الباحث القرآني

(﴿وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ﴾ [الشعراء ٢٠٨] رسل تنذر أهلها)، قوله: ﴿إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ﴾ هذه صفة لـ﴿قَرْيَةٍ﴾؛ يعني: ما أهلكناها إلا في هذه الحال ﴿إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ﴾. و﴿مُنْذِرُونَ﴾ هل المراد أن الله تعالى ينذر (...) رسله؛ يعني إلا ونحن لها منذرون، أو أن ﴿إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ﴾؛ يعني: رسل تنذر؟ المؤلف يقول: ﴿إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ﴾؛ يعني: إلا ولها رسلٌ تُنْذِرها، ولكنهم مِن قِبَلِ مَن هؤلاء الرسل؟ مِن قِبَلِ اللهِ. (﴿ذِكْرَى﴾ [الشعراء: ٢٠٩] عظة لهم)؛ يعني أننا نرسل هؤلاء المنذرين لأجل الذكرى؛ يعني الموعظة لهؤلاء، (﴿وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ﴾ في إهلاكهم بعد إنذارهم). المؤلف يقول: (﴿وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ﴾ في إهلاكهم بعد إنذارهم) وهذا صحيح، ويحتمل ﴿وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ﴾؛ أي مهلكين بدون إنذار، والمعنى صحيح على هذا الوجه، وعلى الوجه الذي ذكر المؤلف؛ فالله تعالى إذا أهلكهم بعد إنذارهم وقد عصوا فهو لم يظلمهم، وكذلك لا يمكن أن يهلك مَن لا يُنْذَرُ؛ لأن ذلك ظلم. * وفي هذه الآية دليل على أن الشرع لا يلزم قبل بلوغه؛ أن الشرائع لا تلزم إلا بعد العلم، وأنه ما دام الإنسان غير عالم بالشرع فإنه لا يُكلَّف به. ولهذا شواهد؛ منها: ما مَرَّ علينا في قصة المسيء في صلاته[[أخرج البخاري (٧٩٣)، ومسلم واللفظ له (٣٩٧ / ٤٥) عن أبي هريرة: أن رسول الله ﷺ دخل المسجد، فدخل رجل فصلى، ثم جاء فسلم على رسول الله ﷺ، فرد رسول الله ﷺ السلام، قال: «ارجع فصل؛ فإنك لم تصل». فرجع الرجل فصلى كما كان صلى، ثم جاء إلى النبي ﷺ فسلم عليه، فقال رسول الله ﷺ: «وعليك السلام». ثم قال: «ارجع فصل؛ فإنك لم تصل». حتى فعل ذلك ثلاث مرات. فقال الرجل: والذي بعثك بالحق ما أحسن غير هذا، علمني، قال: «إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعًا، ثم ارفع حتى تعدل قائمًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها».]]؛ فإن الرسول لم يلزمه بقضاء ما فاته لأنه ما علم، ومنه: المرأة التي كانت تستحاض فلا تصلي، فلم يأمرها النبي ﷺ بالقضاء[[أخرج البخاري (٣٢٠) عن عائشة: أن فاطمة بنت أبي حبيش كانت تستحاض، فسألت النبي ﷺ، افقال: «ذلك عرق وليست بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغتسلي وصلي».]]، ومنها: حديث عدي بن حاتم؛ حيث أكل بعد طلوع الفجر[[أخرج البخاري (١٩١٦)، ومسلم (١٠٩٠ / ٣٣) عن عدي بن حاتم رضي الله عنه، قال: لما نزلت: ﴿حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ﴾، قال له عدي بن حاتم: يا رسول الله، إني أجعل تحت وسادتي عقالين: عقالًا أبيض وعقالًا أسود، أعرف الليل من النهار؟ فقال رسول الله ﷺ: «إن وسادتك لعريض، إنما هو سواد الليل وبياض النهار».]]، إلى غير ذلك أشياء كثيرة من هذا، إلا أنه قد يلزم الإنسان بالشيء إذا كان مفرطًا مهملًا؛ مثل لو انقدح في ذهنه، أو قيل له: إن هذا الشيء واجب، ولكنه قال كما يقول العامة: ﴿لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾ [المائدة ١٠١]، (...) لا تفتش بكرة يقولوا: كذا واجب ومنه يحرجونه، أو هو يفعل شيء وانقدح في ذهنه أنه حرام أو قيل له: إنه حرام، وقال: (...)، أخاف إن سألت علماء قالوا: هذا حرام، فهذا ما يعذر؛ لأنه ليس بغافل، والله تعالى يقول: ﴿ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ﴾ [الأنعام ١٣١]؛ يعني: ما طرأ على بالهم شيء ولا علموا شيئًا، وأما الإنسان الذي طرأ على باله لكنه فرَّط في ترك السؤال، فهذا ينبغي أن يُلْزَمَ. * طالب: (...) إنسان مثلًا أعرابي وغلط في (...) غلط كبير فاحش (...) عمره (...)؟ * الشيخ: لا، يجب عليه يعلمه. * الطالب: كثير غلطه وما يستجيب. * الشيخ: المهم أنك إذا علمته قمت بالواجب عليك، ثم إن هداه الله فهو له ولك، وإن لم يهتَدِ فلكَ وعليه. * الطالب: هم العوام صعب عليهم (...) أو بس تعطيه أنت كل العذر.. * الشيخ: (...) العلم، قلْ له مثلًا: إذا قمت إلى الصلاة فكبِّرْ، ثم اقرأ فاتحة القرآن، ثم ما تيسر معك من القرآن، عرف إذا قال: إي، امشِ معه الركوع والرفع منه، عرف، نعم امشِ في السجود. * الطالب: العامي مشكلة. * الشيخ: إذا الإنسان ما عرف، أعد عليه، وين تروح ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ [العنكبوت ٦٩]، الآن كون الله ينعم عليك بالعلم أشد تبعه من الناس، العلم أشد تبعة؛ لأنه هو الحقيقة نشر للرسالة تبليغ لشريعة الله. * وفي هذا في قوله: ﴿وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ﴾ إشارة إلى إمكان الظلم، ولكنه مستحيل شرعًا، العلم شرعًا لا لذاته؛ لأن الله سبحانه وتعالى قادر على أن يُعذِّب المطيع، وإن أطاع ولَّا لا؟ ليس مستحيلًا، لكنه تبارك وتعالى مُنزَّه عنه لكمال عدله. ففيه ردٌّ على الجهمية الذين يقولون: إن الله سبحانه وتعالى يستحيل في حقه الظلم يستحيل لذاته، فيقولون (...). يشمل دعاء المسألة ودعاء العبادة؛ دعاء المسألة مثل يقول لغير الله: يا فلان أعطني، يا فلان ارزقني، وما أشبه ذلك، واحد وقف عند قبر النبي عليه الصلاة والسلام وقال: يا رسول الله ارزقني، يا رسول الله هَيِّئ لي زوجة، يا رسول الله أعطني ولدًا. ويش حكم هذا؟ * طالب: شرك. * الشيخ: شرك أكبر مخرج عن الملة، وهو دعاء مسألة. دعاء العبادة: أن يقف عند قبر النبي عليه الصلاة والسلام ويعبد النبي؛ يركع له، ويسجد له، وما أشبه هذا. والنهي عن الدعاء مع الله إلهًا آخر شامل للنوعين. ﴿فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ﴾. ويش اللي ناصب تكون؟ * طالب: فاء السببية بعد الاسم. * الشيخ: لوقوعها بعد النهي، ﴿فَتَكُونَ﴾؛ أي: إن دعوت مع الله إلهًا آخر ﴿مِنَ الْمُعَذَّبِين﴾، ولم يقُلْ: مُعذَّبًا أو فتُعَذَّب؛ إشارةً إلى أن المشركين والكفار كثيرون، والذي يدعو مع الله إلهًا آخر يكون منهم. (﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾ وهم بنو هاشم وبنو المطلب، وقد أنذرهم جهارًا. رواه البخاري ومسلم[[أخرج البخاري (٢٧٥٣)، ومسلم –واللفظ له- (٢٠٤ / ٣٤٨) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما أنزلت هذه الآية ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾ دعا رسول الله ﷺ قريشا، فاجتمعوافعم وخص، فقال: «يا بني كعب بن لؤي، أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني مرة بن كعب، أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد شمس، أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد مناف، أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني هاشم، أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد المطلب، أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة، أنقذي نفسك من النار، فإني لا أملك لكم من الله شيئا، غير أن لكم رحمًا سأبلها ببلالها».]] )، وهذا في أول الدعوة أمر أن يُنْذِرَ عشيرته الأقربين. لماذا؟ لأنهم أحق الناس ببره، ولأنهم بمقتضى القرابة لا بمقتضى الواقع أسبق الناس إلى الإيمان به، ولأنهم أيضًا بمقتضى القرابة هم أشد الناس غيرة عليه، ولأنهم أيضًا بمقتضى القرابة هم أعظم الناس حقًّا عليه، فلذلك الإنسان مسؤول عن أهله أكثر مما هو مسؤول عن الأجانب، ومسؤول عن القربى أكثر مما هو مسؤول عمَّن ليس بينه وبينه قرابة. وقوله: ﴿الْأَقْرَبِينَ﴾ هذه اسم تفضيل، فيقتضي ما دام أن الحكم معلقًا بالأقرب أنه كل من كان أقرب كان أولى وأحق. وقوله: (وهم بنو هاشم وبنو المطلب) هذا ليس بصحيح بهذين البطنين، بل حتى البطنان الآخران بنو عبد شمس وبنو نوفل منهم من الأقربين بلا شك، لكن منهم من أجاب، ومنهم من لم يُجِبْ؛ فقد امتنع عن الإجابة عمه أبو لهب، وهو من أقرب الناس إليه؛ لأن عم الرجل صنو أبيه، وامتنع عن الإجابة عمه أبو طالب أيضًا وهو صنو أبيه، لكن عمه أبو طالب والاه وناصره، وعمه أبو لهب عاداه وخذله والعياذ بالله. وقد صاروا أمام الرسول عليه الصلاة والسلام ثلاثة أقسام: قسم آمن به، وقسم نصره ولم يؤمن به، وقسم لم يؤمن به ولم ينصره. وهذا من حكمة الله عز وجل؛ لأنهم لو نصروه كلهم وآمنوا به لقيل: هذا رجل يريد الملك والسيادة، ولهذا تبعه أقاربه وهم مُتَّفقون على هذه الخطة، ولكن من حكمة الله أن الله تعالى قسمهم هذا التقسيم. ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ﴾ * وفي هذا دليل على أنه يجب على الإنسان أن يرسل ويعظ الأقرب منه فالأقرب، وهو مسؤول سؤالًا مباشرًا بالنسبة إلى أهله. (﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ﴾ ألن جانبك، ﴿لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء ٢١٥] الموحدين) الإنذار للعشيرة، والخفض -خفض الجناح- للمؤمن، سواء كان من عشيرته أو ليس من عشيرته. * وفي هذا دليل على أنه يجب على الإنسان ألَّا يتعاظم على أحد، لكن بالأخص المؤمن أن يلين له جانبًا. بس غير المؤمن لا يلين له جانبًا؟ * طالب: لا يبدأ بالسلام. * الشيخ: المهم لا يلين له جانبًا. قوله تعالى: ﴿فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا﴾ [طه ٤٤]. * طالب: ما قبل التبليغ (...) الدعوة، ولكنه رفض وعرف الدعوة وبلغته الدعوة، فينبغي (...). * الشيخ: يعني ترجع المسألة إلى المصلحة إلا بما دل الشرع على خلافه، فالشرع هو المقصد؛ لقوله: ﴿اخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء ٢١٥]. * في هذا دليل على أن تحقيق الإيمان إنما يكون بأي شيء؟ باتباع الرسول ﷺ؛ لأنه لما قال: ﴿أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ﴾، فهو إذا أنذر إما أن يُتْبَعَ، وإما ألَّا يُتْبَعَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب