴾ [الحجر ٧٣]. (﴿وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْض﴾ مثل قارون، ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا﴾ كقوم نوح وفرعون وقومِه) هؤلاء أهلكوا بالغرق؛ أمَّا فرعون وقومه فغَرِقُوا بالبحر الأحمر، وأمَّا الثاني من؟ * طالب: نوح فبالطوفان. * الشيخ: نوح فبالطُّوفَان؛ الطوفان العظيم الذي أمَرَ الله سبحانه وتعالى السماء ففَتَّح أبوابَها بماءٍ منهمر، وفجَّرَ الأرض عيونًا، شوف -سبحان الله- التعبِير؛ ما قال: فجَّرنَا عُيُون الأرض، لو كان التعبير: فجرنا عيون الأرض لكان فيه شيء كثير مِن اليابس ما تفَجَّر، وإنما تفجَّرَت العيون لو كان التعبير: فجَّرْنا عيون الأرض، لكن ﴿فَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا﴾ [القمر ١٢]، كأن الأرض كلها صارت عيونًا، حتى إن التنور الذي هو محلّ إيقاد النار وأبعد ما يكون عن ظهور الماء فيه فار التنور صار يفُور عيونًا، سبحان الله العظيم! ﴿فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِر﴾ [القمر ١٢] حتى علَا قمَم الجبال، واستوت السفينة على الجُودي، والجودي هذا الجبل رفِيع جدًّا، على أنَّ الماء حملَها إلى أن رسَتْ على هذا الجبل، مما يدُلّ على كثرَة هذه المياه، الله أكبر! الإنسان لو تصور أنَّ المطر يرتفع أربعة أمتار لتَهَوَّل من ذلك، لكن هذا الذي بقدرة الله عز وجل علَا إلى مِئَات الأمتار، والله على كل شيء قدير. قال: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ﴾ فيعذِّبَهم بغير ذنب، والله ما كان هذا، ﴿مَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ﴾، اللام هنا يُسمونَها لام؟ * طالب: مزحلقة. * الشيخ: لا، ما فيه زحلقات. * طالب: لام التوكيد. * الشيخ: ولا لام التوكيد، هذه يا إخواني لام الجحود؛ لأن لام الجحود هي المسبُوقة بكَوْنٍ منْفِيّ، أو نقول لِأصحاب الآجرومية: ما سبقَها (ما كان) أيش؟ * طالب: أو (ما يكُن). * الشيخ: لا، أو(لَمْ يكُن)، (ما كان) أو (لم يكن)، هنا الذي سبقها أيش؟ (ما كان)، ﴿مَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ﴾ والظُّلْم له وجهان (...).هذا لَمَّا نفى أن يكون الله ظلمهم بيَّن مِن أين وقع هذا الظلم، فقال: ﴿كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [العنكبوت ٤٠] ﴿أَنْفُسَهُمْ﴾ خبر (كان)، والواو اسمها. * طالب: لا، ﴿أَنْفُسَهُمْ﴾ جملة فعلية خبر (كان)، و﴿أَنْفُسَهُمْ﴾ مفعول ﴿يَظْلِمُونَ﴾. * الشيخ: ﴿أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾. * طالب: كانوا يظلمون أنفسهم. * طالب آخر: خبر لمبتدأ محذوف. * الشيخ: لا، اسم (كان) الواو ﴿كَانُوا﴾، لو كانت تأكيدًا لكانت منصوبة. * طالب: منصوبة بـ﴿يَظْلِمُونَ﴾ مِن باب الاشتغال. * الشيخ: مِن باب الاشتغال؟ ما تقولون الآن؟ توافقون؟ * طالب: الاسم مؤول، والخبر جملة. * الشيخ: الكلام على ﴿أَنْفُسَهُمْ﴾ ويش نقول فيها؟ * طالب: مفعول ﴿يَظْلِمُونَ﴾. * الشيخ: مفعول ﴿يَظْلِمُونَ﴾، من باب الاشتغال؟ * طالب: لا، ما فيه ضمير (...) ما يجوز اشتغالها. * الشيخ: إذن مفعول مقَدَّم لـ﴿يَظْلِمُونَ﴾ أو لا؟ ولا فيه اشتغال؛ لأنّ الاشتغال يقول ابن مالك: ؎إِنْ مُضْمَرُ اسْمٍ سَابِقٍ فِعْلًا شَغَلْ ∗∗∗ عَنْهُ بِنَصْـــــــبِ لَفْظِــــــهِ أَوِالْمَحَـــــلْ الاشتغال لا بد يكون ضمير في الفعل المشغُول؛ ولهذا سميناه اشتغالًا، أمَّا هنا فـ(أنفسهم) مفعول مقدّم لـ(يظلمون)، وتقديمُها له فائدتان: فَائدة لفظِيَّة، وفائدة معنوية؛ الفائدة اللفظية مُرَاعَاة الفواِصل؛ يعني: أواخِر الآيات، هذه فائدة لفظِيَّة، لو قال: ولكن كانوا يظلمون أنفسهم، ما تناسَبَت مع ما قبلها وبعدَها، والثانية الفائدة المعنويّة: الحصْر والاختصَاص؛ يعني: ما ظلَمُوا إلا أنفسهم، فهم في الحقيقة هُم الذين ظلموا، ولكن كما قال تعالى في آية أخرى: ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِين﴾ [الزخرف ٧٦]، أمَّا نحن ما ظلمناهم. * طالب: شيخ، تقديرًا في قوم نوح؛ يعني: جعل السياق هذا منهم، وإلى قصة نوح، ما ورد ذكر نوح إلا في أول السورة، نوح ما ورد؟ * الشيخ: إي، ويش فيه؟ * الطالب: (فمنهم) يعني مِن المذكُورين؛ يعني: عادًا ومَن قبلهم وقارون وفرعون وهامان، هؤلاء اللي ذُكروا؛ يعني: فكل من المذكورين أخذْنا بذنبه، (فمنهم) على الترتيب، ذكْر قوم نوح هنا له وجْه. * طالب آخر: قوم نوح على السبب في أول السورة.. * الشيخ: ما يهم، يعني على كل حال مِن الناس، يعني أنت تريد أن تكون الضمير على أقرب مذكور؟ * الطالب: نعم، ثم ترتيبه؛ التسلسل، أحيانًا الترتيب القرآني، ذكَر العذاب بالتسلسل على حسب الترتيب. * الشيخ: من أخذته الصيحة، نقول: كثمود، ما هو بهذا الترتيب؛ لأن شعيبًا قبْل هؤلاء. * طالب: بس قلنا: ثمود الصيحة، تصلح لشعيب لِقوم مدين وثمود. * الشيخ: إذا راعَيْنا الترتيب ما تصلُح هنا لثمود ولَّا لا؟ أو تصلح؛ لأنَّه قبل قارون، ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ﴾ لا سيما أنَّ المؤلف يقول: ﴿فَكُلًّا﴾ (من المذكورين)، لو قال: فكلًّا من المذنبين، على كل حال المسألة بسيطة، ما دام أنه فيه مثال لهذا وهذا.. قال الله تعالى: ﴿وَلَقَد تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [العنكبوت ٣٥]. * مِن فوائد هذا الآية: حكمة الله سبحانه وتعالى بإبقاء آثار الآيات ﴿وَلَقَد تَرَكْنَا مِنْهَا﴾؛ لأن المراد إبقاؤها. * ومن فوائدها: أنَّه لا ينتفع بالآيات إلا ذوو العقول؛ لقوله: ﴿لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾. * ومنها: فائدة العقل، فكلما أُوتِي الإنسان عقلًا فإنَّه مِن نعمة الله عليه، كلما كان أعقل فهو مِن نعمة الله، مِن أين نأخذ فائدة العقل؟ مِن كون صاحبِه ينتَفِعُ به في الآيات التي تركَها الله عز وجل. ثم قال: ﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الآخِرَ﴾ إلى آخره [العنكبوت: ٣٦]. * من فوائد هذه الآية: إثبات رحمة الله وحكمته في إرسال الرسل؛ فإن إرسال الرسل يدل على الرحمة والحكمة، أمَّا الرحمة فظاهر؛ لأنه لا يمكن للعباد أن ينتفعوا بعقولهم في التعبُّد لله عز وجل؛ ولهذا يقول العلماء: إن العبادات توقيفية، وأما الحكمة؛ فلئلا يكون للناس على الله حُجَّةٌ بعد الرسل. * ومن فوائد الآية: أنَّ النبيَّ غالبًا يكون مِن قومِه؛ لأنَّ الأنبياء الذين ذُكروا في القرآن كله يعبر فيها بقوله: ﴿إِلَى قَوْمِهِ﴾، و﴿أَخَاهُمْ﴾، وما أشبه ذلك. والحكمة من هذا؛ يعني: يتَوَلَّد منها * فائدة أخرى: وهي أنَّ الذي ينبغي أن يكونَ الرسول معروفًا بين قومه؛ لأجل أن يُسَاعِدُوه ويعينوه ولا يكَذِّبُوه. * من فوائد الآية: وجوب عبادة الله؛ لقولِه: ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ﴾. * ومنها: وجوب الاستعداد لليوم الآخر؛ لقوله: ﴿وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ﴾. * ومنها: إثباتُ اليوم الآخر، واضِح؟ * ومنها: تحريم الإفساد في الأرض؛ لقولِه: ﴿وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾، والأصل في النهي التحريم. * ومنها: أنَّ الشرائع تجمَع بين الأمرين الإيجابي والسلبي، الإيجابي بأي شيء؟ بالأوامِر، والسلبي بالنواهي؛ يعني: أنَّ الشرائع أفعال وتُرُوك، ما هو مجرد أفعال، ولا يُصْلِحُ العباد إلَّا هذا؛ لأنَّ الإنسان قد تناسِبُه الأوامر، ولا تناسبه النواهي، وقد تناسبه النواهي فتسْهُل عليه ولا تناسِبُه الأوامر، فجمَع الله سبحانه وتعالى في شرائعه بين الأمر والنهي. * ومنها: قلت: تحريم الإفساد في الأرض؟ * طالب: إي نعم. * الشيخ: وذكرْنا في التفسير: أنَّ هذا الإفساد يشمَل الإفساد المعنوي بالمعاصِي والإفساد الحسي بالتدمير والإتلاف. ثم قال: ﴿فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِين﴾ [العنكبوت ٣٧]. * مِن فوائد هذه الآية: بيان ما يعانيه الرسل عليهم الصلاة والسلام من أقوامِهم؛ لقوله: ﴿فَكَذَّبُوه﴾، ولا ريبَ أنَّ تكذيب الإنسان الذي على حقٍّ أنَّه يبلُغُ في نفسه كل مبْلَغ، إنسان معه الحق والآيات وجاء لمصلَحَةِ الخلق، ثم يكذِّبُونه، هذا أمر ليس بالهين على النفس. * من فوائد الآية أيضًا: تسلِيَةُ الدعاة إلى الله عز وجل إذا عُورِضوا في دعوتِهم، كيف ذلك؟ كيف هذه التسلية؟ أنَّ الرسل كُذِّبوا، فهم مِن باب أولى؛ ولهذا يُسَلِّي الله النبي عليه الصلاة والسلام بمثل هذا ﴿فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِير﴾ [آل عمران ١٨٤]، ﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا﴾ [الأنعام ٣٤]، فالداعية إلى الله لا ينبغِي أن يأنَف مِن أن يُكَذَّب، فإنَّ هذا هو طريقُ الرسل عليهم الصلاة والسلام، وأتباعُهم سيكونون مثلَهم. * مِن فوائِد الآية: التعْجِيل بالعُقُوبة للمُكَذِّب، هذا متَى؟ إذا قلنا: إن الفاء في قوله: ﴿فَأَخَذَتْهُمُ﴾ أيش؟ عاطفة، أمَّا إذا قلنا: إنها سببية فلا تدُلّ؛ لأن المسبَّب قد يتأخّر عن السبب. * ومِنها؛ من فوائد الآية: حكمة الله عز وجل في عقوبَة المكذبين لِرُسُلِهم. * ومنها: أنَّ العقوبة ليست جَوْرًا ولا ظُلْمًا؛ لأنّ الله تعالى مُنَزَّهٌ عن الظلم، ولا يظلِمُ أحدًا، فلولا أنَّ هؤلاء يعاقَبُون بحقٍّ ما عاقبَهم الله. * ومنها: قدرة الله سبحانه وتعالى؛ لقوله: ﴿فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِين﴾ وكم هم؛ عددهم؟ قوْم؛ قبيلة كبيرة أبادَهم الله تعالى في لحظَة، وهذا دليل على قدرتِه، وأنَّه إذا أراد شيئًا فإنَّما يقول له: كن، فيكون. * ومنها: أنَّ الملاجئ لا تنفَعُ مِن الله، تُؤْخذ مِن قوله: ﴿فِي دَارِهِمْ﴾ الدار ملجَأ للإنسان، يلجأُ بها مِن عدوه، لكنَّها بالنسبة إلى الله لا تمنع ولا تنفع؛ فلهذا قال: ﴿أَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ﴾. ثم قال تعالى: ﴿وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ﴾ [العنكبوت ٣٨]. * مِن فوائد هذه الآية؛ أوَّلًا: أنَّه ينبغِي الاعْتِبَار بأحوال مَن مضى، مِن أين تؤخذ؟ ﴿وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ﴾ يعني: فاعتبِرُوا واتّعِظُوا. * ومنها: بيانُ قدرة الله سبحانه وتعالى؛ لأنَّ عادًا مِن أقوى عباد الله حتى إنَّهم قالوا: ﴿مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّة﴾ [فصلت ١٥]، ومع ذلك أهلكَهم الله بألطَف الأشياء، ما هي؟ * طالب: الريح. * الشيخ: بالريح، الريح اللي هي مِن ألطف الأشياء أهلكَهم الله بها، فدلَّ هذا على كَمَال قدرةِ الله سبحانه وتعالى، وأنَّه مهما بلغ الناسُ مِن القوة فليسَت قوتُهم بشيء بالنسبة إلى قوة الله. * ومِن فوائد الآية: أنَّ الشيطان قد يُسَلطُ على بني آدم؛ لقولِه: ﴿وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ﴾. * ومِن فوائدها: التحذِير من تزْيِين الأعمال، وأظُن كلّنا نفهَم أنَّ قوله: ﴿زَيَّنَ﴾ ﴿أَعْمَالَهُمْ﴾ أنَّها تدل على أنَّ هذه الأعمال أصلُها قبيح، لكنَّها زُيِّنَت، فيَجِب الحذر مِن تزيين الشيطان. إذا قال قائلٌ: ما هو الضابط لتزيين الشيطان، قد أهوَى هذا العمل ويزين في نفسي فأفعله، فلا أدري هل هو مِن تزيين الشيطان أو مِن تزيين الله عز وجل، فما هو الضابِط؟ الضابط: إذا كان هذا العملُ خلاف شريعةِ الله فهو مِن تزيين الشيطان، وإن كان موافقًا لِشريعة الله فهو مِن هداية الله وليس مِن تزْيِين الشيطان. * ومنها: إثباتُ الشياطِين وتأثيرها على بني آدم؛ لقوله: ﴿وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ﴾. * ومنها: الردّ على الجبرِيَّة في نسبَة الأعمال إليهم، فإذا نُسِبَ إليهم فمعنى ذلك أنَّهم فاعلون حقيقة. * ومن فوائد الآية أيضًا: أنَّ الأعمال السيئة قد تكُونُ سببًا لِضَلَالِ العبد؛ لقولِه: ﴿وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ﴾، ولا ريبَ أنَّ الأعمال السيئة سببٌ لضلال العبد، ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ﴾ [المائدة ١٣]، والأعمال السيئة يجُرُّ بعضها بعضًا حتى يعمَى الإنسان -والعياذ بالله- عن الحق بسبب معصيته. * ومِن فوائد الآية: بشاعَةُ الصَّدِّ عن السبيل مع البصيرة، مِن أين تؤخذ؟ مِن قوله: ﴿وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِين﴾، فإنَّ الجملة هنا حالية على تقدير (قد)؛ يعني: فصدَّهُم وقد كانوا مستبصرين، والمستبصر كان بصَدَدِ ألا يصُدّ، لكن -والعياذ بالله- قُوَّة السبب وضَعْف المانع هو الذي أوجَبَ لهم أن يصُدُّوا عن سبيل الله. * ومِن فوائد الآية: استعمال أو اعتبار دلالة الألفاظ بِمَا يفهَمُه المخاطب؛ أعني أنَّ (أل) في قوله: ﴿السَّبِيلِ﴾ للعهْد، أي العهود؟ العهد الذهني. * ففيه دليل على أن المخاطب قد يُحَال على ما يفهمُه في ذهنِه من دلالَة الخطاب، وهو كذلك. فلو قال قائل: هذه الآية فيها إبهام عن السبيل، ما ندري أي سبيل؟ قلنا: لا إبهام فيها، ما دام هناك شيءٌ معهود للمخاطَب فإنَّه ليس فيها إبهام. ثم قال: ﴿وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ﴾ [العنكبوت ٣٩]. * فيه ذَمّ هؤلاء الثلاثة الأشخاص؛ قارون وفرعون وهامان. * ومن فوائدها أيضًا: أنَّ سبب الطغيان قد يكون المال، وقد يكُون الجاه والرِّئاسة، ففي قارُون سببُ طغيانِه المال، وفي فرعون وهامان الجاهُ والرِّئَاسة، وهذَان السببان هما سبَبُ استكْبَار الإنسان عن طاعة الله سبحانه وتعالى. * ومن فوائدِها: إثباتُ رسالَة موسى ﷺ؛ لقوله: ﴿وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَات﴾. * ومن فوائدها: أنَّ موسى رسُول إلى فرعون وإلى بني إسرائيل، فرعون هُو مِن بني إسرائيل؟ * طالب: لا. * الشيخ: مِن أين؟ * طالب: من الأقباط. * الشيخ: من الأقباط، كيف نجمع بين هذا وبين قول رسول الله ﷺ: «وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً»[[متفق عليه؛ البخاري (٣٣٥)، ومسلم (٥٢١ / ٣) عن جابر بن عبد الله.]]، وقومُ موسى هم بنو إسرائيل، وموسى أُرْسِل إلى فرعون وإِلى بني إسرائيل؟ * طالب: هم كانوا موجودين في مصر في مملكة فرعون اللي هم بني إسرائيل، ثم إنه كان يستعبدهم، وكان يمنعهم من الخروج، فكان من المقتضى هو يذهب إليه أولًا حتى يخرجوا معه ويعبدوا الله عز وجل كما أراد، وهو يمنعهم فرعون، فكان لا بد.. * الشيخ: يعني: أنَّ دخول بني إسرائيل في مملكة فرعون تقتَضِي الحكمة أنه يُرسَل إليهما جميعًا؟ * طالب: يعني ليس كذلك، هو كان يمنعهم فرعون، ويستعبدهم في الأرض. * الشيخ: إي نعم، ومنع أيضًا موسى مِن أن يأخذ بني إسرائيل معه. * طالب: نعم، فكان لا بد أن يوجه إليه؛ ليحررهم من هذا الاستعباد. * الشيخ: نعم. * طالب: أن النبي يبعث إلى قومه، فمن دخل فيه من غيرهم (...). * الشيخ: طيب، إذن يكون فرعون تابعًا لِبني إسرائيل، مع أنَّ أصْل الرسالة إلى مَن؟ إلى فرعون، فكيف مثلًا يكُون الذي له الأصل هو التابع؟ إذن نرجع إلى ما قال. * طالب: سواء عاد كانوا مثلًا قومه تابعين أو تبعًا عن غيرهم. * الشيخ: يعني إذن نرجع إلى هذا نقول: معناه: أنَّه ما يمكِن إصلاح بني إسرائيل حتى يصْلح مَن له السيطرة عليهم، هذا مرادُك؟ * طالب: قوله تعالى: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ﴾ [القصص ٥]. * الشيخ: المهم الآن أنّنا كلنا متفقون على أنَّ الرسالة إلى مَن؟ إلى فرعون وإلى بني إسرائيل، بل هي إلى فرعون أصلًا. * طالب: (...) يقول: أرسل معنا بني إسرائيل، رسول الله إليهم. * الشيخ: دعاه إلى الله، بل إنَّ الآيات: أرسلنا موسى إلى فرعون، كلها تدل على أن أصل الرسالة إلى فرعون. * طالب: يجوز، يقال: إن الله سبحانه وتعالى حكمته تقتضي أن يرسل إلى أقوام الأنبياء؛ لأنَّ فيهم حمِيَّة إليه وركونًا إليه ونُصرة له، وهنا في فرعون له أيضًا حميَّة وميل إليه، باعتباره هو اللي رباه، وباعتباره نشأ في كنفه، فشارَك بني إسرائيل في هذه الصفة. * الشيخ: أنا عندي -والله أعلم- أنَّ الجواب مِن أحد وجهين: الوجه الأول: أنَّ قوله: «كَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً»[[متفق عليه؛ البخاري (٣٣٥)، ومسلم (٥٢١ / ٣) عن جابر بن عبد الله.]] ليس أولَ عُمومٍ يُخَصَّص، يمكن أن نقول: هذا باعتبار الأكثر والأعمّ، ونقول: إن موسى دلَّ الدليل على أنَّه بُعِث إلى فرعون وإلى بني إسرائيل، وهذا جواب ما فيه تكلف؛ هذا الجواب ليس فيه تكلف. ويمكن أن نقول: إنَّ الرسالة إلى فرعون؛ لأنَّه ما يمكن لبني إسرائيل أن يستَقِلُّوا، وأن يقوموا بواجِب الرسالة واتِّبَاع موسى إلا إذا اهْتَدى فرعون؛ ولذلك ما كان لهم دولَة وسُلْطة إلا بعد أن أهلكَ الله فرعَوْن، فيكون هذا: قُصِدَ فرعون أولًا؛ لأنَّه لا يمكن الوُصول إلى بني إسرائيل واستقْلَال الدعوة فيهم إلا بعد أن يُسْلِم هذا الرجل أو يتلف كما هو الواقع، فتكون رسالته هنا مِن باب الوسائل إلى المقصود يكون موسى عليه الصلاة والسلام أُرسِل إلى بني إسرائيل، لكن لا يمكن تحقيق الرسالة في بني إسرائيل حتى يهتَدِي هذا الرجل أو يقضِيَ الله عليه، والذي حصَل أنَّ الله قضَى عليه بعد ما حصل مِن الآيات والبينات، إلى آخره. * طالب: والأقباط الآخرون غير فرعون ما وجهت لهم الدعوة؟ * الشيخ: الظاهر أنَّ الأقبَاط اللي في مصر، بل كُل اللي تحت ولَاية فرعون داخِلُون في هذا؛ لأنَّه بالضرورة إذا آمن فرعون فسَيُؤْمِنُون؛ لأنَّ السيطرة له عليهم. * طالب: ما نقول بأنه القوم أعم من (...) أن قبيلة موسى من بني إسرائيل وقومه الناس (...)؟ * الشيخ: إذا قلنا: إنَّ المراد بالقوم مَن بُعِث فيهم صار معناه: لو بُعِث النبي إلى جميع الناس صارُوا قومه، فبَطَل دلالةُ آخر الحديث، ومَرَّ علينا في قصة شعيب أنَّه أيضًا أُرسِل إلى أصحاب الأيكة، وليسُوا مِن قومه، بدليل أنه ما قال: أخاهم. فالجواب: الأول وهو أن نقول: إنَّ هذا العموم قد خُصِّص، دلَّتْ الأدلة على أن بعض الرسل أُرسِل إلى قومِه وإلى غيرِهم ممن هو تبع، لا يوجد رسول أُرسل إلى الناس عامَّة إلَّا محمدًا ﷺ. قوله: ﴿وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ﴾. * مِن فوائد الآية: أنَّ الرُّسل يُؤَيَّدُون بالآيات البينة؛ لقولِه: ﴿بِالْبَيِّنَاتِ﴾، وثبتَ عن الرسول ﷺ أنه قال: «مَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أُوتِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا عَلَى مِثْلِهِ يُؤْمِنُ الْبَشَرُ»[[متفق عليه؛ البخاري (٧٢٧٤)، ومسلم (١٥٢ / ٢٣٩) عن أبي هريرة.]]. * من فوائدِها أيضًا: إثباتُ الرحمة والحكمة في آياتِ الأنبياء، أليس كذلك؟ لأن الآيات التي مع الرسل رحمة بالخلق وحِكْمَة، رحمة؛ لأجْل أن تكون سببًا لاهتِدَائِهم، وحكمة؛ لإقامَة الحجة عليهم، حتى لا يقول قائل: إنَّ هذا الرسول ما أتانا بآية فهو كاذب، فإذن إثبات الآيات للأنبياء فيها متضَمِّنَةٌ للرحمة والحكمة، الرحمة كيف نقول: إعطاء الأنبياء الآيات يتضَمَّن الرحمة؟ * طالب: ما يمكن يتعبدوا إلَّا عن طريق الرسل. * الشيخ: كيف؟ * طالب: إذا أرسل الله الرسل. * الشيخ: إي نعم، قلنا: إن الآيات التي أوتيها الأنبياء تتضمن إثباتَ رحمة الله وحكمتِه. * طالب: (...) لئلا يضلوا (...). * الشيخ: لأن الآيات وسيلة إلى اهتدائهم، إذا رأَوا الآيات اهتدَوْا، حِكْمة، كيف ذلك؟ * طالب: (...) ما يقول: ما جاء نصره؟ * الشيخ: لا، ما هو هذا، ما نسأل عن حكمة إرسال الرسل، حكْمَة إيتَاء الرسل الآيات. * طالب: حيث تقام عليهم الحجة. * الشيخ: على مَن؟ * طالب: على الناس.. * الشيخ: فيقال لهم: أنتم كذَّبتم من قامَت الآيات على صدْقِهم. قال: ﴿بِالْبَيِّنَاتِ﴾.. * ومِن فوائد الآية: أنَّ بشاعة كفْر هؤلاء الثلاثة؛ قارون وفرعون وهامان، وذلك بالاستِكْبَار عن الحق والإعْرَاض عنه؛ ولهذا قال: ﴿فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ﴾. * ومِن فوائدِها: كمالُ قدرةِ الله سبحانه وتعالى حيث لا يفُوتُه أحد مِن خلقه؛ لقوله: ﴿وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ﴾، مع عظمتِهم وكبرِيَائِهم وأموالِهم ما يسبِقُون الله، وهذا تحقيقُ قولِه ﷺ في أذكار الصلاة: «وَلَا يَنْفَعُ ذَا الجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ»[[متفق عليه؛ البخاري (٨٤٤)، ومسلم (٥٩٣ /١٣٧) عن المغيرة بن شعبة. ]]، فإن الإنسان مهما عظُم وكثُر لا ينفَعُه عظمَتُه وكثْرَتُه. وقوله: ﴿فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا﴾. * مِن فوائد هذه الآية: تمامُ قدرة الله في إرسالِ هذه العقوبات، فإنَّها كلها عقوبات تدُلّ على القدرة. * ومنْها: إبطَال قول هؤلاء الملحدين، حينما تأتي مثل هذه الآيات في الوقت الحاضر يقولون: هذه مِن الكوارث الطبيعية، تأتي الزلازل اللي هي الرجفة ويقولون: هذه مسألة طبيعية، وتأتي الفيضانات العظيمة التي تُدَمِّر ويقولون: هذه كوارث طبيعية، ما يعتَبِرُون بها، ويرون أنَّها نوع من العقوبات التي جرَت على الأمم السابقة، وكذلك الرياح الشديدة، وهذا مِن موت القلوب -والعياذ بالله- أنَّ الإنسان يُعرَض عن التأمُّل والتدبر في هذه الآيات ويضِيفها إلى أمور طبيعية، وكأنها -على زعمهم- كأنَّ الطبيعة هي التي تخلُق وتفعَل بدون الله. * ومن فوائد الآية: إثباتُ حكمَةِ الله عز وجل؛ لقوله: ﴿أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ﴾ سواءٌ قلنا: إنَّ الباء للسببية أو لِلمقابلة. * ومنها: إثباتُ الأسباب، وكل مَا جاءك في القرآن مِن لام للتعليل أو باء للسببية فإنها تدُلّ على إثبات الأسباب والحِكَم. * ومنها: الردُّ على الجبرية الذين يُنكِرُون الأسباب ومَن وافقهم مِن الأشعرية، فإنَّنا نحنُ أهل السنة والجماعة نُؤْمِن بالأسباب، لكننا لا نقول: إنَّ هذه الأسباب مؤثرة بنفسها، ولكن بخلْقِ الله سبحانه وتعالى فيها التأثير. * ومنها: أنَّ الجزاء مِن جنس العمل، هذا على أيِّ الاحتمالين في الباء؟ البَدَلِيَّة والمقَابَلَة، الجزاءُ مِن جنس العمل؛ لقوله: ﴿فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ﴾، واعلموا أنَّ الجزاء من جنس العمل في الجزاءات الشرعية، وفي الجزاءات الكونية؛ الجزاءات الشرعية مثل الحدود؛ الحدود: العقوبات المقَدَّرة مِن قبل الشرع، كلُّها في الواقع عقوبات، فقَطْع اليد بالسرقة لا شك أنَّه موافِق للحكمة؛ لأنَّ اليد بها يأخذ، وقطع الأيدي والأرجل مِن خلاف في قُطَّاع الطريق مُوافق للحكمة؛ لأن قُطاع الطريق يعتَدُون على الناس بأيْديهم وأرجلِهم، ورجم الزاني بالحجارة دون قتلِه بالسيف موافقٌ للحكمة أيضًا، وهكذا كُل العقوبات الشرعية والكونية فإنَّها موافِقَة للحكمة، ويدل على هذا قولُه: ﴿فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ﴾. * ومن فوائد الآية أيضًا: قوله: ﴿حَاصِبًا﴾ وصيحة وخسْف وغرق، هذه الأنواع الأربعة مِن العقوبات ذكرُها له حكمة؛ لأن قوله: ﴿مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا﴾ هذا إهلاكٌ جاءَ من فوق، ﴿مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ﴾ مِن تحت، ﴿مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ﴾ هذا إهلاك بالقَوْل والصَّوْت. وقوله: ﴿مَنْ أَغْرَقْنَا﴾ إهْلاك بالماء؛ لأجل أن يتبين للناس أنَّ العقوبات لا تأتي من نوعٍ واحد، تأتي مِن أنواع متعددة بحسب حال المعاقَب. * ومنها: بيانُ كمالِ عدلِ الله؛ لقوله: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ﴾، وهذه الصفة أظُنُّها مِن الصفات السلبية أو الثبوتية؟ * طالب: سلبية. * الشيخ: سلْبِيَّة، وقد مر علينا عدَّةَ مرات: أنَّ الصفات السلبية لا تكون مدحًا إلا إذا تَضَمَّنَت ثبوتًا، فمُجَرَّد النفي ما هو بمدْح حتى يتضمن ثبوتًا، إذا نفى الله الظلمَ عن نفسه ليس معناه أنَّه لا يظلم فقط، بل لِكَمَالِ عدلِه لا يظلِم، وليس المعنى أنَّه غير قادر على الظلم، بل هو قادِر سبحانه وتعالى على أن يظلِم، لكنَّه لكمالِ عدله لا يظلِم، ولو كان غيرَ قادر على الظلم لم يكن نفيُ الظلم عنه مدحًا، أليس كذلك؟ * طالب: بلى. * الشيخ: ولهذا قالوا في قول الشاعر: ؎قُبَيِّلَـــــــــــــــةٌ لَايَغْــــــــــــــــــدِرُونَ بِذِمَّــــــــــــــــــــــــةٍ ∗∗∗ وَلَا يَظْلِمُــــــونَ النَّاسَ حَبَّــــــــةَخَـــــرْدَلِ نفْي الظلم عن هؤلاء الجماعة هو مدْح ولَّا ذم؟ * طلبة: ذم. * الشيخ: في هذا الباب ذمّ؛ يعني: لأنَّهم لعجزِهم لا يظلِمُون، وكذلك قول الشاعر: ؎لَكِنَّ قَوْمِي وَإِنْ كَانُوا ذَوِي حَسَبٍ ∗∗∗ لَيْسُوا مِنَ الشَّرِّ فِي شَيْءٍ وَإِنْهَانَا يعني: ما هُم مِن الشر في شيء، ولا يفعَلُون الشر، ولا فيهم شر أبدًا، بل أبلغ مِن هذا أنهم ؎يَجْزُونَ مِنْ ظُلْمِ أَهْلِ الظُّلْمِمَغْفِــــــرَةً ∗∗∗ وَمِنْ إِسَاءَةِ أَهْــلِ السُّـــــوءِإِحْسَــــانَا إذا ظلَمَهم أحد قابَلُوه بالمغْفِرة والسماح، وكذلك أيضًا إذا أساءَ إليهم أحسَنوا، هذا ظاهرُه أنَّه مدح، قال: جزاهم الله خيرًا، لكنه في الحقيقة ذمٌّ مِن أبلَغ الذم؛ لأنَّه يحتقِرُهم، ويقول: إنهم ما يستطيعون أن يثأَرُوا لأنفسهم أو ينتصِرُوا لأنفسِهم، بل إذا أُسِيءَ إليهم قابلوا بالإحسان خوفًا من إساءة أعظم، وإذا ظلموا غفَرُوا؛ ولهذا قال نفس الشاعر: ؎فَلَيْتَ لِي بِهِمُ قَوْمًا إِذَارَكِبُــــــــــــــــــــوا ∗∗∗ شَنُّوا الْإِغَـــــــــارَةَ فُرْسَـــــــانًاورُكْبَــــــــــانَا وتمنَّى أن الله يعطِيه بدلِهم. فالمهِم أنَّ مُجَرَّد إثبات النفي لا يَدُلّ على الكمال حتى يتضَمَّنَ مدحًا وثبوتًا. * ومن فوائد الآية: أنَّ الإنسان هو الظالِم لنفْسِه بفعل المعاصي؛ لقوله: ﴿وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾، إذن فأنت حرامٌ عليك فعل المعاصي؛ لأنه ظلمٌ لنفسك، وأمَّا الله تعالى فلا يظلِم، عندنا نفي الصفات مِن حيث العموم؛ قد يتضَمَّن الكمال، وقد يتضَمَّن النقص، وقد يكون لِعدَم القَابِلِيَّة، فالذي لله مِن أَيّهم؛ أيُّ الثلاثة؟ * طالب: الكمال. * الشيخ: الكمال، قد يكون للكمال، مثل هذه الآية، ومثل قوله تعالى: ﴿وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ﴾ [ق ٣٨]، وقد يكون نفي النقص لأيش؟ * طالب: لعدم القابلية. * الشيخ: لِعدم القابلية، مثل أن تقول: إنَّ هذا الجدار لا يتعب، وهذا الجدار ما يظلِم، لماذا؟ لِعدم القابلية، فهل هذا مدحٌ له؟ لا؛ لأنَّه أصلًا ما يقبَل هذا الوصف حتى ينفى عنه، وقد يكون النفي للعجز، مثلما ذكَرنْا في أمثلة البَيْتَيْن: ؎لَكِنَّ قَوْمِي وَإِنْ كَانُوا ذَوِي حَسَبٍ ∗∗∗ لَيْسُوا مِنَ الشَّرِّ فِي شَيْءٍ وَإِنْهَانَا ولا يكون لِلَّهِ مِن هذه الأقسام الثلاثة إلا القسْم الأول، وهو ما تضَمَّن كمالًا ومدحًا؛ ولهذا يقول أهل العلم: إنَّ الله تعالى إذا نفَى عن نفسِه صفَةً فإنَّ المراد بها أمران؛ نفيُ تلك الصفة، والثاني: إثباتُ كمَالِ ضِدِّهَا. * طالب: شيخ، القول بأن نفي الظلم عن الله؛ لأنه هو المتصرِّف في الملك؟ * الشيخ: لا، هذا غلط، هذا قول الجبرية، هذا ليس بصحِيح، هؤلاء يقولون: إن الظلم محَال على الله لذاتِه، لا لِعَدَم إرادَةِ الله له، وذلك أنهم يقولون: إنَّ الظلم أن يتصرّف الإنسان في مُلْك غيره، والله تعالى إذا تصرَّف في ملكِه فليس بظالِم، فيجُوز على زعمِهم، وليس بظُلْم أن يعاقِب المطِيع الذي أمضَى ليلَه ونهارَه في طاعة الله، فيعاقِبَه عقوبة الكافر، وعندهم أنَّ هذا ليس بظلم؛ لأنه يقال: الله ما تصرَّف إلَّا في ملكِه، وعلى هذا قال السفاريني رحِمه الله: ؎وَجَـــــــــــازَ لِلْمَـــــــــوْلَىيُعَـــــــذِّبُ الْــــــــوَرَى ∗∗∗ مِنْ غَيْرِ مَا ذَنْبٍ وَلَا جُـــــرْمٍ جَـــرَى؎فَكُـــــــلُّ مَـــــا مِنْــــــهُ تَعَـــــــــالَىيَجْمُـــــــــــــــلُ ∗∗∗ لِأَنَّــــــــــــــهُ عَــــــــنْ فِعْلِـــــــــهِلَا يُسْــــــــــأَلُ (...) بالله سبحانه وتعالى، وأنَّ صفات الله سبحانه وتعالى تنقسِم إلى قسمَيْن: ثبوتية وسلْبِيَّة؛ فالثُّبُوتِيَّة ما أثْبَتَه الله لنفسِه، ولا تكون إلا صفة كمال، والسلبِيَّة ما نفَاه الله عن نفسِه، ولا تكون إلَّا صفَة نقْص، والصفات السلبية تدور على شيئين: أحدُهما النقص، والثاني مشابَهَة المخلوقين، ولو قلنا: إنَّ مشابهة المخلوقين نقص، وحصَرْنا هذين الشيئين في شيءٍ واحد لم يكن ذلك بعيدًا؛ فإنَّ مشابهة الناقص تعتبر نقصًا. * ويستفادُ مِن الآية؛ مِن آخرها في قوله: ﴿وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ أنَّ العاصيَ ظالِمٌ لنفسِه، ووجهُ ذلك: أنَّ النفس عندك أمانَة، فكما أنَّك ممنوع من نقصِها نقصًا حسيًّا فأنت ممنُوعٌ مِن نقصِها نقصًا معنويًّا؛ بمعنى أن الإنسان لو أرادَ أن يقطع يدَه أو أُصْبُعَه أو يسيء إلى بدنِه كان ذلك محرَّمًا؛ ولهذا مَن قتل نفسه بشَيْءٍ عُذِّبَ به في جهنم خالدًا مخلدًا[[متفق عليه؛ البخاري (٥٧٧٨)، ومسلم (١٠٩ / ١٧٥) من حديث أبي هريرة.]]، فجَعَل النبي عليه الصلاة والسلام قاتِل النفس كقاتِل الغير في التَّخْلِيد في النار والتَّعذيب بما قتَلَ به. وعلى هذا نقول: كلُّ مَن عصَى الله فإنَّه ظالم لنفسِه، ومِن هنا نعرف معنى قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ [البقرة ١٣٠]، وأنَّ العدول عن ملَّةِ إبراهيم سفَهٌ؛ لأنَّه ظُلْم للنفس مِن حيث لا يشْعَر الإنسَان.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب