الباحث القرآني

قال تعالى: ﴿فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا﴾ [الشعراء ٢١] إلى آخره ﴿فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ﴾ وسبب فراره منهم أن رجلًا جاءه يسعى، وقال: ﴿يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ﴾ [القصص ٢٠]، والرجل هذا كما تعرفون مجهول؛ لأنه قال: جاء رجل، لكن قَبِل موسى خبره لوجود القرينة، ويش هي القرينة؟ * طالب: قتله القبطي. * الشيخ: قتله القبطي، وإلا فما يقبل خبر رجل مجهول، ثم إن هذا الرجل أكد خبره بقوله: ﴿فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ﴾ [القصص ٢٠] فخرج، فر منه خائفًا. ﴿فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ﴾ (لما) ظرف بمعنى: حين، وتعرفون أنها تستعمل عدة استعمالات (لما)، فتُستعمل ظرفًا بمعنى: حين، وتُستعمل بمعنى أداة استثناء بمعنى: إلا، وتُستعمل شرطية، وتُستعمل نافية، أما استعمالها نافية ففي مثل قول الله تعالى؟ * طالب: ﴿وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ [الحجرات ١٤]. * الشيخ: ﴿وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ﴾ [الحجرات ١٤] يعني: لم يدخل. وأما استعمالها شرطية ففي مثل قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ﴾ [البقرة ١٠١] (ولما جاءهم.. نبذ) هذه شرطية، وأما استعمالها بمعنى (إلا) ففي مثل قول الله تعالى: ﴿إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ﴾ [الطارق ٤] يعني: ما كل نفس إلا عليها حافظ. وهنا ﴿لَمَّا خِفْتُكُمْ﴾ اسم بمعنى حين، فهي ظرف يعني: لما خفتكم أي حين خفتكم، ﴿فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا﴾ [الشعراء ٢١] وهذا مما يؤيد ما سبق أن أشرنا إليه بأن الكلمات تعتبر حقيقة بحسب السياق، وأن هذا هو مأخذ شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في أنه ليس في اللغة العربية ما يُسمى بالمجاز مطلقًا؛ لأن المعنى ليس أمرًا ذاتيًّا للكلمة، بل الكلمة لها معنى بحسب سياقها، وقرائن أحوالها. * طالب: الرجل الذي ذُكِر في سورة القصص ﴿وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى﴾ [القصص ٢٠]، ما يُفسر بأنه الرجل في سورة غافر ﴿وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ﴾ [غافر ٢٨]. * الشيخ: ما هو بالظاهر؛ لأن الرجل المؤمن هذا بعد أن جاء إلى فرعون بالرسالة، وأما الأول فإنه قبل أن يذهب إلى مدين، ما يمكن (...)؛ لأنه ما يتعين، ما ندري قد يكون هو، لكن تفسيرنا إياه معناه نجزم بأنه هو، وليس كذلك. * طالب: إعراب ﴿لَمَّا خِفْتُكُمْ﴾ لما.. * الشيخ: أي حين خفتكم ظرف بمعنى حين. (﴿فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا﴾ علما ﴿وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ ). ﴿فَوَهَبَ لِي﴾ أعطاني، وقوله: ﴿حُكْمًا﴾ عِلمًا، ولكن تفسير الحكم بالعلم قد يقول قائل: إن فيه نظرًا؛ لأن الله تعالى يعطف بعضهما على بعض ﴿آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا﴾ [يوسف ٢٢] والعطف يقتضي المغايرة، وإذا كان كذلك فإنه لا يمكن أن يفسر أحدهما بالآخر، ولننظر: هل هذا صحيح اعتراضنا، أو يُقال: إنهما من الألفاظ التي إذا اجتمعت افترقت، وإذا افترقت اجتمعت، فإذا اجتمعتا تغايرتا، وإذا انفردت إحداهما صار معنى كل واحدة معنى الأخرى. ﴿فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ [الشعراء ٢١] الحكم القضاء بالشيء يسمى حُكمًا، ولا حكم إلا بعلم، فتفسير الحكم الآن بلازمه ولّا لا؟ تفسيره بلازمه، وإذا جُمع مع العلم صار العلم ضد الجهل، والحكم تطبيق ذلك العلم، فالذي يظهر أن المراد بالحكم هنا أخف من العلم؛ يعني الحكم: القضاء، أو ما به يقضي الإنسان بين الناس، ولا يكون ذلك إلا بعلم، فتفسير المؤلف له تفسير بلازمه؛ لأن من لازم الحكم العلم، وليس من لازم العلم الحكم؛ لأن الإنسان قد يعلم ولكن ما يحكم. وقوله: ﴿وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ هذا بعد أن أوحى الله إليه، وآتاه من العلم والحكم جعله أيضًا مرسلًا، كلف بالرسالة. وفي قوله: ﴿مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ ولم يقل: وجعلني رسولًا، كالتنبيه لفرعون أنه ليس ببدع من الرسل، وأنه لم يأت بأمر جديد، بل إن أمامه رسلًا، وقد ذكر الله تعالى في سورة غافر أن الرجل المؤمن يقول لهم: ﴿وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ﴾ [غافر ٣٤]، فكأنه يقول له: ﴿وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ الذين عندك خبرهم، فلست ببدع من الرسل.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب