الباحث القرآني

﴿إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ﴾ [الشعراء: ١٢٥] إني لكم رسول أي: مرسل من قِبل الله سبحانه وتعالى لكم، (لكم) تقديمها يدل على الاختصاص، يعني: مرسل لكم خاصة، يعني كل رسول يُبعث إلى قومه فقط. وقوله: ﴿أَمِينٌ﴾ أي ذو أمانة، ائتمنني الله سبحانه وتعالى على رسالته. فإذا قال قائل: هذا الوصف، بل هذان الوصفان: ﴿رَسُولٌ أَمِينٌ﴾ مجرد دعوى، وهم ينكرون أن يكون رسولًا أمينًا، بل يقولون: إنه كاذب.. وقوله: ﴿أَمِينٌ﴾ [الشعراء ١٢٥]؛ أي: ذو أمانة ائتمنني الله سبحانه وتعالى على رسالته. فإذا قال قائل: هذان الوصفان ﴿رَسُولٌ أَمِينٌ﴾ وهم ينكرون أن يكون رسولًا أمينًا، بل يقولون: إنه كاذب خائن، فهل بمجرد الدعوى تقوم عليهم الحجة؟ الجواب: لا، لكن هذه الدعوى مؤيدة بآيات من الله عز وجل؛ لقول النبي ﷺ: «مَا مِنْ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَّا وَقَدْ أُوتِيَ مَا عَلَى مِثْلِهِ يُؤْمِنُ الْبَشَرُ»[[متفق عليه؛ البخاري (٧٢٧٤)، ومسلم (١٥٢ / ٢٣٩) من حديث أبي هريرة.]]، فهو ليس مجرد الدعوة؛ لأن مجرد الدعوة سهل رفضها، لكنها دعوة مؤيدة مدعمة من الله سبحانه وتعالى بآيات بينة يؤمن على مثلها البشر، وفي هذا، يعني كأنه لما قال: إن هذا القول جازمًا به دليل على قوة آياته، وأن معه من الآيات ما جعله يُعبِّر هذا التعبير الجازم ﴿إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ﴾ [الشعراء ١٢٥]، وفي هذا دليل على أن الرسالة أكبر دليل على أمانة الشخص، ولَّا لا؟ لأنه لولا أنه أمين ما ائتمنه الله سبحانه وتعالى على الوحي الذي فيه الحكم على الناس بالسعادة والشقاء، بل الحكم عليهم باستباحة أموالهم واستباحة نسائهم واستباحة دمائهم، فلولا أن الرسل عليهم الصلاة والسلام هم أعظم الناس أمانة ما ائتمنهم الله على هذا الوحي العظيم. * طالب: ممكن يكون قولهم ادعاء لأنهم ﴿قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ﴾ [سورة هود ٥٣]. * الشيخ: إي، إنكار هذه مكابرة.﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ﴾ [الشعراء ١٢٦]، عودًا في المعنى على قوله: ﴿أَلَا تَتَّقُونَ﴾ [الشعراء ١٢٤]؛ يعني فلأني رسول أمين افعلوا ما آمركم به من التقوى، وأحثكم عليه ﴿اتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ﴾ ما قال: واتقون؛ لأنه لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًّا، لا هو ولا غيره، وظيفة الناس بالنسبة للرسل ليس تقوى الرسل بل طاعة الرسل، ولهذا ما جاء على لسان أي واحد من الرسل أنه قال لقومه: (اتقون) بل يأمرونهم بالطاعة، وأما التقوى والخشية والخوف فهو لمن؟ لله سبحانه وتعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ﴾. وهذه التقوى مرت علينا كثيرًا في أنها اتخاذ وقاية من عذاب الله سبحانه وتعالى بفعل أوامره واجتناب نواهيه، وأن هذا أجمع ما قيل في التقوى، ولهم فيها عبارات كثيرة. وقوله: ﴿وَأَطِيعُونِ﴾ ما هي الطاعة؟ أصل الطاعةِ الانقيادُ، ومنه قولهم: هذه الناقة طوعُ صاحبها؛ أي: منقادة له وذليلة، وتُفسَّر بأنها موافقة الأمر، فإذن نقول: موافقة الأمر تذللًا للآمر؛ لأن موافقة الأمر قد تكون تذللًا للآمر، وقد تكون كالإكراه فهذه لا تكون طاعة. ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ﴾، في الآية الكريمة هذه وجوب تقوى الله ووجوب طاعة رسوله؛ لأن طاعة رسوله من طاعته ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾ [النساء ٨٠]. (﴿وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ﴾ ما ﴿أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الشعراء 127]) ﴿وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ﴾؛ أي: على ما أقول لكم، أو ﴿عَلَيْهِ﴾ على تبليغ الرسالة، والمعنى متقارب؛ يعني أنا لست أقول: أعطوني شيئًا، وإنما آمركم بما فيه خيركم، لو كنت أسألكم أجرًا على ذلك لكان لكم الحجة في أن تردوا، لكني لا أسألكم عليه أجرًا؛ يعني ثوابًا وعوضًا ﴿إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾. (﴿إِنْ﴾ ما ﴿أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ ) وفي هذا كمال الإخلاص؛ يعني: أنا لا أريد الأجر إلا من الله سبحانه وتعالى. في قوله: ﴿إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، ﴿إِلَّا عَلَى﴾ (على) يقول العلماء: إنها تفيد الوجوب؛ يعني ما قال: إن أجري إلا من رب العالمين، قال: ﴿عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾. وهل الله سبحانه وتعالى يجب عليه شيء؟ الجواب: أما أن نوجب عليه فلا، وأما أن يوجب على نفسه تكرُّمًا فهذا لا مانع منه، قال ابن القيم: ؎مَـــــا لِلْعِبَادِ عَلَيْهِ حَـــــقٌّ وَاجِبٌ ∗∗∗ هُوَ أَوْجَبَ الْأَجْرَ الْعَظِيمَ الشَّانِ؎كَـــلَّا وَلَا عَــــــمَلٌ لَدَيْهِ ضَـــائِعٌ ∗∗∗ إِنْ كَانَ بِالْإِخْــــلَاصِ وَالْإِحْــسَانِ؎إِنْ عُــــــــذِّبُوا فَبِعَـــــدْلِهِ أَوْنُعِّمُوا ∗∗∗ فَبِفَضْلِـــــــــــــهِوَالْحَـــــــــــــــــــمْدُ لِلْمَـــــــنَّانِ واللي فيها دول ثلاثة الأبيات (...) وهم مقيدات لأبيات سابقة ؎مَا لِلْعِبَادِ عَلَيْهِ حَــقٌّ وَاجِــبٌ ∗∗∗ كَــلَّا وَلَا سَـــعْيٌ لَدَيْهِ ضَـــــائِعُ؎إِنْ عُــــذِّبُوا فَبِعَدْلِهِ أَوْ نُــــعِّمُوا ∗∗∗ فَبِفَضْلِهِ وَهُوَ الْـــكَرِيمُالْوَاسِــعُ البيتان هادول مطلقات لكن ابن القيم قال: ؎مَا لِلْعِبَــادِ عَلَــيْهِ حَـــقٌّ وَاجِـــبٌ ∗∗∗ هُوَ أَوْجَبَ الْأَجْرَ الْعَظِيمَالشَّانِ (كلا ولا عمل لديه ضائع) قيَّدها بقوله: (إن كان بالإخلاص والإحسان)، الإحسان المتابعة، أما إذا لم يكن بالإخلاص والإحسان فيضيع، ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف ١١٠]. يقول: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٢٦) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الشعراء ١٢٦، ١٢٧]، (﴿أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ﴾ مكان مرتفع، ﴿آيَةً﴾ بناءً علمًا للمارة، ﴿تَعْبَثُونَ﴾ [الشعراء ١٢٨] بمَن يمُرُّ بكم وتسخرون منهم) إلى آخره. يقول: ﴿أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً﴾ ﴿آيَةً﴾؛ يعني: علامة، لكن هل هو علامة على الطريق كما قال المؤلف؟ يحتمل هذا، مع أن السياق لا يؤيده، لكنه يحتمله ما يمنعه، لكن لا يؤيده، أو أن المراد ﴿آيَةً﴾ أي: علامة على قوتكم ومقدرتكم، هذا هو الأقرب، ولهذا قال: ﴿بِكُلِّ رِيعٍ﴾؛ يعني أنكم تقصدون من هذه البنايات أن تكون آية ودليلًا وبرهانًا على قُوَّتكم، وقوله: ﴿تَعْبَثُونَ﴾: تتخذون ذلك عبثًا؛ لأنه لا مصلحة لكم فيه إلا مجرد العبث وإظهار العظمة وإظهار القوة، وهذا بلا شك أن كون الإنسان يُظْهِرُ قوته أنه عبث وفساد. وعلى هذا يتبين لنا أن هؤلاء الذين يحاولون أن يصلوا إلى الكواكب ويطلقوا هذه الأقمار اللي ما تجدون منها في الأرض مثل قوم عاد تمامًا؛ يعني الطريقة هي الطريقة وإن كان الأسلوب مختلفًا؛ يعني يفعلون هذه الأشياء آية وعبثًا؛ إذ لا يستفيدون منها فيما خلق لهم ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ﴾ [البقرة ٢٩]، في السماء، لكن اللي في الأرض هو اللي مخلوق لنا ننتفع به مباشرة، لكن ما في السماء مسخر لمصالحنا، ولكننا لا ننتفع به مباشرة، فالمنتفع الذي ننتفع به مباشرة هو ما في الأرض. ولهذا يقول بعض الناس: لماذا تحاولون أن تصلوا إلى السماء وأنتم عاجزون عن حل مشاكلكم في الأرض، وهذا صحيح، لكن بس مجرد العبث والفخر، وأننا أقوياء، وأننا وصلنا إلى كذا ووصلنا إلى كذا مع أنهم قوم هود، وهؤلاء القوم أيضًا المعاصرون يخسرون على هذه الأمور خسائر باهظة، فصارت عبثا؛ لأن كل شيء يتعب الإنسان فيه جسمه وماله وفكره بدون فائدة، فهو عبث لا فائدة منه، بل إنه إذا أراد ما وراءه من إظهار العظمة والكبرياء على الخلق صار أيضًا فسادًا، فصار إيجابيًّا لا سلبيًّا فقط، نعم إيجابيًّا لأنه فساد، هو ينكر عليهم هذا الأمر ﴿أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ﴾. وأما ما سلكه المؤلف رحمه الله من أنهم يجعلون علامات للمارة لأجل إذا مروا بهم يسخرون منهم، فهذا بعيد عن السياق، وإن كان السياق لا يمنعه لكنه لا يؤيده، فالصواب في هذه الآية أنهم يبنون بنايات عظيمة تدل على قوتهم وقدرتهم عبثًا؛ لأنهم لا يستفيدون منها سوى إظهار العظمة فقط، وهذا لا شك أنه عبث، ﴿وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ﴾ [الشعراء ١٢٩] إلى آخره. إذا تأملت الإنسان؛ الإنسان الأول هو الإنسان الأخير، أو الإنسان الأخير هو الإنسان الأول، لكن يختلف الأسلوب ﴿إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (٢٩) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (٣٠) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (٣١) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ﴾ [المطففين ٢٩ - ٣٢]. هذه الأمور طبقها على الوقت الحاضر موجودة، بس عاد كلمة ضالون (...) رجعيون أو محافظون أو ما أشبه ذلك، ولَّا نفس الشيء، فالإنسان الأول في الحقيقة أن الفكر هو هو، لكن الأسلوب يختلف مسايرة للزمن ولَّا نفس الشيء، الله أعلم. * طالب: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ»[[متفق عليه؛ البخاري (٧٣٢٠) واللفظ له، ومسلم (٢٦٦٩ / ٦) من حديث أبي سعيد الخدري.]]، هل هو صحيح قول بعض الناس: إن الحيوانات على زمن نوح أنها أقل أنواع منها اليوم، هذا بسبب نزو بعضها على شكل آخر أنه تولد منها أشكال. * الشيخ: طالما أن الآية ما تصرح لا بهذا ولا بهذا ﴿مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ﴾ [هود ٤٠]؛ يعني: من كل من الموجودات، ما ندري هو لا شك أن الأصل لم يوجد أصل جديد، لكن ربما مثلما قلت بالتوالد أو نزو بعضها على بعض تختلف، مع أنهم يقولون: من المعروف عندهم أن ما حصل من نزو بعض (...) على بعض أنه ما يتوالد، الحاصل بالتوالد ما يتوالد؛ كل شيء نشأ من التوالد لا يتوالد، هذا معروف عندهم، ولهذا البغل ما يمكن (...)، إي نعم. * طالب: من أين كثرة البغال؟ * الشيخ: من نزو الحمير على الفرس. * طالب: قال الشيخ عبد الرحمن: ﴿وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ﴾ [يس ٤١]، قال إن: الفلك يشمل حتى الطائرات (...)، وقال: الدليل أنه ﴿حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ ولم يقل: حملناهم. * الشيخ: اقرأ الآيات التي قبلها. * طالب: ﴿وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (٣٣) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (٣٤) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (٣٥) سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (٣٦) وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (٣٧) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٣٨) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (٣٩) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٤٠) وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ﴾ [يس ٣٣ - ٤١]. * الشيخ: الحقيقة اللي يمنع من هذا أن قوله: ﴿وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ والذرية تأتي بعد، أليس كذلك؟ * طلبة: بلى. * الشيخ: فكيف تكون آية لهم وهو سابقون عليها؟ ولذلك أكثر المفسرين على خلاف هذا الرأي، يقول: ﴿ذُرِّيَّتَهُمْ﴾؛ يعني: ذرية أبيهم؛ يعني نوح عليه الصلاة والسلام، وبعضهم قال: إن الذرية هنا بمعنى الآباء، لكن استعمال الذرية بمعنى الآباء بعيدة في اللغة العربية، لكن استعمالها بمعنى ذريتهم؛ أي الذرية التي نشؤوا منها، فليست الإضافة للذرية التي نشأت منهم، بل الذرية التي نشؤوا منها وهي ذرية أبيهم نوح حملناهم في الفلك المشحون، وهذا أنسب؛ لأن الحقيقة أن كونه يجعل ﴿وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ لذرية ما بعد جاءت، أو تكون آية لمن قد مات، هذه بعيدة (...)، كلام الشيخ أنا عندي ما له وجه. * طالب: (...) إنما تطلق على طائرات، سيارات.. * الشيخ: لا، ربما تطلق؛ لأن الحوت كل (...)، ولهذا حصر الله سبحانه وتعالى المركوبات في هذا ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ﴾ [الزخرف ١٢]، فالفلك ما نصنعه نحن والأنعام ما يخلقه الله، لكن بس أنه كونه آية لهم وهو ينظرون والذرية ما بعده. * طالب: يقول: هذا الخطاب للمتأخرين وذريتهم الأولين ذرية ما وجدوا على عهد (...) حملوا على؟ * الشيخ: (...) الآيات الموجودة في عهده، إذا حملنا نحن على الطائرات والسيارات والمراكب ما يكون آيات لأولئك، ثم إن كلمة (حملنا) يحتاج إلى تأويلها إلى (فنحمل)، وحينئذٍ إذا كانت (فنحمل) ما يصير آية لهم إلا باعتبارها وعدًا من الله، لا مُشاهَدًا لهم. * طالب: ما يكون أن هذه المركوبات تكون لكم آية، وكذلك مع تعاقب الأزمان آية؟ * الشيخ: آية لمن؟ * الطالب: لذريتكم؛ أنكم حملتم عليها وسيُحْمَل.. * الشيخ: إي، ما يخالف، لكن الطائرات والسيارات الذرية الموجودين على عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، كيف يصدق عليها ﴿أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ إلا بتأويل (فنحمل ثم إنه إذا كانت بتأويل (فنحمل) هي ما تكون آية لهم إلا باعتبار أنها وعد من الله وأنهم واثقون به، والله سبحانه وتعالى ما يخاطب هؤلاء المعاندين بما يقتضيه وعده فقط، وإنما يخاطبهم بآية يشاهدونها أو تكون معلومة لديهم بحيث لا يتمكن من الإنكار، فأنا في الحقيقة هي مرت علي في كلام الشيخ، لكن ما لها وجه، والصواب أن نقول: ﴿حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ﴾؛ يعني الذرية التي كانوا منها الإضافة -كما يقول النحويون- لأدنى ملابسة، فآباؤهم بالنسبة لنوح ذرية، وأما عاد إطلاق أن الذرية تأتي بالمعنى الحقيقي للآباء (...). في قصة نوح ﴿رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (١١٧) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا﴾ [الشعراء ١١٧، ١١٨]، إلى آخره. ما الذي يستفاد من هذه الجملة؟ * طالب: إضافة القوم إليه. * الشيخ: يعني من كل (...) ﴿رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (١١٧) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا﴾. * طالب: أولًا: الالتجاء إلى الله عز وجل، والدعاء عليهم، وذكر الأسباب التي دعت إلى الدعاء عليهم. * الشيخ: في قوله؟ * طالب: ﴿إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (١١٧) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا﴾. * الشيخ: هذا الدعاء، من آداب الدعاء؟ * طالب: من آداب الدعاء أولًا: دعا بالله بصفة الربوبية، وأيضًا ذكر الحال وحال الأوضاع التي إلى الله سبحانه وتعالى.. * الشيخ: يعني ذكر الحال الموجبة للدعاء. * طالب: ﴿قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ﴾. * الشيخ: لا، وذكر المطلوب؛ لأن الداعي تارة يذكر المطلوب وحده، وتارة يثني على الله مع ذكر المطلوب، وتارة يثني على الله ويذكر حاله والمطلوب، أيضًا تارة يذكر حاله فقط ﴿رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾ [القصص ٢٤]، المهم إذن من آداب الدعاء فيه ثلاثة أشياء، وهي؟ * طالب: التوسل بصفات الله، وأيضًا بيان الحال والطلب. * الشيخ: ما هي الفائدة من قوله: ﴿إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ﴾ إضافة القوم إليه؟ * طالب: الفائدة من نسبة القوم إليه أنه أقيمت الحجة عليهم إلى أكبر درجة؛ لأنه أرسل إليهم نبي منهم إلى قومه ولم يرسل إليهم رجل آخر من قبيلة أخرى.. * الشيخ: يعني زيادة التشنيع عليهم. * طالب: زيادة التشنيع عليهم. * الشيخ: حيث كذَّبوه وهو من قومه، زين فيه أيضًا ثانٍ. * طالب: فائدة أخرى: لكي تكون عذرًا إليه لم يطلب من إهلاكهم.. * الشيخ: يعني عظم البلاء عليه؛ لأنه إذا كذبه قومه صار أشد عليه وأعظم، ففيها عظم البلاء عليه ليكون أقوى وسيلة في إجابة دعوته. ماذا يستفاد من قوله: ﴿فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا﴾؟ * طالب: يعني احكم بينهم. * الشيخ: معناه أن يحكم بينهم بإهلاكهم. هل يسوغ مثل هذا الدعاء؟ * طالب: نعم؛ لأنهم أهلٌ للإهلاك. * الشيخ: يعني يستفاد منه أنه عند اليأس يجوز أن يدعو الإنسان على المكذبين والمعاندين. هل أقرَّ شرعنا هذا أم خالفه؟ * طالب: شرعنا أقره، إنما فضَّل عدم الدعاء إلا إذا كان ثبت أنهم لا يستقيمون ولا يؤمنون يُشْرَع الدعاء. * الشيخ: ويش دليله؟ * طالب: الدليل على عدم مشروعية الدعاء إلا عند الحاجة: «رأى النبي ﷺ عندما نزل عليه جبريل وقال: إن شئت أطبق عليهم الأخشبين، فقال: «إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا»[[متفق عليه؛ البخاري (٣٢٣١)، ومسلم (١٧٩٥ / ١١١) من حديث عائشة بلفظ: «فناداني ملك الجبال وسلم علي، ثم قال: يا محمد، إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك، فما شئت؟ إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، فقال له رسول الله ﷺ: بل أرجو أن يحرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا».]]، أو كما قال ﷺ هذا النبي عليه الصلاة والسلام لكنه لم يمنع، هو منع أن الإنسان يدعو على.. * الشيخ: أنا الآن أسأل؟ * طالب: إذن المشروع عدم الدعاء.. * الشيخ: معناه أن شرعنا ورد مخالفًا لذلك؟ * طالب: نعم. * الشيخ: طيب، فيه دليل أصرح من هذا؟ * طالب: الدليل الصريح في ذلك: «أن النبي ﷺ لما دعا عليهم في الصلاة: اللهم أهلِكْ فلان بن فلان، وفلان بن فلان، نزل عليه قوله تعالى:» ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ﴾ [آل عمران ١٢٨]«، فكفَّ عنهم»[[أخرج البخاري (٤٥٦٠)، ومسلم (٦٧٥ / ٢٩٤) من حديث أبي هريرة: ...وكان يقول في بعض صلاته في صلاة الفجر «اللهم العن فلانًا وفلانًا». لأحياء من العرب حتى أنزل الله ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾ الآية. واللفظ للبخاري.]]. * الشيخ: نعم، شرعنا أمر بالصبر وعدم الدعاء عليهم، ولكن قد يقال: إن نوحًا عليه الصلاة والسلام شريعته تخالف شريعتنا، ولا مانع من أن تختلف الشرائع في مثل هذا، وأيضًا فإن نوحًا عليه الصلاة والسلام مكَثَ في قومه كم؟ ألف سنة إلا خمسين عامًا، وكلما دعاهم ازدادوا إصرارًا واستكبارًا، فما بقي أن (...) عليهم فائدة، لكنه لم يهاجر منهم كما فعل يونس، بل بقي فيهم حتى أخذهم الله. * طالب: كون الرسول ﷺ دعا على الملأ من قريش، ألا يدل هذا على جواز الدعاء على.. * الشيخ: إي، لكنه في آخر الأمر مُنِعَ منه، ولا هو دعا على الملأ من قريش في مكة قبل أن يهاجر، في الأخير منع؛ يعني ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾ [آل عمران ١٢٨] (...). ماذا يستفاد من قوله: ﴿فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ﴾ [الشعراء ١١٩]؟ * طالب: الأمر يشمل (...) نجاة المؤمنين ومن ركب معهم في الفلك من الحيوان. * الشيخ: إي، يعني اختيار منه أن الله سبحانه وتعالى أنجى من معه من المؤمنين بناء على دعائه، وأنجى غيرهم أيضًا مما يحتاجون إلى وجوده ﴿مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ﴾ [هود ٤٠]. هل يستفاد من الآية الكريمة الإشهاد في هذا الفلك؟ * طالب: نعم. * الشيخ: من أين؟ * طالب: ﴿وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ﴾ أول وصفه بالمشحون، ثم الفلك تعريفه بـ(أل) للتعريف.. * الشيخ: الدال على الكمال يعني. * طالب: الكمال نعم. * الشيخ: وكونه مشحونًا يدل أيضًا على قوته؛ لأن ما ليس بقوي لو شُحِنَ لغرق وتلف. * طالب: ثم قوله: ﴿فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ﴾ يعني كثيرين هم قطعًا. * الشيخ: لا، الكلام على المشحون لكونه مملوءًا، ومع ذلك استقام وأنجى الله به من معه. وفي قصة هود أولًا: هود عليه الصلاة والسلام في قبيلة تسمى عادًا وتنزل مساكنها؟ * طالب: بالأحقاف. * الشيخ: نعم، واشتهروا بماذا؟ * طالب: اشتهروا بالقوة والجبروت حتى أنهم قالوا ﴿مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً﴾ [فصلت ١٥]، كما ورد في القرآن. * الشيخ: أحسنت، يستفاد من قوله: ﴿إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ﴾. * طالب: أن الرسالة تتضمن الأمانة؛ لأن الإنسان وهو بشر لا يرسل إلا من وثق به فكيف بالخالق؟! * الشيخ: إي نعم، يعني يستفاد من ذلك أن أهل الرسالة كلهم أمناء؛ يعني ما يمكن يستقيم الإرسال إلا بأمين يوثق به. أوردنا على هذا إشكال ما هو؟ * طالب: أن الرسول أو من بعث إذا كان أمينًا لا يلزم تصديقه؛ لأنه عرفناه بالأمانة إلا ببينة أو بآية تدل على رسالته (...) بأمانته عن الآية أو المعجزة التي تدل على.. * الشيخ: لا، ما هو إشكال، إحنا أوردنا إشكالًا على قوله: ﴿إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ﴾. * طالب: التخصيص، قلنا: الحصر له.. * الشيخ: لا، أوردنا إشكالًا بيَّنَّا ما هو، وأجبنا عنه. * طالب: ﴿إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ﴾. * الشيخ: إي، قلنا: هذه دعوى منه أنه يكون ذلك يقولون: لست رسولًا ولست أمينًا، بل كذَّبوه، فكيف يجعل هذا القول حجة ﴿إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٢٥) فَاتَّقُوا اللَّهَ﴾، فلكوني رسولًا أمينًا اتقوا الله؟ * طالب: هو ما يذكر بذلك بل بالآيات. * الشيخ: نعم، قلنا: إن هذه الدعوى ليست دعوى مجردة، أنت ذكرت الجواب فقط، ما ذكرت الإيراد، أهم شيء الإيراد أن يقول قائل: كيف أنه احتج عليهم بما ادعاه لنفسه؟ فنقول: إن هذه الدعوى مقرونة بالدليل. * يستفاد من هذه الآية: جواز وصف الإنسان بالثناء على نفسه للمصلحة، كقوله: ﴿إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ﴾، وهذا أيضًا ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ»[[أخرجه الترمذي (٣١٤٨) وابن ماجه (٤٣٠٨) من حديث أبي سعيد الخدري.]]، وورد أيضًا عن الصحابة مثل هذا المدح؛ قول ابن مسعود: «لو أعلَمُ أن أحدًا أعلم بكتاب الله مني تناله الإبل لرحلت إليه، أو لسرت إليه»[[متفق عليه؛ البخاري (٥٠٠٢)، ومسلم (٢٤٦٣ / ١١٥) من حديث ابن مسعود.]]، وأمثال هذا، لكن بشرط أن يكون غرض الإنسان من ذلك هو المصلحة. * ويستفاد من هذا: أن التقوى لا تضاف إلى المخلوق بخلاف الطاعة؛ لقوله: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ﴾، الطاعة لا بأس أن أقول: أنا أطعت فلانًا، لكن ما يجوز أنك تقول: اتق فلانًا بمعنى التقوى المستلزمة للتذلل. * وفي هذا دليل على إخلاص الرسل لله في قوله: ﴿وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ﴾. * وفيه أيضًا: احتساب الإنسان عمله على الله، ليس الإذلال على الله في هذا العمل والمنة عليه به ولكن الاحتساب به عليه لرجاء ثوابه؛ لقوله: ﴿إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾. * وفي هذا دليل على جبروت عادٍ ومحبتهم للكبرياء والعظمة فيما أنكره عليهم نبيهم ﴿أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً﴾. * وفيه دليل على أنه ينبغي للإنسان أن يكون غرضه من عمله، لا سيما العمل الجبار العظيم أن يكون غرضه غرضًا صحيحًا لا عبثًا ومُباهاةً، لقوله: ﴿تَعْبَثُونَ﴾، وهذا هو محط الانتقاد، ليس أن يبنوا بكل رِيعٍ آيةً ولكن كون ذلك عبثًا هو محل الانتقاد ومحط اللوم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب