الباحث القرآني

ثم قال الله تعالى بعد ذلك، بعد أن ذكر عظمته وربوبيته في خلق السماوات والأرض واستواءه على عرشه، قال: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ﴾ [الفرقان ٦٠]، قال المؤلف: (لكفار مكة ﴿اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ﴾ [الفرقان ٦٠]). هذا السجود يحتمِل أن يراد به السجود الخاص الذي هو خرور الإنسان على أعضائه السبعة، ويَحتمل أن المراد به السجود العام الذي هو الخضوع المطلق؛ لأن السجود يطلَق بالمعنيين: السجود العام الذي هو الخضوع والذل مطلقًا، أو السجود الخاص على هذه الأعضاء المعروفة. إذا قيل لهم ذلك قالوا: ﴿وَمَا الرَّحْمَنُ﴾، فأنكروا المسجود له ثم استكبروا عن السجود: ﴿أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا﴾، وهذا الاستفهام استفهام إنكار واستبعاد: ﴿أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا﴾، والأول: ﴿وَمَا الرَّحْمَنُ﴾ استفهام إنكار، يعني أنهم ينكرون الرحمن، والمراد بإنكارهم الرحمن إنكار هذا الاسم، لا إنكار الله، يعني أنكروا الاسم دون الذات، فهم يؤمنون بالله: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ [الزخرف ٨٧]، ولكنهم أنكروا الرحمن، أنكروا هذا الاسم لله سبحانه وتعالى وقالوا: لا نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة[[أخرج ابن أبي حاتم في تفسيره (١٥٣٠٥) عن عطاء: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ﴾ [الفرقان: ٦٠] ما نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة، فأنزل الله عز وجل: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ [البقرة: ١٦٣]. ]]، ما نعرف أن هناك أحدًا اسمه رحمن إلا هذا الموصوف برحمن اليمامة، فأنكروا هذا الوصف العظيم لله عز وجل الذي هو من أعظم أوصافه وأعظم أسمائه، وهي الرحمة التي وسعت جميع المخلوقات، وهذا الإنكار لا وجه له؛ لأنه ما دام قد أثبت بطريق الرسالة فلا وجه له لكونهم لا يعرفونه؛ لأن الإنسان الذي لا يؤمن إلا بما يعرف هل هو مؤمن بالرسل ولَّا تابع لهواه؟ * طالب: متبع لهواه. * الشيخ: تابع لهواه، الذي لا يؤمن إلا بما يعرف، ومنه ما يفعله بعض العامة الآن؛ إذا أحييت سنة من السنن التي أُميتت قالوا: ويش هذا؟ هذا دين جديد لا نقبله ولا نريده؟ نقول لهؤلاء: إنهم يشبهون هؤلاء الكفار من بعض الوجوه، حيث أنكروا ما لا يعرفونه وقالوا: ما نقبل، أين المشائخ من هذا الدين؟ وأين فلان؟ وأين فلان؟ وهذا ليس بحجة؛ لأن الحق يجب أن يُقبل، وأن يكون هوى الإنسان تابعًا للحق، لا أن الحق تابع لهواه: ﴿وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ﴾ [المؤمنون ٧١]. والواجب على المؤمن إذا رأى ما لا يعرفه، أو سمع ما لا يعرفه، الواجب عليه التثبت، صحيح أن الإنسان يستنكر ما لا يعرف، ولكن الواجب عليه نحو ذلك ألا ينكر، الواجب عليه التثبت وأن يعرف مصدر هذا الشيء، أما أن يقول: أتيتم بدين جديد ولا نقبله فليس كذلك، بل إن الذي يحيي سنة هو الذي أتى بالدين القديم، ومن خالف السنة فهو الدين الجديد المحدَث، أما السنة فهي الدين القديم الذي عليه الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه. والحاصل أنك لا تكاد تجد معصية من المعاصي إلا وفيها مشابهة بكفر من الكفر، لا تكاد تجد معصية من المعاصي إلا ولها شبيه - يعني من جنسها - من الكفر. ﴿أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا﴾ [الفرقان ٦٠]، هذا أيضًا إنكار واستكبار، يعني كيف نسجد لما تأمرنا، قال: (بالفوقانية والتحتانية والآمر محمد) ﷺ. قوله: ﴿أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا﴾، (ما) هذه بمعنى (من) أو (ما) مصدرية؟ يعني: هل المعنى لمن تأمرنا بالسجود به، فتكون موصولة بمعنى (من)، أو أنها مصدرية، أي: لأمرك؟ * طالب: كلها. * الشيخ: ما يمكن تصير كلها. * طالب: كلاهما أظن. * الشيخ: كلاهما ممكن، الشارح يقول: (ولا نعرفه) يشير إلى أن (ما) اسم موصول، يعني: للذي تأمرنا بالسجود له ونحن لا نعرفه، فعلى مقتضى تفسيره أن تكون (ما) بمعنى (من)، وحينئذ التعبير بـ(ما) بدل (من) في غير الجماد أو في غير من لا يعقل كما يقولون خلاف الأصل؛ لأن الأصل أن يعبر عن ذي العلم بـ(من)، لا بـ(ما)، ولا يعبر بـ(ما) إلا لملاحظة شيء، مثل قوله تعالى: ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾ [النساء ٣]، لم يقل: من طاب، فما هو هذا الشيء؟ نقول: ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾ هو لا يريد امرأة بعينها حتى يعبر عنها بـ(من)، إنما يريد الجنس الذي يتزوج لطيبه، فيكون في ذلك مراعيًا للصفة، لا للموصوف، ولهذا أتى بـ(ما): ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ﴾. * طالب: (...)؟ * الشيخ: هذا (...) للعموم من باب التغليظ. كذلك أيضًا هنا: ﴿لِمَا تَأْمُرُنَا﴾ [الفرقان ٦٠]، إذا جعلنا (ما) بمعنى (من)، نقول: ﴿لِمَا تَأْمُرُنَا﴾ عدلوا عن الموصوف إلى الإشارة إلى الصفة؛ لأنهم ينكرون هذا الوصف الذي هو الرحمن، فكأنهم قالوا: أنسجد لأمر مجهول غير معلوم، وهو ما تأمرنا بالسجود له. أما على أن تكون (ما) مصدرية فالأمر واضح جدًّا، يعني كأنهم يقولون: أنسجد لأمرك وأنت لست بشيء عندنا؛ لأنهم قالوا: ﴿أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (٤١) إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا﴾ [الفرقان ٤١، ٤٢]، فيكونون هنا جمعوا بين الإنكار والاستكبار، الإنكار لصفة من صفات الله واسم من أسمائه، ثم الإنكار لما أمروا بالسجود له، ثم الاستكبار عن أمر النبي ﷺ: ﴿أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا﴾ [الفرقان ٦٠]. (﴿وَزَادَهُمْ﴾ هذا القول لهم ﴿نُفُورًا﴾ [الفرقان ٦٠] عن الإيمان)، والعياذ بالله! يعني ما زادهم إقبالًا ولا امتثالًا، بل زادهم نفورًا، وفي هذا دليل على أن واجب الداعية أن يدعو إلى الله، سواء امتثل المدعو أم نفر، وقد كان بعض الناس يسأل يقول: إذا كان هذا المدعو إذا دعوته يزداد نفورًا وكراهية للشرع ولما يؤمر به، هل يجوز أن أدعوه، أو يحرم أن أدعوه لأني أكون سببًا لنفوره واستكباره، ونفوره واستكباره أعظم من معصيته المجردة، فما رأيكم في هذا السؤال؟ أو ما فهمتم السؤال؟ * طالب: بلى. * الشيخ: يقول: أنا إذا دعوت أخي أو عمي أو أبي ازداد نفورًا واستكبارًا، فأكون سببًا لاستكباره ونفوره وكراهيته للحق، وذلك أعظم من مجرد المعصية أو ترك الواجب، فهل أتركه أو أدعوه وحينئذ أرى نفسي في حرج أني تسببت له فوقع في هذا الأمر العظيم؟ فنقول؟ * طالب: يدعوه. * طالب: عمل (...) مأمور به، ما دام (...) فكيف يـ...؟ النتيجة ما يزعل عليها. * الشيخ: يعني معناه أنه يأمره (...)؟ * الطالب: يأمره، والهداية بيد الله. * طالب: (...) قد لا يتجاوب لهذا ويتجاوب لهذا. * الشيخ: إي نعم، حتى لو تجاوب، حتى لو كان نفورًا من الشخص نفسه فإنه لا يترك الدعوة. * طالب: أرى أنه إذا كان مثلًا (...) أعظم من صلاحه أو دعوته. * الشيخ: إي، لكن الآن اللي معنا، الرسول عليه الصلاة والسلام يقول الله: ﴿وَزَادَهُمْ نُفُورًا﴾ [الفرقان ٦٠]، هل الرسول عليه الصلاة والسلام لما رأى هؤلاء يزدادون نفورًا ترك الدعوة؟ * طالب: مطلقًا لا، لكن تركها لهؤلاء. * الشيخ: لا، ما تركها لهؤلاء أبدًا. * طالب: طيب، إذا كان يعني للعاصي فتجوز دعوته، إذا كان الكفر سواء يبلغ به درجة الكلام الكفر وقول الكفر فيترك. * الشيخ: لا، الذي نرى أنه يجب أن تدعو. * طالب: على العموم؟ * الشيخ: على العموم، و﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [البقرة ٢٧٢]؛ لأنك إذا سكت عنه استمرأ المعصية ولم يرها معصية ولم يستقم، ثم هو أيضًا ربما يستكبر ولكنه بعد ذلك يرجع ويحاسب نفسه، والكلمة التي تقال لله لا بد أن تؤثر، كل كلمة تقال لله لا بد أن تؤثر تأثيرًا بالغًا، وما نحن ببعيد عن تكرار قضية موسى عليه الصلاة والسلام حينما تكلم للناس جميعًا وللسحرة بالأخص، فقال لهم: ﴿وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى﴾ [طه ٦١]، هذا كلام عظيم، يعني: كلام رادع، توعد ووعيد، ومع ذلك أثر ولَّا لا؟ * طالب: أثر. * الشيخ: أثر. * الطالب: ﴿فَتَنَازَعُوا﴾. * الشيخ: ﴿فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ﴾ [طه ٦٢]، والفاء تدل على التفريع والتعقيب، يعني هذا التنازع أثارته هذه الكلمة، بمنزلة ما يسمونه بالقنبلة التي فرقتهم، فأنت لا تظن أن كلمتك التي تقولها لله لا تظن أنها تضيع سدى، لا بد لها من تأثير، وهذا التأثير وإن كان قد لا يكون في الوقت الحاضر ولكنه لا بد أن يؤثر. قالوا: (﴿وَزَادَهُمْ﴾ هذا القول لهم ﴿نُفُورًا﴾ [الفرقان ٦٠] عن الإيمان). * طالب: شيخ. * الشيخ: نعم (...) إلى حد أنهم يضعون السلى على رأسه وهو ساجد[[أخرج البخاري - واللفظ له - (٣٨٥٤) ومسلم (١٧٩٤ /١٠٧) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: بينا النبي ﷺ ساجد، وحوله ناس من قريش، جاء عقبة بن أبي معيط بسلى جزور، فقذفه على ظهر النبي ﷺ، فلم يرفع رأسه، فجاءت فاطمة عليها السلام فأخذته من ظهره، ودعت على من صنع. الحديث.]]، وإلى حد أنهم يلقون العذرات والأقذار عند عتبته، نعم، هذا ليس بصحيح. وأنت إذا كنت مؤمنًا بقول الله تعالى: ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [هود ٤٩]، هذا ما يضرك، العاقبة للمتقين، وأنا قلت لكم قبل هذا، قلت: إن المراد بنجاح الدعوة نجاح الجنس، لا الشخص، قد لا تنجح أنت بشخصك وتموت وأنت ما نلت المقصود، لكن الكلام على الدعوة أنها نجحت وأثرت، وهذا لا بد أن يكون، ونحن قلنا هذا من قبل، واضح ذلك؟ * طالب: نعم. * الشيخ: إي نعم. ثم إنكم اقرءوا قول الله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا﴾ [الإنسان ٢٣]، ويش بعده؟ ما قال: فاشكر نعمة ربك على هذا الإنزال، قال: ﴿فَاصْبِرْ﴾ [الإنسان ٢٤]، معنى ذلك أن الذي يتحمل هذا القرآن سواء نزل عليه أو حفظه لا بد أن يناله ما يناله، سواء بالنسبة لنفسه التي تأمره بالسوء وبمخالفة هذا الوحي، أو بالنسبة لغيره، أما هذه الأشياء هذه جبن في الحقيقة ومن الشيطان: ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران ١٧٥]. وإحنا نقول هذا ونقرره وإن كنا مقصرين، لكن لا بد من بيان الحق، والتقصير على أنفسنا في الحقيقة، لكننا نحن نرى أن الداعية إلى الله، بل والعالم الذي أعطاه الله علمًا، لا بد أن ينشره، وأن يدعو إليه، وإلا صار حجة عليه. * طالب: وهم ما يكرهونه إلا بالظاهر يا شيخ؟ * الشيخ: إي نعم، وربما إنه لا يكرهونه إلا بالظاهر، أن ما في أنفسهم من الحسد أو ما في أنفسهم من كراهة مخالفة هواهم يؤدي إلى أنهم ينابذونه ظاهرًا، وإن كانت قلوبهم تحبهم، ربما يكون هذا أيضًا. * الطالب: (...). * الشيخ: على كل حال هي المسألة إن أصابك ما أصابك من الأذى مع الاستقامة فإن هذا لرفعة درجاتك، وإن أصابك ما أصابك من الأذى مع عدم الاستقامة، يعني إما خطأ في سبيل الدعوة، ما استعملت ما أرشد الله إليه من الحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن، فإن هذا الأذى يكون تكفيرًا لسيئاتك التي وقعت منك، فأنت على كل حال لا بد أن تُنال بأذى، لكنه إما رفعة درجات أو تكفير سيئات. * طالب: (...)، الذين لا يؤيدون أن يكون الإنسان داعية دائمًا يقولون مثلًا: كيف ندعو الناس ونحن عاجزون عن إصلاح أنفسنا؟ * الشيخ: إذا لم تدع الناس فأنت أفسدت نفسك باختيارك؛ لأن من إصلاح نفسك الدعوة إلى الله، فإذا لم تدع إلى الله فأفسدت نفسك باختيارك (...) اتق الله ما استطعت، أما أن تترك واجبًا لأنك تترك واجبًا آخر ما هو بصحيح، وهو لا شك أنه من سوء الأدب ومن عدم الحكمة أن الإنسان يدعو إلى أمر وهو متلبس بضد ما يأمر به: ؎لَا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِي مِثْلَهُ ∗∗∗ عَارٌ عَلَيْكَ إِذَا فَعَلْتَ عَظِيمُ لكن ليس معنى ذلك أنك تترك الواجب، حاول أن تصلح غيرك وأن تصلح أمر غيرك. ﴿تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا﴾ [الفرقان ٦١].
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب