الباحث القرآني

قال تعالى: ﴿وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [النمل ٩٠]. ﴿هَلْ تُجْزَوْنَ﴾: أي: ما تجزون؛ يعني أن الاستفهام هنا أبلغ من النفي المجرد؛ لأنه يدل على النفي وزيادة؛ فهو مثلًا: ما تجزون إلا ما كنتم تعملون، يدل على أنهم لا يجزون إلا ما كانوا يعملون، لكن ﴿هَلْ تُجْزَوْنَ﴾ يدل على تقرير هذا الأمر، وأنه لا يمكن للإنسان أن يجازى إلا بما كان يعمل، ويكون فيه تقرير وتقريع في نفس الوقت. قال المؤلف: (ويقال لهم تبكيتًا: ﴿هَلْ﴾ أي: ما ﴿تُجْزَوْنَ إِلَّا﴾ جزاء ﴿مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ من الشرك والمعاصي). قوله: (ما ﴿تُجْزَوْنَ﴾ ) تقدم الكلام عليه. وقوله: (﴿إِلَّا﴾ جزاء ﴿مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ ) هل فيه صرف للفظ عن ظاهره؟ كيف ذلك؟ * طالب: (...). * الشيخ: إي، (...). * الطالب: (...). * الشيخ: جزاء ما كنتم، طيب ويش القصد؟ لأن قوله: ﴿إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ يقتضي أن يكون العمل هو الجزاء نفسه، يكون العمل هو الجزاء ﴿إِلَّا مَا كُنْتُمْ﴾، ومن المعلوم أن العمل ليس الجزاء، بل الجزاء شيء والعمل شيء آخر، عندما تستأجر إنسانًا يعمل لك، ثم تعطيه الأجرة، فعمله غير أجرته، العامل لله سبحانه وتعالى عمله غير جزائه. فظاهر الآية: ﴿هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ إن الإنسان يجزى بعمله أو لا؟ لذلك احتاج المؤلف أن يُقدّر هذا المحذوف، (﴿إِلَّا﴾ جزاء ﴿إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ ) لكن ما في الآية أبلغ؛ لأنه من باب المبالغة في العدل، أن يُجعل الجزاء هو العمل، كأن الجزاء نفسه عملك، مبالغة في العدل، فأنت إذا كنت تريد ثوابًا كثيرًا فاعمل كثيرًا؛ لأن ثوابك عملك. وأما قوله: (﴿هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا﴾ جزاء ﴿مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ )، ففيه أيضًا: ركاكة، ما تجزون إلا جزاء العمل؟ معلوم، كلمة ﴿تُجْزَوْنَ﴾ يستفاد منها الجزاء، فلا حاجة إلى تفصيل؛ فالصواب: إبقاء الآية على ما هي عليه، على ظاهرها. ويُفهم أن الذي يعطونه هو الجزاء من قوله: ﴿هَلْ تُجْزَوْنَ﴾، والتعبير عن الجزاء بالعمل نفسه مبالغة في العدل، بحيث يكون جزاؤك عملك. وقوله: (من الشرك والمعاصي)، هذا ما ذهب إليه جمهور أهل العلم، وهو الصواب: أن الكافر يُعاقَب على أصل الكفر، وعلى المعاصي أيضًا التي عملها، فالمشرك إذا زنى وسرق وشرب الخمر يعاقب على ذلك، فيعاقب على الأصل والفرع، وهذا هو الذي عليه جمهور أهل العلم، واستدلوا لذلك بقوله تعالى: ﴿يَتَسَاءَلُونَ (٤٠) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (٤١) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (٤٢) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (٤٣) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (٤٤) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (٤٥) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ﴾ [المدثر ٤٠ - ٤٦]. فالصلاة والصدقة ليست من الأصول، وإن كان الصواب: أن الصلاة من الأصول، وأن تاركها يكفر، لكن الصدقة ليست من الأصول، حتى الزكاة -على القول الصحيح- لا يكفر تاركها، ومع ذلك ذكروا أنها من أسباب دخولهم النار، ولولا أن لها تأثيرًا في الجزاء ما صارت من الأسباب، وهذا دليل على أنهم أيش؟ يعاقبون على فروع الإسلام كما يعاقبون على أصوله. وعلى هذا، فيعاقبون على معاصيهم التي دون الشرك، وهذا بلا شك كمال العدل؛ لأنه إذا كان المسلم يعاقب عليها فكيف بالكافر؟ هل تكون للمسلم نقمة، وتكون للكافر نعمة؟ لا، بل أبلغ من ذلك الكافر يعاقَب حتى على المباح للمؤمن، قال الله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ [الأعراف ٣٢]. يؤخذ من قوله: ﴿خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ أنها لغير المؤمنين ليست خالصة، وأنهم سيجازون عليها، وهذا أيضًا مقتضى النظر؛ إذ كيف يتنعّم الإنسان بنِعم الخالق وهو يعصي الخالق؟ لا بد أن يعاقبه؛ يقول: أنا أحسنت إليك، أطعمتك، سقيتك، كسوتك، أسكنتك، زوَّجتك، وما أشبه ذلك، فيعاقب على هذه النعمة؛ لأنها تحتاج إلى شكر. قال: (قل لهم ﴿إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ﴾ [النمل: ٩1]؛ أي: مكة ﴿الَّذِي﴾ ) ما قال: (التي) ليش؟ لأنها صفة لمذكر ﴿رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي﴾ ولهذا تُعرِب ﴿الَّذِي﴾ على أنها اسم موصول مبني على السكون في محل نصب، صفة لأي شيء لـ﴿رَبَّ﴾. (﴿رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا﴾؛ أي: جعلها حرمًا آمنًا) جعلها كونًا ولا شرعًا؟ * طالب: (...). * الشيخ: شرعًا، جعلها شرعًا (حرمًا آمنًا). وقوله: ﴿رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ﴾ إضافته الربوبية إليها تفيد الفضل، وأن الله سبحانه وتعالى قد اعتنى بها وشرَّفها. قال: (لا يسفك فيها دم إنسان)، والحديث: «لَا يُسْفَكُ بِهَا دَمٌ»[[متفق عليه؛ البخاري (١٠٤)، ومسلم (١٣٥٤ / ٤٤٦) من حديث أبي شريح العدوي.]]. وأيهم أعم دم إنسان أو دم؟ دم أعم؛ ولهذا لا يسفك بها دم إنسان، ولا دم صيد، وأما المواشي من الإبل والبقر والغنم وما أشبهها فإن هذا دلت السنة على جوازه. وقوله: (ولا يظلم فيها أحد) هذا ليس خاصًّا بمكة، حتى غير مكة لا يجوز أن يظلم فيه أحد، ولذلك ما جاء في الحديث: (لا يُظلم فيها أحد)، بل قال الرسول: «لَا يُسْفَكُ بِهَا دَمٌ»، فليس من خصائص مكة ألا يظلم أحد، صحيح أن الظلم في مكة أعظم من غيره: ﴿وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الحج ٢٥]، أما أن الظلم في غيره مباح فلا. كذلك: (لا يصاد صيدها). * طالب: (...). * الشيخ: لا، ما تدل عليه؛ لأن هنا: ﴿مَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ﴾ الباء تدل على أن الفعل مُضمَّن معنى العزيمة الصادقة. * طالب: (...). * الشيخ: ما تضاعف السيئة بمكان تضاعف بالكيفية فقط، لا الكمية، ما هو معناه أن السيئة تكون يجزى عليها سيئتان، وإنما المعنى أنها تكون أعظم، وأن تعرف الفرق بالكيفية، أن كيفية العقوبة تختلف، قد أضرب هذا الإنسان ضربة واحدة، وأضرب الآخر ضربة واحدة وتكون هذه الثانية مؤلمة والأولى غير مؤلمة. قال: (ولا يصاد صيدها) صح هذا ولَّا لا؟ صحيح، وغيرها يصاد. (ولا يختلى خلاها): صحيح، وغيرها يختلى. * طالب: المدينة؟ * الشيخ: المدينة يختلى خلاها إي نعم، يجوز، إنما يحرم الشيء اللي بدون حاجة في المدينة، وأما الذي بحاجة فيجوز، هذا الفرق بينها وبين مكة. (وذلك من النعم على قريش أهلها في رفع الله تعالى عن بلادهم العذاب والفتن الشائعة في جميع بلاد العرب). إذن قوله: ﴿الَّذِي حَرَّمَهَا﴾: أي: جعلها حرمًا، وجعلها حرامًا، وما قلناه أعم مما قال المؤلف؛ لأن المؤلف يقول: (جعلها حرمًا آمنًا)، ثم ذكر أشياء، فهي حرم، وحرام أيضًا، حرم وحرام. حرم بمعنى أنها محترمة، وحرام بمعنى أنها محرَّمة؛ لهذا من قصدها فإنه يشرع له -بإجماع أهل العلم- ألا يدخلها إلا مسلمًا، وفي وجوبه خلاف معروف. أيضًا من جملة احترامها أن المشركين لا يقربونها، أو لا؟ لا يقربون المسجد الحرام، فيكون الحرم كله محرمًا عليهم؛ لأن دخولهم الحرم من قربان المسجد الحرام، فلهذا كان ذلك احترامًا لهذه البلدة. ومع ذلك يقول الله عز وجل: (﴿وَلَهُ﴾ تعالى ﴿كُلُّ شَيْءٍ﴾ فهو ربه وخالقه ومالكه). الجملة الأخيرة فيها فائدة عظيمة؛ لأنه لما قال: ﴿رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ﴾، قد يتوهم متوهم أنه سبحانه وتعالى تختص ربوبيته بهذه البلدة، فأتى بعد ذلك بالتعميم؛ قال: ﴿وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ﴾. نظير هذا قوله تعالى: ﴿لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا﴾ [الحديد ١٠]، قال بعدها: ﴿وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى﴾، حتى لا يتوهّم متوهّم أن ذلك الفضل خاص بأولئك، فبين أن الجزاء للجميع، وهو الجنة، وإن كانوا لا يستوون. هنا: ﴿رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ﴾ ﴿وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ﴾: ربوبية الله عامة لكل شيء، لكن ربوبيته لهذه البلدة أخص من ربوبيته العامة. * طالب: (...). * الشيخ: لا، ما هو بذكورية؛ يعني قصدنا بالذكورية لفظًا، إنما معناه لا، ما يجوز أن نقول: مذكر، نقول: اللفظ مذكر، إنما الله عز وجل ما يجوز وصفه لا بهذا ولا بهذا. قال: ﴿وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾. ﴿أُمِرْتُ﴾ من أمره؟ ﴿إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ﴾ ﴿وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾. أليست العبادة هي الإسلام؟ الجواب: بلى، العبادة هي الإسلام. لكن هناك قال: ﴿أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا﴾ والعبادة هي التذلل له بالطاعة. ثم قال: ﴿وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ أي: أن أُحقّق هذه العبادة بالاستسلام التام لأوامر الله تبارك وتعالى. فالإنسان قد يكون عابدًا؛ يعني في الأصل، لكن الانقياد التام بجميع مشروعات الإسلام يستفاد من قوله: ﴿وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ أي: من المنقادين لله سبحانه وتعالى انقيادًا تامًّا، لا معارضة عندهم ولا استكبار. وفي قوله: ﴿أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ دليل على أنه يعني أن هناك مسلمين؛ اليهود والنصارى مسلمون؟ * طلبة: لا. * الشيخ: حين كانت شرائعهم قائمة، فهم مسلمون، ولَّا لا؟ لكن أما بعد أن نُسخت، فإنهم إذا لم يلتزموا بالشريعة الناسخة لم يكونوا مسلمين، فالإسلام هو الدين عند الله في كل زمان ومكان، وبعد بعثة الرسول عليه الصلاة والسلام لا إسلام إلا باتباع شريعته، وإلَّا فأصل الإسلام -كما تعرفون- من الاستسلام وهو الانقياد، وهذا يشمل كل انقياد لله سبحانه وتعالى سواء في عصر هذه الأمة أو قبلها، نوح عليه الصلاة والسلام يقول: ﴿وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [النمل 91]، مثلما قيل للرسول عليه الصلاة والسلام، وقال عن يعقوب: وقال لبنيه: ﴿يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة ١٣٢]، وقالت بلقيس: ﴿إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [النمل ٤٤]. (﴿وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩١) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ﴾ عليكم تلاوة الدعوة إلى الإيمان ﴿فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ﴾؛ أي: لأجلها؛ فإن ثواب اهتدائه له، ﴿وَمَنْ ضَلَّ﴾ عن الإيمان وأخطأ طريق الهدى ﴿فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ﴾ ). قوله: ﴿وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ﴾ التلاوة تنقسم إلى قسمين: تلاوة لفظية، وتلاوة معنوية. فالتلاوة الأولى: قراءة القرآن، والتلاوة الثانية: العمل بما جاء به القرآن، مأخوذة من تلا الشيء يتلوه إذا تبعه وصار تلوًا له. فقول الرسول: ﴿وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ﴾ يشمل هذا وهذا، أن أتلوه قراءة، وأن أتلوه اتباعًا، وهو مأمور بذلك؛ يعني فكأنه يقول: سأتلو القرآن عليكم تلاوة قراءة، وأيضًا: سأتلو القرآن تلاوة اتباع، ولا أبالي بمخالفتكم وإعراضكم، بل وهذا ليس للرسول عليه الصلاة والسلام فحسب، بل لكل من اتبع الرسول، يجب عليه أن يتلو القرآن تلاوة لفظية، وقد عُلم أن قراءة الفاتحة ركن من أركان الصلاة، التي هي من أركان الإسلام. ثانيًا: يجب على المسلم أن يتلو القرآن تلاوة اتباعية، ولا يُبالي بمن خالفه، ولو أننا راعينا شعور الناس، وراعينا عقول الناس، بقي الدين ليس دينًا، بل صار الدين عادة إن تقبّله الناس حسب عاداتهم صار دينًا، وإن لم يقبلوه لم يكن دينًا، والواجب أن يكون الدين بعيدًا عن عادات الناس؛ بمعنى أن يكون الحكم هو القرآن والسنة، لا ما يعتاده الناس فيما يفعلونه من عبادات أو غيرها، خلافًا لبعض الناس الآن الذين يريدون أن يخادعوا الناس فيما هم عليه ولو كان باطلًا، وهذا ليس بصحيح؛ لأننا لو مشينا على هذا الأمر، أو على هذا المنهاج، ما بقي حياة للإسلام؛ فالإسلام يبقى ميتًا، ويموت منه جزء في هذا العصر، ثم يأتي عصر آخر، فيموت منه جزء آخر، وهكذا حتى ينقضي، ولكننا إذا كنا نعمل بالإسلام ونجدّد حسب ما يقتضيه الكتاب والسنة، لا حسب آرائنا، صار ذلك هو القيادة. وأما أن نسكت وندس رؤوسنا في التراب، ونقول: هذه الناس ما يمكن نخالفهم، أو نتهيَّب قول بعض الناس: طلعتم علينا بدين جديد، هذا الدين ما عرفناه من قبل، وما أشبه ذلك، فإن هذا لا ينبغي أن يمنع الإنسان عن قول الحق. ولهذا قوله: ﴿وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ﴾ تلاوة لفظٍ تقوم به الحجة عليكم، وتلاوة اتباعٍ لا أبالي بمعارضتكم ومخالفتكم، وهذا هو الواجب على كل مسلم في كل مكان. لكن مراعاة الناس؛ بمعنى تدريج الناس حتى يسلكوا الصراط الصحيح، هل يجوز ولَّا لا؟ * طلبة: يجوز. * الشيخ: إي نعم، مراعاة الحال بالتدريج لا بأس به، ولهذا الذي نرى أن الدعاء إلى الله سبحانه وتعالى بالحكمة يتناول هذا الأمر، وهي نقل الناس إلى الإسلام مرحلة مرحلة. وإن كان بعض الناس يقولون: إن هذا في أول الدعوة، صحيح أن الإسلام تطور، جاءت الصلاة، ثم الزكاة، ثم الصيام، ثم الحج، حُرّم الخمر على عدة وجوه، الصيام وجب على عدة وجوه. لكن نقول: كما أن هذا في أصل الدعوة، أو في أول الدعوة، هو أيضًا في آخرها، بعْث معاذ متى كان؟ في سنة عشر من الهجرة، ومع ذلك يقول: «ادْعُهُمْ أَوَّلًا، ثُمَّ إِلَى الصَّلَاةِ، ثُمَّ إِلَى الزَّكَاةِ»[[متفق عليه؛ البخاري (١٣٩٥)، ومسلم (١٩ / ٢٩) من حديث عبد الله بن عباس.]]، فالرسول رتّب هذا، ما قال: ادعهم إليها جميعًا. فمثلًا لو رأينا إنسانًا مُنهمكًا على فعل معصية، وعرفنا أننا لو قلنا له: أقلِع عنها نهائيًّا أنه ما يتمكن أو أن ينفر، فلا بأس أن ننقله عنها شيئًا فشيئًا بالتدريج؛ لأن هذا كمعالجة المرض، المرض ما يمكن أنك تعالجه مرة واحدة، لا بد من التنقل من شيء إلى شيء حتى يتم استئصال هذا المرض. فهذه المسألة تعود إلى حال الناس، وليس معناها الاستسلام لحال الناس؛ لأن معنى الاستسلام الذي أنكرته قبل هو أن الإنسان يَدَع الناس ولا يعارضهم في الحق، أما هذا ما يَدَعهم، لكنه يُنقّلهم من مرحلة إلى مرحلة حتى يستقيموا؛ فمثلًا: عندما نريد أن نعمل عملًا في الصلاة ليس من عادة الناس، فإن من الحكمة أن نمهّد له بالقول أولًا، ثم إذا علم به الناس واستقر في نفوسهم نقلناهم بعد ذلك إلى الفعل، وهكذا أيضًا غير هذه المسألة. المهم: أن تلاوة القرآن على الناس المعرضين مما أُمر به الرسول عليه الصلاة والسلام، وأُمرت به الأمة كلها أيضًا، ويكون التلاوة هنا لفظًا واتباعًا، ولكن الشأن كله في ألَّا نتخاذل أمام الأمر الواقع، بل يجب علينا أن نكون على وجه أقوى وأشد. * طالب: نقل الإنسان من معصية إلى معصية أخرى. * الشيخ: إلى معصية أخرى؟ * الطالب: أخف منها. * الشيخ: لا، ما يجوز. * الطالب: تدريج.. * الشيخ: كيف؟ مثال ذلك؟ إذا كانت من الجنس ربما نقول، مثلًا لو فرضنا أن إنسانًا مُبتلى بالزنا -والعياذ بالله- وقلنا له: يا أخي، ما لك! الشهوة التي عندك هذه تستطيع أن تعمل، أن تخفّفها بالاستمناء مثلًا، هذا من الجنس ما فيه بأس، لكن واحد يسرق نقول: يا أخي، اترك السرقة، اشرب الخمر أزين لك! هذا ما يمكن. * الطالب: أقصد من جنس الأذى. * الشيخ: إي، اللي من الجنس معناه التخفيف؛ لأنك لو نقلته إلى شيء آخر، فاتجاهه الأول ما يزول في الغالب. * طالب: (...). * الشيخ: والدنيا (...). * الطالب: (...). * الشيخ: إي نعم، المعنى، إنه حتى «عَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكَ»[[أخرجه أبو داود (٤٣٤١)، والترمذي (٣٠٥٨) واللفظ له، وابن ماجه (٤٠١٤) من حديث أبي ثعلبة الخشني.]]، ما هي في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأنه من خاصتك، لكن معنى أنك دَعهم؛ يعني لا تهتم بهم بحيث يشغلونك عما يجب؛ لأن بعض الناس يهتم بهذا الأمر حتى إنه ينشغل بالناس عن نفسه، تجده حتى يصلي، وهو يشعر بأنه يأمر فلانًا، ويتصور أنه مثلًا كأنه يقوله: يلا صلِّ، فهذا هو الذي يُنهى عنه. * طالب: (...). * الشيخ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾ [المائدة ١٠٥]؛ لأن بعض الناس يفهم أن الإنسان إذا أصلح نفسه ما عليه من إصلاح غيره، ولكن نقول: إن إصلاح غيرك منُوط بك من إصلاح نفسك، أنت مأمور بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن إذا ضلوا فإن ضلالهم لا يضرك، بعد أن تقوم بما يجب عليك من الدعوة والأمر. * طالب: (...)؟ * الشيخ: صحيح، (...) يقول؟ لكن التدرج هذا طريق، وليس معنى ذلك أني إذا نقلته من هذا إلى أخف أني أبيح له الأخف، لكنه طريق تدرّج؛ فالتدرج هنا ليس معناه ثبوت الحكم على الدرجة التي نزلناه إليها، ولكن معناه أننا ننقله من الدرجة العظمى إلى الأخف، ثم إلى تركها بالكلية، فقوله عليه الصلاة والسلام: «اجْتَنِبوه»[[متفق عليه؛ البخاري (٧٢٨٨)، ومسلم (١٣٣٧ / ١٣٠) من حديث أبي هريرة. ]]، لكن ما هو الطريق لاجتنابه؟ هو هذا الذي نقول، الطريق لاجتنابه هو هذا الذي نقول، ولذلك الآن عندما تنهى إنسان عن منكر (...). الذي قاله النبي عليه الصلاة والسلام فيه وهو مكة؛ لقوله: ﴿هَذِهِ الْبَلْدَةِ﴾ والإشارة هنا للقريب، ثم إن قوله: ﴿الَّذِي حَرَّمَهَا﴾ فيه إظهار لفضل الله تبارك وتعالى على ساكني هذه القرية حيث جعل الله هذه القرية حرامًا. قال: ﴿وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ أي: المنقادين لحكم الله، ولا منافاة بينه وبين العبادة فيما سبق ﴿أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ﴾؛ لأنه الأصل العبادة شيء، والإسلام في جميع الشريعة شيء آخر. ﴿وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ﴾: تلاوة لفظية تقوم بها الحجة عليكم، وتلاوة عملية تطبيقية يتبين بها أنني لست بمبالٍ بمن يخالفني في هذا الأمر. وقوله: ﴿الْقُرْآنَ﴾ هو هذا الذي نزل عليه ﷺ، وبعد تلاوة القرآن. (﴿فَمَنِ اهْتَدَى﴾ له) كذا عندكم؟ فمن اهتدى له ولَّا به؟ * طلبة: له. * الشيخ: له؟ (﴿فَمَنِ اهْتَدَى﴾ له). ولكن على تفسير المؤلف يصير ﴿اهْتَدَى﴾ بمعنى (انقاد)؛ لأن ﴿اهْتَدَى﴾ ما تتعدى باللام، تتعدى بالباء (اهتدى به)، لكنه ضمّنه بمعنى انقاد، وتضمينه معنى الانقياد ليشمل هداية العلم، وهداية التوفيق، الذي يهتدي وينقاد له. (﴿فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ﴾؛ أي: لأجلها، فإن ثواب اهتدائه له) صحيح، من اهتدى بهذا القرآن وانقاد له فالمصلحة لمن؟ ليست لله عز وجل؛ لأن الله غني عنه، وليست لفلان ولا لفلان؛ لأن كل نفس ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ [البقرة ٢٨٦]. إذن فهو لنفسه، وإن كان ينتفع الداعي بذلك أيضًا انتفاع الدال؛ فإن الدال على الخير كفاعله، لكن أصل الثواب لمن؟ للفاعل، أصل الثواب للفاعل، فلا يقال مثلًا: إن الرسول ﷺ يدعو الناس ليهتدوا فيكون له أجر، بل قصده عليه الصلاة والسلام الأول هو نفع الخلق، ولهذا قال: ﴿فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ﴾، وإن كان النبي عليه الصلاة والسلام ينتفع باهتدائه فهو تبع. (﴿فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ﴾ عن الإيمان وأخطأ طريق الهدى ﴿فَقُلْ﴾ له ﴿إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ﴾ ). المؤلف: قدّر له بمن اهتدى، وقدّر هنا: (﴿فَقُلْ﴾ له)، والسبب أنه يُقدّر هنا لأجل أن يرتبط الجواب بالشرط؛ لأن قوله: ﴿وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى﴾ اهتدى لأي شيء؟ بالقرآن الذي أتلوه. وهنا ﴿مَنْ ضَلَّ﴾: ﴿مَنْ﴾ شرطية، ﴿فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ﴾ ما يمكن يكون قل: ﴿إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ﴾، جوابًا لقوله: ﴿وَمَنْ ضَلَّ﴾ إلا إذا كان فيه ضمير يعود عليه، ولهذا قدّره بقوله: (﴿فَقُلْ﴾ له ﴿إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ﴾ ). فإذا قال قائل: ما هي الحكمة في حذفه؟ قلنا: الحكمة في حذفه العموم؛ يعني ﴿فَقُلْ﴾ له ولغيره: ﴿إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ﴾. يعني معناه أن هذه الجملة التي هي وصف ثابت للرسول ﷺ ليست خاصة بمن يضل، بل من يضل ومن لا يضل، يُقال له: إن الرسول عليه الصلاة والسلام: ﴿مِنَ الْمُنْذِرِينَ﴾، ومعنى المنذر: المخوِّف. قال: (المخوّفين فليس عليَّ إلا التبليغ). وقوله: ﴿إِنَّمَا أَنَا﴾، ﴿إِنَّمَا﴾: أداة حصر. فإذا قال قائل: هذا يفيد اختصاص الرسول ﷺ بالإنذار، مع أن الله يقول: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ﴾ [البقرة ١١٩]. قلنا: لكن لكل سياق ما يناسبه من اللفظ، فهنا المخاطب مَن؟ * طالب: المنكرون. * الشيخ: قوم منكرون، فكان ذكر جانب التخويف في حقهم أولى من الجمع بينه وبين التبشير. قال: (وهذا قبل الأمر بالقتال)، والمؤلف -رحمه الله- يسلك هذا المسلك كثيرًا في مثل هذه الآية، ويقول: إنه قبل الأمر بالقتال، وهذا يتضمن أن تكون الآية منسوخة، لا يعمل بها، ولكن هذا قول في غاية الضعف، والصواب: أن هذا يقال حتى بعد الأمر بالقتال. فالنبي عليه الصلاة والسلام أيش عليه؟ عليه الإنذار والتبليغ، وليس عليه الهداية، والرسول عليه الصلاة والسلام يقرأ في كل جمعة غالبًا أو كثيرًا يقرأ: ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (٢١) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ﴾ [الغاشية ٢١، ٢٢] ﴿إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (٢٥) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ﴾ [الغاشية ٢٥، ٢٦]، وكيف تكون مثل هذه الآيات التي تكرر على المسلمين في جمعاتهم تكون منسوخة؟ ثم إن النسخ ليس بالأمر الهين دعواه؛ لأنه ويش معناه؟ معناه إبطال دلالة الآية أو الحديث، وهذا يتضمن الاعتداء على الله سبحانه وتعالى وعلى رسوله، ولهذا يجب على الإنسان أن يحترز غاية الاحتراز من دعوى النسخ، وإذا عجز عن الجمع فيقول: ﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا﴾ [البقرة ٣٢]، لكن المؤلف -رحمه الله- وغيره كثير من أهل العلم إذا عجزوا عن الجمع قالوا: هذا منسوخ. وهذا مسلك ليس بجيد، وليس بسديد، وليس بصواب، بل هو خطير، وقد ذكر ابن القيم -رحمه الله- أن المنسوخ في الشريعة لا يتجاوز عشرة أحكام. ولو سلكنا ما سلكه المؤلف لكان المنسوخ عشرات الأحكام، أو ربما يبلغ المئة، وفي هذا خطأ عظيم. فالصواب أن هذا القول: ﴿فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ﴾ يقال: حتى الآن، وحتى بعد الأمر بالقتال فهو منذر، لكن هذا الإنذار لا يقتضي ألا يقوم بما يجب عليه من الجهاد، يقول: أنا منذر فليس عليَّ هداكم، وهداكم على الله سبحانه وتعالى، وأما مسألة الأمر بالقتال، فهذا شيء ممكن حتى مع هذا القول. فالصواب في هذه المسألة: أن الآية محكمة، هذه وغيرها محكمة، وغيرها من أمثالها محكم، ولا يجوز دعوى النسخ فيه؛ لأن أهم شروط النسخ، أو من أهمه: تعذّر إمكان الجمع، وإذا أمكن الجمع فلا نسخ؛ لأن النسخ -كما سمعتم- هو عبارة عن إبطال مدلول الآية أو الحديث، وهذا أمر ليس بالهين؛ يجي حديث وتمسح عليه، فمعنى المسح ضربنا عليه. * طالب: (...). * الشيخ: بلى، من الشروط. * الطالب: هل يُشترط أن فيه قرينة تدل على النسخ (...)؟ * الشيخ: لا ما هو بشرط هذا، المهم أنه إذا تعذر الجمع، وعلم التاريخ فالمتأخر ناسخ. يقول: ﴿إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ﴾ هي بالكسر ولا بالفتح؟ * طالب: بالكسر، منذِرِين. * الشيخ: لأنها اسم فاعل، فهو (منذِر)، والناس (منذَرون). ﴿وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ [النمل ٩٣] معطوف على قوله: ﴿إِنَّمَا أُمِرْتُ﴾؛ لأنه على تفسير ﴿قُلِ﴾؛ يعني ﴿وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾، وهذه الجملة للثناء على الله تبارك وتعالى، وقد أثنى الله على نفسه في ابتداء الخلق، وفي انتهائه، وفي ابتداء إنزال القرآن، وفي مقام التعظيم للرسول عليه الصلاة والسلام، في إنزال القرآن، وما أشبهه. فهنا قال: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾، (...) عليه؟ على كمال صفاته وبيان آياته. ومنها ﴿سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا﴾. ﴿سَيُرِيكُمْ﴾ والإراءة أبلغ من البيان؛ لأنه قد يكون الشيء بينًا، وتعمى عنه الأبصار، ولكن الإراءة أبلغ؛ إذ كل مرئي فهو بيِّن، وليس كل بيّن مرئيًّا. و(السين) في قوله: ﴿سَيُرِيكُمْ﴾: تفيد فائدتين؛ الفائدة الأولى: قرب هذا الأمر، والفائدة الثانية: تحقّقه؛ فهي تفيد التحقيق والتقريب. ﴿سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ﴾: والإراءة هنا بصرية، وهي لما كانت معداة بالهمزة تنصب مفعولين؛ فالمفعول الأول الكاف، والمفعول الثاني ﴿آيَاتِهِ﴾. وقوله: ﴿سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ﴾ هل المراد بآيات الله هنا الآيات الدالة على صدق ما أخبر به في القرآن، فتكون الآيات الكونية أو هي أشمل من ذلك؟ الظاهر أنها أشمل من ذلك؛ أنها تشمل الآيات الدالة على صدق ما وعد به رسوله وتوعّد به أولئك، وكذلك أيضًا الآيات الشرعية الدالة على كمال شريعته. وقوله: ﴿فَتَعْرِفُونَهَا﴾ أيضًا أبلغ من الإراءة؛ لأنني قد أُري الإنسان شيئًا ولكن لا يعرفه، وهنا قال: ﴿فَتَعْرِفُونَهَا﴾. فعندنا بيان وإراءة ومعرفة؛ أعلاها المعرفة، ثم الإراءة، ثم البيان. قوله: ﴿فَتَعْرِفُونَهَا﴾ نتيجة هذا أن تقوم عليكم الحجة؛ لأنهم إذا أُروا الآيات حتى عرفوها قامت عليهم الحجة. قال المؤلف رحمه الله: (فأراهم الله يوم بدر القتل، والسبي، وضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم، وعجَّلهم الله إلى النار) هذه من جملة الآيات التي أراهم إياها، وإلا فقد أراهم الله تعالى انشقاق القمر قبل بدر، فإنهم طلبوا آية من الرسول ﷺ «فأشار إلى القمر فانفلق فلقتين» حتى شاهدوه بأعينهم، فقالوا: سحرنا محمد، فاسألوا الركبان الذين يقدمون إلى مكة، هل شاهدوا ذلك أم لا؟ فسألوهم، فأخبروهم بأنهم شاهدوا ذلك[[أخرجه الترمذي (٣٢٨٩) من حديث جبير بن مطعم، والحديث أصله متفق عليه؛ البخاري (٣٦٣٦)، ومسلم (٢٨٠٠ / ٤٣) من حديث عبد الله بن مسعود. ]]. وقد أنكر قوم هذه الآية؛ انشقاق القمر، ومنهم محمد رشيد رضا، وأظن شيخه كذلك محمد عبده، وهذا خطأ فاضح والعياذ بالله؛ لأن الأحاديث فيه متواترة، وإشارة القرآن إليه ظاهرة: ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ﴾ [القمر ١]. هم حرّفوا القرآن فقالوا: انشق القمر أي: بان ضياء الحق والنور بما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام، وهذا بلا شك تحريف للقرآن، وتكذيب بما تواترت به السنة، الصواب الذي لا شك فيه، وهو من معتقدات أهل السنة والجماعة أن القمر انشق. وقولهم: إنه لو انشق لكان أمرًا عالميًّا، وكان له ذِكْر في التاريخ؛ لأنه أمر عالمي حيث إن القمر آية أفقية كل يشاهدها، وحيث إن هذه الحال للقمر حال غريبة خارجة عن العادة، فالهِمم تتوافر على أي شيء؟ * طالب: على نقله. * الشيخ: على نقله، ولا بد أن تُذكر في التواريخ، في تاريخ الهند، والروم، والفرس، وما أشبه ذلك. فنقول: تبًّا لكم أن تجعلوا ما أخبر الله به موضعًا للشك؛ لأن هؤلاء لم يذكروه، بل لو ذكروا أنه لم يقع لقلنا: كذبتم وصدق الله. وأيضًا الجواب على هذا أن نقول: لا يلزم إذا انشق القمر حتى رآه أهل مكة ومن بقربهم أن يراه الناس جميعًا؛ لأن نصف الكرة الأرضية لا يمكن أن يروه، لماذا؟ لأنه غائب عنهم، هذه واحدة. القرى المقابلة التي هي سطح الأرض لأهل مكة، ومن حولهم قد يكون أتاهم في منتصف الليل أو في آخر الليل، أو عندهم غيوم مانعة أو ما أشبه ذلك، فالموانع كثيرة، موانع الرؤية له كثيرة، ولكن ما يهمنا أن يروه أو لا يروه، أو يدوّنوه في تواريخهم أو لا يدوّنوه. وتكذيب القرآن بمثل هذه الأمور أو السنة المتواترة بمثل هذه الأمور هذا في الحقيقة إيغال في العقل، أو في العقليات على ما يقولون، فالإنسان ما ينبغي أن يكون عقلانيًّا محضًا، ولا ينبغي أن يكون ظاهريًّا محضًا، بل يجب أن يكون عنده عقل يزن به الأمور، وإذا بانت الأمور الشرعية فإنه لا مجال للعقل. إذن أراهم الله تعالى آيات منها: انشقاق القمر، ومنها أيضًا: أن النبي عليه الصلاة والسلام شهد الناس كلهم أن الحجر يسلم عليه، والشجر يسلم عليه، حتى إنه يقول: «كَانَ حَجَرٌ يُسَلِّمُ عَلَيَّ فِي مَكَّةَ أَعْرِفُهُ»[[أخرجه مسلم (٢٢٧٧ / ٢) من حديث جابر بن سمرة.]]. وكذلك أيضًا: من الآيات ما حصل يوم بدر، حصل من الآيات قتل وسبي، وقتل لمن؟ * طالب: لرؤساء الكفار. * الشيخ: إي، لرؤساء الكفار، ما هو لأطرافهم، لصناديد قريش، وقتل صناديد أعداء النبي عليه الصلاة والسلام آية له؛ لأن ذلك نصر له، ولو كان ما قاله باطلًا، ما كان الله تبارك وتعالى لينصره أبدًا؛ لأن الله ما ينصر الباطل على الحق نصرًا مستمرًّا، ولكن قد يكون للباطل صولة ليمحّص الله المؤمنين، فينتصر أهل الباطل لكنه انتصار مؤقت. كذلك أيضًا السبي؛ سُبي منهم أحد ولَّا لا؟ نعم، سُبي سبعون رجلًا منهم، وذُهب بهم إلى المدينة، وهم أيضًا المسبيّون من أشرافهم. المهم أن هذه الواقعة وقعة بدر أثخنتهم تمامًا، وأذلتهم إذلالًا بالغًا، ولهذا سماه الله تعالى: ﴿يَوْمَ الْفُرْقَانِ﴾ [الأنفال ٤١]؛ لأن الله فرَّق به بين الحق والباطل، وتعلمون أن الناس ينتظرون ماذا يحصل، العرب لما رأوا أن النبي عليه الصلاة والسلام وهم قلة ثلاث مئة وبضعة عشر رجلًا غلبوا حوالي ألف من قريش كاملي العِدة والعدد كثير، عرفوا أن أمر الرسول ﷺ سيظهر. كذلك أيضًا: ﴿الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ﴾ [الأنفال ٥٠]، هل هذا ورد في بدر ولَّا ورد في الكفار مطلقًا؟ * طالب: جميعًا (...). * الشيخ: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾. * الطالب: (...). * الشيخ: طيب، لكن في بدر: هل ذُكر أن الملائكة تضرب وجوههم وأدبارهم؟ * الطالب: (...). * الشيخ: ﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ﴾ [الأنفال ١٢]، ما فيه (...) الوجوه والأدبار، فيه أنهم يُضرب فوق الأعناق؛ يعني تُضرب أعناقهم، ويُضرب منهم كل بنان؛ يعني الأيدي، فهذا هو الظاهر. وأما ما ذهب إليه المؤلف فلا أعرف في ذلك سُنّة أيضًا بيَّنت هذا، وإن كان المؤلف له وجهة نظر في أن الملائكة تضرب وجوههم إذا أقبلوا على المسلمين، وتضرب أدبارهم إذا أدبروا عن المسلمين، لكن ما دام أن هذا لم يرد فالأولى الاقتصار على ما ورد، وهو أن الله قال لهم: ﴿اضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ﴾ ما قال: (اضربوا وجوههم وأدبارهم). إلا أن يقول قائل: إن قوله: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ﴾ يشمل هؤلاء فإنهم من الكفار، فهم عند الوفاة يضربون وجوههم وأدبارهم، فإن أراد المؤلف بهذا ما تصير إليه عموم الآية فهو مفروض. قال: (وعجَّلهم الله إلى النار)، كيف عجّلهم إلى النار؟ * طالب: عجلهم إلى النار؛ لأن عذاب القبر (...)، حين يموت الإنسان فهو في عذاب القبر. * الشيخ: يعني معناه عجّلهم الله قبل موت الرسول عليه الصلاة والسلام، حصل لهم هذا الأمر وتعجّلوا إلى النار. قال: (﴿وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾ بالياء والتاء)؛ أي: ﴿عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾، و﴿عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ قراءتان سبعيتان. (وإنما يمهلهم بوقتهم). قوله: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ﴾ هذه الجملة المقصود بها التحذير والتسلية؛ تحذير هؤلاء المكذبين، وتسلية الرسول ﷺ. وفيها: أن من صفات الله أنها صفة من الصفات السلبية، وقد مر علينا أن الصفات السلبية تتضمن أمرين: نفي الصفة المذكورة، وإثبات كمال ضدها؛ فالله تعالى لا يغفل، لأيش؟ لكمال علمه ومراقبته؛ كامل العلم وكامل المراقبة: ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا﴾ [الأحزاب ٥٢]. انتهت السورة ولم نأخذ فوائد الدرس الماضي، نأخذها الآن: أولًا: قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ﴾. * يستفاد منها: أن المدار في العقاب على السيئات هو المجيء بها يوم القيامة، لا مجرد العمل؛ قد يعمل الإنسان السيئة، وتُكفّر أو يتوب منها، ولكن العبرة بالمجيء. * الفائدة الثانية: إثبات عذاب النار؛ لقوله: ﴿فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ﴾، والعياذ بالله. * الفائدة الثالثة: بيان شدة العقوبة -والعياذ بالله- بهؤلاء، حيث يكبون على وجوههم في النار، والوجه أشرف الأعضاء، وإهانته أعظم من إهانة غيره. لو أن أحدًا صفعك على خدك أو ضربك في رجلك، أيهم أشد إهانة؟ الوجه أشرف، ولهذا كان إكبابهم على وجوههم في النار -والعياذ بالله- أشد وأبلغ في الإهانة وفي العذاب. * الفائدة الرابعة: كمال عدل الله عز وجل؛ لقوله: ﴿هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾، يعني ما ظلمناكم أنتم الذين ظلمتم أنفسكم فعملتم ما استحققتم به هذا العذاب. * الفائدة الخامسة: أن عذاب أهل النار -والعياذ بالله- عذاب نفسي وبدني؛ بدني حيث تُكبّ وجوههم في النار، نفسي حيث يُوبّخون ويقرّعون ﴿هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾، ما ظنك بمن يقال له مثل هذا؟ تجده مثلًا يمتلئ خجلًا، ويمتلئ أيضًا ندمًا؛ يقول: ليتني ما عملت، ليتَ وليتَ، ولكن ﴿أَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ﴾ [سبأ ٥٢]. فإذن يجمع لهم -والعياذ بالله- بين العذاب البدني والعذاب النفسي، وقد ذكر الله تعالى في سورة (المؤمنون) أنهم يقولون: ﴿رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ﴾ [المؤمنون ١٠٧]، وهم لو أخرجوا منها لعادوا لظلمهم ما فيها إشكال، كما قال الله تعالى: ﴿وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ﴾ [الأنعام ٢٨]، لكن يقولون هذا من شدة ما يجدون. فكان الجواب -والعياذ بالله- أعظم جواب في الإهانة: ﴿اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ﴾ [المؤمنون ١٠٨]، والعياذ بالله هذا جواب في غاية الإهانة والصغار والذل، وقد ذُكِر أن الله تعالى لا يُكلمهم إلا بعد مدة طويلة، يكلمهم بهذا الكلام الذي لا خير فيه لهم، بل هو تيئيس من كل خير، ومن كل فرج، نسأل الله العافية. ﴿اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ﴾ يعني: اندحروا، وذلوا، وتلحقكم المهانة والإهانة، ومع ذلك لا تكلمون؛ لستم أهلًا لأن تكلمون، نسأل الله العافية، فإذن يُجمع لأهل النار بين العذابين البدني والنفسي. ﴿هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾. قال: ﴿إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [النمل ٩١]. * في هذه الآية من الفوائد؛ أولًا: وجوب إعلان الرسول عليه الصلاة والسلام بما ذُكر؛ لأنه على تقدير: قل ﴿إِنَّمَا أُمِرْتُ﴾، وهو واجب عليه أن يُعلن ذلك لأجل أن يكون قدوة فيه. * ثانيًا: قوله: ﴿أَنْ أَعْبُدَ﴾ وجوب العبادة على النبي عليه الصلاة والسلام. * طالب: على الجميع. * الشيخ: لا، على النبي ﷺ ﴿أَنْ أَعْبُدَ﴾، ما يُقال: إن التكاليف تسقط عن الأنبياء والأولياء، بل تجب على النبي ﷺ كما تجب على غيره، ويجب عليه هو عليه الصلاة والسلام أن يشهد أن لا إله إلا الله وأنه رسول الله، هذا مقتضى الإسلام. * الثالث: بهذا نعرف بطلان ما ادَّعاه أهل من يُزعم أنهم أولياء، أو أصحاب من يُزعم أنهم أولياء؛ حيث قالوا: إن الولي يصل إلى درجة يسقط بها عنه التكليف. وهذا موجود عند الصوفية وغيرهم؛ يقولون: الإنسان هذه العبادات التي نُكلَّف بها وسائل إلى غاية، الغاية اليقين ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ [الحجر ٩٩]، فإذا وصل الإنسان إلى اليقين سقطت عنه العبادة، وصار لا يجب عليه صلاة، ولا زكاة، ولا صوم، ولا حج، ولا يحرم عليه نكاح أحد، يتزوج من شاء من ذكور وإناث -والعياذ بالله- ومن عدد صغير وكبير، حتى إنا نسمع عنهم الآن في إفريقيا، الواحد منهم له خمسون امرأة، عدّوا النبي عليه الصلاة والسلام، خمسون امرأة، وأيضًا ما يتزوج بعقد، إذا اشتهى امرأة أرسل إلى أبيها وقال: خلِّ بنتك زوجة لي، أريدها زوجة لي، ولا أحد يتمكن من أن يعارض؛ لأنهم يزعمون أنهم وصلوا إلى غاية لا يحتاجون معها إلى تكليف. وإذا كان الرسول ﷺ أُمِر أن يعبد الله، فغيره من باب أولى. * طالب: (...). * الشيخ: بلى، هم (...) الكفار والعياذ بالله. * طالب: يجعلون الولي أعلى من النبي؟ * الشيخ: هذا ما هو بصحيح لو زعموه، هذا أيضًا من الكذب. * أيضًا من فوائد هذه الآية: أنه فضائل مكة، فضيلة مكة من وجهين: من إضافة الربوبية إليها: ﴿رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ﴾، ومن كونه تعالى حرَّمها: ﴿الَّذِي حَرَّمَهَا﴾؛ ففيه فضيلة مكة على سائر البلاد. ولها فضائل كثيرة لو لم يكن منها إلا أن خصها من أركان الإسلام، خصها للعبادة من أركان الإسلام؛ الحج ركن من أركان الإسلام، ما فيه أي بلد في العالم يكون القصد إليه فرضًا أبدًا، ولا سنة إلا المدينة، أيش بعد؟ والمسجد الأقصى. * الفائدة الرابعة: أن الذي حرم مكة هو الله؛ لقوله: ﴿الَّذِي حَرَّمَهَا﴾. فإذا قال قائل: ألا يعارض ذلك ما ثبت عن رسول الله ﷺ من قوله: «إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ»[[متفق عليه؛ البخاري (٢١٢٩)، ومسلم (١٣٦٠ / ٤٥٤) من حديث عبد الله بن زيد بن عاصم.]]؟ قلنا: لا؛ لأن معنى قوله: «حَرَّمَ مَكَّةَ» أي: أظهر تحريمها وأبانه، وإلا فالذي حَرَّمها مَنْ؟ الله. ولهذا نقول مثلًا: إن الرسول ﷺ حرم الميتة، والخمر، والخنزير؛ يعني أظهر تحريمه وأبانه، وإن كان الذي حرمه هو الله. فالمهم أنه هنا لا منافاة بين قوله: ﴿الَّذِي حَرَّمَهَا﴾ وقول الرسول ﷺ: «إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ»، والجمع بسيط وواضح. * طالب: والمدينة حرَّمَها الله؟ * الشيخ: إي نعم، حرَّمَها الله. * الفائدة الخامسة: أن كل شيء فهو ملك لله؛ مكة وغيرها؛ لقوله: ﴿وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ﴾. * الفائدة السادسة: الرد على المعتزلة القدرية الذين يقولون: إن الإنسان مستقل بعمله؛ فإنه على قولهم يخرج بعض الأشياء عن ملك الله، والله تعالى يقول: ﴿وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ﴾. * الفائدة السابعة: بلاغة القرآن؛ لأنه لما قال: ﴿رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ﴾، فإن أحدًا يفهم أن ربوبية الله تعالى خاصة في هذا المكان، فاحترازًا من هذا الفهم الخاطئ أعقبه بقوله: ﴿وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ﴾، وهذا من بلاغة القرآن. هل تدخل مكة في قوله: ﴿وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ﴾؟ * طلبة: نعم. * الشيخ: ولَّا ما تدخل؟ هذه المسألة مُختلف فيها عند الأصوليين؛ يعني إذا ذُكر الخاص مع العام، فهل التنصيص عليه مُخرج له من العموم؟ فيكون ذكر مرة، لكن نصّ عليه لشرفه مثلًا، والعناية به، أو أنه لا يُخرجه من العموم فيكون ذُكر مرتين؛ مرة بصيغة التخصيص ومرة بصيغة التعميم، فما هو المتبادر للذهن؟ * طالب: (...). * الشيخ: ﴿تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ﴾ [القدر ٤]، وأيش يتبادر للأذهان؟ * طالب: الروح الملائكة. * الشيخ: نعم، الروح الملائكة وجبريل، لكن يتبادر إلى الذهن –في ذهني أنا- أنه إذا ذكر الخاص بعد العام أو قبله أنه ما أريد دخوله في العام. عندما تقول: جاء الطلبة وعلي. وهو من الطلبة، معروف أنه من هم الطلبة، أنت تفهم أنه خرج عنهم لما نص عليه، وكفى بذلك فخرًا أن يُفرد من بين العموم، ويُنص عليه في الحكم. لكن أولئك يقولون: إنه ذكر مرتين؛ مرة بطريق العموم، ومرة بطريق الخصوص، ولكنه فيما أظن ويتبادر إليَّ أنه ليس كذلك، نعم، لو ذكر العموم في موضع آخر، ولم يذكر الخصوص فلا شك أنه داخل في العموم. * طالب: (...). * الشيخ: إي، على القول بأنه إذا ذكر الخاص يكون عامًّا مخصوصًا. * الطالب: (...). * الشيخ: توكيد. * الطالب: (...). * الشيخ: إلا، وعلى كل الذي يقول بهذا، يظن أنه توكيد، لكن بس مو توكيد مطابق، توكيد بالعموم. * الفائدة التاسعة: أنه لا يجوز لأحد أن يحكم بغير ما أنزل الله؛ لقوله: ﴿وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ﴾؛ لأن من جملة الأشياء الحكم بين العباد، بل هو من أعظم الأشياء، فإذا كان ذلك لله، فلا يجوز لأحد أن يستقل به، ما يجوز لأحد أن يستقل به؟ ومن أراد أن يستقل به فقد حاول أن يكون شريكًا لله تعالى في ذلك، ونزَّل نفسه منزلة لا يستحقها. إذن أمر التحليل والتحريم والإيجاب إلى مَنْ؟ إلى الله؛ لأن ﴿لَهُ كُلُّ شَيْءٍ﴾. أمر التحسين والتقبيح؟ * طالب: (...). * الشيخ: لا، الصواب نعم إلى الله؛ لأن بعض الأشياء ما نعرف عن حسنها وقبحها إلى من الله، لكن أيضًا للعقل مجال في هذا؛ ولذلك: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ﴾ [البقرة ٤٤] أيش بعدها؟ * الطلبة: ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾. * الشيخ: ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ دلّ هذا على أن العقل يُحسّن ويقبِّح، فإن هذا من القبيح. ؎لَا تَنْــــهَ عَـــــنْ خُلُـــــقٍ وَتَأْتِيَمِثْلَـــــــــــهُ ∗∗∗ عَــــــارٌ عَلَيْـــــكَ إِذَا فَعَلْــــــتَعَظِيـــــــــمُ فالعقل يُحسِّن ويُقبِّح، لكنه لا يُوجب ويُحرِّم، الإيجاب والتحريم إلى الله، وأما التحسين والتقبيح فيُحسِّن ويُقبِّح؛ ولهذا يُحيل الله تعالى أشياء كثيرة إلى العقل، فدل ذلك على أن للعقل أن يُحسِّن ويُقبِّح، ولكن من الأشياء ما لا يُعلم حسنه وقبحه إلا بطريق الشرع. وهذا هو الصحيح في هذه المسألة، مسألة التقبيح والتحسين العقلي، صار فيها نزاع طويل بين أهل السنة والجماعة وبين أهل البدع؛ منهم من قال: لا يُحسِّن ولا يُقبِّح، والغريب أن هذا هو المشهور من مذهب الحنابلة. قال الفتوحي في كتاب مختصر التحرير في أصول الفقه: العقل لا يُحسِّن ولا يُقبِّح، ولا يُوجِب ولا يُحرِّم. نقول: أما قوله: وما يُوجب ولا يُحرّم؛ فهذا صحيح، وأما لا يُحسِّن ولا يُقبِّح؛ فهذا ليس بصحيح. يروى عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: «ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن، وما رأوه قبيحًا فهو عند الله قبيح»[[أخرجه أحمد في المسند (٣٦٠٠).]]، وربما يشهد لهذا قول الرسول ﷺ: «الْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي نَفْسِكَ، وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ»[[أخرجه مسلم (٢٥٥٣ / ١٥) من حديث النواس بن سمعان. ]]؛ لأن هذا دليل على أن الإنسان؛ لكن الإنسان اللي صَفَت سريرته وخلصت نيته، هذا ما يطمئن للإثم أبدًا، أما الإنسان الفاسق؛ فالفاسق تعرفون أن الزبّال لا تهمه الزبالة ولَّا لا؟ لكن العطار إذا قعد عند زبالة؟ ما يمكن يجلس. فالإنسان اللي صفت سريرته، وخلصت نيته، وعلم الله منه حُسن القصد يُوفَّق، وتجده إذا عمل السيئة لو هو ما يدري أنها سيئة ما تطيب نفسه، ولا تستقر، ولهذا قال: «الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ»[[أخرجه أحمد في المسند (١٨٠٠٦) من حديث وابصة بن معبد الأسدي.]]. لكن هذا من نخاطِب به؟ كل الناس؟ لا، صاحب القلب الصافي والإيمان الخالص، أما الناس المنهمكون في هذا، فلا يُخاطَبون بالمثل. * طالب: (...) يعني العقل (...) العرف (...). * الشيخ: لا، العقل، العرف ما له دخل. * الطالب: يعني تحسين عقل.. * الشيخ: الآن العُرف يُحسِّن أشياء قبيحة. * الطالب: الزبال يستحسن الزبالة، والعطار لا يستحسنها. * الشيخ: لا، هذا ما هو ما يستحسنها، ربما أن العقل يستحسن الزبالة إذا صارت طريقًا للكسب، لكن نفسيته ما ترتاح لها الإنسان؛ لأنها مؤذية برائحتها، العُرف ما يصلح؛ لأن العرف هذا.. الناس الآن، وقبل الآن، يمكن يستقبحون الحسن، ويستحسنون القبيح. * طالب: (...). * الشيخ: إي نعم، معلوم، حتى المسلم الخالص، الرسول قال: «مَا حَاكَ فِي نَفْسِكَ». * من فوائد الآية أيضًا: أن الرسول عليه الصلاة والسلام مأمور بأن يكون من المسلمين ﴿وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾. * الحادية عشرة: أن الإسلام والإيمان شيء واحد؛ لأن قوله: ﴿أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ لا شك أن ما أُمر به هو أعلى الحالات؛ وهو الإيمان. ولكن هذه المسألة وهي هل الإسلام الإيمان أو لا؟ فيها أيضًا عراك بين أهل السنة والجماعة أنفسهم والأشاعرة. والصواب أن يُقال: إن الإسلام عند الإطلاق يشمل الإيمان، والإيمان عند الإطلاق يشمل الإسلام. وأما عند التقييد، وأن يُقرن بينهما، فإنه يكون الإيمان: ما وقر في القلب، والإسلام: ما قامت به الجوارح؛ لأن الإسلام من الاستسلام؛ وهو عدم المعارضة، بل الموافقة، فالمنافقون الذين لا يبدون المعارضة نسميهم مسلمين، لكن ما نسميهم مؤمنين؛ لعدم وجود الإيمان في قلوبهم. ومن الناس من يكون وسطًا: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ [الحجرات ١٤] ﴿لَمَّا يَدْخُلِ﴾ ما قال: (لم يدخل)؛ ليفيد أن الإيمان قريب الدخول في قلوبهم، لكنه لم يدخل، إنما هو قريب، والإيمان من المنافقين بعيد، هم ينفرون منه، لو قرب إليهم نفروا منه، لكن هؤلاء الأعراب ما بعد دخل الإيمان في قلوبهم إلا أنه قريب: ﴿وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾. إذن الصواب في هذه المسألة: أن الإيمان هو الإسلام، إذا اقترنا أيش؟ افترقا، وإذا افترقا اجتمعا. * طالب: (...) بين أن الإيمان هو الأعمال الظاهرة. * الشيخ: إي نعم، الإيمان؛ لأنه داخل فيه، وهو إذا اقترن مع الإسلام فُسِّر هذا بهذا، وهذا بهذا، أما عند الإطلاق فيدخل فيه. * الطالب: (...). * الشيخ: إي نعم، مسلمون ظاهرًا. * طالب: منقادون؛ يعني ما يأتون (...). * الشيخ: لا؛ لأن الرسول أراد أن يُفسِّر ذلك بالأعمال الظاهرة المبنية على الإخلاص، والأعمال الظاهرة عند المنافقين ما هي مبنية على الإخلاص، ولهذا يجدونهم يُصلون مع الناس، ويذكرون الله سبحانه وتعالى في صلاتهم، لكن هم ما يذكرون الله إلا قليلًا، والرسول عليه الصلاة والسلام لم يُفرِّق بينهم وبين أقاربهم في الميراث وغيره، يُورِّث بعضهم من بعض، وأخذ بهذا شيخ الإسلام ابن تيمية وقال: إن المنافق يرث من المؤمن، والمؤمن يرث من المنافق، واستدل بأن الرسول عليه الصلاة والسلام.. وهذا الذي قاله صحيح إلا أننا نعارضه فيما إذا عُلم نفاقه؛ يعني إذا علم نفاقه ما يجب أن يُورث من المسلم أو يُورَّث المسلم منه، وقد قال الله تعالى: ﴿وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ﴾ [التوبة ٨٤]. * طالب: فيما يعلم أنهم منافقون. * الشيخ: فيهم أناس يعلمهم، وفيه أناس ما يعلمهم. قال: ﴿وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ﴾. * يستفاد من هذه الآية؛ أولًا: وجوب تلاوة القرآن بنوعيه، ما هما النوعان؟ * طلبة: اللفظية والعملية. * الشيخ: اللفظية والعملية، وهو واجب على المرء أن يتلو القرآن تلاوة لفظية وعملية، عن ظاهر قلب ولَّا وإن كان نظر؟ * طالب: وإن كان نظر. * الشيخ: وإن كان نظر. * الفائدة الثانية: فضيلة القرآن وشرفه، حيث كان مأمورًا بتلاوته. * الفائدة الثالثة: وجوب تحسين القرآن؛ لقوله: ﴿وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ﴾. * الفائدة الرابعة: وجوب تبليغ القرآن على النبي ﷺ؛ لقوله: ﴿وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩١) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ﴾. * الفائدة الخامسة:..
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب