﴿فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ﴾ [النمل: ٥٦].
﴿جَوَابَ﴾ خبر (كان) مقدَّم و﴿أَنْ قَالُوا﴾ اسمها مؤخر.
وهذه الجملة للحصر، يعني: ما كان جواب قومه أن ينقادوا ولا أن يقفوا موقفًا سلبيًّا من دعوته، بحيث يتوقفون عن القبول وعن المعارضة، بل كان جواب قومه والعياذ بالله: اللجوء إلى القوة وإلى العنف ﴿إِلَّا أَنْ قَالُوا﴾ أي: قال بعضهم لبعض.
﴿أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ﴾: ﴿أَخْرِجُوا﴾ الفاعل يعود إلى أهل الحل والعقد في القرية.
وقوله: ﴿آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ﴾ أتوا بهذا التعبير إشارة إلى أن لوطًا ليس منكم، وإنما هو جرثومة طارئة حادثة على محل، فيجب أن ينزّه منهم؛ لأن لوطًا كما هو معروف أُرسل إلى أهل سدوم وليس منهم، ولهذا قال: ﴿أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ﴾ يعني: الذين جاءوا ووفدوا إليكم وليسوا منكم ﴿مِنْ قَرْيَتِكُمْ﴾ لم يقولوا: من القرية، بل قالوا: ﴿مِنْ قَرْيَتِكُمْ﴾ للإغراء بإخراجه.
﴿مِنْ قَرْيَتِكُمْ﴾ إغراءً بإخراجه، يعني كأنهم يقولون: هذه قريتكم، وهذا الرجل جاء جديدًا عليها، ويريد أن يناقضكم وأن يقف ضدكم أخرجوه، القرية لكم ما هي له.
﴿أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ﴾ وسيأتي إن شاء الله بيان الفائدة في هذا؛ لأن بعض الناس إذا ضاق ذرعًا بالدعاة المصلحين يقولون: اطلعوا، هذه ما هي (...)، أو لا تتكلم في هذا المسجد، ما هو مسجدك أو ما أشبه ذلك.
﴿مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾ الجملة تعليلٌ لما سبقها من حكم، وهو الأمر بالإخراج، أخرجوهم، لماذا؟ لأنهم أناسٌ يتطهرون (من أدبار الرجال)، فجعلوا علّة العقوبة ما هو من أسباب رفع العقوبة، فإن تطهرهم هذا حسن يقتضي المدح والثناء، أي الجميل على من تطهر منه، وهؤلاء جعلوه بالعكس؛ لأنهم والعياذ بالله إما زائغون يعرفون الحق ولم يعملوا به، وإما ضالّون يضلوا عن الحق وعمي عليهم، نسأل الله العافية.
والغالب أنهم زائغون؛ لأن هذا معروفٌ لدى البشر أن الطبيعة تنفر منه ولا أحد يقبله.
وقوله: ﴿إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾ هل هم أرادوا الحقيقة وأن هذا الفعل خبيث وهؤلاء يريدون التطهر منه، أو أراد يتطهرون بزعمهم وأن هذا الفعل ليس نجسًا لكن هؤلاء يريدون أن يتطهروا منه؟
الأقرب الأخير؛ لأنه هو مقتضى حالهم، مقتضى حالهم أنهم رأوا هذا المنكر معروفًا، وهذه الفاحشة يسيرة فتمسكوا بها.
وقولهم: ﴿إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾ (أناس) نكرة، والمنكر غير معروف، وكل هذا لقصد التباعد منه والإغراء بإخراجهم.
قال الله عز وجل: ﴿فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ﴾ لما عزموا على إخراجه أمره الله تعالى أن يخرج بأمر الله، فإن الملائكة أتت إليه وأمرته أن يسري بأهله إلا امرأته كانت من الغابرين، فسرى بأمر الله، ولما بعُد عن القرية أهلك الله تعالى أهل القرية صباحًا: ﴿إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ﴾ [هود ٨١،] فأرسل الله عليهم حجارة من سجّيل فجعل عاليها سافلها، ولهذا قال: ﴿فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ﴾ [النمل ٥٧] الاستفهام متصل ولّا منقطع؟
* طالب: منقطع.
* الشيخ: ليش؟
* الطالب: (...).
* الشيخ: (...) أيش لون (...).
* الطالب: (...) من غير جنسه.
* الشيخ: وهنا؟
* الطالب: لا، من جنسه.
* الشيخ: إذن متصل ﴿فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ﴾.
وفي هذا دليل على أن المرأة من الأهل؛ لأن الإنسان يأهلها ويأوي إليها، وكذلك هي بالنسبة إليه، فالزوجة من أهل الإنسان كما أن أقاربه من أولاده وآبائه هم أيضًا من الأهل: ﴿فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ﴾ أي: كتبنا عليها وقدّرنا عليها، ولهذا قال: (جعلناها بتقديرنا ﴿مِنَ الْغَابِرِينَ﴾ الباقين في العذاب) الغابر بمعنى الباقي، فالمعنى أنها هي بقيت ولم يسر بها، فكانت والعياذ بالله من الهالكين.
﴿إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ﴾ وهذا هو معنى قوله تعالى: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا﴾ [التحريم ١٠] فإن هذه الخيانة ليست خيانة فرج وعرض، وإنما هي خيانة كفر؛ لأنهما أظهرتا أنهما مؤمنتان وهما ليستا كذلك، فبهذا صارتا خائنتين.
* * *
قال: ﴿إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ﴾ (﴿وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا﴾ وهو حجارة السجّيل أهلكتهم ﴿فَسَاءَ﴾ بئس ﴿مَطَرُ الْمُنذَرِينَ﴾ [النمل ٥٨] بالعذاب مطرُهم).
﴿أَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا﴾ في هذا دليل على أن المطر ليس خاصًّا بالماء، بل كل ما حصب به الإنسان من فوق يسمى مطرًا، ولهذا قال: ﴿أَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا﴾ والمطر الذي أصابهم ما قاله المؤلف: (حجارة السجّيل) كما قال الله تعالى في آية أخرى: ﴿وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا﴾ [هود ٨٢] وفي آية ثانية: ﴿وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ﴾ [الحجر ٧٤].
هذه الحجارة أهلكتهم، وجعلت عالي القرية سافلها، بمعنى أنها تهدمت عليهم حتى صار عاليها سافلها؛ يعني إذا انهدم البناء صار أعلاه أسفله، هذا هو الظاهر. وأما ما روي من أن جبريل حملهم من تخوم الأرض السفلى وأنه صعد بهم حتى سمع أهل السماء نباح كلابهم ونهيق حميرهم، ثم قلبها؛ فإن هذا لا دليل عليه لا من كتاب الله ولا من سنة رسول الله ﷺ، فالأقرب أن هذه الحجارة لما أصابت قريتهم صار عاليها سافلها، انهدم البناء فصار أعلاه أسفله.
(﴿فَسَاءَ﴾ بئس) إذن (ساء) فعل ماضٍ مجرد عن الزمن، وإنما هو لإنشاء الذم، مثل (حسُن) في بعض الأحيان ﴿وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا﴾ [النساء ٦٩] هذا فعل لإنشاء المدح، ﴿سَاءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ﴾ هذا أيضًا فعل لإنشاء الذم.
قال: (﴿مَطَرُ الْمُنذَرِينَ﴾ بالعذاب مطرهم) ليش قال: (مطرهم)؟ لأن ساء مثل بئس، تبغي فاعلًا وتبغي مبتدأ، المخصوص بالذم هو المبتدأ المحذوف.
فإذن نقول في إعرابها: (ساء) فعل ماضٍ، و(مطر) فاعل، وهو مضاف إلى (المنذرين)، والمخصوص بالذم محذوف تقديره: مطرهم، ﴿فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ﴾ مطرهم.
وهذا المخصوص أحيانًا يتقدم وأحيانًا يأتي بدله اسم منصوب يجعل تمييزًا يكون بدل هذا المخصوص.
* طالب: الجمع بين قوله تعالى: ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ﴾ [الحجر ٧٣]، وقوله في سورة هود: ﴿إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ﴾ [هود ٨١] معنى الصبح يعني طلوع الفجر كما ذكر ابن القيم، والإشراق بعد طلوع الشمس؟
* الشيخ: لا، الصبح يشمل أول النهار من طلوع الفجر (...) إلى الزوال، يسمى ضحى ويسمى صبحًا، فلا ينافي.
* الطالب: (...) ياشيخ في الجواب الكافي ما بين نجاة لوط وأهله وهلاكهم إلا من السحر إلى طلوع الفجر.
* الشيخ: ما أدري، منين جابه؟
* الطالب: كأنه يعني أخذًا من ﴿مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ﴾.
* الشيخ: ما يخالف، موعدهم الصبح، الصبح قلنا يشمل أول النهار أيضًا (...).
* الطالب: يعني ما له وجهان قوله هذا؟
* الشيخ: خل نقرأ الآن في اللي جبته الأخيرة: ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ﴾.
* الطالب: ﴿مُشْرِقِينَ﴾.
* الشيخ: أو مصبحين.
* الطالب: لا، مشرقين.
* الشيخ: طيب ما يخالف.
* طالب: قوله تعالى: ﴿فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ﴾ [الحجر ٦٥].
* الشيخ: (...) عامة مصبحين أي في زمن الإصباح، (...) العذاب استمر بهم إلى الإشراق.
* * *
ثم قال: ﴿قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ [النمل ٥٩]. (﴿قُلِ﴾ يا محمد: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ على هلاك الكفار من الأمم الخالية).
﴿قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ الأمر للنبي ﷺ أو لكل من يمكن أن يوجه إليه من العقلاء.
وقوله: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ أطلق هنا ما يُحمد عليه، فهو أعم مما قاله المؤلف، وإن كان السياق يقتضي ما قاله المؤلف لكنه يجب أن يؤخذ بالعموم، ويكون من جملة ما يُحمد عليه إهلاك الكفار؛ لأنه دال على عدله بأخذ هؤلاء، وعلى فضله بالأنبياء والمؤمنين؛ حيث أخذ أعداءهم.
ولكننا نقول: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ هذا عام يُحمد على كامل أوصافه، وعلى أحاسن أفعاله، فأفعاله كلها حسنى، وصفاته كلها كاملة، فيُحمد على هذا وعلى هذا، ويكون إهلاك كفار الأمم من جملة ما يُحمد عليه، وهذا هو السر في أن الله تعالى لم يقل: قل الحمد لله على هذا، بل قال: ﴿قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ ليكون الله تبارك وتعالى محمودًا على كل حال. ومن جملة ما يُحمد عليه: إهلاك المكذبين للرسل.
(﴿وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى﴾ هم) هذا المفعول قدّره المؤلف.
﴿وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى﴾ هل هو داخل في ضمن المقول، يعني: قل الحمد لله، وقل: سلامٌ على عباده الذين اصطفى، فيكون الإنسان مأمورًا بحمد الله وبالدعاء على عباد الله الذين اصطفاهم، بالدعاء لهم لقوله: ﴿وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى﴾. أو هي جملة مستقلة خبر من الله سبحانه وتعالى بأنه كلّم من اصطفاه وأنجاه؟
فيه احتمال للأمرين، لكن أيهما أقرب إلى السياق؟
* طالب: يقال: إنه حمد الله وسلامه جميعًا، في مقابل الكفار: الحمد لله على هلاك الكفار (...).
* الشيخ: والله فيها احتمال، ما يترجح عندي أحد الاحتمالين؛ لأن لكل منهما وجهًا، فالإنسان مأمورٌ أن يحمد الله ومأمورٌ بأن يسلّم على عباد الله.
وكذلك أيضًا الله تبارك وتعالى محمود على كمال صفاته، ثم إخباره بأنه سلّم هؤلاء، هذا أيضًا مما يُحمد عليه؛ لأن زوال النقم كجلب النعم.
* ويكون في هذا فائدة: وهي أن العباد الذين اصطفاهم الله قد أحل عليهم السلام، فلا ينالهم ما نال هؤلاء الكفار، ويكون الله تعالى محمودًا على الأمرين: على إهلاك الكفار، وعلى تسليم عباده الذين اصطفى.
وقوله: ﴿الَّذِينَ اصْطَفَى﴾ بمعنى: اختار. ﴿الَّذِينَ اصْطَفَى﴾ أي اختارهم، والله تبارك وتعالى يخلق ما يشاء ويختار ما يخلق ويصطفيه، فمن جملة ما اختار من بني آدم: اختار الأنبياء، كما قال الله تعالى: ﴿وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ﴾ [ص ٤٧]، واختار أيضًا المؤمنين؛ فإن المؤمنين بالنسبة للكفار مصطفَون، والأنبياء صفوة التقوى.
والاصطفاء كغيره من الصفات التي تكون متفاوتة بحسب ما قام به العبد من أسباب الاصطفاء، فكلما كان الإنسان أقوم بعبادة الله وأشد تعظيمًا لله سبحانه وتعالى كان أشد اصطفاءً.
(﴿آللَّهُ﴾ بتحقيق الهمزتين) ﴿أألله﴾ (وإبدال الثانية ألفًا) ﴿آلله﴾ (وتسهيلها) ﴿أالله﴾ (وإدخال ألف بين المسهلة والأخرى وتركه).
* طالب: (...).
* الشيخ: تحقيق همزتين، إبدال الثانية ألفًا، هذه الثنتين واضحة.
* طالب: ويش الأول؟
* الشيخ: تحقيق الهمزتين ﴿أألله﴾ ، إبدال الثانية ألفًا هي قراءتنا المعروفة ﴿آللَّهُ﴾.
التسهيل فيه صفتان: يُدخَل بينهما ألف -بين الهمزة والمسهَّلة- ويترك، فتكون القراءات الآن أربعًا.
* طالب: يعني الأولى تحقيق الهمزتين، القراءة الرابعة تسهيل الهمزتين بدون مد.
* الشيخ: القراءة الثالثة تسهيل الهمزة الثانية لكن فيها ألف أو بدون ألف. فصارت القراءات أربعًا الآن، واضح؟
ثم قال: ﴿آللَّهُ خَيْرٌ﴾ (﴿خَيْرٌ﴾ لمن يعبده ﴿أَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ بالتاء والياء أي: أهل مكة به الآلهة خير لعابديها).
قوله: ﴿آللَّهُ خَيْرٌ﴾ خصّه المؤلف بخيريته لمن يعبده، والصواب أنها خيرية مطلقة لمن يعبده، وهذا يقتضي الإحسان، ولكماله، وهذا يقتضي الجلال والعظمة.
فهنا ما نقول: ﴿آللَّهُ خَيْرٌ﴾ لمن يعبده فقط، بل ﴿آللَّهُ خَيْرٌ﴾ في كل صفاته وفي إحسانه وعطائه؛ لأن الآية مطلقة، فيجب إطلاقها. وإطلاقها أكمل من تقييدها؛ لأنه مثلًا قد يكون هذا خيرًا لمن يتعامل معه، لكنه ليس فيه خيرية مطلقة.
نقول: هذا الرجل يتعامل مع شخص، وإذا عامله أعطاه فوق ما يستحق، لكنه في صفاته الأخرى رديء، ويجيء آخر جيد وخيّر في صفاته الأخرى لكن إذا تعامل معه هذا الرجل ربما لا يعطيه ما يستحق، فيكون الأول خيرًا له من الثاني، ومع ذلك فهو ناقص.
فقول المؤلف: (خيرٌ لمن يعبده) هذا فيه نظر؛ أولًا: أنه تقييد للمطلق بلا دليل.
الثاني: أن هذا التقييد لا يقتضي الأفضلية، ولذلك يجب أن يقال: ﴿آللَّهُ خَيْرٌ﴾ في كل شيء في صفاته وفي ثوابه وجزائه لمن يعبده.
﴿أَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ يعني: أم الذي يشركونه مع الله من الأصنام وغيرها؟ والجواب: بل الله خيرٌ، ولهذا ينبغي لك إذا قرأت مثل هذا أن تقول: بل الله.
وهذه المعادلة لا تقتضي المقاربة أو المماثلة، فإنه قد يفاضَل بين الشيئين مع خلو الطرف الثاني منهما، قال الله تعالى: ﴿أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا﴾ [الفرقان ٢٤]، مع أنه ليس في مستقر النار خير وليس فيها حسن مقيل، بل إنهم يفضّلون بين أمرين متعاكسين، فيقال مثلًا: الشتاء أشد من القيظ، أو يقولون أبلغ من هذا: الشتاء أبرد من القيظ، مع أن القيظ ليس فيه برودة.
فالحاصل أن هذا ما يقتضي المماثلة أو المساواة، ولكن هل يقتضي النقص؟ نقول: نعم، يقتضي النقص؛ لأنه يوهم المشاركة إلا في مقام التنزُّل، فلا يقتضي النقص.
يقول الشاعر:
؎أَلَمْ تَــــــرَ أَنَّ السَّيْـــــفَ يَنْقُــــــصُقَــــــدْرُهُ ∗∗∗ إِذَا قِيلَ: إِنَّ السَّيْفَ أَمْضَى مِنَالْعَصَا
لكن عند التنزُّل لا يدل على النقص، فهذه الأصنام التي يُشرك بها مع الله يريد منها عابدوها أن تنفعهم في جلب النفع أو دفع الضرر.
فنقول لهم: أيما أصنامكم خير أم الله؟ من باب التنزُّل مع الخصم؛ لأن هؤلاء يدّعون أن فيها خيرًا في آلهتهم، فيقال لهم: ﴿آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ يعني على زعمكم، وإن كان ليس فيها خيرٌ إطلاقًا.
وقوله: ﴿أَمَّا يُشْر كُونَ﴾ (أم) هذه متصلة ولّا منقطعة؟
* طالب: متصلة.
* طالب آخر: مصدرية لاسم موصول.
* الشيخ: لا، ما اسم موصول، أم الذي يشركون، يعني المعادلة بين ذاتين لا بين معنى.
* طالب: متصلة.
* الشيخ: متصلة، ويش الفرق بين المتصلة والمنقطعة علشان أحكم عليها؟
* طالب: المنقطع (...).
* الشيخ: وغير؟
* طالب: (...).
* الشيخ: المتصلة معناه: أن تكون بين متعادلين، وأما المنقطعة فتكون بين متباينين. هذا الفرق.
يعني الثاني منقطع عن الأول وهذاك متصلٌ به، فإذا صارت بين المتعادلين فإنها تسمى متصلة.
وأيضًا فرق آخر لفظي: أن المتصلة يسبقها همزة الاستفهام: أزيد قائم أم عمرو؟ فيُذكر فيها المعادل وتسبقها الهمزة تحقيقًا أو تقديرًا. وأما التي المنقطعة فلا تُذكر بين متعادلين ولا يلزم منها، بل ولا يكون قبلها همزة.
هذه الآن قبلها الهمزة ﴿آللَّهُ خَيْرٌ﴾، وهي أيضًا بين متعادلين ﴿آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ﴾.
(بالتاء والياء) يعني: ﴿أَمَّا تُشْرِكُونَ﴾ أو ﴿أَمَّا يُشْرِكُونَ﴾، قال المؤلف: (بالتاء والياء، أي أهل مكة به) ويش بعد؟
* طالب: (الآلهة خيرٌ لعابديها) (...).
* الشيخ: (آلآلهة خيرٌ لعابديها ﴿أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ﴾ ). يعني قدر المؤلف بعد، قدّرها مرة ثانية. ويش عندكم؟
* طالب: الآلهة.
* الشيخ: لا، ممدودة: آلآلهة.
* طالب: وافق تحقيق (...).
* الشيخ: (آلآلهة خيرٌ لعابديها ﴿أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا﴾ فيه التفات من الغيبة إلى التكلم ﴿بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ﴾ حسن ﴿مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا﴾ لعدم قدرتكم عليه ﴿أَأِلَهٌ مَعَ اللَّهِ﴾ ) إلى آخره.
قول المؤلف: آلآلهة خيرٌ أم الله واضح، وعلى هذا فتكون (أم) أيضًا متصلة ﴿أَمَّنْ خَلَقَ﴾.
و(خلق) بمعنى أوجد بتقدير؛ لأن الخلق لا بد أن يسبقه تقدير، والإيجاد أعم منه، قد يوجد الإنسان الشيء بلا تقدير، ولكن الخلق لا بد فيه من تقدير.
﴿أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ﴾ بعضهم يقول: السماوات ليست مفعولًا بها، وإنما يقال: مفعول مطلق وليست مفعولًا بها؛ لأن المفعول به يقتضي أن يكون ما وقع عليه الفعل سابقًا على الفعل.
وهنا السماوات ليست سابقة على خلقه، وعلى هذا فقل: إنها مفعول ولا تقل: به، لكن هذا بالحقيقة من الفلسفة التي ليس لها معنى؛ لأنه خلق: أوجد السماوات، فالمفعول به أو الفعل واقعٌ على الإيجاد، وإن كانت السماوات قبل الإيجاد ليست موجودة، هم يقولون: المفعول به أنه لا بد يكون سابقًا على الفعل.
(ضربت زيدًا) زيد سابق على الضرب، (أكلت الطعام) الطعام سابق على الأكل، (صنعت الطعام) حوّلته من حال إلى حال، أيضًا سابق على الطعام.
لكن خلق السماوات (...) سابق على الخلق؟ لا. إذن لا تقول: مفعول به؛ لأنه ما وقع عليها فعل الفاعل؛ إذ هي لم توجد إلا بفعل الفاعل، ويش أقول؟ أول مفعول وبس، لا به ولا فيه ولا معه ولا له؛ لأن المفاعيل خمسة كما هو معروف لكم: مفعول غير معدى بحرف، ومفعول معدى بحرف بالباء، أو بـ(في)، أو باللام، أو بـ(مع). هذه المفاعيل.
ولكننا نقول: الحقيقة هذا تمحل؛ لأن (خلق) معناها يدل على الإيجاد، والإيجاد سابق على الموجود؛ لأن به يحصل الوجود فلا حاجة إلى هذا التمحل، (...) السماوات مفعول به (...) ما نحذفها.
* طالب: إن كان المفعول (...).
* الشيخ: المفعول المطلق مثل: ضربت ضربًا، هذا يسمونه مفعولًا مطلقًا، ما يُعدى بالباء ولا (...).
* طالب: (...) تكون مثل هذا.
* الشيخ: تكون مثل هذا، وإن كان ما هي موافقة للفعل، يعني المفعول المطلق يكون بمعنى الفعل.
قال: ﴿أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ﴾ والسماوات تُذكر بلفظ الإفراد والجمع كثيرًا في القرآن، والأرض ما ذُكرت إلا بلفظ الإفراد، إلا أن الله قال: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ﴾ [الطلاق ١٢] وإلا فبقية الآيات، حتى في هذه الآية ما ذُكرت إلا مفردة ولم يقل: ومن الأرضين مثلهن، لكنها وردت في السنة مجموعة ومبيّن أنها سبع.
﴿وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً﴾: (ماء) هذه مفعول ولّا مفعول به؟
* طالب: على قاعدة النحويين..
* طالب آخر: مفعول.
* الشيخ: لا، مفعول به.
﴿وَأَنزَلَ لَكُمْ﴾ اللام للتعليل أو للإباحة، ولكنها للتعليل أبلغ؛ لأنها إذا كانت التعليل شملت الإباحة وشملت ما يكون به النفع من هذا الماء وإن لم نلامسه.
﴿وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ﴾ المراد بالسماء هنا العلو، والدليل على ذلك: أن الماء هذا ينزل من السحاب، وقد قال الله تعالى: ﴿وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ﴾ [البقرة ١٦٤] فدل هذا على أن المراد بالسماء هنا العلو.
وقوله: (﴿مَاءً فَأَنْبَتْنَا﴾ فيه التفات من الغيبة إلى التكلّم) وين الغيبة؟ ﴿أَمَّنْ خَلَقَ﴾، ﴿وَأَنزَلَ﴾، وهنا قال: ﴿فَأَنْبَتْنَا﴾. والالتفات فيه فوائد، هات واحدة منها؟
* طالب: تنبيه (...).
* الشيخ: (...).
* الطالب: أن الكلام إذا سار على وتيرة واحدة فإن المخاطب يمل ويسأم و ربما يعني ..
* الشيخ: وينساب معه ويغفل عنه.
* الطالب: فإذا تغير مجرى الخطاب ينتبه.
* الشيخ: ينتبه نعم، هذه واحدة. الفائدة الثانية؟
* الطالب: تنويع الكلام.
* الشيخ: تنويع الكلام؟
* الطالب: لأنه مثلًا تارة يكون على هذه الوتيرة، وتارة يكون على الوتيرة الثانية، فيكون أروع (...).
* الشيخ: يعني محسنات بديعية لفظية فقط. طيب، الفائدة الثالثة
وإن صار معه يغفل عنه.
* طالب: إذا تغير مجرى الخطاب ينتبهوا.
* الشيخ: ينتبهوا، هذه واحدة، الفائدة الثانية؟
* الطالب: تنويع الكلام.
* الشيخ: تنويع الكلام؟
* الطالب: بأنه مثلاً تارة يكون على هذه الوتيرة، وتارة يكون على الوتيرة الثانية، فيكون يعني أروع.
* الشيخ: يعني محسنات بديعية لفظية بس؟
* الطالب: إي.
* الشيخ: الفائدة الثالثة؟ هاه؟
* طالب: (...).
* الشيخ: لا، فيها.
* طالب: (...).
* * *
بسم الله الرحمن الرحيم: ﴿طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ﴾ إلى آخره [النمل: ١].
يقول: هذه (سورة النمل)، وسُمِّيَت به لذكر النمل فيها، وتسمية السور يكون بأدنى مناسبة، ولهذا البقرة سُميت سورة البقرة بذكر البقرة فيها، ولا يَمتنع أن تُسَمَّى سورة بعدة أسماء لعدة مناسبات.
وقوله: إنها (مكيّة)، الصواب في المكي والمدني أن الفرق بينهما ما نزل قبل الهجرة فهو مكي، وما نزل بعدها فهو مدني.
وقيل: المكي ما نزل بمكة، والمدني ما نزل بالمدينة، وقيل: المكي ما فيه ذكر الأصول -أصول الإسلام أو الإيمان- والمدني ما فيه ذكر الفروع.
فعلى الأول يكون المعتبَر الزمن، وعلى الثاني المعتبَر المكان، وعلى الثالث المعتبَر الموضوع.
ولكن الذي عليه المحقِّقون أن ما كان بعد الهجرة فهو مدني، وما قبلها فهو مكي، وقد ذكروا في أصول التفسير لذلك ضوابط يُرجَع إليها.
أما البسملة فقد تقدم الكلام عليها عدة مرات، وبيَّنَّا أن أحسن ما تُقَدَّر به أن يكون فعلًا مناسبًا متأخِّرًا.
أن يكون فعلًا؛ لأنه الأصل في العوامل، متأخرًا؛ لفائدتين، هما: التبُّرك بتقديم اسم الله، والثاني: إفادة الحصر، يعني: باسم الله لا باسم غيره.
ومناسبًا؛ لأنه أخص من العام. وفعلًا، قلنا: لأنه الأصل في العوامل، وهو أيضًا أدل على الحدوث.
بسم الله الرحمن الرحيم، التقدير: بسم الله الرحمن الرحيم أقرأ، ويجوز أن تُقَدِّر: أقرأ بسم الله الرحمن الرحيم، ويجوز أن تُقَدِّر: قراءتي بسم الله الرحمن الرحيم، أو: بسم الله الرحمن الرحيم قراءتي.
لكن ما ذكرنا أولًا هو الأرجح، وأشار شيخ الإسلام ابن تيمية إلى رجحانه في قول الرسول عليه الصلاة والسلام: «مَنْ لَمْ يَذْبَحْ فَلْيَذْبَحْ عَلَى اسْمِ اللهِ»[[متفق عليه؛ البخاري (٩٨٥)، ومسلم (١٩٦٠ / ١) عن جندب بن سفيان.]]، فذكرها فعلًا، ولم يقل: فليكن ذبحه، قال: «فَلْيَذْبَحْ عَلَى اسْمِ اللهِ».
لما قال: قال الله تعالى: (﴿طس﴾ الله أعلم بمراده بذلك).
هذا ما سلكه المؤلف وجماعة من أهل العلم؛ بأن هذه الحروف الهجائية الموجودة في أوائل بعض السور موقفنا منها أن نقول: الله أعلم بمراده بذلك.
وقد سبق في درس التفسير في الليل أن الراجح من ذلك أن هذه الحروف هجائية، وأنه بمقتضى كون القرآن بلسان عربي يقتضي أنه لا معنى لها، وذكرنا أن هذا قد رُوِيَ عن مجاهد، وأنها حروف هجائية ابتدأ الله بها، ليس لها معنى، وعلى هذا نجزم بأنه لا معنى لها؛ لأنه لا معنى لها، ولكن لها مغزى وهو أن هذا القرآن الذي أعجز هؤلاء الفصحاء البلغاء إنما هو من هذه الحروف الهجائية التي يكون منها كلامهم، يعني: ما أتى بحروف جديدة، مثلًا يقولون: والله هذه حروف ما نعرفها! أتى بنفس الحروف التي هم يتكلمون بها.
ويؤيد ذلك أنه ما من حروف هجائية إلا ويأتي بعدها ذكر القرآن، اللهم إلا في سورتين أو شبهها، على أن هاتين السورتين مثل: ﴿الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا﴾ [العنكبوت ١، ٢]، ﴿الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ﴾ [الروم ١، ٢] فيها ما يدل على القرآن، كالأخبار في قوله: ﴿غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ﴾ [الروم ٢، ٣]، وهذا من خصائص الوحي.
و﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا﴾ [العنكبوت ٢] فيها أيضًا إخبار عمن مضى؛ ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ إلى آخره [العنكبوت: ٣].
وأما ما زعمه المتأخرون الخالِفون من أن هذه الحروف تدل على إعجاز من نوع العدد والحسبان، حيث زعموا أن هذه الحروف الهجائية يوجَد نظيرها في السورة المفتَتَحة بها، ويكون مجموع هذا منقسمًا على تسعة عشر، ويزعمون أن هذا أكبر آية بأن القرآن كلام الله، ويحتجون لذلك بأن أول آية نزلت -على زعمهم- هي بسم الله الرحمن الرحيم، وأنها مكوَّنة من تسعة عشر حرفًا، وأن هذا هو معنى قوله تعالى: ﴿عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ﴾ [المدثر ٣٠]، وأن هذا -تسعة عشر- هي هذه الحروف، كل هذا -والعياذ بالله- كذب ولا ينضبط، وهو متناقض أيضًا وغير مُطَّرِد، لكن هم فرحوا بهذا الكمبيوتر الذي أخرج لهم عدد الحروف، وأنها بمجموعها تنقسم.
ونحن نقول: لا يمتنع أن الله سبحانه وتعالى أراد هذا، لا يمتنع، ولكننا نقول: لا نجزم بأن الله أراد هذا، فهنا فرق بين الجزم بأن هذه آية في القرآن، وبين أن نقول: لا نقول هذا.
أولًا: لأنه ليس في ذلك إعجاز، والبشر قد يسمعون خطبة مثلًا أو كلامًا تتكون الحروف الموجودة فيه، وتنقسم على هذا العدد، أو على أي عدد شاء، وليس بمعجِز.
ثم إن البسملة ليست أول ما نزل من القرآن، أول ما نزل ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ [العلق ١]، ثم إن البسملة أيضًا حروفها ليست كما قالوا أنها تسعة عشر؛ لأن القرآن إنما نزل مقروءًا ولَّا مكتوبًا؟
* طلبة: مقروءًا.
* الشيخ: مقروءًا، وهي بحروفها باعتبار القراءة ليست كذلك، والكتابة كما تعلمون هي صناعة، ربما لو فرض أن الكتابة في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام وعهد الخلفاء ليست على هذا الشكل، يمكن ولَّا ما يمكن؟ يمكن، الآن فيه بعض الكتابات في بعض اللغات يجعلون الحركة حرفًا، ويجعلون الحرف حرفين، أو يختصرون؛ يجعلون الحرفين حرفًا واحدًا، فالحاصل أن القرآن ما نزل مكتوبًا، وإنما نزل مقروءًا، ولا حجة في ذلك.
إذن: نقول: (الله أعلم بمراده بذلك) هذا أحد الأقوال في المسألة.
والقول الثاني: أنها رموز لأشياء معيَّنة، مثلما ذهب إليه المتأخِّرون، أو مثلما يذكر بعضهم أنها إشارة إلى حروب وملاحم تكون في آخر الزمان وما أشبهها.
والثالث: أن يقال: إنه ليس لها معنى، وإذا أورد علينا كيف نجزم بذلك؟
فالجواب: أن هذا القرآن نزل بلغة العرب، ولغة العرب لا تجعل لهذه الحروف معنى، لكنها إذا قلنا بأنه ليس لها معنى فإنما لها مغزًى يظهر -والله أعلم- أن الله أراد بها ذلك.
قال: (﴿طس تِلْكَ﴾ أي: هذه الآيات، ﴿آيَاتُ الْقُرْآنِ﴾: آيات منه، ﴿وَكِتَابٍ مُبِينٍ﴾: مُظْهِر للحق من الباطل، عطف بزيادة صفة هو ﴿هُدًى﴾ أي: هاد من الضلالة).
﴿تلك آيَاتُ الْقُرْآنِ﴾ المشار إليه سابق أو لاحق؟
* طالب: لاحق.
* الشيخ: المشار إليه لاحق وليس بسابق، وهذا مما تعود فيه الإشارة على متأخِّرٍ لفظًا ورتبة، وهو جائز إذا دل الدليل عليه.
وقوله: ﴿آيَاتُ الْقُرْآنِ﴾ يقول: (آيات منه)، وإنما لجأ المؤلف إلى قوله: (آيات منه)؛ لأننا لو أخذنا بظاهر الآية ﴿آيَاتُ الْقُرْآنِ﴾، لكان في ذلك حصر للقرآن في هذه الآيات، أليس كذلك؟ ﴿تلك آيَاتُ الْقُرْآنِ﴾، يعني: هذا الذي يشير إليه، ومعلوم أن هذا ليس آيات القرآن كلها، ولكنه بعض منها.
ويجوز مثلًا أن نجعل الآية على ظاهرها، ولا حاجة إلى التأويل، ونقول: ﴿تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ﴾ يُشَار إلى بعض الجنس بإشارة الجنس كله، كما تقول مثلًا: هذا البشر، وتشير إلى رجل واحد، أو هذا الإنسان، وتشير إلى رجل واحد.
فالمعنى أن الإشارة إلى بعض الجنس بالجنس كله هذا سائغ، ولا يحتاج إلى تأويل كما قال المؤلف.
وقوله: ﴿وَكِتَابٍ مُبِينٍ﴾، يقول: (عطف بزيادة صفة هو ﴿هُدًى﴾ )، عطف ويش على إيه، ﴿وَكِتَابٍ﴾.
* طالب: على ﴿آيَاتُ﴾.
* الشيخ: على ﴿آيَاتُ﴾، كذا؟ يصح ولَّا ما يصح هذا القول؟
* طالب: يصح، آيات مو مكتوبة.
* طالب آخر: ﴿آيَاتُ﴾ مرفوعة، ﴿كِتَابٍ﴾ مجرور..
* الشيخ: إي، ﴿كِتَابٍ﴾ مجرور، إذن على ﴿الْقُرْآنِ﴾ ﴿تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ﴾، وتلك آيات كتاب.
وإنما وصف هذا القرآن بالقرآن والكتاب؛ لأنه مقروء ومكتوب، فهو مكتوب في اللوح المحفوظ، وهو مقروء بالألسن، وهو مكتوب في المصاحف أيضًا، فكتابته سابقة ولاحقة، وقراءته لاحقة ولَّا سابقة؟
* طلبة: لاحقة.
* الشيخ: لاحقة؛ لأنها بعد أن تكلم الله به ونزل به جبريل، ﴿إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ﴾ [القيامة ١٧، ١٨]، والقرآن مشتق ولَّا مصدر؟
* طالب: مشتق.
* طالب آخر: مصدر.
* الشيخ: مصدر؛ لأنه مثل الغُفْران والشُّكْران، فهو مصدر (قرأ، يقرأ) بمعنى: تَلَا.
وقيل: إنه بمعنى جمع؛ لأن القاف والراء تدل على الجمع، ومنه القرية؛ لأنها مجتمع الناس.
وفي الحقيقة أن القرآن جامع للوصفين؛ فهو مَتْلُوٌّ، وهو مجموع أيضًا.
وأما قوله: ﴿كِتَابٍ﴾ فهي (فِعَال) بمعنى (مَفْعُول)، أي: مكتوب، و(فِعَال) بمعنى (مفعول) تأتي كثيرًا في اللغة العربية مثل بِنَاء بمعنى مَبْنِيّ، وغِرَاس بمعنى مَغْرُوس، وفِرَاش بمعنى مَفْرُوش، وأمثلتها كثيرة.
وسُمِّيَ كتابًا؛ لما أشرنا إليه قبل.
وقوله: ﴿مُبِينٍ﴾ أي: مُظْهِر للحق من الباطل، كلمة (مُبِين) فعلها؟
* طالب: أَبَانَ.
* الشيخ: أَبَانَ، و(أبان) يأتي لازمًا، ويأتي متعديًا، أي: يأتي بمعنى أَظْهَر، ويأتي بمعنى بَانَ.
ولهذا تجد المفسِّر أحيانًا يفسِّر (مُبِين) بمعنى (بَيِّن)، وعلى هذا التفسير تكون من اللازم ولَّا المتعدي؟
* طالب: من اللازم.
* الشيخ: من اللازم، ويفسِّرها أحيانًا بمعنى (مُظْهِر)، فتكون من المتعدي، ﴿وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ [آل عمران ١٦٤] أيش معنى مُبِين؟
* طالب: بَيِّن.
* الشيخ: أي: بَيِّن، لفي ضلال بَيِّن، فهي من (أَبَان) اللازم.
وأما مثل هذه الآية؛ أن القرآن مُبِين فهو بمعنى مُظْهِر، وهل يستلزم كونه مُظْهِرًا أن يكون هو بَيِّنًا؟
* طالب: نعم.
* الشيخ: نعم، يستلزم، أو نقول: إنه من باب استعمال المشترَك في معنيين، والصحيح جوازه، وقد مر علينا هذا، هل يجوز استعمال المشترَك في معنيين؟ والمشترَك أيضًا فاهمينه من قبل، وهو ما اتَّحد لفظه وتعدد معناه، هذا المشترَك، وسُمِّي بذلك؛ لأن المعاني مشتركة في لفظ واحد.
المشترَك الصحيح أنه يجوز استعماله في معنيين، بشرط أو بشرطين ذكرناهما قبل ليلتين، وأيش هي؟ أن لا يقع بينهما تعارض، وأن يكون محتمِلًا لهما، فإن كان لا يحتملهما ما يمكن يُحْمَل عليه، أو وقع بينهما تعارض ما يمكن، لا بد أن يكون أحدهم هو المقصود.
هنا مثلًا إذا قلنا: إن (مُبِين) من (أَبَان) اللازم، ومن (أبان) المتعدي، يجوز ولَّا ما يجوز؟ يجوز، وإن كان هذا مشترَكًا، لكنه إذا استُعْمِل في المعنيين فإنه مُسْتَعْمَل على وجه لا تعارض فيه، فالقرآن بَيِّن، والقرآن أيضًا مُظْهِر، وعلى هذا التقدير تكون دلالة (مُبِين) على أن القرآن بَيِّن دلالة مطابَقَة ولَّا دلالة التزام؟
* طالب: دلالة مطابَقَة.
* الشيخ: دلالة مطابَقَة، إذا جعلنا (مُبِين) مستَعْمَلة في المعنيين فالدلالة المطابَقَة، لكن لو قلنا: إن (مُبِين) بمعنى (مُظْهِر) فدلالته على كونه بَيِّنًا من باب دلالة الالتزام.
﴿وَكِتَابٍ مُبِينٍ﴾ بَيِّنٌ مُظْهِر للحق من الباطل، هل هو على عمومه، ولَّا خاص بما نزل به القرآن؟
يقول الله تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ [النحل ٨٩]، وهو عام في كل شيء، لكن البيان قد يكون بيانًا للشيء على وجه التفصيل، وقد يكون بيانًا لأسبابه وطرقه وأنت امشِ فيها.
فالقرآن في الحقيقة تبيانٌ لكل شيء، حتى في غير الأمور الشرعية يُبَيِّنها، لكن ما يُبَيِّن تفصيلها؛ لأن هذه غير الأمور الشرعية، خاضعة للزمن، والمكان، وأفهام الناس، وقُوَّتِهم، لكنه يذكر الأسباب والطرق، وأنت تستعملها في نفسك.
ولهذا إذا قال قائل: كيف يصح هذا القول منكم ونحن لا نرى في القرآن عدد ركعات الصلاة، ولا نرى فيها أنها خمس صلوات، ولا نرى أنصبة الزكاة، ولا مقادير (...) فيها، فما هو الجواب؟
* طالب: نقول: القرآن، يقول الله سبحانه وتعالى، كما قال ابن مسعود: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ [الحشر ٧]، فالآية تشمل ما بَيَّنَه الرسول، ثم أيضًا قوله تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ﴾ [النحل ٨٩]، ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ﴾ [آل عمران ٧]، ﴿لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ [النحل ٤٤] يعني..
* الشيخ: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾.
إذن يكون القرآن دالًّا على هذا ببيان سببه وطريقه، فعندنا الآن طريق العلم بهذا الشيء هو ما فَسَّرَه الرسول عليه الصلاة والسلام في السُّنَّة، وهذا بَيَّنَه القرآن، ولا يلزم أن يكون هذا القرآن لا بد أن يكتب كل التفاصيل، ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾ [النساء ٨٠].
وابن مسعود الذي أشار إليه الأخ في قصة لَعْن النامصة والْمُتَنَمِّصة، حيث جاءت إليه امرأة فقالت: إنَّا لا نجد هذا في كتاب الله، فقال: بلى، هو في كتاب الله، ثم تلا عليها هذه الآية[[أخرجه أحمد في المسند (٣٩٤٥)، والطبراني في المعجم الكبير (٩٤٦٦) عن ابن مسعود.]].
الحاصل أن القرآن مُبَيِّن لكل شيء، لكن البيان قد يكون تفصيليًّا، وهذا في بعض الأمور موجود، كما في المواريث مثلًا، في الْمُطَلَّقَات، هذا تجده ما يَشِذّ عن هذا إلا مسائل قليلة جدًّا، ومع ذلك بيانها موجود عند التأمل، ولَّا لا؟
يعني تفصيل الفرائض تفصيلٌ ما شذ عنه شيء، ما شَذَّ إلا كان مسألة واحدة وهي الْجَدَّة، هذه ما هي مذكورة في القرآن، لكنها جاءت بها السنة، وأما ما عدا ذلك، حتى المسائل الخلافية كالْمُشَرَّكة مثلًا وكالعُمَرِيَّتَيْن نجد أنها موجودة في القرآن، وكالجد والإخوة نجد أنه موجود بيانها في القرآن، لكنه يحتاج إلى تأمل.
قال الله تعالى: (﴿وَكِتَابٍ مُبِينٍ﴾ مُظْهِر للحق من الباطل، عطف بزيادة صفةٍ هو ﴿هُدًى﴾ ).
بزيادة صفة، وين الصفة؟
* طالب: ﴿مُبِينٍ﴾.
* الشيخ: ﴿مُبِينٍ﴾.
ثم قال: (هو ﴿هُدًى﴾ )، قَدَّر المؤلِّف (هو)؛ ليبين لنا إعراب (هدى)، فعلى تقديره يكون (هدى) خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: هو (﴿هُدًى﴾ أي: هاد من الضلالة).
ومعلوم أن (هدى) مصدر، وأن (هادٍ) اسم فاعل، فيكون المؤلف هنا فَسَّر المصدر باسم الفاعل، وفي تفسيره نظر؛ لأن الأَوْلى أن يُجْعَل المصدر على بابه؛ لسببين:
السبب الأول: أن تحويل اسم الفاعل إلى المصدر أبلغ، فإنك إذا قلت: فلان عدْل، وفلان عادِل، أيهم أبلغ؟
* الطلبة: عَدْل.
* الشيخ: عَدْل أبلغ، يعني كأنه مصدر العَدْل، لكن (عادل) مُتَّصِف بالعدل الموجود في غيره، لا شك أن المصدر أبلغ.
السبب الثاني في هذه الآية: أنَّ جَعْله هُدًى، معناه أن القرآن نفسه هدى يهتدي به الإنسان، فهو كالعلم الذي يسير الإنسان وراءه حتى يصل إلى غايته، مثلما سَمَّاهُ الله تعالى نورًا، ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا﴾ [النساء ١٧٤].
فنحن نقول: إن (هدى) يجب أن تبقى على ما هي عليه، أي أنها مصدر، وهو أبلغ من تحويلها إلى اسم الفاعل، والثاني أنها مصدر؛ لأن القرآن نفسه هدى، ليس هاديًا، بل هو هدى يُهْتَدى به، مثلما قال: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا﴾.
* * *
وقوله تعالى: ﴿هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [النمل ٢] (بشرى) أيضًا بمعنى بشارة، لكن لمن؟ (﴿لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ الْمُصَدِّقِين به بالجنة).
قوله: (بالجنة) نذكر هذا بعد.
قوله: ﴿لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ أي: الْمُصَدِّقِين به، ما يكفي هنا الإيمان مجرد التصديق، بل الإيمان الموجود في القرآن لا بد فيه من قبول وإذعان مع التصديق، أما مجرد التصديق ما يكفي، والدليل على أن مجرد التصديق لا يكفي أن أبا طالب كان مصدِّقًا لما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام، ويقول:
؎لَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ ابْنَنَا لَا مُكَذَّبٌ ∗∗∗ لَدَيْنَا وَلَا يُعْنَى بِقَوْلِ الْأَبَاطِلِ؎وَلَقَدْ عَلِمْتُ بِأَنَّ دِيــــنَ مُحَمَّــــــدٍ ∗∗∗ مِــــنْ خــيْرِ أَدْيَانِ الْبَرِيَّـــــــةِدِينَــا؎لَوْلَا الْمَلَامَةُ أَوْ حِذَارُ مَسَبَّـــــــةٍ ∗∗∗ لَــرَأَيْتَنِي سَمْـــحًا بِـــــذَاكَمُبِينَـــــــــا
فإذن هو ما قَبِل ولا أذعن، وليس بمؤمن، فالإيمان كلما وجدت الإيمان في كتاب الله فالمراد به التصديق المستَلْزِم للقبول والإذعان، فليس مجرد تصديق.
فإذن للمؤمنين المصدِّقين به القابلين له المذْعِنين لأحكامه، لا بد من هذا.
وقوله: ﴿هُدًى وَبُشْرَى﴾ لهؤلاء ﴿لِلْمُؤْمِنِينَ﴾، يُسْتَفَاد من ذلك أنه كلما كمُل الإيمان في العبد كمُل اهتداؤه بالقرآن، ولَّا لا؟ لأن الشيء إذا عُلِّق بوصف زاد بزيادة ذلك الوصف، ونقص بنقصه، الحكم إذا عُلِّق بوصف فإن هذا الوصف يزيد الحكم بزيادته، وينقص بنقصانه، وهذا معلوم حتى في المحسوس، تجد أن الشيء المعلَّق بشيء يزيد بزيادته، وينقص بنقصانه.
فنقول: كلما ازداد الإنسان إيمانًا ازداد اهتداء بالقرآن، ويدلك على هذا قول الله تعالى: ﴿وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾ [التوبة ١٢٤].
ويدل أيضًا على هذا قوله تعالى: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ﴾ [المائدة ١٣].
وأيضًا ﴿بُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾، البشارة هي الإخبار بما يَسُرّ، وقد تُطلَق على الإخبار بما يسوء، لكن بقرينة.
وهنا يقول: بشرى بالجنة.
ولكن الصحيح أنها بشرى بما هو أعم؛ بالجنة، وبالعزة، والكرامة، وبالنصر، قال الله تعالى: ﴿وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ﴾ [الصف ١٣] بعدما ذكر الجنة في المؤمنين، ثم قال: ﴿وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾، يعني: بَشِّرْهم بما لهم في الجنة، وبَشِّرْهم بما لهم في الدنيا من النصر.
وكل إنسان بطبيعته البشرية يحب أن ينتصر على عدوه، أليس كذلك؟ ويحب أن يكون له العز والكرامة، هذا لا يمكن أن يكون إلا بالإيمان، وكلما ازددنا إيمانًا ازددنا انتصارًا على عدونا، وكلما تخاذلنا في الإيمان خُذِلْنَا، ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ [الرعد ١١]، وإذا أردتم دليلًا على هذا فانظروا إلى الذين يُطَنْطِنُون بالقومية العربية، من متى يُطَنْطِنُون بها؟
* طالب: من أول القرن.
* الشيخ: إي، أظن من أول القرن، يعني من زمان، وتبلغ هذه الدعوة أوجها في التدجيل، ومع ذلك لا يزدادون إلا تأخرًا وضعفًا؛ لأنها ما على إيمان، لكن لما ظهرت بادرة الدعوة إلى الإسلام والتضامن الإسلامي، ماذا حصل؟
حاولوا بكل ما يستطيعون أن يقضوا على هذا، ليس من الدول الكافرة، بل حتى من الدول التي تزعم أنها مسلمة، وهي عربية، وصاروا يقولون: هذه دعوة رجعية، إلى آخره، وأخيرًا قُضِيَ على من قام بها وبالدعوة إليها، فالحاصل: إنا الآن إذا أردنا أن نرجع إلى العزة والكرامة والنصر فلا يكون ذلك إلا بالإيمان.
وقد يقول قائل: كيف ننتصر بالإيمان على القنابل الذرية والهيدروجينية؟
* طالب: معنا قوة الله سبحانه وتعالى، ونستعد بالقوة كما أمرنا الله.
* الشيخ: نعم، نقول: نحن إذا أخذنا بالقوة المعنوية فإن توفرت لنا القوة المادية وإلا جاءت القوة الإلهية، فنحن مثلًا من جملة الإيمان أن نستعد، لكن إذا عجزنا عن الاستعداد جاء دور النصر الإلهي، فيُبْطِل ما عليه هؤلاء الأعداء من القوة، والله تبارك وتعالى على كل شيء قدير، التغيرات الجوية تؤثر في أسلحتهم هذه ولَّا لا؟ الصواعق تدمرها، الخسف يذهب بها وبأهلها، وكل هذا بيد الله عز وجل.
وقد حدثني إنسان في العام الماضي ذهب إلى أفغانستان للقتال معهم وهو شاب متخرِّج من أمريكا، لكنه أصرَّ -وأظن قد قصصت عليكم قصته- أصرَّ إلا أن يجاهد، وقال: ما يمكن أموت بدون جهاد، ولزَّم على أمه وأبيه، وجعلوا الحكم إلى الله سبحانه وتعالى، ثم إليّ أحكم بينهم، هم يقولون: لا تروح، وهو يقول: لا، أبغي أروح، يقولون: لا تروح، ما حجيت، ما أديت الفريضة، وهو يقول: لا، أبغي أروح وألتزم لكم أني أرجع في ذي الحجة وأحج.
المهم بعدما أفطر رمضان العام الماضي راح، وشاهد شاهد عيان يقول: مع قلَّة العُدَّة التي عندهم، حتى يقول: الأدوية، ما عندهم أدوية إلا أدوية قديمة فاسدة، تبيع عليهم الشركات وتغشّهم، لكن يقول: شاهدت بعيني، هم بانين -يقول- مسجد للجمعة يجتمعون فيه، يقول: الروس يحرصون يوم الجمعة على أنهم يأتون إلى هذا المسجد ليدَمِّروه، هم يقول: يجعلون على المناطق ناسًا يحرسون المسجد وما حوله.
فجاءت –يقول- القنابل وضربت على المسجد، يريدون المسجد، لكن يقول: كلها ما تضرب المسجد، وتضرب اللي حوله ولا تطوله، سبحان الله العظيم!
يقول: ما طارت إلا واحدة فقط طارت على أحد الجنود وقتلته، والباقي يقول: أبدًا، يعني يخرجون ما كأن شيئًا أبدًا، وهذه من آيات الله سبحانه وتعالى.
فالحاصل إننا نقول: إن النصر –يعني- يجب أن نعرف أنه لا يُعْتَمَد على القوة المادية فقط، هناك وراءها شيء.
ولهذا يقول الله عز وجل: ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٤٠) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَر﴾ [الحج ٤٠، ٤١] أربع صفات.
قد يقول قائل: وما لنا وللنصر مع هذه الصفات عند القنابل وغيرها، لكن ختم الآية بقوله: ﴿وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ﴾ [الحج ٤١]، ما هي بالأمور الحسية، العاقبة لله عز وجل، فهو سبحانه وتعالى يُدِيل الأيام على من عصى وخالف.
* طالب: أو يؤمن أحد الرؤساء ويمنح المسلمين قوة؟
* الشيخ: نعم صحيح، ربما يكون هذا، على كل حال لا تستبعد، لكن نحن نستبعد النصر بسبب أعمالنا في الحقيقة، ما عندنا رصيد يخوِّل لنا أن ننتصر.
إذن: ﴿وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ بالجنة، كما قال المؤلف، أو بما هو أعم؟
* طلبة: بما هو أعم.
* الشيخ: ويش الدليل؟
* طالب: لقوله تعالى في سورة الصف.
* الشيخ: في سورة الصف: ﴿تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ﴾ [الصف ١١، ١٢].
ثم قال: ﴿وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ﴾ ثم قال: ﴿وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الصف ١٣].
* * *
ثم قال الله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ﴾ [النمل ٣] يأتون بها على وجهها، أقام الشيء: أتى به مستقيمًا، ولا تكون الصلاة مستقيمة إلا إذا أتى بها على وجهها.
وإقامة الصلاة كما تعرفون نوعان: نوع لا بد منه؛ وهو الإتيان بالأركان والواجبات والشروط، ونوع يكون على وجه الكمال، وهو الإتيان بالمكَمِّلات من السنن وغيرها.
(﴿الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ﴾: يأتون بها على وجهها، ﴿وَيُؤْتُونَ﴾: يعطون، ﴿الزَّكَاةَ﴾ ) إلى آخره.
قوله: ﴿يُقِيمُونَ الصَّلاةَ﴾، هل المراد الفريضة ولَّا النافلة؟
* طالب: الفريضة.
* طالب آخر: عامٌّ.
* الشيخ: نعم، عامٌّ؛ لأنه لا يجوز للإنسان أن يأتي بالسُّنَّة مثلًا على وجه ينافي الكمال الواجب، لو قال واحد: أنا بتسَنَّن تَطَوُّع، لكن ما أنا بقارئ الفاتحة، سُنَّة، يجوز ولَّا لا؟
* طالب: لا.
* الشيخ: ما يجوز، نقول: الآن يجب عليك أن تقرأ الفاتحة، لو قال: ما أنا براكع، ما أنا بساجد، ما يمكن هذا.
فإذن الآية الصلاة عامة، إقامتها في الواجب وفي التطوع.
وقوله: ﴿يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ﴾ ما بَيَّنَ المفعول الثاني لـ﴿يُؤْتُونَ﴾، لكنه معلوم، ويش التقدير؟ يؤتون الزكاة مُسْتَحِقَّها، وقد بَيَّنَ الله تبارك وتعالى مُسْتَحِقّ الزكاة في سورة (براءة) ببيان واضح مُفَصَّل.
وقوله: ﴿يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ﴾ الزكاة ما حاجة إلى تعريفها عندكم؛ لأنكم تعرفونها، وسُمِّيَت زكاة لأنها تُزَكِّي الإنسان، ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾ [التوبة ١٠٣].
قوله: ﴿وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ﴾ هذا ثناء على الْمُؤْتِين للزكاة، والسورة كما رأينا مَكِّيَّة، فهل معنى ذلك أن الزكاة فُرِضَت في مكة أو في المدينة؟
المعروف عند أهل العلم أنها فُرِضَت في المدينة، ولكن الصحيح أنها فُرِضَت في مكة، ولكن تقدير أنصبائها وبيان الأموال على وجه التفصيل كان ذلك في المدينة، هذا هو الصحيح، وهو الذي به تجتمع الأدلة.
وقوله: ﴿وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾.
* طالب: التقدير الصلاة بَيَّنَها وبَيَّن الزكاة بعدها، ما يكون من باب تأخير بيان الأحكام؟
* الشيخ: لا. هذا من باب التطوع.
* الطالب: يُبَيِّن الزكاة؟
* الشيخ: يُبَيِّن الزكاة، وخَلَّاها موكولة للإنسان يُخْرِج ما شاء لأجل النفوس تتعود، ثم بعد ذلك يُفْرَض عليها الشيء الذي أراده الله سبحانه وتعالى.
* الطالب: يعني كان الإنسان يختاره.
* الشيخ: إي، يختار ما يُخرج، إي نعم، هذا مثل غيره من الأشياء التي تطورت، الصلاة فُرِضَت ركعتين، ثم أُقِرَّت صلاة السفر، وزِيد في صلاة الحضر، الزكاة هكذا فُرِضَت أولًا على اختيار الإنسان، ثم حُدِّدت، الصيام فُرِض على سبيل التخيير ثم عُيِّن، الحج هو الذي ما أعلم فيه إلا أنه فُرِض مرة واحدة، ولكن السبب في ذلك أنه أتى في السنة التاسعة أو العاشرة بعد أن استقر الإيمان في القلوب، فلا حاجة إلى أن تُدَرَّج النفوس من مرحلة إلى مرحلة.
* طالب: قول ابن عباس: أَوَّلُ ما فُرِضَت الصلاة أربعًا[[أخرجه مسلم (٦٨٥ / ٥) من حديث مجاهد عن ابن عباس.]]؟
* الشيخ: ما هو بصحيح، لو كان هذا قوله فحديث عائشة صريح بأن أول ما فُرِضَت الصلاة ركعتين.
* الطالب: حديث صحيح.
* الشيخ: لكن هذا أصح منه، وأنا ما علمت اللي تقول هذا عن ابن عباس، حتى لو قاله ابن عباس فحديث عائشة أصح.
* الطالب: هناك من العلماء مثل ابن حجر جمع بين الحديثين بأن عائشة ذَكَرت أول (...)، وابن عباس ذكر ما استقر عليه الناس، كأنها أول ما فُرِضَت أربعة، ثم فُرِضَت ركعتين، وزيد في ..
* الشيخ: يعني فُرضت مرتين يعني؟
* الطالب: إي نعم.
* الشيخ: إن حديث عائشة صريح صحيح: «أول ما فُرِضَتْ رَكْعَتَيْنِ»[[متفق عليه؛ البخاري (١٠٩٠)، ومسلم (٦٨٥ / ٣).]]، فعلى هذا الجمع معناه أنها أولًا فُرِضَت أربعًا، ثم فُرِضَت ركعتين، ثم قُسِّم إلى حضر وسفر؟
* طالب: هل يجوز التدريج بالأحكام لمن يُسْلِم؟
* الشيخ: الظاهر لي أنه يجوز، وأن يأمره بالأهم فالأهم، مثلما أمر الرسول عليه الصلاة والسلام معاذ بن جبل، مع أن الأحكام مستقرة، قال: «أَوَّلُ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ شَهَادَةُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، ثُمَّ إِقَامُ الصَّلَاةِ، ثُمَّ إِيتَاءُ الزَّكَاةِ»[[أخرجه مسلم (١٩ / ٢٩) من حديث معاذ بن جبل.]]، مع أن كل هذه كانت مفروضة، وحتى الصوم والحج أيضًا مفروض.
* * *
قال: (﴿وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾ يعلمونها بالاستدلال، وأُعِيدَ (هم) لِمَا فُصِلَ بينه وبين الخبر).
وقوله: ﴿وَهُمْ﴾ مبتدأ، و﴿يُوقِنُونَ﴾ خبره، و﴿بِالآخِرَةِ﴾ متعلق بـ(يوقنون).
ولكن كلمة (هم) أعيدت مرة ثانية، هل هذا من باب التوكيد، ﴿وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾، يعني: وهم هم الذين يوقنون دون غيرهم، أو أنه كما قال المؤلف: للفصل بينه وبين الخبر، والفاصل قوله: ﴿بِالآخِرَةِ﴾؟
يحتمل هذا وهذا، وقد يجوز أن يكون المراد الجميع، فبَيَّن الله سبحانه وتعالى أنهم هم أهل الإيقان، حيث كرر الضمير مرتين، وكُرِّرَ أيضًا مرتين ليطول الفصل بين الخبر وبين المبتدأ بالفصل.
ولكن الإيقان يقول المؤلف: (يعلمونها بالاستدلال)، إنما قال: (بالاستدلال)؛ لأن اليقين أخص من العلم؛ إذ إن اليقين معناه العلم الذي لا يتطرق إليه الاحتمال، فهو أعلى درجات العلم، وهذا إنما يكون بالاستدلال، يعني: بالأدلة المبيِّنَة الْمُقْنِعة، فلهذا فَسَّر المؤلف اليقين بأنه العلم بالأشياء عن طريق الاستدلال.
وقوله: ﴿بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾ المراد بالآخرة أنه يُبْعَث الناس فقط؟ لا، كل ما أخبر الله تعالى به مما يكون في هذا اليوم، أو أخبر به رسوله، فإنه داخل بالآخرة.
بل إن شيخ الإسلام رحمه الله يقول: إنه يدخل في الإيمان باليوم الآخر كل ما أخبر به النبي ﷺ مما يكون بعد الموت.
فعلى هذا يكون الآخرة المراد بها ما بعد الدنيا، يشمل عذاب القبر، ونعيم القبر، ويشمل كذلك الموازين في يوم القيامة، والحوض المورود للرسول عليه الصلاة والسلام، وما ذُكِر.
هل بقي شيء من الإيمان؟ لأنه ذَكَر إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والإيقان بالآخرة.
* طالب: الإيمان بالله.
* طالب آخر: الإيمان بالرسل.
* الشيخ: لا، نحن ذكرنا أن الإيمان بالله يتضمن الإيمان بالرسل، ويتضمن الإيمان بالكتب، بل ويتضمن الإيمان باليوم الآخر أيضًا، والإيمان بالملائكة.
* طالب: بالقدر.
* الشيخ: الإيمان بالقدر من الإيمان بالله؛ لأن القدر قدر الله سبحانه وتعالى، لكن بقي عندنا الصيام والحج، وهو من أركان الإسلام.
والجواب على ذلك: أن السورة مكيَّة، والصيام والحج لم يُفْرَض بمكة بالاتفاق، فالصيام فُرِض في السنة الثانية، والحج فُرِض في السنة التاسعة، أو العاشرة، على القول الراجح، وعلى هذا ما في الآية إشكال.
* ويستفاد منها: أن الإنسان إذا آمن بالشرائع الْمُنَزَّلة فهو كامل الإيمان وإن لم يدرك الفرائض المتأخِّرة، فالذين ماتوا من الصحابة قبل فرض الصيام إسلامهم كامل، بل إن الرجل يمكن أن يؤمن ويموت قبل أن يصلي صلاة واحدة، ويكون بذلك كامل الإيمان، يعني إيمانه هو كامل، وإن كان غيره اللي أدرك أكمل منه، لكن هو بالنسبة إليه ما يقال: إيمانه ناقص، أي أنه ناقص نقصًا يُخِلّ به.
* * *
(﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ﴾ [النور ٤] القبيحة بتركيب الشهوة حتى رأوها حسنة، ﴿فَهُمْ يَعْمَهُونَ﴾: يتحيرون فيها؛ لقبحها عندنا).
﴿إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ﴾ أي: لا يُصَدِّقون بها، كذا نقول؟
* طالب: لا يصدقون المستلزِم..
* الشيخ: هم إذا لم يُصدِّقوا معلوم ما هم بقابلين ولا مُذْعِنين؛ لأن مَن لم يُصَدِّق لا يمكن أن يقبل أو يُذْعِن، طيب إذا صَدَّقوا بها ولم يقبلوا ولم يُذْعِنوا؟ نفس الشيء.
إذن: ﴿لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ﴾ يشمل نفي التصديق، ونفي القبول، ونفي الإذعان، وأظنكم تعرفون الفرق بين القبول والإذعان؟
أقبل مثلًا أن هذا الشيء فرض وأعتقده فرضًا، لكن ما أفعله، ويش اللي تخلَّص؟
* الطلبة: الإذعان.
* الشيخ: الإذعان، وأما عدم القبول يرفض هذا، وهذا ما هو بواجب، ولا نعترف بأنه فرض، وأما (...) فهو الإنكار المطلَق.
﴿الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالهمْ﴾.
* طالب: الفرق بينهم.
* الشيخ: التصديق والقبول، التصديق: أنه يُصدِّق بأن هذا حق لكنه ما يقبله، يقول: نعم، هذا الرجل جاء بالحق لكن أنا ما أقبله، والقبول: في الغالب يكون في المعتَقَدات، والإذعان في الأعمال الظاهرة كأعمال الجوارح.
﴿زَيَّنَّا لَهُمْ﴾ هذه الجملة ﴿زَيَّنَّا﴾ خبر (إن)، وتفيد أن العِلَّة في التزيين عدم الإيمان بالآخرة، وأن الله تعالى لم يُزَيِّن لهم هذه الأعمال إلا بسبب عدم إيمانهم، ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ (...).
[[اختُصِرَ كلام المؤلف لشدة طوله]]
{"ayahs_start":56,"ayahs":["۞ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوۡمِهِۦۤ إِلَّاۤ أَن قَالُوۤا۟ أَخۡرِجُوۤا۟ ءَالَ لُوطࣲ مِّن قَرۡیَتِكُمۡۖ إِنَّهُمۡ أُنَاسࣱ یَتَطَهَّرُونَ","فَأَنجَیۡنَـٰهُ وَأَهۡلَهُۥۤ إِلَّا ٱمۡرَأَتَهُۥ قَدَّرۡنَـٰهَا مِنَ ٱلۡغَـٰبِرِینَ","وَأَمۡطَرۡنَا عَلَیۡهِم مَّطَرࣰاۖ فَسَاۤءَ مَطَرُ ٱلۡمُنذَرِینَ","قُلِ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ وَسَلَـٰمٌ عَلَىٰ عِبَادِهِ ٱلَّذِینَ ٱصۡطَفَىٰۤۗ ءَاۤللَّهُ خَیۡرٌ أَمَّا یُشۡرِكُونَ","أَمَّنۡ خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ ٱلسَّمَاۤءِ مَاۤءࣰ فَأَنۢبَتۡنَا بِهِۦ حَدَاۤىِٕقَ ذَاتَ بَهۡجَةࣲ مَّا كَانَ لَكُمۡ أَن تُنۢبِتُوا۟ شَجَرَهَاۤۗ أَءِلَـٰهࣱ مَّعَ ٱللَّهِۚ بَلۡ هُمۡ قَوۡمࣱ یَعۡدِلُونَ","أَمَّن جَعَلَ ٱلۡأَرۡضَ قَرَارࣰا وَجَعَلَ خِلَـٰلَهَاۤ أَنۡهَـٰرࣰا وَجَعَلَ لَهَا رَوَ ٰسِیَ وَجَعَلَ بَیۡنَ ٱلۡبَحۡرَیۡنِ حَاجِزًاۗ أَءِلَـٰهࣱ مَّعَ ٱللَّهِۚ بَلۡ أَكۡثَرُهُمۡ لَا یَعۡلَمُونَ","أَمَّن یُجِیبُ ٱلۡمُضۡطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَیَكۡشِفُ ٱلسُّوۤءَ وَیَجۡعَلُكُمۡ خُلَفَاۤءَ ٱلۡأَرۡضِۗ أَءِلَـٰهࣱ مَّعَ ٱللَّهِۚ قَلِیلࣰا مَّا تَذَكَّرُونَ","أَمَّن یَهۡدِیكُمۡ فِی ظُلُمَـٰتِ ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ وَمَن یُرۡسِلُ ٱلرِّیَـٰحَ بُشۡرَۢا بَیۡنَ یَدَیۡ رَحۡمَتِهِۦۤۗ أَءِلَـٰهࣱ مَّعَ ٱللَّهِۚ تَعَـٰلَى ٱللَّهُ عَمَّا یُشۡرِكُونَ","أَمَّن یَبۡدَؤُا۟ ٱلۡخَلۡقَ ثُمَّ یُعِیدُهُۥ وَمَن یَرۡزُقُكُم مِّنَ ٱلسَّمَاۤءِ وَٱلۡأَرۡضِۗ أَءِلَـٰهࣱ مَّعَ ٱللَّهِۚ قُلۡ هَاتُوا۟ بُرۡهَـٰنَكُمۡ إِن كُنتُمۡ صَـٰدِقِینَ"],"ayah":"قُلِ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ وَسَلَـٰمٌ عَلَىٰ عِبَادِهِ ٱلَّذِینَ ٱصۡطَفَىٰۤۗ ءَاۤللَّهُ خَیۡرٌ أَمَّا یُشۡرِكُونَ"}