الباحث القرآني

﴿قَالُوا﴾ يعني لما رأوا تصميمه عليه الصلاة والسلام وأنه لن يطرد المؤمنين لقولهم، وأن هؤلاء الأراذل ليس عليهم من حسابهم من شيء، وإنما حسابهم على الله، وهو مؤمنون، لجؤوا إلى القوة فقالوا: (﴿﴿لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ﴾ ﴾ عما تقول لنا ﴿﴿لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ﴾ ﴾ [الشعراء: ١١٦] بالحجارة أو بالشتم). ﴿لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ﴾ فيها إشكال من حيث الإعراب؛ لأن فيها قسمًا وشرطًا، وكلاهما يحتاج إلى جواب، فأين جواب الشرط؟ وأين جواب القسم؟ * طالب: إذا اجتمع قسم وشرط فالجواب للمؤخر منهما ويغني جواب المؤخر عن جواب المقدم. * طالب آخر: نقول: (لتكونن) هذه جواب الشرط، وأما جواب القسم فأحيانًا المقسم يستغني عن جواب القسم. * الشيخ: لا هذا خطأ، ابن مالك يقول: ؎واحْذِفْ لَدَى اجْتِمَاعِ شَرْطٍ وَقَسَمْ ∗∗∗ جَــــــوَابَ مَـا أَخَّـــــــرْتَ فَهْـــــــــوَمُلْتَــــــزَمْ وأيضًا (لتكونن) ما تصح تكون جواب شرط؛ لأن اللام ما يمكن تقترن بجواب الشرط، إنما تقترن بجواب القسم. فعلى كل حال القاعدة عند أهل العلم بالنحو يقولون: إنه إذا اجتمع شرط وقسم حُذف أيهما؟ جواب المتأخر، فإذا قلت: (إن كنتَ واللهِ ضربتُكَ)، ما تقول: (لَأَضْرِبَنَّكَ)؛ لأن الشرط متقدِّم، ولكن إن قلت: (واللهِ إنْ كنتَ ضَرَبْتُكَ) ما يصح، تقول: (لأضربنك). ﴿لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ﴾ فأكدوا -والعياذ بالله- ما أرادوا من رجمه بثلاثة مؤكدات: القسم واللام ونون التوكيد. ثم أوغلوا في الوعيد والتهديد حيث قالوا: ﴿مِنَ الْمَرْجُومِينَ﴾ ولم يقولوا: (لنرجمنك) كأنهم يقولون: فيه من سبقك فرُجم فنحن نرجمك معهم. وقوله: بالحجارة أو بالقول؛ أيهما أقرب؟ الحجارة أقرب؛ لأن الرجم بالقول قليل الاستعمال، ثم إن التهديد به من هؤلاء الذين يرون أنهم يتكلمون من مصدر القوة ليس بلائق في المقام، فالصواب أنه: لتكونن من المرجومين بالحجارة. والله أعلم. * * * (...) عليه الصلاة والسلام، وأن الله أخبر أن قومه كذبوا المرسلين، والمؤلف ذكر فيه احتمالين؛ إما لأنهم كذبوا بالتوحيد، وهذا التوحيد جنس لكل ما بُعِثَتْ به الرسلُ، وتكذيب الواحد من الجنس تكذيب للجنس كله، وهذا هو الأصح، أو لأنه طال مُكثه فصار كأنه رسل متعددون. وسبق أيضًا في القصة أنه لاستكبار قومه ﴿قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ﴾ [الشعراء ١١١] يعني لسنا مؤمنين لك لأن الذين اتبعوك هم الأرذلون على رأيهم؛ كما قالوا في سورة هود: ﴿وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ﴾ [هود ٢٧]. وفيه أيضًا أنه قال لهم: ﴿وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الشعراء ١١٢] يعني: أيُّ علم لي بعملهم الذي يعملونه، فأنا ليس لي إلا ظاهر أمرهم وأما باطنهم فإلى الله، وظاهرُ أمرهم أنهم أخيار أبرار، وليسوا أراذل كما يزعم هؤلاء، ولكنهم بعد هذا توعدوه والعياذ بالله بالرجم على سبيل التهديد وإظهار القوة في قولهم: ﴿لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ﴾ [الشعراء ١١٦] وهو أبلغ من قولهم: (لنرجمنك)؛ لأن فيه تخويفًا، حيث إنه ليس أول من يُرجَم، بل هناك من رُجم قبله. حينئذ لجأ إلى الله سبحانه وتعالى فـ ﴿قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (١١٧) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ﴾ [الشعراء ١١٧، ١١٨] هذا الدعاء كما جمع بين أسباب الإجابة الثلاثة، وهي دعاء الله تعالى باسم الربوبية: ﴿رَبِّ﴾، وبذكر الحال الداعية المقتضية للدعاء ﴿إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ﴾، والثالث: الطلب: ﴿فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء ١١٨]. أولًا: قوله: ﴿رَبِّ إِنَّ قَوْمِي﴾ الربوبية –كما مر علينا- تنقسم إلى قسمين؛ عامة وخاصة، وهذه من الربوبية الخاصة، بل هي من أخص الربوبيات؛ لأنها ربوبية الله تعالى لرسله. وفيه أيضًا قوله: ﴿إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ﴾، إظهار للأضعف، يعني ما هو أضعف؛ لأنه قوله: ﴿إِنَّ قَوْمِي﴾ كان مقتضَى الحال أن يكونوا مصدِّقين له لأنهم قومه، ولكنهم -والعياذ بالله- صاروا مكذبين له، فصارت حاله تقتضي رأفة أكثر؛ حيث إن قومه هم الذين كذبوه، ثم إنه يقتضي أن تكون النكاية فيهم أعظم أيضًا؛ لأنهم قومه. فهذه الإضافة فيها فائدتان: الفائدة الأولى: بيان أنهم مستحقون للرأفة أكثر؛ لأن قومه هم الذين كذبوه. ثانيا: أن قومه مستحقون للتنكيل بهم أكثر؛ لأنهم قومه؛ وكان عليهم أن يصدقوه ويمنعوه، يعني من أن يؤذى، فكيف يكونون الذين يؤذونه! وهذا كقوله تعالى: ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (١) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى﴾ [النجم ١، ٢] ولم يقل: ما ضل النبي أو الرسول، بل قال: ﴿مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ﴾ يعني الذي تعرفونه وتعرفون رجاحة عقله، وتعرفون أمانته، فكيف تنكرون ما جاءكم به من المعراج! قال: ﴿إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ﴾ يعني نسبوني إلى الكذب وقالوا: كذَّبه وكذَبه، والفرق بينهما: * طالب: أن كَذَبَهُ أخبره بخلاف الواقع، وكَذَّبَهُ أنه لم يصدِّق ما جاء به. * الشيخ: نسبه إلى الكذب. طيب وكَذَبَهُ: أخبره بالكذب. ﴿قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (١١٧) فَافْتَحْ بَيْنِي﴾ [الشعراء ١١٧، ١١٨] الفاء للسببية. (افتح بيني) هذا هو ظاهره الأمر لكنه في جانب الله يُسمَّى دعاءً؛ إذ الأمر لا يكون إلا ممن يستعلي على المأمور، وليس الطالب بمستعلٍ على مطلوبه، ثم إن الله جل وعلا فوق كل شيء. (﴿﴿فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا﴾ ﴾ أي: احكم). وسُمِّيَ الحكم فتحًا لأنه ينفتح به الأمر ويتبين، فينفصل هذا عن هذا. وهذا الفتح بأن ينجيه ومن معه من المؤمنين ويهلكهم؛ أما نجاته ومن معه من المؤمنين فمصرَّح بها، وأما إهلاكهم؛ فلا نجاة إلا من هَلَكة، هذا الفتح الذي فعله نوح أن يهلك الله تعالى قومه وأن ينجيه هو ومن معه من المؤمنين، وقد قال تعالى عنه في سورة نوح: ﴿رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (٢٦) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا﴾ [نوح ٢٦، ٢٧]. وفي هذه الآية ﴿إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ﴾ يعني قد يقول قائل: هل إن نوحًا يخبر الله تعالى بالواقع، أليس الله تعالى عالمًا به؟ فالجواب: بلى، هو عالم به، لكن قصده عليه الصلاة والسلام بيان الحامل له على هذا الدعاء؛ أنه باعتقاده يظن أو يعتقد أنه إذا أبقاهم لا يلدون إلا فاجرًا كفارًا، وإلا فالله تعالى عليم بهم، فيكون هذا كالاعتذار عن هذا السؤال العام ﴿رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا﴾. ثم قال: ﴿وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء ١١٨] هذه المعية ليست معية اختلاط كما هو معروف، بل هي معية اشتراك في عمل وعقيدة، فإن المؤمن (...) المؤمنين كانوا مشاركين له في العقيدة والعمل، وهذا مما يدل على أن المعية ليست كما فهمه المحرِّفون في معية الله سبحانه وتعالى وأنها تقتضي المشاركة في المكان أو الاختلاط، ليس (...) هذا. وقوله: ﴿وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ لبيان المبهَم فيمن معي؛ لأن (من) اسم موصول، والاسم الموصول يحتاج إلى بيان، وبيانه إما من صلته وإما من غيرها.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب